من الغزوتين إلى الحديبية
(المرأة والرجل في الإسلام – غزوة بني لحيان – قتل عيينة والأقرع – غزوة بني المصطلق – حديث الإفك)
***
ومهما يكن الرأي في حضارة العرب قبل الإسلام وبداوتها، وهل كانت القرى من أمثال مكة والمدينة ذات حضارة لا تعرفها البادية، أو أنها كانت أيضًا في أوليات مراتب الحضارة فإن صلات الرجل والمرأة في هذه الجماعة العربية كلها لم تكن تعدو — بشهادة القرآن وبشهادة ما بقي من آثار ذلك العهد — صلات الذكورة والأنوثة، مع تفاوت تمليه مراتب الطوائف والعشائر لا يبعد عن هذا الوضع القريب من مراتب الإنسان الأول؛ ولذلك كان النسوة يتبرجن في الجاهلية الأولى ويبدين من زينتهن ما لا يقف أمره عند بعولتهن، وكنَّ يخرجن فُرادى ومثنى وزرافات لحاجتهن يقضينها في غوطة الصحراء فيلقاهن الشبان والرجال وهن يتهادين في جماعتهن، فلا يأبى هؤلاء ولا أولئك أن يتبادلوا أشهى النظرات ومعسول الحديث مما يستريح إليه الذكر وتطمئن إليه الأنثى. وبلغ من أمر هذه الصلة وما قرت في النفوس، أن لم تأب هند زوج أبي سفيان أن تقول في أشد مواقف الجد والشدة، وهي تحثُّ قريشًا حين الحرب يوم أحُد:
ولم يكن الزنا يومئذ بالجريمة ذات الخطر والشأن في بعض القبائل. وكان الغزل بعض معروف العرب جميعًا. ولقد ذكر الرواة عند هند هذه، على ما كان لأبي سفيان من مكانة وخطر، أحاديث غرام وهوى لم تغير من مكانتها في قومها ولا بين أهلها. ثم إن المرأة كانت إذا ولدت، ولم يعرف لمولودها أب، لم تأب أن تذكر من لامسها من الرجال لينسب مولودها إلى أيهم كان أقرب إليه شبهًا. ولم يكن إلى ذلك الوقت لتعداد الزواج ولا للرق حدٌّ أو قيد. كان للرجل أن يتزوج ما شاء، وأن يتسرى ما شاء، وكان لهؤلاء ولأولئك أن يلدوا ما شاءوا. وكان الأمر في ذلك لا خطر له إلا أن يتضح وتخشى معرته، وما قد يجر وراءه من أهاجيَّ تتبادل لا يدري أحد ما ينجم عنها من خصومة وقتال. هنالك يتبدل الأمر غير الأمر، وترى ما كانت المودة قد سترت من قبل من ملاحم الهوى ووثبات الغرام، قد هتكته الخصومة فجعلته سببًا لملاحم القتال ووثبات النزال.
وإذا شبت الخصومة فلكلٍّ أن يتقول ما شاء وأن يزعم ما يريد. وخيال العربي خصب، بطبيعة عيشه تحت السماء، وتجواله الدائم في طلب الرزق، واضطراره إلى المغالاة وإلى الكذب أحيانًا في شئون التجارة. والعربي مولع بالفراغ الذي يغريه بالغزل ويزيد خياله في السلم والحرب خصبًا. فإذا وقف زيد في السلم يحادث هندًا حديث هوى لم يزد على شهي اللفظ تساقطه لآلئ الثنايا العذاب، رأيت زيدًا هذا حين الخصومة والحرب يرفع عقيرته بهند، وقد لقيها أمامه متجردة، يقول في نحرها وصدرها ونهدها وخصرها وعجيزتها وما دون ذلك ما شاءت له أفانين الخصومة، واهتياج الخيال الذي لا يعرف في المرأة غير الأنثى وغير ما تفرش من النمارق. ومع ما قضى الإسلام على هذه النفسية فقد بقي من آثارها ما نقرؤه في مثل شعر عمر بن أبي ربيعة، وما تأثر به شعر الغزل في العربية إلى عصور كثيرة، وما لا يزال له أثره، ولو إلى حد قليل، في شعر عصرنا الحاضر.
ربما بدا هذا التصوير للقارئ المعجب بالعرب وحضارتهم، وللمعجب حتى بعرب الجاهلية، مشوبًا بشيء من الغلو. وللقارئ العذر من ذلك، إذ يوازن بين هذه الصورة التي وضعناها أمامه، وما هو واقع بالفعل في عصرنا الحاضر وما نرجو أن تصل إليه صلات الرجل والمرأة في الزواج والطلاق وصلات الزوجين والأبناء. لكن موازنة كهذه مخطئة جديرة أن تجر إلى أفحش الضلال. إنما يجب أن يوازَن بين الجماعة العربية التي صورنا إحدى نواحيها في القرن السابع المسيحي، والجماعات الإنسانية في ذلك العصر.
وما أحسبنا نغالي إذا قلنا: إن الجماعات العربية كانت، مع ما وصفنا من أمرها، خيرًا بكثير من الجماعات المعاصرة لها في آسيا وفي أوروبا. ولسنا نقف عند ما كان من ذلك في الصين أو في الهند، فما لدينا من المعلومات عنه قليل لا غَناء فيه. لكن أوروبا الشمالية وأوروبا الغربية كانت يومئذ في ظلمات تبيح لك أن تصوِّر من نظام الأسرة فيها ما تريد مما يقرب من أوليات مراتب الإنسانية. وكانت الروم، وهي صاحبة الشرع يومئذ وصاحبة الغلب والسيادة والمنافس الوحيد القوي للفرس، تجعل المرأة من الرجل في مكانة دون مكانة المرأة العربية من الرجل حتى في البادية.
كانت المرأة في شرائع الروم يومئذ معتبرة متاعًا مملوكًا للرجل يتصرف فيه كيف يشاء. ويملك من أمره ما يريد حتى الحياة والموت. كانت تعامل معاملة الرق سواء، لا فارق بينها وبينه في نظر الشرع الروماني. كانت مملوكة لأبيها، ثم لزوجها، ثم لابنها، وكان ملكهم إياها تامًّا كملكهم الرقيق وكملكهم الحيوان والجماد. وكان يُنظر إلى المرأة على أنها مثار الشهوة، وعلى أنها لا سلطان لها على أنوثتها الحيوانية، حتى لم يكن بد من اصطناع نطاق العفة ومن التمسك بذلك قرونًا متوالية، بعد هذا العصر الذي نصف فيه أحوال جزيرة العرب. ومع أن السيد المسيح — عليه السلام — كان برًّا بالنساء عطوفًا عليهن. حتى لقد قال حين أظهر بعض رجاله العجب لحسن معاملته مريم المجدلية: «من لم يكن منكم ذا خطيئة فليرمها بحجر.» مع هذا ظلت أوروبا المسيحية، كما كانت أوروبا الوثنية من قبل، تزدري المرأة شر ازدراء. ولم تكن تنظر إلى صلاتها بالرجل على أنها صلات الذكورة والأنوثة وكفى، بل على أنها صلة عبودية ورق ومهانة مما طوَّع لبعض المتكلمين في عصور مختلفة أن يتساءلوا: أللمرأة روح وأنها ستحاسب، أم أنها كالحيوان لا روح لها ولا تعرف عند الله حسابًا وليس لها في ملكوت الله متسع؟!
وكان محمد يقدر، بما أوحي إليه، أن لا صلاح للجماعة إلا بتعاون الرجل والمرأة، باعتبار أنهما أخوان متضامنان تضامن مودة ورحمة، وأن للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة. لكن الأخذ في ذلك بالطفرة لم يكن أمرًا ميسورًا، ومهما يكن من إيمان العرب الذين اتبعوه به، فإن أخذهم باليسير من الأمر وعدم تعريضهم للحرج، أدعى إلى مزيد إيمانهم، وإلى ازدياد أنصاره. وكذلك كان الشأن في كل إصلاح اجتماعي فرضه الله على المسلمين.
بل كذلك كان الشأن في فروض الدين ذاتها، في الصلاة والصوم والزكاة والحج. وكذلك كان الشأن في المحرمات كالخمر والميسر ولحم الخنزير وما إليها. وقد بدأ محمد، في شأن الإصلاح الاجتماعي، وتقرير صلات ما بين الرجل والمرأة، بالمثل يضربه فيما بينه وبين أزواجه مما كان المسلمون جميعًا يرونه. فالحجاب لم يُفرض على نساء النبي إلى ما قبيل غزوة الأحزاب كما لم يُفرض تحديد الزوجات بأربع مع شرط العدل إلى ما بعد غزوة الأحزاب، بل إلى ما بعد غزوة خيبر بأكثر من سنة. فكيف يصل النبي إلى توطيد علاقات الرجل والمرأة على أساس صالح، تمهيدًا لهذه المساواة التي انتهى الإسلام إليها، مساواة تجعل للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة؟
كانت صلات الرجل والمرأة عند المسلمين، كما كانت عند سائر العرب، على ما وصفنا، مقصورة على صلات الذكورة الأنوثة. وكان التبرج وإبداء الزينة بصورة تدعو إلى تحرش الرجال بالنساء، كلما وجدوا الفرصة لذلك بعض ما يُذكي عواطف الجنس عند الرجل والمرأة على سواء، وما يحول لذلك دون التقريب بينهما تقريبًا أساسه المعنى الإنساني السامي، وأساسه الاشتراك الروحي في العبودية لله وحده. وقد نشأ عن قيام طوائف اليهود والمنافقين في المدينة، وخصومتهم لمحمد وللمسلمين، أن بلغ تحرُّش هذه الطوائف بالمسلمات حدًّا أدى إلى حصار بني قينقاع كما رأيت، وإلى إيصال الأذى للمسلمات، مما كانت تنشأ عنه مشاكل لا ضرورة لها. فلو أن المسلمات لم يبدين زينتهن أثناء خروجهن، لكان ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين، ولوفَّر ذلك هذه المشاكل، ولكان بدءًا حسنًا لهذه المساواة التي يريد الإسلام تحقيقها بين الجنسين، من غير أن يشعر المسلمون، رجالًا ونساءً، بانتقال في الفكرة لم يمهَّدوا له.
وكذلك عمل الإسلام، فتدرجت صلة ما بين الرجل والمرأة إلى غير ما كانت فلم تبق صلة ذكورة وأنوثة إلا حيث تُخشى الفتنة من مثل هذه الصلة؛ فأما في سائر شئون الحياة وفي علاقات الرجال والنساء جميعًا، فالكل سواسية، والكل عباد الله، والكل متضامنون للخير ولتقوى الله. فإذا فرط من أحدهم أو من إحداهن ما يذكي في النفس معاني الجنس فذلك إثمٌ يجب على من فرط منه أن يتوب إلى الله؛ إنه هو التواب الرحيم.
لكن ذلك كله لم يكن كافيًا لينقل النفس العربية في أعوام قلائل من اعتباراتها الأولى ليغيرها في هذا الشأن، كما غيرها في الإيمان بالله وعدم الشرك به؛ نفسًا جديدة. وذلك طبيعي؛ فالمادة إذا تكيفت على صورة ما، لم يكن من اليسير تحولها إلا رويدًا رويدًا؛ ومهما تحولها فلن تحولها إلا قليلًا. ذلك شأن حياة الإنسان المادية. تطبعه العادات المتوارثة، وتطبعه تقاليد البيئة في شئون حياته، فإذا أريد به أن يتغير فقد وجب أن يتدرج في انتقاله وتغيره، ثم إنه لن يستطيع هذا التدرج إلا إذا غيَّر ما بنفسه. وقد يستطيع الإنسان أن يغير جانبًا من جوانب نفسه بإزالة ما أمامها من حوائل تعوق تمددها وانتشارها لتمتثل الكون كله. وهذا ما فعل الإسلام بالمسلمين في شأن توحيد الله والإيمان به وبرسوله وباليوم الآخر. لكن كثيرًا من جوانب النفس العربية لم تحطَّم أمامه العوائق، وخاصةً في شئون الحياة المادية. فبقي المسلمون فيه قريبين مما كانوا قبل إسلامهم، وذلك كان شأنهم فيما طبعتهم عليه حياة الصحراء من تلكؤ، وفيما درجوا عليه من حب التحدث إلى النساء.
هذا هو التمهيد الاجتماعي الجديد الذي أراده الإسلام للجماعة الإنسانية. أقام أساسه على تغيير نظرة الجماعة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات، وأراد أن يمحو من النفوس تسلط فكرة الجنس واعتبارها وحدها المتغلبة على كل اعتبار، وأراد بذلك أن يوجه الجماعة وجهتها الإنسانية العليا التي لا تنكر على الإنسان استمتاعه بالحياة استمتاعًا لا يُضعف من حريته في أن يريد — ومن باب أولى لا يسلبه هذه الحرية في أن يريد — والتي تجعل من الإنسان صلة ما بين الكائنات جميعًا، فيرتفع به من مراتب زراعة الأرض ومن الصناعة ومن تجارة الحياة أيًّا كانت، لتسمو به إلى مجاورة القديسين والاتصال بالملائكة المقربين. وقد جعل الإسلام من الصوم والصلاة والزكاة وسائل لهذا السمو؛ بما تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وبما تطهر النفس والقلب من شوائب الخضوع لغير الله، وبما تقوِّي من أسباب الأخوة بين المؤمنين، ومن الاتصال بين الإنسان وسائر ما في الكون.
هذا التنظيم للحياة الاجتماعية رويدًا رويدًا، تمهيدًا للانتقال العظيم الذي أعد الإسلام له الإنسانية، لم يمنع قريشًا والعرب أن تتربص بمحمد الدوائر، ولم يمنع محمدًا أن يكون دائم الحذر، سريعًا إلى النشاط لإلقاء الرعب في قلوب خصومه عند الحاجة. من ذلك أنه، بعد ستة أشهر من القضاء على بني قريظة — شعر بشيء من الحركة في ناحية مكة، ففكر في أن ينتقم لخبيب بن عدي وأصحابه ممن قتل بنو لحيان عند ماء الرجيع منذ سنتين. على أنه لم يجهر بقصده خيفة أن يتخذ العدو الحيطة لنفسه. فأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة، فأخذ قواته ويمم بها شمالًا. فلما اطمأن إلى أن قريشًا وجيرانها لم يبق منهم من يفطن لمقاصده، انتقل راجعًا إلى ناحية مكة وأغذ السير مسرعًا حتى بلغ منازل بني لحيان بعران. لكن قومًا رأوه أول انحداره إلى الجنوب فعرف منهم بنو لحيان قصده إياهم. فاعتصموا برءوس الجبال هم ومتاعهم. وفات النبي أن يصيبهم، فبعث أبا بكر في مائة راكب حتى بلغوا عسفان على مقربة من مكة. ثم كر رسول الله قافلًا إلى المدينة في يوم قائظ بلغ من قيظه أن كان النبي يقول: «آئبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون. أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال.»
ولم يكد محمد يقيم بالمدينة ليالي بعد أوبته إليها حتى أغار عيينة بن حصن على أطرافها، وكان بظاهرها إبل ترعى يحرسها رجل وامرأته فقتل عيينة وأصحابه الرجل وساقوا الإبل واحتملوا المرأة وانصرفوا يحسبون أنهم من اللحاق بمنجاة. لكن سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي قد غدا يريد الغابة متوشحًا قوسه ونبله؛ فلما مر على ثنية الوداع وأشرف على ناحية من سلع، وأبصر القوم قد اقتادوا الإبل واحتملوا المرأة، فصاح: واصباحاه! وجعل يشتد في أثر القوم حتى إذا اقترب منهم رماهم بالنبل، وهو في أثناء ذلك لا ينفك يصيح. وبلغ محمدًا صياح سلمة. فنادى في أهل المدينة: الفزع الفزع؛ فترامى الفرسان إليه من مختلف النواحي، فأمرهم فانطلقوا في أثر القوم، وجهز هو قواته وسار على رأسها يتبعهم حتى نزل بالجبل من ذي قرد.
كان عيينة ومن معه قد أغذُّوا السير مسرعين يريدون اللحاق بغطفان نجاةً من المسلمين. ولكن فرسان المدينة أدركوا مؤخرتهم واستخلصوا شطر الإبل منهم ولحق بهم محمد فأعانهم؛ ونجت المرأة المؤمنة التي كان العرب قد احتملوها. وأراد جماعة من أصحاب النبي أخذت منهم الحماسة كل مأخذ أن يتأثروا عيينة، فردهم رسول الله، أن علم أن عيينة وأصحابه قد أدركوا غطفان واحتموا بهم. ورجع المسلمون إلى المدينة، وجاءت امرأة الحارس في آثارهم على ناقة المسلمين. وكانت المرأة قد نذرت إن أنجتها الناقة لتنحرنَّها قربانًا إلى الله، فلما أخبرت النبي بنذرها قال: «بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجَّاك بها ثم تنحرينها. إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين.»
وأقام محمد بعد ذلك قرابة شهرين. ثم كانت غزوة بني المصطلق بالمريسيع، هذه الغزوة التي يقف عندها كل كاتب وكل مؤرخ لسيرة النبي العربي؛ لا لأنها غزوة ذات قيمة، أو لأن المسلمين أو عدوَّهم أبلوا فيها بلاءً خارقًا للعادة، بل لأن الشقاق كاد يفشو بعدها في صفوف المسلمين، فحسمه الرسول بأحسن ما يكون عزيمةً وحزمًا، ولأن من أثرها أن تزوج الرسول من جويرية بن الحارث، ولأن هذه الغزوة أثمرت حديث الإفك عن عائشة حديثًا كان موقفها منه — وهي لما تزل في السادسة عشرة — موقف إيمان وقوة تحطمت على جنباتها وعنت لجلالهما كل الوجوه.
فقد بلغ محمدًا أن بني المصطلق وهم فرع من خزاعة، يجمعون في حيهم على مقربة من مكة، وأنهم يحرِّضون عليه يريدون قتله، وعلى رأسهم قائدهم الحارث بن أبي ضرار. ووقف محمد من أحد البدو على سر جمعهم فأسرع في الخروج ليأخذهم على غرة، كعادته في أخذ أعدائه. وجعل لواء المهاجرين لأبي بكر، ولواء الأنصار لسعد بن عبادة. ونزل المسلمون على ماء قريب من بني المصطلق يقال له المريسيع، ثم أحاطوا ببني المصطلق ففر من جاءوا لنصرتهم. وقد قتل من بني المصطلق عشرة ولم يقتل من المسلمين إلا رجل يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار وهو يحسبه خطأً من العدو. ولم يجد بنو المصطلق، بعد قليل من التراشق بالنبال، مفرًّا من التسليم تحت ضغط المسلمين القوي السريع، فأخذوا أسرى هم ونساؤهم وإبلهم وماشيتهم.
وكان لعمر بن الخطاب في الجيش أجير يقود فرسه، فازدحم بعد انتهاء الموقعة مع أحد رجال الخزرج على الماء فاقتتلا فتصايحا، يقول الخزرجي: يا معشر الأنصار، ويقول أجير عمر: يا معشر المهاجرين. وسمع عبد الله بن أبيٍّ النداء، وكان قد خرج مع المنافقين في هذه الغزوة ابتغاء الغنيمة، فثار ما في نفسه على المهاجرين وعلى محمد حفيظة، وقال لجلسائه: «لقد كاثرنا المهاجرون في ديارنا والله ما أعُدُّنا وإياهم إلا كما قال الأول: «سمِّن كلبك يأكلك.» أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.» ثم قال لمن حضر من قومه: «هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.» ومشى بحديثه هذا ماش إلى رسول الله بعد فراغه من عدوه، وكان عنده عمر بن الخطاب، فهاج عمر لما سمع وقال: مر به بلالًا فليقتله. هنا ظهر النبي كدأبه مظهر القائد المحنك والحكيم البعيد النظر؛ إذ التفت إلى عمر وقال: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا إن محمدًا يقتل أصحابه؟
لكنه قدر في الوقت نفسه أنه إن لم يتخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر؛ لذلك أمر أن يؤَّذن في الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها، وترامى إلى ابن أبيٍّ ما بلغ النبي عنه، فأسرع إلى حضرته ينفي ما نُسب إليه، ويحلف بالله ما قاله ولا تكلم به. ولم يغير ذلك من قرار محمد الرحيل شيئًا، بل انطلق بالناس طيلة يومهم حتى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس. فلما نزل الناس لم يلبثوا حين مسَّت جنوبهم الأرض أن وقعوا من فرط تعبهم نيامًا، وأنسى التعب الناس حديث ابن أبيٍّ وعادوا بعد ذلك إلى المدينة ومعهم ما حملوا من غنائم بني المصطلق وأسراهم وسبيهم، ومعهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار قائد الحي المهزوم وزعيمه.
هنالك حسب قوم أن في هذه الآيات قضاءً على ابن أبيٍّ، وأن محمدًا لا ريب آمر بقتله، فذهب عبد الله بن عبد الله بن أبيّ، وكان مسلمًا حسن الإسلام، فقال: «يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيٍّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به أنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبرَّ بوالده مني. وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلًا مؤمنًا بكافر فأدخل النار.» كذلك قال عبد الله بن عبد الله بن أبيٍّ لمحمد. وما أحسب عبارة أبلغ من عبارته على إيجازها في قوة التعبير عن حالة نفسية تضطرب فيها أقوى العوامل في النفس أثرًا: تضطرب فيها عوامل البر بالأب وصدق الإيمان والنخوة العربية والحرص على سكينة المسلمين حتى لا تتواتر الثارات بينهم!
فهذا ابن يرى أباه سيقتل، فلا يطلب إلى النبي ألا يقتله، لأنه يؤمن بأن النبي إنما يصدع بأمر ربه، ويوقن بكفر أبيه. وهو، من خيفة ما يقتضيه البر بأبيه وما تقتضيه الكرامة والنخوة أن يثأر له ممن قتله، يريد أن يحمل على نفسه وأن يقتل هو أباه، وأن يحمل هو بنفسه إلى النبي رأسه، وإن قطَّع ذلك قلبه وفرى كبده! وهو يجد في إيمانه بعض العزاء عن هذا الشطط الذي يكلف نفسه، مخافة أن يدخل النار إن هو قتل المؤمن الذي يأمره النبي بقتل أبيه. أيُّ جلاد بين الإيمان والعاطفة والخُلُق أشد من هذا الجلاد؟! وأية مأساة نفسية أفتك بصاحبها من هذه المأساة؟! أفتدري بم أجاب النبي عبد الله بعد أن سمع قوله: «إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.»
يا لروعة العفو وجلاله! محمد يترفق بهذا الذي يؤلب أهل المدينة عليه وعلى أصحابه، فيكون رفقه ويكون عفوه أبعد أثرًا من عقوبته لو أنه أنزلها به. فقد كان عبد الله بن أبي بعد ذلك إذا أحدث الحدث يعاتبه قومه ويعنفونه ويشعرونه أن حياته بعض هبات محمد له. وتذاكر النبي مع عمر يومًا شئون المسلمين وجاء ذكر ابن أبيٍّ وما يعاتبه قومه وما يعنفونه؛ فقال محمد: كيف ترى يا عمر؟! أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأُرعِدَت له آنُفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله ﷺ أعظم بركة من أمري.
حدث ذلك كله بعد أن عاد المسلمون إلى المدينة ومعهم ما معهم من السبي والغنائم. على أن أمرًا حدث لم يترك بادئ الرأي أثرًا، كان له بعد ذلك حديث طويل. ذلك أن النبي كان إذا غزا أقرع بين نسائه، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه. وخرج سهم عائشة عشية غزوة بني المصطلق فخرج بها. وكانت عائشة نحيفة خفيفة، فكانوا إذا جاءوا بالهودج إلى بابها خرجت إليه فأخذ الرجال به فشدوه إلى ظهر البعير وهم لا يكادون يشعرون بها لخفة زنتها. ولما فرغ النبي من سفره وسار ومن معه مسيرتهم الطويلة المضنية التي ذكرنا، اتجه بعد ذلك إلى المدينة، حتى إذا كان قريبًا منها نزل منزلًا بات به بعض الليل ثم أذَّن في الناس بالرحيل وكانت عائشة قد خرجت من خيمة النبي لبعض حاجتها والهودج موضوع أمام الخيمة في انتظار دخولها فيه.
وكان لعائشة عقد انسل من عنقها وهي في بعض حاجتها. فلما قامت عائدة إلى الرحيل التمست العقد فلم تجده فرجعت أدراجها تبحث عنه. ولعلها بحثت عنه طويلًا حتى وجدته. ولعلها أغفت أثناء ذلك لفرط ما نالها من التعب بعد مسيرتهم المجهدة. ورجعت إلى المعسكر لتستقل هودجها، فإذا القوم قد شدوه إلى ظهر البعير وهم يحسبونها فيه، وارتحلوا وهم يحسبون أنهم حملوا معهم أشد أمهات المؤمنين حظوة عند النبي. ولم تجد هي في المعسكر داعيًا ولا مجيبًا. فلم يساورها الخوف وأيقنت أن القوم إذا افتقدوها فلم يجدوها رجعوا إليها، فخيرٌ لها أن تبقى مكانها من أن تضرب في الصحراء على غير هدى فتضل السبيل. ولم يساورها الخوف فالتفَّت في جلبابها واضطجعت مكانها منتظرة دعوة الباحث عنها.
وإنها لفي ضجعتها إذ مرَّ بها صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته وكان يراها قبل أن يُضرب الحجاب على نساء النبي، فلما بصر بها على هذه الحال تراجع دهشًا وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله ﷺ! ما خلَّفك رحمك الله؟ فلم تجبه فقرَّب هو لها البعير واستأخر عنه وقال: اركبي، فركبت. وانطلق بالبعير سريعًا يطلب الناس فلم يدركهم، أن كانوا يعجلون سيرهم يريدون المدينة ليستريحوا بها من عناء السير الذي أمر به رسول الله إطفاءً للفتنة التي كادت تقوم بسبب حديث ابن أبيٍّ. ودخل صفوان المدينة في وضح النهار بأعين الناس وعائشة على ظهر بعيره. حتى إذا كانت عند منزلها بين منازل نسوة الرسول دلفت إليه. ولا يجول بخاطر أحد أن يُحدِّث في أمرها قولًا أو يثير حول تأخرها عن الركب شبهة، ولا يدور بخاطر الرسول ظِنَّة سوء في ابنة أبي بكر أو في صفوان المؤمن الحسن الإيمان.
وما كان لحديث أن يدور، وها هي ذي تدخل المدينة بأعين الناس في أعقاب العسكر الذين جاءوا لم يمض بين مجيئهم ومجيئها وقت يحمل على ظنة أو يبعث إلى نفس ريبة؛ وها هي تدخل بأعين الناس صافية الجبين مشرقة الوجه، ليس في شيء من مظهرها ما يريب. فلتجر إذن شئون المدينة كما هي وليقتسم المسلمون الأسلاب والغنائم والسبايا مما أسروا من بني المصطلق، ولينعموا بهذه الحياة الرخية التي تزداد على الأيام رخاءً كلما زادهم إيمانهم على عدوِّهم عزًّا وكلما أظفرتهم به عزيمتهم الصادقة واستهانتهم بالموت في سبيل الله وفي سبيل دينه وفي سبيل حرية العقيدة، حرية كان العرب من قبل يأبونها عليهم.
وكانت جويرية بنت الحارث من سبايا بني المصطلق، وكانت امرأة حلوة ملاحة وقد وقعت في سهم أحد الأنصار، فأرادت أن تفتدي نفسها منه، فأغلى الفداء علمًا منه بأنها ابنة زعيم بني المصطلق، وأن أباها على أداء ما طلب قدير. وخشيت جويرية أثر شططه، فذهبت إلى النبي وكان في دار عائشة فقالت: «أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم فلان فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي.» قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك. فلما بلغ الناس الخبر أطلقوا من بأيديهم من أسرى بني المصطلق إكرامًا لصهر رسول الله إياهم، حتى لكانت عائشة تقول عن جويرية: ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركةً منها.
هذه رواية، وتجري رواية أخرى بأن الحارث بن أبي ضرار جاء إلى النبي بفداء ابنته، وأنه أسلم بعد أن آمن برسالة النبي، وأنه أخذ ابنته جويرية فأسلمت كما أسلم أبوها فخطبها محمد إليه فزوَّجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.
وفي رواية ثالثة: أن أباها لم يكن راغبًا في هذا الزواج، بل لم يكن راضيًا عنه، وأن أحد أقارب جويرية هو الذي زوَّجها من النبي على غير إرادة أبيها.
تزوَّج محمد من جويرية، وبنى لها منزلًا إلى جانب منازل نسائه في جوار المسجد، وأصبحت بذلك من أمهات المؤمنين. وبينما هو في شغله بها كان قوم قد بدءوا يتهامسون. ما بال عائشة قد تأخرت عن المعسكر وجاءت مع صفوان على بعيره، وصفوان شاب وسيم الطلعة مكتمل فتوَّة الشباب؟! وكانت لزينب بنت جحش أخت تدعى حمنة، وكانت تعلم ما لعائشة عند محمد من حظوة تقدمها على أختها فجعلت حمنة هذه تذيع ما يهمس به الناس من أمر عائشة، وكانت تجد من حسَّان بن ثابت عونًا، ومن علي بن أبي طالب سميعًا. فأما عبد الله بن أبي فوجد في هذا الحديث مرعًى خصيبًا لشفاء ما في نفسه من غل وجعل يذيعه جهد طاقته. ولكن جماعة الأوس وقفوا موقف الدفاع عن عائشة، وقد كانت مضرب المثل في الطهر وسمو النفس. وكاد الحديث يؤدي إلى فتنة في المدينة.
وبلغت هذه الأخبار محمدًا فاضطرب لها. ماذا؟! عائشة هذه تخونه؟! هذا مستحيل. إنها الأنفة والإباء، وإن لها من حبه إياها وشدة عطفه عليها ما يجعل مجرَّد ظن كهذا إثمًا دونه كل إثم. نعم! ولكن أفٍّ للنساء! من ذا يستطيع أن يسبر غورهن أو يصل إلى قرارة ما في نفوسهن؟! وعائشة بعدُ طفلة يافعة! وأي شيء هذا العقد الذي فقدته فذهبت تلتمسه جوف الليل؟ وما بالها لم تُحدِث له وهم ما يزالون في المعسكر من أمره ذكرًا؟! وتقلَّب النبي على أشواك الحيرة، ما يدري أيصدِّق أم يكذِّب.
أما عائشة فلم يجرؤ أحد على أن يبلِّغها من كل هذا الذي يقول الناس شيئًا، وإن أنكرت من زوجها جفاءً لم تعرفه منه ولم يتفق في شيء مع لطفه بها وحبه إياها. ثم إنها مرضت من بعد ذلك مرضًا شديدًا، فكان إذا دخل عليها وأمها تمرضها لم يزد على قوله: «كيف تيكم؟» ووجدت عائشة في نفسها لما رأت من جفاء النبي إياها، وجعلت تحدِّث نفسها: ألا تكون جويرية قد حلت من قلبه محلها؟! وبلغ من ضيق ذرعها بجفاء النبي محمد إياها أن قالت له يومًا: لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني! وانتقلت إلى أمها وفي نفسها من الدهشة لهذا التفريط في أمرها ما آذاها وآلمها. وظلت في مرضها بضعة وعشرين يومًا حتى نقهت، وهي لا تعرف من كل ما يدور حول اسمها من حديث شيئًا. أما محمد فقد بلغ من تأذِّيه بترامي هذه الأخبار إليه أن قام يومًا في الناس يخطبهم فقال: «أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عني غير الحق! والله ما علمت منهم إلا خيرًا. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرًا، وما يدخل بيتًا من بيوتي إلا معي.» فقام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، إن يكونوا من إخواننا الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. وردَّ عليه سعد بن عبادة بأنه إنما تقدم بهذه المقالة لأنه يعرف أنهم من الخزرج، ولو كانوا من الأوس ما قالها. وتشاور الناس وكادت تقوم الفتنة لولا حكمة الرسول وحسن مداخلته.
وانتهى الخبر آخر الأمر إلى عائشة، حدَّثتها به امرأة من المهاجرين، فلما عرفته كاد يُغشى عليها من هوله. وانطلقت تبكي لا يحبس دمعها حابس حتى شعرت كأن كبدها تتصدع. وذهبت إلى أمها وقد أثقل الهم كاهلها حتى كاد ينوء بها، وقالت لها والعبرة تخنقها: يغفر الله لك يا أماه! تحدَّث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئًا! ورأت أمها الهم الذي بها، فحاولت تخفيف أثره في نفسها فقالت: أي بنية، خفِّفي عليك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثَّرن وكثَّر الناس عليها. ولكن عائشة لم تتعز بهذا القول، وزادها ألمًا أن ذكرت جفاء النبي إياها بعد الذي كان من لطفه بها، وأن شعرت بأنه قد وقع في نفسه من هذا الحديث أثر وقامت بنفسه منه ريبة. لكن ماذا عساها تستطيع أن تفعل؟! أتفاتحه في القول وتذكر له الخبر وتقسم له أنها بريئة؟! هي إذن تتهم نفسها ثم تدفع التهمة بالأيمان والتوسلات. أفتعرض عنه كما أعرض عنها وتجفوه كما جفاها؟ لكنه رسول الله وهو قد اصطفاها على نسائه، وليس من ذنبه أن تحدث الناس عنها بسبب تأخرها عن العسكر وعودها مع صفوان. ربَّاه؟ ألهمهما في هذا الموقف الدقيق مخرجًا يتضح لمحمد معه الحق في أمرها ليعود إلى مثل ما كان من حبها والعطف عليها واللطف بها.
ولم يكن محمد خيرًا منها مكانًا؛ فقد آذاه ما يتحدث به الناس، حتى اضطر آخر الأمر إلى أن يتشاور مع خلصائه ماذا يصنع. فذهب إلى بيت أبي بكر ودعا إليه عليًّا وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فنفى كل ما نُسب إلى عائشة على أنه الكذب والباطل، وأن الناس لا يعرفون كما لا يعرف النبي عنها إلا خيرًا. وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء لكثير. ثم أشار باستجواب جارية عائشة لعلها تصدقه. ودُعيت الجارية وقام لها عليٌّ فضربها ضربًا موجعًا وهو يقول: اصدقي رسول الله، والجارية تقول: والله ما أعلم إلا خيرًا، وتنفي عن عائشة قالة السوء. أخيرًا لم يبق أمام محمد إلا أن يواجه زوجه وأن يطلب إليها أن تعترف.
ودخل عليها وعندها أبواها وامرأة من الأنصار، وهي تبكي والمرأة تبكي معها. وقد هوى الأسى بنفسها إلى أعمق قرارات الحزن من هول ما ترى من ريبة محمد بها، من ريبة هذا الرجل الذي تحبُّ وتقدِّس؛ والذي به تؤمن وفيه تفنى. فلما رأته كفكفت دمعها وسمعت إليه وهو يقول: «يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله إن كنت قد قارفت سوءًا مما يقولون، فتوبي إلى الله يقبل التوبة عن عباده.»
فما إن أتمَّ حديثه حتى ثار في عروقها دمها، وجفَّ من عينيها دمعها، وتلفتت إلى ناحية أمها وإلى ناحية أبيها تنظر بما يجيبان. لكنهما سكتا فلم ينبسا بكلمة. فازدادت ثورة نفسها وصاحت بهما: ألا تجيبان؟! وقالا: ما ندري بم نجيب. وعادا إلى وجومهما. وهنالك لم تملك نفسها دون النشيج بالبكاء؛ وساعفتها دموعها لتهدئ من الثورة المضطرمة بين ضلوعها تكاد تحرقها. ثم وجَّهت الكلام إلى النبي وهي تبكي فقالت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدًا! إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت لا تصدقوني. ثم سكتت هنيهة وعادت تقول: إنما أقول كما قال أبو يوسف: «صبر جميل والله المستعان على ما تصفون.»
إلى قوله تعالى: وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وتنفيذًا لحكم القرآن أمر بمسطح بن أثاثة وحسَّان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضرب كل منهم ثمانين جلدة، وعادت عائشة إلى مثل مكانها الأول من بيت محمد ومن قلبه.
يقول السير وليم موير تعليقًا على هذا الحادث ما ترجمته: «إن حياة عائشة قبل هذا الحادث وبعده تدعونا إلى القطع ببراءتها وعدم التردد في إدحاض أية شبهة أثيرت حولها.»
وقد استطاع حسَّان بن ثابت من بعدُ أن يعود إلى رضا محمد وعطفه عليه، كما طلب محمد إلى أبي بكر ألا يحرم مسطحًا عطفه الذي عوَّده إياه. ومن ثم انقضى هذا الحادث ولم يبق له في المدينة كلها أثر. وأسرع النقه إلى عائشة وعادت إلى دارها من مساكن الرسول، وإلى مكانتها من قلبه، وإلى مركزها الرفيع من نفوس أصحابه المسلمين جميعًا. وبذلك فرغ النبي إلى رسالته وإلى سياسة المسلمين استعدادًا لعهد الحديبية يفتح الله به على المسلمين فتحًا مبينًا.