عهد الحديبية
(بعد ست سنوات بالمدينة – دعوة محمد الناس للحج – لا قتال ولا حرب – قريش تقرر الحيلولة بين المسلمين ودخول مكة – مفاوضات الصلح – أناة محمد وسياسته – عهد الحديبية فتح مبين)
***
انقضت ست سنوات منذ هجرة النبي وأصحابه من مكة إلى المدينة، وهم فيما رأيت من جهاد مستمر متصل، بينهم وبين قريش تارةً، وبينهم وبين اليهود أخرى. والإسلام في أثناء ذلك يزداد انتشارًا ويزداد قوةً ومنعةً. ومنذ السنة الأولى من الهجرة عدل محمد بقبلته عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وجعل المسلمون وجهتهم بيت الله الذي بنى إبراهيم بمكة، والذي تجدد بناؤه بعد ذلك ومحمد ما يزال في فتوة الشباب، وقد رفع إذ ذاك حجره الأسود إلى مكانه من جدار هذا البيت، وذلك قبل أن يرد بخاطره أو بخاطر أحد من الناس ما سيلقي الله عليه من رسالة.
وفي هذه السنوات الست نزلت الآيات كثيرة متتابعة في هذا المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا. لكن قريشًا كانت ترى محمدًا والذين معه كفروا بآلهة هذا البيت: هُبل وإساف ونائلة وسائر الأصنام، ولذلك كانت ترى حربهم وحرمانهم من الحج إلى الكعبة واجبًا عليها حتى يثوبوا إلى آلهة آبائهم.
والمسلمون أثناء ذلك يذوقون ألم الحرمان من أداء الواجب الديني المفروض عليهم، كما كان مفروضًا من قبل على آبائهم. والمهاجرون منهم يذوقون إلى جانب ذلك همًّا واصبًا وألمًا لذَّاعًا: ألم النفي، وهم الحرمان من الوطن ومن أهلهم فيه. وهؤلاء وأولئك كانوا في ثقتهم بنصر الله رسوله ونصره إياهم وإعلاء دينهم على الدين كله، يؤمنون بأن يومًا قريبًا لا بد آت يفتح الله لهم فيه أبواب مكة ليطوفوا بالبيت العتيق، وليؤدوا فريضة الله على الناس جميعًا. وإذا كانت السنة تمر تلو السنة فتساجل الغزوة الغزوة، وتكون بدرٌ ثم أحد ثم الخندق ثم سائر الغزوات والأعمال، فإن هذا اليوم الذي يؤمنون به لا ريب آت. وما أشدهم لهذا اليوم شوقًا! وما أشد ما يشاركهم محمد في شوقهم وما يؤكد لهم أن هذا اليوم قريب!
والحق أن قريشًا ظلموا محمدًا وأصحابه بمنعهم من زيارة الكعبة وأداء فرائض الحج والعمرة. فلم يكن هذا البيت العتيق ملكًا لقريش، ولكنه كان ملكًا للعرب جميعًا. وإنما كانت في قريش سدانة الكعبة وسقاية الحاج وما إلى ذلك من العناية بالبيت ورعاية زائريه. ولم يكن اتجاه قبيلة بعبادتها إلى صنم دون آخر ليبيح لقريش منعها من زيارة الكعبة والطواف بها والقيام بما تفرضه عبادة هذا الصنم من شعائر. فإذا جاء محمد ليدعو الناس إلى نبذ عبادة الأصنام وإلى التطهر من رجس الوثنية والشرك، وإلى السمو بالنفس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والارتفاع في سبيل ذلك فوق كل نقص، والارتقاء بالروح إلى حيث تستطيع إدراك وحدة الوجود والتوحيد بالله، وكان من فرائض ذلك حج البيت والعمرة، فمن العدوان منع أصحاب الدين الجديد من أداء هذه الفريضة. ولكن قريشًا خافت إن جاء محمد ومن حوله المؤمنون بالله وبرسالته، وهم من صميم أهل مكة، أن يتعلق سواد المكيين بهم وأن يشعروا بما في بقائهم بعيدين عن أهليهم وأبنائهم من ظلم؛ فيكون ذلك نواة حرب أهلية. ثم إن رؤساء قريش وأكابر أهل مكة، لم ينسوا لمحمد والذين معه أنهم حطموا تجارتهم وحالوا بينهم وبين طريقهم المعبَّدة إلى الشام، وأنهم أثاروا بذلك في نفوسهم من الحقد والبغضاء ما لا يخفف منه أن البيت لله وللعرب جميعًا، وأنهم لا يملكون من أمره إلا العناية به ورعاية زائريه.
انقضت ست سنوات منذ الهجرة والمسلمون يتحرَّقون شوقًا يريدون زيارة الكعبة ويريدون الحج والعمرة، وإنهم لمجتمعون بالمسجد ذات صباح إذ أنبأهم النبي بما ألهم في رؤياه الصادقة: أنهم سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون. فما كاد القوم يسمعون إلى رؤيا رسول الله حتى علا بحمد الله صوتهم، وحتى انتقل نبأ هذه الرؤيا إلى سائر أنحاء المدينة في سرعة البرق الخاطف. ولكن كيف يدخلون المسجد الحرام؟ أفيحاربون في سبيله؟ أفيجلون قريشًا عنه عنوةً؟! أم ترى تفتح قريش لهم طريقة مذعنة صاغرة؟
كلا! لا قتال ولا حرب. بل أذن محمد في الناس بالحج في شهر ذي القعدة الحرام، وأوفد رسله إلى القبائل من غير المسلمين يدعوهم إلى الاشتراك وإياه في الخروج إلى بيت الله آمنين غير مقاتلين. وحرص محمد في الوقت نفسه على أن يكون معه من المسلمين أكبر عدد مستطاع. وحكمته في ذلك أن تعلم العرب كلها أنه خرج في الشهر الحرام حاجًّا ولم يخرج غازيًا، وأنه أراد أداء فريضة فرضها الإسلام كما فرضتها أديان العرب من قبل، وأنه أشرك العرب معه ممن ليسوا على دينه في أداء هذه الفريضة. فإن أصرت قريش مع ذلك على مقاتلته في الشهر الحرام ومنعه من أداء ما يؤمن العرب على اختلاف آلهتهم به، لم تجد قريش من العرب من يؤيدها في موقفها ولا من يعينها على قتال المسلمين، وكانت بإمعانها في الصد عن المسجد الحرام تصرف الناس عن دين إسماعيل وعن ملة أبيهم إبراهيم. وبذلك يأمن المسلمون أن تجتمع العرب عليهم اجتماع الأحزاب من قبل، ويزداد دينهم رفعةً على رفعته عند العرب الذين لا يؤمنون به. وما عسى أن تقول قريش لقوم جاءوا محرمين، لا سلاح معهم إلا سيوفهم في غمودها، يتقدمهم الهدي الذي ينحرون، ولا هم لهم إلا أن يؤدوا بتطواف البيت فريضة تؤديها العرب جميعًا؟!
وبلغ قريشًا أمر محمد ومن معه وأنهم يسيرون قِبَلهم حاجين؛ فامتلأت نفس قريش بالمخاوف وجعلوا يُقلبون هذا الأمر على وجوهه، يحسبونه حيلةً أراد محمد أن يحتال بها على دخول مكة بعد أن صدهم والأحزاب معهم عن دخول المدينة، ولم يثنهم ما عملوا من إحرام خصومهم بالعمرة وإذاعتهم في أنحاء الجزيرة كلها أنهم لا تحركهم إلا العاطفة الدينية لقضاء فرض يقره العرب جميعًا، عن أن يقرروا الحيلولة بين محمد ودخول مكة، بالغًا ما بلغ الثمن الذي يدفعونه لتنفيذ قرارهم هذا. لذلك عقدوا لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل على جيش يبلغ عدد فرسانه وحدهم مائتين، وتقدم هذا الجيش حتى يحول بين محمد وأم القرى، وبلغ من تقدمه أن عسكر بذي طوى.
وبينما كان محمد يفكر كانت فرسان مكة تبدو على مرمى النظر، يدل مرآها على أنه لا سبيل للمسلمين إلى درك غايتها إلا أن يقتحموا هذه الصفوف اقتحامًا، وأن تدور معركة تقف فيها قريش مدافعة عن كرامتها وعن شرفها وعن وطنها؛ معركة لم يردها محمد، وإنما حملته قريش عليها حملًا وألزمته خوض غمارها إلزامًا. إن المسلمين ممن معه لا تنقصهم الحمية، وقد تكفيهم سيوفهم إذا جردت من غمودها لدفع عدوان المعتدي؛ لكنه يفوت بذلك قصده وقد يجعل لقريش عند العرب حجة عليه، وهو أبعد من هذا نظرًا وأكثر حنكة وأدق سياسة. إذن … نادى في الناس قائلًا من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟
وكذلك ظل مستقرًّا رأيه على سلوك سياسة السلم التي رسم منذ خرج من المدينة ومنذ اعتزم الذهاب إلى مكة حاجًّا. وخرج رجل يسلك بهم طريقًا وعرًا بين شعاب مضنية وجد المسلمون في سلوكها مشقة أي مشقة، حتى أفضت بهم إلى سهل عند منقطع الوادي الذي سلكوا فيه ذات اليمين حتى خرجوا على ثنية المُرار مهبط الحديبية من أسفل مكة. فلما رأت خيل قريش ما صنع محمد وأصحابه ركضوا راجعين أدراجهم ليقفوا مدافعين عن مكة إذا دهمها المسلمون. ولما بلغ المسلمون الحديبية بركت القصواء «ناقة النبي» وظن المسلمون أنها جُهدت. فقال رسول الله: «إنما حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها.» ثم دعا الناس إلى النزول فقالوا: «يا رسول الله، ما بالوادي ماء ننزل عليه.» فأخرج هو سهمًا من كنانته فأعطاه رجلًا نزل به إلى بئر من الآبار المنثورة في تلك الأنحاء، فعرزه في الرمال من قاع البئر فجاش الماء، فاطمأن الناس ونزلوا.
نزلوا، ولكن قريشًا بمكة لهم بالمرصاد، وهي تؤثر الموت على أن يدخلها محمد عليهم عنوةً. فهل يعدون لقريش عدة النزال فيحاربوها حتى يحكم الله بينهم وبينها وحتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا؟! في هذا فكر بعضهم وفي احتماله فكرت قريش. لئن حدث ذلك وانتصر المسلمون لقد قضي على قريش عند العرب كلها قضاءً أخيرًا، وقد تعرضت قريش لأن ينزع منها سدانة الكعبة وسقاية الحاج وكل ما تفاخر به العرب من مراسم ومناسك دينية. ماذا تصنع إذن؟ وقف المعسكران يفكر كلٌّ في الخطة التي يتبع؛ فأما محمد فظل على خطته التي رسم منذ أخذ للعمرة عدته، خطة السلم والجنوح عن القتال إلا أن تهاجمه قريش أو تغدر به، وهنالك لا يبقى من انتضاء السيف مفر.
فلما رآه النبي مقبلًا أمر بالهدي أن تطلق أمامه، لتكون تحت نظره دليلًا ماديًّا على أن هؤلاء الذين تريد قريش حربهم إنما جاءوا حاجين معظمين البيت، ورأى الحليس الهدي سبعين بدنة تسيل عليه من عرض الوادي قد تأكلت أوبارها؛ فتأثر لهذا المنظر وثارت في نفسه ثائرات دينية، وأيقن أن قريشًا ظالمة هؤلاء الذين لا يريدون حربًا ولا عدوانًا. فانقلب إلى قريش دون أن يلقى محمدًا وذكر لهم ما رأى. فلما سمعوا حديثه غاظهم وقالوا له: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك. وغضب الحليس لمقالتهم وأنذرهم أنه ما حالفهم ليصد عن البيت من جاء معظمًا إياه. وأنهم إن لم يُخلوا بين محمد وما جاء به نفر بالأحابيش من مكة. وخشيت قريش عاقبة غضبه، فاسترضوه وطلبوا إليه أن ينظرهم حتى يفكروا في أمرهم.
ثم رأوا أن يوفدوا حكيمًا يطمئنون إلى حكمته، فتحدثوا في ذلك إلى عروة بن مسعود الثقفي؛ فاعتذر لهم بما رأى من تعنيفهم وسوء مقابلتهم لمن سبقه من رسلهم. فلما اعتذروا له وأكدوا أنه عندهم غير متهم وأنهم يطمئنون إلى حكمته وحسن رأيه، خرج إلى محمد وذكر له أن مكة بيضته، وأنه إن يفضضها على أهله المقيمين بها بمن جمع من أوشاب الناس ثم انصرف هؤلاء الأوشاب عنه، كان العار الخالد لقريش عارًا لا يرضاه محمد وإن اتصلت الحرب بينه وبين قريش ما اتصلت. فصاح أبو بكر بعروة منكرًا أن ينصرف الناس عن رسول الله. وكان عروة يتناول لحية محمد وهو يكلمه، وكان المغيرة بن شعبة واقفًا على رأس الرسول يضرب يد عروة كلما تناول لحية محمد، مع علمه بأن عروة هو الذي دفع عنه قبل إسلامه ثلاث عشرة دية عن قتلى كان المغيرة قتلهم. ورجع عروة بعد أن سمع من محمد مثل ما سمع الذين سبقوه من أنه لم يأت يريد حربًا وإنما جاء معظمًا البيت مؤديًا فرض ربه. فلما كان عند قريش قال لهم: «يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه. لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يُسلموه لشيء أبدًا فروا رأيكم.»
وطالت المحادثات على النحو الذي قدمنا. ففكر محمد في أن رسل قريش ربما لم يكن لديهم من الإقدام ما يقنعون به قريشًا بالرأي الذي يرى، فبعث من جانبه رسولًا يبلغهم رأيه. لكنهم عقروا جمل هذا الرسول، وأرادوا قتله لولا أن منعته الأحابيش فخلوا سبيله. وقد دل أهل مكة بتصرفهم هذا على ما يسودهم من روح الخصومة والبغضاء مما قلق له صبر المسلمين، حتى لقد فكر بعضهم في القتال. وفيما هم كذلك يتبادلون الرسل يحاولون أن يصلوا إلى اتفاق، كان بعض السفهاء من قريش يخرجون ليلًا يرمون عسكر النبي بالحجارة؛ حتى خرج منهم أربعون أو خمسون رجلًا يومًا ليصيبوا من أصحاب النبي، فأخذوا أخذًا وجيء بهم إليه. أفتدري ماذا صنع؟ عفا عنهم وخلَّى سبيلهم تشبثًا منه بخطة السلم واحترامًا للشهر الحرام أن يسفك فيه دم في الحديبية وهي من حرم مكة. وبهتت قريش حين عرفوا هذا، وسقطت كل حجة لهم يريدون أن يزعموا بها أن محمدًا يريد حربًا، وأيقنوا أن كل اعتداء من جانبهم على محمد لن تنظر إليه العرب إلا على أنه غدر دنيء، لمحمد الحق في أن يدفعه بكل ما أوتي من قوة.
ثم إنه عليه السلام حاول أن يمتحن صبر قريش مرة أخرى بإرسال رسول يفاوضهم؛ فدعا إليه عمر بن الخطاب كي يبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له.
قال عمر: «يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها. ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان.» فدعا النبي عثمان زوج ابنته وبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش. فخرج عثمان في رسالته، فلقيه لأول ما دخل مكة أبان بن سعيد فأجاره الزمن الذي يفرغ فيه من رسالته. وانطلق عثمان إلى سادة قريش فأبلغهم رسالته. قالوا: يا عثمان، إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله؛ إنما جئنا لنزور البيت العتيق ولنعظم حرمته ولنؤدي فرض العبادة عنده. وقد جئنا بالهدي معنا، فإذا نحرناها رجعنا بسلام. وأجابت قريش بأنها أقسمت لن يدخل محمد مكة هذا العام عنوة. وطال الحديث وطال احتباس عثمان عن المسلمين، وترامى إليهم أن قريشًا قتلته غيلةً وغدرًا. ولعل سادة قريش كانوا في هذه الأثناء يبحثون مع عثمان عن صيغة توفق بين قسمهم ألا يدخل محمد هذا العام مكة عنوةً، وبين حرص المسلمين على أن يطوفوا بالبيت العتيق ويؤدوا إلى رب البيت فرضه. ولعلهم قد أنسوا إلى عثمان وكانوا في هذه الأثناء يبحثون وإياه عن تنظيم علاقاتهم بمحمد وتنظيم علاقات محمد بهم.
فلما أتم المسلمون البيعة ضرب — عليه السلام — بإحدى يديه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم بيعة الرضوان. وبهذه البيعة اهتزت السيوف في غمودها، وتبدَّى للمسلمين جميعًا أن الحرب آتية لا ريب فيها، وجعل كل ينتظر يوم الظفر أو يوم الاستشهاد بنفس راضية وفؤاد مرتاح وقلب مطمئن. وإنهم لكذلك إذ ترامى إليهم أن عثمان لم يُقتَل، ثم لم يطل بهم الأمر حتى جاء عثمان بنفسه إليهم. على أن بيعة الرضوان هذه بقيت مع ذلك، كبيعة العقبة الكبرى، علمًا في تاريخ المسلمين كان محمد يستريح إلى ذكره لما كشف عنه من متانة الروابط بينه وبين أصحابه، ولما دل عليه من مبلغ إقدامهم على خوض مخاطر الموت لا يخافون، ومن أقدم على مخاطر الموت خافه الموت وعنت له جبهة الحياة وكان من الفائزين.
عاد عثمان فأبلغ محمدًا ما قالت قريش. فهم لم تبق عندهم ريبة في أنه وأصحابه إنما جاءوا حاجين معظِّمين للبيت. وهم يقدِّرون أنهم لا يملكون منع أحد من العرب عن الحج والعمرة في الأشهر الحرم. وهم مع ذلك قد خرجوا من قبل تحت راية خالد بن الوليد لقتاله وصده عن دخول مكة، وقد وقعت بين بعض رجالهم وبعض رجاله مناوشات. فإذا هم بعد الذي حدث تركوه يدخل مكة تحدَّثت العرب بأنهم انهزموا أمامه، فتضعضعت في نظر العرب مكانتهم وسقطت هيبتهم. لذلك هم يصرُّون على موقفهم منه هذا العام إبقاءً على هذه الهيبة واستبقاءً لتلك المكانة. فليفكر وإياهم، وهذا موقفه وموقفهم، لعلهم جميعًا يجدون من هذا الموقف مخرجًا، وإلا فليس إلا الحرب يدخلونها طوعًا أو كرهًا. بل إنهم لها لكارهون في هذه الأشهر، تقديرًا لحرمتها الدينية من ناحية، ولأنها من ناحية أخرى، إذا لم تحترم اليوم حرمتها ووقعت الحرب فيها، لم يأمن العرب في مستقبل أيامهم أن يجيئوا إلى مكة وأسواقها مخافة انتهاك الأشهر الحرم مرة أخرى، فيجني ذلك على تجارة مكة وعلى أرزاق أهلها.
واتصل الحديث وعادت المفاوضات بين الفريقين كرة أخرى. وأوفدت قريش سهيل بن عمرو وقالوا له: ائت محمدًا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا. فوالله لا تُحَدَّث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوةً أبدًا. فلما انتهى سهيل إلى الرسول جرت محادثات طويلة للصلح وشروطه كانت تنقطع في بعض الأحيان، ثم يعيد اتصالها حرص الجانبين على النجاح. وكان المسلمون من حول النبي يسمعون أمر هذه المحادثات ويضيق بعضهم بأمرها صبرًا، لتشدد سهيل في مسائل يتساهل النبي في قولها. ولولا ثقة المسلمين المطلقة بنبيهم، ولولا إيمانهم به، لما ارتضوا ما تم الاتفاق عليه، ولقاتلوا ليدخلوا مكة أو لتكون الأخرى. فقد ذهب عمر بن الخطاب في أعقاب المحادثات إلى أبي بكر ودار بينهما الحديث الآتي:
وانقلب عمر بعد ذلك إلى محمد وتحدَّث وإياه بمثل هذا الحديث وهو مغيظ محنق. لكن ذلك لم يغيِّر من صبر النبي ولا من عزمه؛ وكل الذي قاله في ختام الحديث لعمر: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيِّعني.» ثم كان بعد ذلك من صبر محمد حين كتابة العهد ما زاد في حفيظة بعض المسلمين؛ فقد دعا عليَّ بن أبي طالب وقال له: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.» فقال سهيل: «أمسك، لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم.» قال رسول الله: «اكتب باسمك اللهم.» ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.» فقال سهيل: «أمسك، لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.» قال رسول الله: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله …» ثم كتبت العهدة بين الطرفين وفيها أنهما تهادنا عشر سنين، في رأي أكثر كتَّاب السيرة، وسنتين في قول الواقدي، وأن من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا من رجال محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه، ومن أحب محالفة قريش فلا جناح عليه، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليها في العام الذي يليه فيدخلوها ويقيموا بها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في قُرُبها ولا سلاح غيرها.
وما كاد هذا العهد يوقَّع حتى حالفت خزاعة محمدًا وحالفت بنو بكر قريشًا. وما كاد هذا العهد يوقع حتى أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو على المسلمين يريد أن ينضم إليهم ويسير معهم. فلما رأى سهيل ابنه ضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وجعل يجره ليرده إلى قريش، وأبو جندل يصيح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين! أؤرَد إلى المشركين يفتنونني عن ديني؟! وزاد ذلك في قلق المسلمين وعدم رضاهم عن العهد الذي عقد الرسول مع سهيل. لكن محمدًا وجه إلى أبي جندل قوله: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين مخرجًا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.» وعاد أبو جندل إلى قريش نفاذًا لعهد النبي ووعده، وقام سهيل راجعًا إلى مكة. وأقام محمد مضطربًا مما رأى من شأن من حوله، ثم صلى واطمأن ثم قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه إيذانًا بالعمرة. وقد امتلأت نفسه بالسكينة والرضا. فلما رأى الناس صنيعه ورأوا سكينته تواثبوا ينحرون ويحلقون، وإن منهم من حلق ومنهم من قصَّر. قال محمد: يرحم الله المحلقين. فتنادى الناس في قلق: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: يرحم الله المحلِّقين. فتنادى الناس في قلق: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين. قال بعضهم: فلم ظاهرت يا رسول الله الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ فكان جوابه: لأنهم لم يشكوا.
لم يبق للمسلمين إلا أن يرجعوا إلى المدينة في انتظار أن يعودوا إلى مكة العام المقبل. وقد كان أكثرهم يحتمل هذه الفكرة على مضض، ولا يهوِّنها على نفسه إلا أنها أمر رسول الله؛ فهم ليس لهم عادة بهزيمة ولا تسليم من غير قتال، وهم في إيمانهم بنصر الله رسوله ودينه لم تخالجهم ريبة في اقتحام مكة لو أن محمدًا أمر باقتحامها. وأقاموا بالحديبية أيامًا، منهم من يتساءلون في حكمة هذا العهد الذي عقد النبي، ومنهم من تحدثه نفسه بالشك في حكمته، ثم تحملوا وقفلوا راجعين. وإنهم لفي طريقهم بين مكة والمدينة إذ نزل الوحي على النبي بسورة الفتح. فتلا النبي على أصحابه قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا إلى آخر السورة.
لم يبق إذن ريب في أن عهد الحديبية فتح مبين. وهو قد كان كذلك. وقد أثبتت الأيام أن هذا العهد حكمة سياسية وبُعد نظر كان لهما أكبر الأثر في مستقبل الإسلام وفي مستقبل العرب كله. فقد كانت هذه أول مرة اعترفت قريش فيها بمحمد لا على أنه ثائر بها خارج عليها، ولكن على أنه ندها وعدلها: فاعترفت بذلك بالدولة الإسلامية وقيامها. ثم إن إقرارها للمسلمين بحق زيارة البيت، وإقامة شعائر الحج، اعتراف منها بأن الإسلام دين مقرر معترف به من أديان شبه الجزيرة. وهدنة السنتين، أو السنوات العشر، قد جعلت المسلمين يطمئنون من ناحية الجنوب ولا يخشون غارة قريش، ومهدت للإسلام أن يزداد انتشارًا. أفليست قريش ألد أعدائه وأشد محاربيه قد انتهت بالإذعان لما لم تكن تذعن له من قبل قط؟! وقد انتشر الإسلام بالفعل بعد هذه الهدنة انتشارًا أسرع أضعافًا من انتشاره من قبل. كان الذين جاءوا إلى الحديبية ألفًا وأربعمائة؛ فلما كان بعد عامين اثنين وجاء محمد لفتح مكة جاء في عشرة آلاف. وأشد ما اعترض عليه من ساورتهم الشكوك في حكمة عهد الحديبية ما نص عليه العهد من أن من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا من المسلمين لم ترده على محمد. وكان رأي محمد في هذا أن من ارتد عن الإسلام ولجأ إلى قريش لم يكن جديرًا بأن يعود إلى جماعة المسلمين، وأن من أسلم وحاول اللحاق بمحمد فسيجعل الله له مخرجًا. وقد صدَّقت الحادثات رأي محمد في ذلك بأسرع ما كان يظن أصحابه، ودلت على أن الإسلام كسب من صلح الحديبية أعظم الكسب، ومهد لما جاء بعد ذلك بشهرين اثنين من بدء محمد مخاطبة الملوك ورؤساء الدول الأجنبية يدعوهم إلى الإسلام.
صدَّقت الحادثات رأي محمد بأسرع مما كان يظن أصحابه. فقد وفد أبو بصير من مكة إلى المدينة مسلمًا ينطبق عليه العهد برده إلى قريش لأنه خرج بغير رأي مولاه. فكتب أزهر بن عوف والأخنس بن شريق إلى النبي كي يرده، وبعثا بكتابهما مع رجل من بني عامر ومعه مولى لهم. قال النبي: يا أبا بصير: إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك. قال أبو بصير: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فكرر عليه النبي قوله، فانطلق مع الرجلين؛ حتى إذا كان بذي الحليفة سأل أخا بني عامر أن يريه سيفه؛ وما إن استوت قبضته في يده حتى علا به العامري فقتله، فخرج المولى يعدو ناحية المدينة حتى أتى النبي، فلما رآه قال: إن هذا رجل قد رأى فزعًا. ثم قال للرجل: ويحك! مالك؟ قال: قتل صاحبك صاحبي. ثم ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحًا السيف موجهًا الحديث إلى محمد وهو يقول: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك. أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يُعبث بي. ولم يخف الرسول إعجابه وتمنيه لو كان معه رجال.
ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص على ساحل البحر في طريق قريش إلى الشام، وكان عهد محمد وقريش أن تُترك هذه الطريق للتجارة لا يقطعها هو ولا تقطعها قريش. فلما ذهب أبو بصير إليها وسمع المسلمون المقيمون بمكة بأمره وبما كان من إعجاب الرسول به فر منهم نحو سبعين رجلًا اتخذوه لهم إمامًا وجعلوا وإياه يقطعون على قريش طريقها، وكانوا لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها. هنالك رأت قريش أنها أكبر خسارة بحرصها على هؤلاء المسلمين أن يظلوا بمكة، وقدَّرت أن الرجل الصادق الإيمان، محاولة حبسه شر من إطلاق سراحه، فهو لا بد منتهز فرصة الفرار، مقيم على الذين حاولوا حبسه حربًا عوانًا هم فيها الأخسرون، وكأنما ذكرت قريش محمدًا حين هاجر إلى المدينة وقطع عليهم طريق القوافل، وخشيت أن يكرر أبو بصير هذا الصنيع فبعثت إلى النبي تسأله بأرحامها إلا آوى هؤلاء المسلمين حتى يتركوا الطريق آمنًا. ونزلت قريش بذلك عما أصر عليه سهيل بن عمرو من رد المسلمين من قريش إلى مكة إذا ذهبوا إلى محمد بغير رأي مواليهم. وسقط بذلك الشرط الذي أحفظ عمر بن الخطاب والذي كان سببًا في ثورته التي ثار على أبي بكر. وآوى محمد أصحابه وعاد طريق الشام آمنا.
وكذلك صدَّقت الحادثات حكمة محمد وبعد نظره ودقة سياسته، وأثبتت أنه إذ عقد عهد الحديبية وضع حجرًا لا ينقض في سياسة الإسلام وانتشاره، وهذا هو الفتح المبين.
اطمأنت العلاقات بعد الحديبية بين قريش ومحمد أعظم الطمأنينة، وأمن كل جانب صاحبه. واتجهت قريش كلها إلى التوسع في تجارتها، لعلها تستعيد من طريقها ما فقد أيام اتصال الحرب بين المسلمين وبينها، وحين سدت عليها طريق الشام وأصبحت تجارتها معرضة للضياع. أما محمد فاتجه بفكره إلى متابعة إبلاغ رسالته للناس جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها، ووجه نظره إلى تمهيد أسباب النجاح لطمأنينة المسلمين في شبه الجزيرة. وهذا وذاك هو ما صنع بإرسال الرسل إلى الملوك في مختلف الدول، وبإجلاء اليهود عن شبه جزيرة العرب إجلاءً تامًّا بعد غزوة خيبر.