فتح مكة
(أثر موقعة مؤتة – نقض قريش عهد الحديبية – استعداء خزاعة النبي على قريش – سفارة أبي سفيان إلى النبي وإخفاقها – تجهيز المسلمين عشرة آلاف يسيرون إلى مكة – رجاء محمد أن يفتح أم القرى من غير إراقة الدماء – خروج العباس ومقابلته لأبي سفيان وأخذه إلى النبي بظاهر مكة – دخول المسلمين فاتحين – المكيون الذي تحرشوا بجيش خالد بن الوليد – عفو محمد عن خصومه جميعًا – تطهير الكعبة من الأصنام – إسلام أهل مكة)
***
عاد جيش المسلمين بعد موقعة مؤتة ولواؤهم لخالد بن الوليد. عادوا لا منتصرين ولا منكسرين ولكن راضين من الغنيمة بالإياب. وقد ترك انسحابهم بعد موت زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، أثرًا مختلفًا أشد الاختلاف عند الروم وعند المسلمين المقيمين بالمدينة وعند قريش بمكة: أما الروم ففرحوا بانسحاب المسلمين وحمدوا ربهم أن لم يطل القتال بهم، مع أن جيش الروم كان مائة ألف على قول ومائتي ألف على قول آخر، في حين كانت عدة المسلمين ثلاثة آلاف. وسواء أكان فرح الروم راجعًا إلى ما أبدى خالد بن الوليد من الاستماتة في الدفاع والقوة في الهجوم حتى لقد تحطمت في يده تسعة أسياف وهو يحارب بعد موت أصحابه الثلاثة، أم كان راجعًا إلى مهارته في توزيع الجيش في اليوم الثاني وإحداث ما حدث من الجلبة حتى ظن الروم أن مددًا جاءه من المدينة، فإن القبائل العربية المتاخمة للشام نظرت إلى فعال المسلمين بإعجاب أشد الإعجاب. وكان من ذلك أن أحد زعمائهم (فروة بن عمرو الجذامي، وكان قائدًا لفرقة من جيش الروم) ما لبث أن أعلن إسلامه؛ فقبض عليه بأمر من هرقل بتهمة الخيانة. وكان هرقل على استعداد للإفراج عنه إذا هو عاد إلى المسيحية، بل كان على استعداد أن يرده إلى مركز القيادة الذي كان فيه. لكن فروة أبى وأصر على إبائه وعلى إسلامه فقتل. وكان من ذلك أيضًا أن ازداد الإسلام انتشارًا بين قبائل نجد المتاخمة للعراق والشام حين كان سلطان الروم في ذروته.
وزاد في انضمام الناس إلى الدين الجديد اضطراب أحوال الدولة البزنطية اضطرابًا جعل أحد عمال هرقل، وقد كلف أن يدفع للجيش رواتبه، يصيح في وجه عرب الشام الذين اشتركوا في الحرب: «انسحبوا. فالإمبراطور لا يجد ما يدفع منه رواتب جنده إلا بمشقة. وليس لديه لذلك ما يوزعه على كلابه.» فلا عجب أن ينصرف هؤلاء عن الإمبراطور وعن جنده، وأن يزداد ضياء الدين الجديد أمامهم نورًا إلى صدق الحقيقة السامية التي يبشر الناس بها. لذلك دخل في الإسلام في هذه الفترة ألوف من سليم وعلى رأسهم العباس بن مرداس، ومن أشجع وغطفان الذين كانوا حلفاء اليهود حتى نكب اليهود في خيبر، ومن عبس ومن ذبيان ومن فزارة. فكانت وقعة مؤتة بذلك سببًا في استتباب الأمر للمسلمين في شمال المدينة إلى حدود الشام، وفي ازدياد الإسلام عزة وقوة ومنعة.
لكن أثرها في نفوس المسلمين المقيمين بالمدينة كان غير هذا الأثر؛ فهم ما لبثوا حين رأوا خالدًا والجيش معه عائدين من تخوم الشام لم ينتصروا على جيش هرقل، أن صاحوا في وجوههم: «يا فرَّار، فررتم في سبيل الله.» ولقد بلغ من خجل بعض رجال الجيش أن لزم بيته، كيلا يؤذيه صبيان المسلمين وشبانهم بتهمة الفرار.
أما أثر مؤتة في نفس قريش فكان أنها هزيمة قضت على المسلمين وعلى سلطانهم، حتى لم يبق إنسان يأبه لهم أو يقيم لعهدهم وزنًا. فلتعد الأمور كما كانت قبل عمرة القضاء. ولتعد الأمور كما كانت قبل عهد الحديبية. ولتعد قريش حربًا على المسلمين ومن في عهدهم من غير أن تخشى من محمد قصاصًا.
وصلح الحديبية كان قد قضى أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. وكانت خزاعة قد دخلت في عهد محمد، ودخلت بنو بكر في عهد قريش. وكانت بين خزاعة وبني بكر ثارات قديمة سكنت بعد صلح الحديبية وانحياز كل من القبيلتين إلى فريق من المتصالحين. فلما كانت مؤتة وخُيل إلى قريش أن المسلمين قضي عليهم، وخيل إلى بني الديل من بني بكر بن عبد مناة أن الفرصة سنحت لهم ليصيبوا من خزاعة بثاراتهم القديمة، وحرَّضهم على ذلك جماعة من قريش منهم عكرمة بن أبي جهل وبعض سادات قريش وأمدوهم بالسلاح.
وبينما خزاعة ذات ليلة على ماء لهم يدعى الوتير إذ فاجأتهم بنو بكر فقتلوا منهم، ففرت خزاعة إلى مكة ولجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، وشكوا إليه نقض قريش ونقض بني بكر عهدهم مع رسول الله، وسارع عمرو بن سالم الخزاعي فغدا متوجهًا إلى المدينة حتى وقف بين يدي محمد وهو جالس في المسجد بين الناس، وجعل يقص ما حدث ويستنصره. قال رسول الله: «نُصرت يا عمرو بن سالم.» ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي بما أصابهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم. عند ذلك رأى النبي أن ما قامت به قريش من نقض عهده لا مقابل له إلا فتح مكة، وأنه لذلك يجب أن يرسل إلى المسلمين في أنحاء شبه الجزيرة ليكونوا على أهبة لإجابة ندائه من غير أن يعرفوا وجهته بعد هذا النداء.
أما حكماء قريش وذوو الرأي فيها فما لبثوا أن قدَّروا ما عرَّضهم له عكرمة ومن معه من الشبان من خطر. فهذا عهد الحديبية قد نقض، وهذا سلطان محمد في شبه الجزيرة يزداد بأسًا وقوةً. ولئن فكر بعد الذي حدث في أن ينتقم لخزاعة من أهل مكة لتتعرضن المدينة المقدسة لأشد الخطر. فماذا تراهم يصنعون؟ أوفدوا أبا سفيان إلى المدينة ليثبت العقد وليزيد في المدة. ولعل المدة كانت سنتين فكانوا يريدونها عشرًا. وخرج أبو سفيان قائدهم وحكيمهم يريد المدينة فلما بلغ من طريقه عسفان، لقيه بديل بن ورقاء وأصحابه، فخاف أن يكون قد جاء محمدًا وأخبره بما حدث، فيزيد ذلك مهمته تعقيدًا. وقد نفى بديل مقابلته محمدًا لكنه عرف من بعر راحلة بديل أنه كان بالمدينة؛ لذلك آثر ألا يكون محمد أول من يلقى، فجعل وجهته بيت ابنته أم حبيبة زوج النبي.
ولعلها كانت قد عرفت عواطف النبي إزاء قريش وإن لم تكن تعلم ما اعتزمه في أمر مكة. ولعل ذلك كان شأن المسلمين بالمدينة جميعًا. فقد أراد أبو سفيان أن يجلس على فراش النبيِّ فطوته أم حبيبة. فلما سألها أبوها: أطوته رغبةً بأبيها عن الفراش، أم رغبة بالفراش عن أبيها؟ كان جوابها: هو فراش رسول الله ﷺ وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس عليه. قال أبو سفيان: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر! وخرج مغضبًا. ثم كلَّم محمدًا في العهد وإطالة مدته، فلم يرد بشيء. فكلَّم أبا بكر ليكلم له النبي، فأبى. فكلم عمر بن الخطاب فأغلظ له في الرد وقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
ودخل أبو سفيان على عليِّ بن أبي طالب وعنده فاطمة، فعرض عليه ما جاء فيه واستشفعه إلى الرسول؛ فأنبأه عليٌّ في رفق أنه لا يستطيع أحد أن يرد محمدًا عن أمر إذا هو اعتزمه. واستشفع رسول قريش فاطمة أن يجير ابنها الحسن بين الناس. فقالت: ما يجير أحد على رسول الله. واشتدت الأمور على أبي سفيان فاستنصح عليًّا؛ فقال له: والله ما أعلم شيئًا يغني عنك شيئًا. لكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك؛ وما أظن ذلك مغنيًا، ولكني لا أجد لك غيره. فذهب أبو سفيان إلى المسجد وهناك أعلن أنه أجار بين الناس. ثم ركب راحلته وانطلق ذاهبًا إلى مكة وقلبه يفيض أسى مما لقي من هوان على يد ابنته وعلى يد أولئك الذين كانوا قبل هجرتهم من مكة يرتجون منه نظرة عطف أو رضًا.
عاد أبو سفيان إلى مكة؛ فقص على قومه ما لقي بالمدينة وما أجار بين الناس في المسجد بمشورة عليٍّ، وأن محمدًا لم يجز جواره. قال قومه: ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك. وعادوا فيما بينهم يتشاورون.
أما محمد فقد رأى ألا يترك لهم الفرصة حتى يتجهزوا للقائه. ولئن كان واثقًا من قوته ومن نصر الله إياه، لقد كان يرجو أن يَبْغَتَ القوم في غرة منهم، فلا يجدوا له دفعًا، فيُسلموا من غير أن تراق الدماء؛ لذلك أمر الناس بالتجهيز، فلما تجهزوا أعلمهم أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد، ودعا الله أن يأخذ العيون الأخبار عن قريش حتى لا تقف من سيرهم على نبأ.
وبينما الجيش على أهبة السير كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا أعطاه امرأة من مكة مولاة لبعض بني عبد المطلب تسمى سارة، وجعل لها جُعلًا على أن تبلغه قريشًا ليقفوا على ما أعد محمد لهم، وحاطب كان من كبار المسلمين، ولكن في النفس الإنسانية جوانب ضعف تطغى في بعض الأحيان عليها، وتهوي بها إلى ما لا ترضاه هي لنفسها. وما لبث محمد أن أحيط بالأمر خبرًا. فسارع فبعث عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركا سارة فاستنزلاها، فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا. فأنذرها عليٌّ إن لم تخرج الكتاب ليكشفنها. فلما رأت المرأة الجد منه قالت: أعرض. فحلت ذوائب شعرها فأخرجت الكتاب منها، فردَّاها إلى المدينة.
ورأى العباس بن عبد المطلب من جيوش ابن أخيه ومن قوته ما راعه وأزعجه. وهو إن كان أسلم فإن ذلك لم يخل قلبه من خشية ما يحل بمكة إذا دهمها هذا الجيش الذي لا قِبَل لقوة في بلاد العرب به. أوَليس قد ترك مكة منذ حين، وله بها من الأهل والخلَّان والأصدقاء من لم يقطع الإسلام الذي دان به من وشائجهم؟! ولعله أفضى بمخاوفه هذه إلى الرسول وسأله؛ ماذا يصنع إذا ما طلبت قريش أمانه؟ ولعل ابن أخيه سُرَّ بمفاتحة العباس إياه في هذا، ورجا أن يتخذ منه سفيرًا يلقي في قلوب القوم من قريش الرعب فيدخل مكة من غير أن يسفك دمًا، وتظل مكة حرامًا كما كانت وكما يجب أن تكون. وجلس العباس على بغلة النبي البيضاء وخرج عليها حتى جاء ناحية الأراك، لعله يجد حطَّابًا أو صاحب لبن أو أي إنسان ذاهبًا إلى مكة، يحمله إلى أهلها رسالة بقوة المسلمين وبأس جيوشهم، حتى يخرجوا إلى رسول الله فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. وكانت قريش قد بدأت، منذ نزل المسلمون مرَّ الظهران، تشعر بأن خطرًا يقترب منها؛ فأرسلت أبا سفيان بن حرب، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام قريب خديجة، يتنطسون الأخبار، ويستطلعون مبلغ الخطر الذي تحس قلوبها. وإن العباس ليسير على بغلة النبي البيضاء إذ سمع حديثًا بين أبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء كذلك يجري:
وعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه بكنيته قائلا: أبا حنظلة! وأجاب أبو سفيان بدوره: أبا الفضل. قال العباس: ويحك يا أبا سفيان؟ هذا رسول الله في الناس. وا صباح قريش إذا دخل مكة عنوة! قال أبو سفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ فأركبه العباس في عجز البغلة ورد صاحبيه إلى مكة وسار به. والناس إذا رأوا البغلة عرفوها وتركوها تمر بمن عليها بين عشرة آلاف أوقدوا نيرانهم لتلقي الرعب في قلب مكة وأهلها. فلما مرت بنار عمر بن الخطاب ورآها عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع إلى خيمة النبي وطلب إليه أن يضرب عنقه. قال العباس: إني يا رسول الله قد أجرته. إزاء هذا الموقف في تلك الساعة من الليل، وبعد مناقشة لا تخلو من حدة بين العباس وعمر قال محمد: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به. فلما كان الصباح، وجيء بأبي سفيان في حضرة النبي وبمسمع من كبراء المهاجرين والأنصار، جرى الحوار الآتي:
فتدخل العباس موجهًا القول إلى أبي سفيان أن يسلم ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تُضرب عنقه. ولم يجد أبو سفيان أمام هذا إلا أن يسلم. فتوجَّه العباس بالقول إلى النبي عليه السلام: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئًا. قال رسول الله: «نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.»
هذه الوقائع واردٌ عليها اتفاق المؤرخين وكتاب السيرة جميعًا إلا أن بعضهم يسائل: أهي قد حدثت كلها بمحض المصادفة؟ فخروج العباس إلى النبي كان قصده منه أن يذهب إلى المدينة فإذا هو يلقى جيوش المسلمين بالجحفة، وخروج بديل بن ورقاء مع أبي سفيان بن حرب كان لمحض الاستطلاع، مع أن بديلًا ذهب قبل ذلك إلى المدينة وقص على النبي ما لقيت خزاعة وعرف من النبي أنه ناصرها، وخروج أبي سفيان كان جهلًا منه بأن محمدًا قد سار لغزو مكة! أم أن شيئًا من الاتفاق، قليلًا أو كثيرًا، كان قد حدث قبل ذلك، وأن هذا الاتفاق هو الذي أخرج العباس للقاء محمد، وأن هذا الاتفاق هو الذي جمع بين العباس وأبي سفيان، وأن أبا سفيان كان قد وثق، منذ ذهب إلى المدينة ليمد في عهد الحديبية ورجع صفر اليدين، بأن لا سبيل لقريش إلى رد محمد، وأيقن أنه إذا مهد للفتح السبيل فستبقى له رياسته في مكة ومقامة الكبير فيها، وأن الذي ربما كان وقع عليه الاتفاق من ذلك لم يتعد محمدًا والأشخاص الذين يعنيهم الأمر، بدليل ما همَّ به عمر من قتل أبي سفيان؟ من المغامرة أن نحكم. لكنا نستطيع أن نقرر — مطمئنَّة نفوسنا — أنه سواء أكانت المصادفة هي التي ساقت ذلك كله أم أن شيئًا من الاتفاق قد وقع عليه، فالحالان تدلان على دقة محمد ومهارته في كسب أكبر موقعة في تاريخ الإسلام من غير حرب ومن غير إراقة دماء.
لم يمنع إسلام أبي سفيان محمدًا أن يتخذ لدخول مكة كل ما لديه من أهبة وحذر. وإذا كان النصر بيد الله يؤتيه من يشاء، فإن الله لا يؤتي النصر إلا من أعد له كل عدته، واحتاط لكل دقيقة وجليلة قد تقف في سبيله، لذلك أمر أن يحبس أبو سفيان بمضيق الوادي عند مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر به جنود المسلمين فيراها ليحدث قومه بها عن بينة، ولكي لا يكون في إسراعه إليهم خيفة مقاومة أيًّا كان نوعها. ومرت القبائل بأبي سفيان، فما راعه منها إلا الكتيبة الخضراء يحيط بمحمد فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فلما عرف أبو سفيان أمره قال: يا عباس! ما لأحد بهؤلاء قِبَلَ ولا طاقة. والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا! ثم انطلق إلى قومه يصيح فيهم بأعلى صوته: يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وسار محمد في الجيش، حتى إذا انتهى إلى ذي طوى، ورأى من هناك مكة لا تقاوم استوقف كتائبه، ووقف على راحلته، وانحنى لله شاكرًا، أن فتح الله عليه مهبط الوحي ومقر البيت الحرام ليدخله والمسلمين آمنين مطمئنين. وفيما هو كذلك طلب أبو قحافة، ولم يكن قد أسلم كابنه، إلى حفيدة له أن تظهر به على أبي قبيس، وكان قد كف بصره. فلما ارتفعت به الجبل سألها ما ترى؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعًا. قال: تلك الخيل. ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: تلك الخيل دفعت إلى مكة، فأسرعي بي إلى بيتي. ولم يصل إلى بيته حتى كانت الخيل قد زحفت وتلقته قبل بلوغه إياه.
شكر محمد الله أن فتح عليه مكة، ولكنه ظل مع ذلك متخذًا حذره؛ فقد أمر أن يفرق الجيش أربع فرق، وأمرها جميعًا ألا تقاتل وألا تسفك دمًا إلا إذا أُكرهت على ذلك إكراهًا واضطرت إليه اضطرارًا. وجعل الزبير بن العوام على الجناح الأيسر من الجيش وأمره أن يدخل مكة من شمالها، وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وجعل سعد بن عبادة على أهل المدينة ليدخلوا مكة من جانبها الغربي. أما أبو عبيدة بن الجراح فجعله محمد على المهاجرين، وسار وإياهم ليدخلوا مكة من أعلاها في حذاء جبل هند، وفيما هم يتأهبون سمع بعضهم سعد بن عبادة يقول: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة …» وفي ذلك من نقض أمر النبي ألا يقتل المسلمون من أهل مكة ما فيه. لذلك رأى النبي حين بلغه ما قال سعد أن يأخذ الراية منه وأن يدفعها إلى ابنه قيس، وكان رجلًا ضخمًا، لكنه كان أهدأ من أبيه أعصابًا.
دخلت الجيوش مكة فلم يلق منها مقاومة إلا جيش خالد بن الوليد؛ فقد كان يقيم في هذا الحي من أسفل مكة أشد قريش عداوة لمحمد، ومن اشتركوا مع بني بكر في نقض الحديبية بالغارة على خزاعة. هؤلاء لم يرضهم ما نادى به أبو سفيان. بل أعدُّوا عدتهم للقتال، وأعدَّ آخرون منهم عدتهم للفرار. وقام على رأسهم صفوان وسهيل وعكرمة بن أبي جهل. فلما دخلت فرقة خالد أمطروها نبالهم، لكن خالدًا لم يلبث أن فرَّقهم، ولم يُقتل من رجاله إلا اثنان ضلا طريقهما وانفصلا عنه. أما قريش ففقدوا ثلاثة عشر رجلًا في رواية، وثمانية وعشرين في رواية أخرى. ولم يلبث صفوان وسهيل وعكرمة حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن ولوا الأدبار، تاركين وراءهم من حرَّضوهم على المقاومة يصلون بأس خالد وبطش أبطاله معه. وبينما كان محمد على رأس المهاجرين يرقى في مرتفع ينزل منه إلى مكة مطمئن النفس لفتحها في سكينة وسلم بصر بأم القرى وبما فيها جميعًا، وبصر بتلماع السيوف أسفل المدينة وبمطاردة جيش خالد لمن هاجموهم. هنالك أسف وصاح مغضبًا يذكر أمره ألا يكون قتال. فلما علم بما كان، ذكر أن الخيرة فيما اختاره الله.
ثم سألهم: «يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: «خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم!» قال: «فاذهبوا فأنتم الطلقاء.» وبهذه الكلمة صدر العفو العام عن قريش وعن أهل مكة جميعًا.
ما أجمل العفو عند المقدرة! ما أعظم هذه النفس التي سمت كل السموِّ، فارتفعت فوق الحقد وفوق الانتقام، وأنكرت كل عاطفة دنيا، وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان! هؤلاء قريش يعرف محمد منهم من ائتمروا به ليقتلوه، ومن عذَّبوه وأصحابه من قبل ذلك، ومن قاتلوا في بدر وفي أحُد، ومن حصروه في غزوة الخندق، ومن ألَّبوا عليه العرب جميعًا، ومن لو استطاعوا قتله وتمزيقه إربًا إربًا لما ونوا في ذلك لحظة! هؤلاء قريش في قبضة محمد وتحت قدميه، أمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعًا معلَّقة بين شفتيه، وفي سلطانه هذه الألوف المدججة بالسلاح تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في رجع البصر! لكن محمدًا! لكن النبي! لكن رسول الله ليس بالرجل الذي يعرف العداوة أو يريد بها أن تقوم بين الناس. وليس هو بالجبَّار ولا بالمتكبر. لقد أمكنه الله من عدوِّه، فقدر فعفا، فضرب بذلك للعالم كله ولأجياله جميعًا مثلًا في البر والوفاء بالعهد، وفي سمو النفس سموًّا لا يبلغه أحد.
وكُبَّت الأصنام على وجوهها وظهورها، وطهر البيت الحرام بذلك منها. وأتم محمد بذلك في أول يوم لفتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة، وما حاربت مكة أشد الحرب فيه. أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا.
ورأى الأنصار من أهل المدينة ذلك كله، ورأوا محمدًا يقوم على الصفا ويدعو، فخيل إليهم أنه تارك المدينة إلى وطنه الأول وقد فتحه الله عليه، وقال بعضهم لبعض: أترون رسول الله ﷺ إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ ولعلهم كانوا على حق في مخاوفهم. فهذا رسول الله، وبمكة البيت الحرام بيت الله، وبمكة المسجد الحرام. لكن محمدًا ما لبث حين أتم دعاءه أن سألهم ما قالوا؟ فلما عرف بعد تردد منهم مخافتهم قال: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم.» فضرب بذلك للناس مثلًا في البر بعهده في بيعة العقبة، وفي الوفاء لأنصاره الذين وقفوا ساعة الشدة إلى جانبه، برًّا ووفاءً لا ينسيهما وطن ولا أهل ولا تنسيهما مكة البلد الحرام.
ولما أن طهرت الكعبة من أصنامها، أمر النبي بلالًا فأذَّن فوقها، وصلى الناس بإمامة محمد. ومن يومئذ إلى يومنا الحاضر، مدى أربعة عشر قرنًا مضت لا تنقطع، وبلال وخلفاء بلال من بعده ينادون بالأذان، كل يوم خمس مرات من فوق مسجد مكة، ومدى أربعة عشر قرنًا مضت من يومئذ يؤدي المسلمون فرض الصلاة لله والصلاة على رسوله، متوجهين إلى الله بقلوبهم وعقولهم، مستقبلين هذا البيت الحرام الذي طهَّره محمد يوم الفتح من أوثانه وأصنامه.
وأذعنت قريش لما حل بها، واطمأنت لعفو محمد عنها، وأقامت تنظر إليه وإلى المسلمين من حوله بعيون كلها دهش وإعجاب يمازجها الخوف والحذر. لكن طائفة منها عدتها سبعة عشر رجلًا، كان محمد قد استثناها من رحمته وأمر ساعة دخول مكة أن يُقتل رجالها ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، كان قد آثر بعضها الاختفاء ولاذ بعضها بالفرار. ولم يكن قرار محمد قتلهم لحقد منه أو غضب عليهم؛ فهو لم يكن يعرف الحقد، ولكن لجرائم كبيرة ارتكبوها. فأحدهم عبد الله بن أبي السرح كان قد أسلم وكان يكتب لمحمد الوحي، فارتد مشركًا إلى قريش زاعمًا أنه كان يزيف الوحي حين يكتبه. وعبد الله بن خطل كان قد أسلم ثم قتل مولى له وارتد مشركًا وأمر جاريتيه فرتنى وصاحبتها فكانتا تغنيان بهجاء محمد، فأمر بقتلهما معه. وعكرمة بن أبي جهل، وكان من أشد الناس لددًا في خصومة محمد والمسلمين خصومةً لم تهدأ حتى بعد فتح مكة ودخول خالد بن الوليد من أسفلها.
أمر محمد بعد دخول مكة ألا يسفك بها دم أو يُقتل فيها أحد غير هذه الطائفة. لذلك اختفى رجالها ونساؤها وفر منهم من فر. فلما استقر الأمر وهدأت الحال ورأى الناس من فسحة صدر الرسول ومن عفوه الشامل ما رأوا، طمع بعض أصحابه في أن يعفو حتى عن هؤلاء الذين أمر أن يُقتلوا. فقام عثمان بن عفان، وكان أخا ابن أبي السرح للرضاعة، حتى أتى به النبي فاستأمن له. فصمت محمد طويلًا، ثم قال: نعم، وأمته. وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوج عكرمة بن أبي جهل الذي فر إلى اليمن واستأمنت له محمدًا فأمَّنه، فخرجت في طلبه وجاءت به. وعفا محمد كذلك عن صفوان بن أمية وكان قد صحب عكرمة في فراره إلى ناحية البحر يستقلانه إلى اليمن، فجيء بهما والسفينة التي تحملهما على أهبة إقلاعها. وعفا محمد كذلك عن هند زوج أبي سفيان التي مضغت كبد حمزة عم الرسول بعد استشهاده في أُحُد، كما عفا عن أكثر من أمر بقتلهم. ولم يقتل منهم إلا أربعة، منهم الحويرث الذي أغرى بزينب بنت النبي حين رجوعها من مكة إلى المدينة، ورجلان أسلما ثم ارتكبا بالمدينة جريمة القتل وفرا راجعين إلى مكة مرتدين إلى الشرك، وإحدى قينتي ابن خطل اللتين كانتا تؤذيان النبي بغنائهما، وفرت الأخرى، ثم استُؤمن لها.
ثم ودى بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة، وبهذا الخطاب وبتصرفه الذي زاد على السماحة والعفو أمس، كسب محمد قلوب أهل مكة بما لم يكونوا يقدِّرون، فأقبلوا على الإسلام، ونادى مناد فيهم: «من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يترك في داره صنمًا إلا حطمه.» ثم بعث جماعة من خزاعة ليصلحوا من العمد المحيطة بالبلد الحرام، مما دل أهل مكة على ما لها في نفسه من التقديس وما زادهم له حبًّا. فلما أخبرهم أنهم خير أمة يحب، وأنه ما كان ليتركهم أو يعدل بهن ناسًا لولا أنهم أخرجوه، بلغ تعلقهم به غاية حدوده. وجاء أبو بكر بأبيه، الذي ارتقى أبا قبيس يوم الزحف، يقوده حتى وقف بين يدي النبي. فلما رآه محمد قال: هلا تركت الشيخ بمكانه حتى أكون أنا آتيه فيه! قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. فأجلس النبي الشيخ بين يديه ومسح صدره ثم قال له: أسلم. فأسلم وحسن إسلامه. وكذلك أسرت أخلاق النبوَّة السامية هذا الشعب الذي كان ثائرًا على محمد أشد الثورة، والذي أصبح اليوم يجله ويقدسه. وكذلك أسلمت قريش رجالًا ونساءً وبايعت.
وأقام محمد بمكة خمسة عشر يومًا ينظم خلالها شئون مكة ويفقه أهلها في الدين. وفي هذه الأثناء بعث السرايا للدعوة إلى الإسلام لا للقتال، ولتحطيم الأصنام من غير سفك للدماء. وكان خالد بن الوليد قد خرج إلى نخلة ليهدم العُزى — وكانت لبني شيبان — فلما هدمها خرج إلى جذيمة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح؛ فطلب إليهم خالد أن يضعوه فإن الناس قد أسلموا. قال رجل من جذيمة لقومه: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد. والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق. قال له قومه: أتريد أن تسفك دماءنا؟! إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس. وما زالوا به حتى وضع سلاحه. عند ذلك أمر بهم خالد فغلوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. فلما انتهى الخبر إلى النبي رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.» ثم بعث إليهم عليَّ بن أبي طالب وقال له: اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. وخرج عليٌّ ومعه مال أعطاه النبي إياه. فلما بلغ القوم دفع الدية عن الدماء وعما أصيب من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه، أعطاهم بقية المال الذي بعث به رسول الله احتياطًا لرسول الله مما لا يعلم.
وفي الأسبوعين اللذين أقام محمد بمكة عفَّى على كل آثار الوثنية فيها. ولم ينتقل إلى الإسلام من مناصب البيت الحرام إلا سدانة الكعبة، أقرها النبي في عثمان بن طلحة وأبنائه من بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها لا يأخذها منهم إلا ظالم، وسقاية الحاج من زمزم جعلها لعمه العباس.
وكذلك آمنت أم القرى ورفعت منار التوحيد ولواءه وأضاءت العالم خلال الأجيال والقرون بنوره الوضاء.