عمرة القضاء
(ركب المسلمين إلى مكة – جلاء قريش عن مكة – نزول المسلمين بها – طواف محمد وهرولته – زواج محمد من ميمونة – رغبته إلى قريش أن يعرس بمكة ورفضهم ذلك – إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة)
***
استدار العام بعد الحديبية، وأصبح محمد وأصحابه في حل بعهدهم مع قريش من الدخول إلى مكة وزيارة الكعبة؛ لذلك نادى الرسول في الناس كي يتجهزوا للخروج إلى عمرة القضاء بعد أن مُنعوا من قبل منها. ومن اليسير عليك أن تقدِّر كيف أقبل المسلمون يلبُّون هذا النداء ومنهم المهاجرون الذين تركوا مكة منذ سبع سنوات، ومنهم الأنصار الذين كانت لهم مع مكة تجارة وبهم إلى زيارة البيت الحرام هوى. لذلك زاد الركب إلى ألفين بعد أن كان ألفًا وأربعمائة في العام الذي سبقه، وتنفيذًا لعهد الحديبية لم يحمل أحدٌ من هؤلاء الرجال سلاحًا إلا سيفًا في قرابه. ولكن محمدًا كان يخشى الغدر دائمًا. فجهَّز مائة فارس جعل على رأسهم محمد بن مسلمة، وبعثهم طليعة له على ألا يتخطوا حرم مكة، وأن ينحدروا إذا هم بلغوا مر الظهران إلى واد قريب منها.
وعرفت قريش بمقدم محمد وأصحابه، فجلت عن مكة، نزولًا على صلح الحديبية، وصعدت في التلال المجاورة لها حيث ضربت الخيام، وحيث أوى منهم من أوى إلى فيء الشجر. ومن فوق أبي قبيس وحراء، ومن فوق كل مرتفع مطل على مكة، أطل هؤلاء المكيون ينظرون بعيون كلها تطلع إلى الطريد وأصحابه داخلين بلد البيت الحرام لا يصدهم عنه صاد، ولا يحول بينهم وبينه حائل.
وانحدر المسلمون من شمال مكة وقد أخذ عبد الله بن رواحة بخطام القصواء، وأحاط كبار الصحابة بالنبي عليه السلام. وسارت الصفوف من خلفهم ما بين راجل ومقتعد غارب بعيره. فلما انكشف البيت الحرام أمامهم، انفرجت شفاه المسلمين جميعًا عن صوت واحد منادين: لبيت لبيك! متوجهين بالقلوب والأرواح إلى وجه الله ذي الجلال، محيطين في هالة من رجاء وإكبار بهذا الرسول الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. والحق أنه كان مشهدًا فذًّا من مشاهد التاريخ التي اهتزت لها أرجاؤه، والتي جذبت إلى الإسلام قلوب أشد المشركين صلابةً في وثنيته وفي عناده. وعلى هذا المشهد الفذ كانت تقع عيون أهل مكة. وهذا الصوت المنبعث من القلوب يدوِّي: لبيك! لبيك، كان يخترق آذانهم فيهز قلوبهم هزًّا.
ولما أتم المسلمون الطواف بالكعبة انتقل محمد على رأسهم إلى الصفا والمروة فركب بينهما سبعًا، كما كان يفعل العرب من قبل، ثم نحر الهدي عند المروة وحلق رأسه وأتم بذلك فرائض العمرة. ولما كان الغد دخل محمد إلى الكعبة وبقي بها حتى صلاة الظهر. ولقد كانت الأصنام ما تزال تعمرها. مع ذلك علا بلال سقفها وأذن في الناس لصلاة الظهر عندها. وصلى النبي يومئذ بألفين من المسلمين صلاة الإسلام عند البيت الذي كان يصد من سبع سنين عن الصلاة عنده. وأقام المسلمون بمكة ثلاثة الأيام المفروضة في عهد الحديبية، وقد خلت أم القرى من أهلها. فجلس المسلمون خلالها لا يصيبهم فيها أذى يعترضهم أحد بسوء. والمهاجرون منهم يزورون دورهم ويزيرون أصحابهم من الأنصار إياها، وكأنما هم جميعًا أصحاب هذا البلد الأمين؛ وكلهم يسير سيرة الإسلام يؤدي إلى الله كل يوم صلواته فيقتل في نفسه غرورها، ويعين قويهم ضعيفهم، ويبر غنيهم فقيرهم؛ والنبي ينتقل بينهم أبًا محبًّا محبوبًا يبسم لهذا، ويمزح مع ذاك، ثم لا يقول إلا حقًّا. وقريش وسائر أهل مكة يطلون من منازلهم فوق السفوح على هذا المشهد الفذ في التاريخ، يرون رجالًا هذه أخلاقهم، لا يشربون خمرًا، ولا يأتون معصيةً، ولا يُغريهم الطعام ولا الشراب؛ ولا تفتنهم في الحياة فتنة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. أي أثر يترك هذا المنظر الذي سما بالإنسان إلى ما فوق أسمى مراتب الإنسان؟! من اليسير عليك أن تقدِّره حين تعلم أن محمدًا عاد بعد ذلك بشهور ففتح مكة على رأس عشرة آلاف من المسلمين.
كانت أم الفضل، زوج العباس بن عبد المطلب عم النبي، موكلة من أختها ميمونة في تزويجها، وكانت ميمونة في السادسة والعشرين من عمرها، وكانت خالة خالد بن الوليد. وأقامت أم الفضل زوجها العباس مقامها في تزويج أختها. ولما رأت ميمونة ما رأت من أمر المسلمين في عمرة القضاء هوت إلى الإسلام نفسها، فخاطب العباس ابن أخيه في أمرها وعرض عليه أن يتزوجها. وقبل محمد وأصدقها أربعمائة درهم. وكانت ثلاثة الأيام التي نص عهد الحديبية عليها قد انقضت، لكن محمدًا أراد أن يتخذ من زواجه ميمونة وسيلة لزيادة في التفاهم بينه وبين قريش.
وبلغ المسلمون المدينة وأقاموا بها، محمد لا يشك في عظم ما تركت عمرة القضاء من أثر في نفوس قريش وفي نفوس أهل مكة جميعًا، ولا يشك فيما سينشأ عنها من آثار سريعة خطيرة.
وصدَّقت الأيام تقديره؛ فإنه ما كاد يتحمل راجعًا إلى المدينة حتى وقف خالد بن الوليد فارس قريش المعلم وبطل أحد يقول في جمع منها: «لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين. فحق على كل ذي لب أن يتبعه.» وقد فزع عكرمة بن أبي جهل لما سمع، فرد قائلًا: لقد صبُؤْت يا خالد. ودار بينهما الحديث الآتي:
وبعث خالد إلى النبي بأفراس وبعث إليه بإقراره بالإسلام وعرفانه. وبلغ إسلام خالد أبا سفيان، فبعث في طلبه وسأله: أحق ما بلغه عنه؟ ولما أجابه خالد أنه حق، غضب وقال: «واللات والعُزى لو أعلم أن الذي تقول حق لبدأت بك قبل محمد.» قال خالد: «فوالله إنه لحق على رغم من رغم.» فاندفع أبو سفيان في غضبه نحوه؛ فحجزه عنه عكرمة وكان حاضرًا وقال: «مهلًا يا أبا سفيان فوالله لقد خفت للذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه. أنتم تقتلون خالدًا على رأي رآه وقريش كلها تبايعت عليه! والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم.» وخرج خالد من مكة إلى المدينة، فانضم إلى صفوف المسلمين.
وأسلم من بعد خالد عمرو بن العاص، وحارس الكعبة عثمان بن طلحة. وقد أسلم بإسلام هؤلاء كثير من أهل مكة واتبعوا دين الحق. وبذلك قويت شوكة الإسلام، وأصبح فتح مكة أبوابها لمحمد أمرًا لا محل لريبة فيه.