إبراهيم ونساء النبي
(العودة إلى المدينة – بانت سعاد – وفاة زينب – مولد إبراهيم – غيرة نساء النبي من مارية – مظاهرة حفصة وعائشة – حديث المغافير – مارية في دار حفصة – هجرة النبي نساءه شهرًا – حديث عمر مع النبي – سورة التحريم)
***
عاد محمد إلى المدينة بعد فتح مكة وبعد انتصاره في حنين وحصاره الطائف، وقد ثبت في نفوس العرب جميعًا أن لم يبق لأحد قبل به في شبه الجزيرة كلها، وأن لم يبق للسان أن ينطق بإيذائه أو الطعن عليه. وعاد الأنصار والمهاجرون معه وكلهم مغتبط بفتح الله على نبيه بلد المسجد الحرام، وبما هدى أهل مكة إليه من الإسلام، وبما دان له العرب على اختلاف قبائلهم من الطاعة والإذعان. عادوا جميعًا إلى المدينة ليطمئنوا إلى سكينة الحياة، بعد أن ترك محمد وراءه عتَّاب بن أسيد على أم القرى ومعاذ بن جبل ليفقِّه الناس دينهم وليعلِّمهم القرآن.
وقد ترك هذا النصر، الذي لم يعرف له في تاريخ العرب وفي رواياتهم نظير، أثرًا بالغًا في نفوس العرب جميعًا: ترك أثرًا في نفوس العظماء والسادة الذين كانوا لا يتوهمون مجيء يوم يدينون فيه لمحمد بطاعة، أو يرتضون دينه لأنفسهم دينًا؛ وفي نفوس الشعراء الذين ينطقون بلسان هؤلاء السادة مقابل ما يلقون من عطفهم وتأييدهم، أو مقابل ما يلقون من تأييد القبائل ومؤازرتها؛ وفي نفس تلك القبائل البادية التي لم تكن تعدل بحريتها شيئًا، ولا كان يدور بخاطرها أن تنضم تحت لواء غير لوائها الخاص أو تموت دون ذلك في حرب وطعان تفنى خلالها فناءً تامًّا، وماذا يجدي على الشعراء شعرهم، وعلى السادة سيادتهم، وعلى القبائل احتفاظها بذاتيتها، أمام هذه القوة الخارقة للطبيعة، لا تقف قوة أمامها ولا يجرؤ سلطان على اعتراضها؟!
وقد بلغ الأثر في نفوس العرب أن كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب بعد منصرف النبي على الطائف يخبره أن محمدًا قتل رجالًا بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، وأن من بقي من هؤلاء الشعراء قد هربوا في كل وجه، وينصح إليه أن يطير إلى النبي بالمدينة؛ فإنه لا يقتل أحدًا جاءه تائبًا، أو ينجو بنفسه إلى حيث شاء من أغوار الأرض. وإنما قص بجير حقًّا؛ فلم يقتل بمكة أحدٌ بأمر محمد خلا أربعة، منهم شاعر آذى النبي هجاؤه، ومنهم اثنان آذوا زينب ابنته حين أرادت بإذن زوجها أن تهاجر من مكة لتلحق أباها. وأيقن كعب صدق أخيه، وإنه إن لم يأت محمدًا ظل حياته طريدًا مشردًا؛ لذلك أسرع إلى المدينة ونزل عند صديق له قديم. فلما أصبح غدا إلى المسجد واستأمن النبي وأنشده قصيدة:
فعفا النبي عنه وحسن من بعد ذلك إسلامه.
وكان من هذا الأثر كذلك أن بدأت القبائل تقبل على النبي تقدِّم الطاعة بين يديه: قدِم وفد من طيئ وعلى رأسهم سيدهم زيد الخيل، فلما انتهوا إليه أحسن استقبالهم، وتحدَّث إليه زيد؛ فقال النبي له: ما ذُكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل فإنه ليبلغ كل ما فيه. ودعاه «زيد الخير» بديلًا من «زيد الخيل.» وأسلمت طيئ وزيد على رأسها.
وكان عدي بن حاتم الطائي نصرانيًّا، وكان من أشد العرب كراهيةً لمحمد. فلما رأى أمره وأمر المسلمين في شبه الجزيرة، تحمَّل في إبله بأهله وولده ولحق بأهل دينه من النصارى بالشام، وإنما فر عدي حين أوفد النبي عليَّ بن أبي طالب ليهدم صنم طيئ، وهدم عليٌّ الصنم واحتمل الغنائم والأسرى ومن بينهم ابنة حاتم أخت عدي التي حبست في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تُحبس فيها. ومرَّ بها النبي فقامت إليه وقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الرافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك. وأعرض عنها النبي حين علم أن رافدها عدي بن حاتم الفار من الله ورسوله. لكنها راجعته، وذكر هو ما كان لأبيها في الجاهلية من كرم أعلى به ذكر العرب، فأمر بتسريحها وكساها كسوة حسنة وأعطاها نفقتها وحملها مع أول ركب قاصد إلى الشام. فلما لقيت أخاها وذكرت له ما أكرمها به محمد عاد إليه فألقى بنفسه إلى صفوف المسلمين.
وكذلك جعل السادة وجعلت القبائل تفد إلى محمد، بعد فتح مكة وبعد انتصار حنين وحصار الطائف، تدين له بالرسالة وبالإسلام، وهو في مقامه ذاك بالمدينة مطمئن إلى نصر الله وإلى شيء من سكينة الحياة.
لكن سكينة حياته لم تكن يومئذ صفوًا؛ فقد كانت زينب ابنته إذ ذاك مريضة مرضًا خُشي منه عليها. وهي منذ آذاها الحويرث وهبَّار حين خروجها من مكة أذًى أفزعها فأجهضها، قد ظلت مهدَّمة العافية، وانتهى المرض بوفاتها. وبموتها لم يبق لمحمد من عقبه إلا فاطمة، بعد أن ماتت أم كلثوم كما ماتت رقية قبل زينب، وحزن محمد لفقدها وذكر لها رقة شمائلها وجميل وفائها لزوجها أبي العاص بن الربيع حين بعثت تفتديه من أبيها وقد أسره ببدر، وتفتديه مع ما كان من إسلامها وشركه، ومع ما كان من محاربته أباها حربًا لو انتصرت قريش فيها لما أبقت لمحمد على حياة. ذكر محمد رقة شمائلها وجميل وفائها، وذكر ما لاقت من ألم المرض طوال أيامها منذ عادت من مكة إلى حين وفاتها. وكان محمد يشارك كل ذي ألم في ألمه، وكل ذي مصاب في مصابه، وكان يذهب إلى أطراف المدينة وإلى ضواحيها يعود المريض، ويواسي البائس، ويأسو جراح الكليم. فإذا أصابه المقدار في ابنته بعد ما أصابه من قبل في أختيها وكما أصابه قبل رسالته في أخويها، فلا جرم أن يحزن ويشتد به جوى الحزن، وإن وجد من بر الله ورفقه به ما يعزِّيه كيما يسلو.
ولم يطل انتظار التأساء؛ فقد رزقه الله من مارية القبطية غلامًا دعاه إبراهيم تيمنًا باسم إبراهيم جد النبي الحنيف المسلم. وكانت مارية إلى يومئذ ومنذ أهداها المقوقس إلى النبي في مرتبة السراري، فلم يكن لها من أجل ذلك منزل بجوار المسجد كما كان لأزواج النبي أمهات المؤمنين؛ بل أنزلها محمد بالعالية من ضواحي المدينة، في المحل الذي يقال له الآن مشربة أم إبراهيم، بمنزل تحيط به كروم؛ وكان يختلف إليها فيه كما يزور الرجل ملك يمينه. وكان قد اختارها حين أهداها المقوقس إليه مع أختها سيرين، وجعل سيرين لحسان بن ثابت. ولم يكن محمد يرجو أن يعقب بعد أن ظلت أزواجه جميعًا من بعد وفاة خديجة ومنهن الفتاة الفتية، ومنهن النصف التي أعقبت من قبل لم تبشر إحداهن بخصب عشرة أعوام متتابعة. فلما حملت مارية ثم ولدت إبراهيم، وقد تخطى هو إلى الستين، فاضت بالمسرة نفسه، وامتلأ هذا القلب الإنساني الكبير أنسًا وغبطةً، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينه إلى مكانة سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه، وزادتها إلى ذلك عنده حظوةً ومنه قربًا.
كان طبيعيًّا أن يدس ذلك في نفوس سائر أزواجه غيرةً تزايدت أضعافًا بأنها أم إبراهيم وبأنهن جميعًا لا ولد لهن. ولم تكن نظرة النبي إلى هذا الطفل إلا تزيد هذه الغيرة كل يوم في نفوسهن اشتعالًا. فهو قد أكرم سلمى زوج أبي رافع قابلة مارية أيما إكرام. وهو قد تصدق يوم ولد بوزن شعره ورقًا على كل واحد من المساكين. وهو قد دفعه لترضعه أم سيف وجعل في حيازتها سبعًا من الماعز ترضعه لبنها. وهو كان يمر كل يوم بدار مارية ليراه وليزداد أنسًا بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة، ومسرَّةً بنموه وجماله. أي شيء أشد من هذا كله إثارة للغيرة في نفوس أزواج لم يلدن؟! وإلى أي حد تدفع الغيرة أولئك الأزواج؟
حمل النبي إبراهيم يومًا بين ذراعيه إلى عائشة وهو فياض بالبشر، ودعاها لترى ما بين إبراهيم وبينه من عظيم الشبه. فنظرت عائشة إلى الطفل وقالت إنها لا ترى بينهما شبهًا. ولما رأت النبي فرحًا بنمو الطفل لاحظت في غضب أن كل طفل ينال من اللبن ما يناله إبراهيم يكون مثله أو خيرًا منه نموًّا. وكذلك كان مولد إبراهيم سببًا أثار في زوجات النبي امتعاضًا لم يقف أثره عند هذه الإجابات الجافية بل تعداها إلى أكثر منها. وترك في تاريخ محمد وفي تاريخ الإسلام من الأثر ما نزل به الوحي وقدَّسه كتاب الله الكريم.
طبيعي وقد جعل النبي لأزواجه هذه المكانة، بعد أن كنَّ كغيرهن من نساء العرب لا رأي لهن، أن يتغالين في الاستمتاع بحرية لم يكن لمثيلاتهن بها عهد، وأن تبلغ إحداهن من مراجعة النبي أن يظل يومه غضبان. وكم أعرض عنهن وكم هجر بعضهن حتى لا يدفعهن رفقه بهن إلى مزيد من غلوهن؛ وأن تخرج بإحداهن الغيرة إلى غير لائق بالسداد. فلما ولدت مارية إبراهيم خرجت الغيرة بأزواج النبي عما أدَّبهن به، حتى كان هذا الحديث بينه وبين عائشة إذ تُنكر عليه كل شبه بين إبراهيم وبينه، ولتكاد تتهم مارية بما يعرف النبي براءتها منه.
وحدث أن كانت حفصة يومًا قد ذهبت إلى أبيها فتحدثت عنده. وجاءت مارية إلى النبي وهو في دار حفصة وأقامت بها زمنًا معه. وعادت حفصة فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشد ما تكون غيرةً، وجعلت كلما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدة. فلما خرجت مارية ودخلت حفصة على النبي، قالت له: «لقد رأيت من كان عندك. والله لقد سببتني. وما كنت لتصنعها لولا هواني عليك.» وأدرك محمد أن الغيرة قد تدفع حفصة إلى إذاعة ما رأت والتحدث به إلى عائشة أو إلى غيرها من أزواجه، فأراد إرضاءها بأن حلف لها أن مارية عليه حرام إذا هي لم تذكر مما رأت شيئًا. ووعدته حفصة أن تفعل. لكن الغيرة أكلت صدرها فلم تطق كتمان ما به، فأسرَّته إلى عائشة. وأومأت هذه إلى النبي بما رأى منه أن حفصة لم تصن سره. ولعل الأمر لم يقف عند حفصة وعائشة من أزواج النبي. ولعلهن جميعًا وقد رأين ما رفع النبي من مكانة مارية قد تابعن عائشة وحفصة حين ظاهرتا على النبي على أثر قصة مارية هذه، وإن تكن لذاتها قصة لا شيء فيها أكثر مما يقع بين رجل وزوجه، أو بين رجل وما ملكت يمينه، مما هو حِل له ومما لا موضع فيه لهذه الضجة التي أثارتها ابنتا أبي بكر وعمر محاولتين أن تقتصا لذاتيهما من ميل النبي لمارية. وقد رأينا أن شيئًا من الجفوة وقع بين النبي وأزواجه في أوقات مختلفة بسبب النفقة، أو بسبب عسل زينب، أو لغير ذلك من الأسباب التي تدل على أن أزواج النبي كن يجدن عليه أن يكون لعائشة أحب، أو أن يكون لمارية أهوى.
وبلغ من أمرهن أن أوفدن إليه يومًا زينب بنت جحش وهو عند عائشة تصارحه بأنه لا يعدل بين نسائه، وأنه لحبه لعائشة يظلمهن. ألم يجعل لكل امرأة يومًا وليلة؟! ثم رأت سودة انصراف النبي عنها وعدم بشاشته لها، فوهبت يومها وليلتها لعائشة إرضاءً للرسول. ولم تقف زينب من سفارتها عند الكلام في ميل النبي عن العدل بين نسائه؛ بل نالت من عائشة وهي جالسة بما جعل عائشة تتحفز للرد عليها لولا إشارات من النبي كانت تهدئ من حدتها. غير أن زينب اندفعت ولج بها الاندفاع وبالغت في النيل من عائشة، حتى لم يبق للنبي بد من أن يدع لحميرائه أن تدافع عن نفسها. وتكلمت عائشة بما أفحم زينب وسر النبي ودعاه إلى الإعجاب بابنة أبي بكر.
وبلغت منازعات أمهات المؤمنين في بعض الأحايين، بسبب إيثاره بعضهن بالمحبة على بعض، حدًّا همَّ النبي معه أن يطلق بعضهن لولا أنهن جعلنه في حل أن يؤثر من يشاء منهن على من يشاء. فلما ولدت مارية إبراهيم لجت بهن الغيرة أعظم لجاج، وكانت بعائشة ألج. ومد لهن في لجاج الغيرة بهن هذا الرفق الذي كان محمد يعاملهن به، وهذه المكانة التي رفعهن إليها. ومحمد ليس خليًّا فيشغل وقته بهذا اللجاج ويدع نفسه لعبث نسائه، فلا بد من درس فيه حزم وفيه صرامة يرد الأمور بين أزواجه إلى نصابها. ويدع له طمأنينة التفكير فيما فرض الله عليه من الدعوة إلى رسالته. وليكن هذا الدرس هجرهن والتهديد بفراقهن؛ فإن ثبن إلى رشادهن فذاك، وإلا متعهن وسرحهن سراحًا جميلًا.
وبذلك انتهى الحادث، وثاب إلى نساء النبي رشادهن، ورجع هو إليهن تائبات عابدات مؤمنات، وعادت إلى حياته البيتية السكينة التي يحتاج إليها كل إنسان لأداء ما فُرض عليه أداؤه.
ما قصصت الآن، عن هجر محمد نساءه وتخييره إياهن ومقدمات هذا الهجر ونتائجه والوقائع التي سبقت وأدت إليه، هو في رأيي الرواية الصحيحة لتاريخ هذا الحادث. وهي رواية يتضافر على تأييدها ما جاء في كتب التفسير وفي كتب الحديث، وما جاء متفرقًا عن أخبار محمد ونسائه في كتب السيرة المختلفة. بيد أنه لم تكن واحدة من هذه السير تقص الحوادث أن تضع المقدمات والنتائج بالصورة التي سردناها ههنا. وأكثر السير تمر بهذا الحادث مرًّا دون أن تقف عنده؛ وكأنما تجده خشن الملمس فتخشى أن تقربه. وبعضها يقف عند رواية خبر العسل والمغافير. ولا يشير بكلمة إلى مسألة حفصة ومارية. فأما المستشرقون فيجعلون مسألة حفصة ومارية وإفضاء حفصة إلى عائشة بما عاهدت النبي أن تكتمه، سبب كل الذي وقع؛ ليحاولوا بذلك أن يضيفوا جديدًا لما يلقون في روع قرَّائهم عن النبي العربي من أنه كان رجلًا محبًّا للنساء حبًّا معيبًا.
وعندي أن المؤرخين المسلمين لا عذر لهم في إغفال هذه الوقائع ولها مغزاها الدقيق الذي سقنا شيئًا من أمره، وأن المستشرقين يتخطون الدقة التاريخية متأثرين في ذلك بهواهم المسيحي. فالنقد التاريخ النزيه يأبى كل الإباء على أيِّ إنسان، بله عظيم كمحمد، أن يجعل من إفضاء حفصة لعائشة بأنها وجدت زوجها في بيتها مع مولاة له هي ملك يمينه، فهي بذلك حل له، سببًا لهجر محمد نساءه جميعًا شهرًا كاملًا، وتهديده إياهن جميعًا بأن يطلقهن. والنقد التاريخي النزيه يأبى كذلك أن تكون حكاية العسل سبب هذا الهجر والتهديد. فإذا كان الرجل عظيمًا كمحمد، رقيقًا كمحمد، واسع الصدر طويل الأناة متصفًا بما لمحمد من سائر الصفات التي يقر له بها مؤرخوه جميعًا على سواء، كان اعتبار أي الحادثين لذاته سببًا لهذا الهجر والتهديد بالطلاق مما يزور عند النقد التاريخي وينأى عنه بجانبه أشد النأي، وإنما يطمئن هذا النقد ويستقيم منطق التاريخ إذا سيقت الحوادث المساق الذي لا مفر معه من أن تؤدي إلى نتائجها المحتومة، فتصبح بذلك أمورًا طبيعية يسيغها العقل ويرضاها العلم. وما فعلنا نحن هو في نظرنا المساق الطبيعي للحوادث، وهو الذي يتفق مع حكمة محمد وعظمته وحزمه وبعد نظره.
ويتحدث بعض المستشرقين عما نزل من الآيات في مستهل سورة التحريم مما نقلنا هنا، ويذكر أن كتب الشرق المقدسة جميعًا لم تشر إلى مثل هذا الحادث المنزلي على هذه الصورة. وما أحسبنا في حاجة إلى أن نذكر ما ورد بالكتب المقدسة جميعًا، والقرآن من بينها، عن قوم لوط ونقيصتهم، وما كان من مجادلتهم الملكين ضيفي لوط، ولا ما ورد في هذه الكتب عن امرأته وأنها كانت من الغابرين. بل إن التوراة لتقص نبأ ابنتي لوط، إذ سقتا أباهما حتى ثمل ليلتين متتاليتين ليمس كل واحدة منهما ليلة كيما يخصبها فتلد، مخافة فناء آل لوط بعد أن أنزل الله بهم من الجزاء ما أنزل. ذلك بأن الكتب المقدسة جميعًا جعلت من قصص الرسل وسيرهم وما صنعوا وما أصابهم عبرةً للناس. وقد جاء في القرآن كثير من ذلك، قصَّ الله فيه على رسوله أحسن القصص.
والقرآن لم ينزل لمحمد وحده، وإنما نزل للناس كافة. ومحمد نبي ورسول خلت من قبله الرسل الذين قص القرآن أخبارهم. فإذا قص القرآن من أخبار محمد وتناول من سيرته ليكون للمسلمين مثلًا، وليكون للمسلمين فيه أسوة حسنة، وأشار إلى حكمته في تصرفاته فلا شيء من ذلك يخرج عما أوردت سائر الكتب المقدسة وما أورد القرآن من سير الأنبياء. فإذا ذكرت أن هجر محمد نساءه لم يكن لسبب منفرد من الأسباب التي رويت في شأنه، ولم يكن لأن حفصة أفضت إلى عائشة بما فعل محمد مع مارية مما يحق لكل رجل مع أزواجه وما ملكت يمينه، رأيت في هذه الملاحظة التي يبديها بعض المستشرقين ما لا يثبت أمام النقد التاريخي، ولا يتفق مع ما جرت به الكتب المقدسة في شأن الأنبياء وحياتهم وأخبارهم.