محمد: من ميلاده إلى زواجه
(زواج عبد الله من آمنة – وفاة عبد الله – مولد محمد – رضاعه في بني سعد – قصة الملكين – مقامه خمس سنوات بالبادية – موت آمنة – كفالة عبد المطلب إياه – موت عبد المطلب – كفالة أبي طالب إياه – خروجه إلى الشام في الثانية عشرة من عمره – حرب الفجار – رعيه الغنم – خروجه في تجارة خديجة إلى الشام – زواجه بخديجة)
***
كان عبد المطلب قد جاوز السبعين أو ناهزها حين حاول أبرهة مهاجمة مكة وهدم البيت العتيق. وكان ابنه عبد الله في الرابعة والعشرين من سنه. فرأى أن يزوجه، فاختار له آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة سيد بني زهرة إذ ذاك سنًّا وشرفًا. وخرج به حتى أتى منازل بني زهرة ودخل وإياه عند وهب وخطب إليه ابنته. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه إنما ذهب إلى أهيب عم آمنة؛ لأن أباها كان هلك وكانت هي في كفالة عمها. وفي اليوم الذي تزوج عبد الله فيه من آمنة تزوج عبد المطلب من ابنة عمها هالة، فأولدها حمزة عم النبي وضريبه في سنه.
وأقام عبد الله مع آمنة في بيت أهلها ثلاثة أيام، على عادة العرب حين يتم الزواج في بيت العروس. فلما انتقل وإياها إلى منازل بني عبد المطلب لم يقم معها طويلًا، إذ خرج في تجارة إلى الشام، وتركها حاملًا، وتختلف الروايات في أمر عبد الله وهل تزوج غير آمنة، وهل عرضت عليه نساء غيرها أنفسهن. والوقوف لتقصي أمثال هذه الروايات لا غناء فيه. وكل ما يمكن الاطمئنان إليه أن عبد الله كان شابًّا وسيمًا قويًّا؛ فلم يكن عجبًا أن تطمع غير آمنة في الزواج منه. فلما بنى بها تقطعت بغيرها أسباب الأمل ولو إلى حين. ومن يدري، لعلهن قد انتظرن أوبته من رحلته إلى الشام ليكنَّ زوجات له مع آمنة. ومكث عبد الله في رحلته هذه الأشهر التي يقتضيها الذهاب إلى غزة والعود منها، ثم عرَّج على أخواله بالمدينة يستريح عندهم من وعثاء السفر ليقوم بعد ذلك في قافلة إلى مكة؛ لكنه مرض عند أخواله فتركه رفاقه؛ حتى إذا بلغوا مكة أخبروا أباه بمرضه. ولم يلبث عبد المطلب حين سمع منهم أن أوفد الحارث أكبر بنيه إلى المدينة ليعود بأخيه بعد إبلاله. وعلم الحارث حين بلغ المدينة أن عبد الله مات ودفن بها بعد شهر من مسير القافلة إلى مكة، فرجع أدراجه ينعى أخاه إلى أهله ويثير من قلب عبد المطلب ومن قلب آمنة همًّا وشجنًا، لفقد زوج كانت آمنة ترجو في حياته هناءة وسعادة. وكان عبد المطلب عليه حريصًا حتى افتداه من آلهته فداءً لم تسمع العرب من قبل بمثله.
وترك عبد الله من بعده خمسة من الإبل وقطيعًا من الغنم وجارية هي أم أيمن حاضنة النبي من بعد. ربما لا تكون هذه الثروة مظهر ثراء وسعة؛ لكنها كذلك لم تكن تدل على فقر ومتربة. ثم إن عبد الله كان في مقتبل عمره، فكان قديرًا على الكسب والعمل والبلوغ إلى السعة في المال؛ وكان أبوه ما يزال حيًّا فلم يؤل إليه شيء من ميراثه.
وتقدمت بآمنة أشهر الحمل حتى وضعت كما تضع كل أنثى. فلما تم لها الوضع بعثت إلى عبد المطلب عند الكعبة تخبره أنه ولد له غلام. وفاض بالشيخ السرور حين بلغه الخبر، وذكر ابنه عبد الله وقلبه مفعم بالغبطة لخلفه، وأسرع إلى زوج ابنه وأخذ طفلها بين يديه، وسار حتى دخل الكعبة وسمَّاه محمدًا. وكان هذا الاسم غير متداول بين العرب، لكنه كان معروفًا. ورد الجد الصبي إلى أمه وجعل وإياها ينتظر المراضع من بني سعد لتدفع الأم بوليدها إلى إحداهن، على عادة أشراف العرب من أهل مكة.
وقد اختلف المؤرخون في العام الذي ولد محمد فيه؛ فأكثرهم على أنه عام الفيل (٥٧٠ ميلادية). ويقول ابن عباس: إنه ولد يوم الفيل. ويقول آخرون: إنه ولد قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ويذهب غير هؤلاء إلى أنه ولد بعد الفيل بأيام أو بأشهر أو بسنين، يقدِّرها قوم بثلاثين سنة، ويقدرها قوم بسبعين.
واختلف المؤرخون كذلك في الشهر الذي ولد فيه وإن كانت كثرتهم على أنه ولد في شهر ربيع الأول. وقيل: ولد في المحرم. وقيل ولد في صفر وبعضهم يرجح رجبًا، على حين يرجح آخرون شهر رمضان.
كذلك اختلف في تاريخ اليوم من الشهر الذي ولد فيه؛ فقيل: ولد لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وقيل: لثماني ليالٍ، وقيل: لتسع. والجمهور على أنه ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وهو قول ابن إسحاق وغيره.
وكذلك اختلف في الوقت الذي ولد فيه أنهارًا كان أم ليلًا. كما اختلف في مكان ولادته بمكة. ويرجح كُوسَّان دِبِرْسِفَال في كتابه عن العرب أن محمدًا ولد في أغسطس سنة ٥٧٠، أي عام الفيل، وأنه ولد بمكة بدار جده عبد المطلب.
وفي سابع يوم لمولده أمره عبد المطلب بجزور فنحرت، ودعا رجالًا من قريش فحضروا وطعموا. فلما علموا منه أنه أسمى الطفل محمدًا سألوه لمَ رغب عن أسماء آبائه؟ فقال: أردت أن يكون محمودًا في السماء لله وفي الأرض لخلقه.
انتظرت آمنة مجيء المراضع من بني سعد لتدفع به إلى إحداهن كعادة أشراف العرب من أهل مكة. ولا تزال هذه العادة متبعة عند أشراف مكة؛ إذ يبعثون أبناءهم إلى البادية في اليوم الثامن من مولدهم ثم لا يعودون إلى الحضر حتى يبلغوا الثامنة أو العاشرة. ومن قبائل البادية من لها في المراضع شهرة، ومن بينها قبيلة بني سعد. وفي انتظار المراضع دفعت آمنة بالطفل إلى ثويبة جارية عمه أبي لهب فأرضعته زمنًا، كما أرضعت من بعد عمه حمزة؛ فكانا أخوين في الرضاع. ومع أن ثويبة لم ترضعه إلا أيامًا فقد ظل يحفظ لها خير الود ويصلها ما عاشت؛ ولما ماتت في السنة السابعة من هجرته إلى المدينة سأل عن ابنها الذي كان أخاه في الرضاع ليصله مكانها، فعلم أنه مات قبلها.
وجاءت مراضع بني سعد إلى مكة يلتمسن الأطفال لإرضاعهم. وكنَّ يعرضن عن اليتامى لأنهن كن يرتجين البر من الآباء. أما اليتامى فكان الرجاء فيهن قليلًا؛ لذلك لم تُقبِل واحدة من أولئك المراضع على محمد، وذهبت كل بمن ترجو من أهله وافر الخير.
على أن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية التي أعرضت عن محمد أول الأمر كما أعرض عنه غيرها لم تجد من تدفع إليها طفلها؛ ذلك أنها كانت على جانب من ضعف الحال صرف الأمهات عنها. فلما أجمع القوم على الانطلاق عن مكة قالت حليمة لزوجها الحارث بن عبد العزى: والله إني لأكره أن أرجع مع صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم ولآخذنه! وأجابها زوجها: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. وأخذت حليمة محمدًا وانطلقت به مع قومها إلى البادية. وكانت تحدث أنها وجدت فيه منذ أخذته أي بركة: سمنت غنمها وزاد لبنها، وبارك الله لها في كل ما عندها.
وأقام محمد في الصحراء سنتين ترضعه حليمة وتحضنه ابنتها الشيماء؛ ويجد هو في هواء الصحراء وخشونة عيش البادية ما يسرع به إلى النمو ويزيد في وسامة خلقه وحسن تكوينه. فلما أتم سنتيه وآن فصاله ذهبت به حليمة إلى أمه ثم عادت به إلى البادية، رغبةً من أمه، في رواية، ومن حليمة في رواية أخرى؛ عادت به حتى يغلظ، وخوفًا عليه من وباء مكة. وأقام الطفل بالصحراء سنتين أخريين يمرح في جو باديتها الصحو الطلق لا يعرف قيدًا من قيود الروح ولا من قيود المادة.
ويروى عن حليمة أنها قالت عن نفسها وزوجها: «فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائمًا ممتقعًا وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئًا لم أدرِ ما هو.» ورجعت حليمة ورجع أبوه إلى خبائهما. وخشي الرجل أن يكون الغلام أصابته الجن، فاحتملاه إلى أمه بمكة. ويروي ابن إسحاق في هذه الواقعة حديثًا عن النبي بعد بعثه، لكن ابن إسحاق يحتاط بعد أن يقص هذه القصة ويذكر أن السبب في رَدِّهِ إلى أمه لم يكن حكاية الملكين وإنما كان — على ما روته حليمة لآمنة — أن نفرًا من نصارى الحبشة رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلَّبوه ثم قالوا: لنَأْخُذَنَّ هذا الغلام فلنذهب به إلى ملكنا وبلدنا؛ فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره. ولم تكد حليمة تنفلت به منهم. وكذلك يرويها الطبري، لكنه يُحيطها بالريبة؛ إذ يذكرها في هذه السنة من حياة محمد، ثم يعود فيذكر أنها وقعت قبيل البعث وسِنُّهُ أربعون سنة.
لا يطمئن المستشرقون ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة المَلَكَيْنِ هذه ويرونها ضعيفة السند. فالذي رأى الرجلين في رواية كُتَّاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلًا، وكانت كذلك سن محمد يومئذٍ، والروايات تجمع على أن محمدًا أقام ببني سعد إلى الخامسة من عمره، فلو كان هذا الحادث قد وقع وسِنُّهُ سنتان ونصف سنة، ورجعت حليمة وزوجها إذ ذاك به إلى أمه، لكان في الروايتين تناقُضٌ غير مقبول؛ ولذلك يرى بعض الكُتَّابِ أنه عاد مع حليمة مرة ثالثة.
وإنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحديث أن حياة محمد كانت كلها إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق، وهم في هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سندًا حين ينكرون من حياة النبي العربي كل ما لا يدخل في معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله، وأن سنة الله لن تجد لها تبديلًا، غير متفق مع تعيير القرآن للمشركين أنهم لا يفقهون أن ليست لهم قلوب يعقلون بها.
وعاد إلى أمه بعد هذه السنوات الخمس. ويقال: إن حليمة التمسته وهي مقبلة به على أهله فلم تجده؛ فأتت عبد المطلب فأخبرته أنه ضل منها بأعلى مكة. فبعث من يبحث عنه حتى رده عليه ورقة بن نوفل فيما يروون. وكفل عبد المطلب حفيده، وأغدق عليه كل حبه، وأسبغ عليه جم رعايته. كان يوضع لهذا الشيخ، سيد قريش وسيد مكة كلها، فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول ذلك الفراش إجلالًا لأبيهم، فإذا جاء محمد أدناه عبد المطلب منه وأجلسه على الفراش معه وربت على ظهره، وأبدى من آيات عطفه ما يمنع أعمام محمد من تأخيره إلى حيث يجلسون.
وزاد في إعزاز الجد لحفيده أن آمنة خرجت بابنها إلى المدينة لتُري الغلام فيها أخوال جده من بني النجار، وأخذت معها أم أيمن الجارية التي خلَّفها عبد الله من بعده. فلما كانوا بها أرت الغلام البيت الذي مات أبوه فيه والمكان الذي دفن به، فكان ذلك أول معنى لليتم انطبع في نفس الصبي.
ولعل جوى هذه الذكرى كان يخف بعض الشيء لو أن عبد المطلب عُمِّر أكثر مما عمر، لكنه مات في الثمانين من عمره ومحمد ما يزال في الثامنة. وحزن محمد لموت جده حزنه لموت أمه. حزن حتى كان دائم البكاء وهو يتبع نعشه إلى مقره الأخير، وحتى كان دائم الذكر من بعد ذلك له، مع ما لقي من بعدُ في كفالة عمه أبي طالب من عناية ورعاية، ومن حماية امتدت إلى ما بعد بعثه ورسالته، ودامت إلى أن مات عمه. والحق أن موت عبد المطلب كان على بني هاشم جميعًا ضربة قاسية؛ فإنه لم يكن من أبنائه من كان في مثل مكانته عزمًا وقوة أيدٍ وأصالة رأي وكرمًا وأثرًا في العرب جميعًا. ألم يكن يطعم الحاج ويسقيهم ويبر أهل مكة جميعًا إذا أصابهم شرٌّ أو أذى؟! وها هم أولاء أبناؤه لم يصل أحد منهم إلى مكانته؛ إذ كان فقيرهم عاجزًا عن مثل عمله، وكان غنيهم حريصًا على ماله. لذلك ما لبث بنو أمية أن تهيئوا ليأخذوا المكانة التي طمعوا فيها من قبل دون أن يخشوا من بني هاشم مزاحمة تخيفهم.
آلت كفالة محمد إلى أبي طالب وإن لم يكن أكبر إخوته سنًّا؛ فقد كان الحارث أسنهم، وإن لم يكن أكثرهم يسارًا. وكان العباس أكثرهم مالًا، لكنه كان على ماله حريصًا؛ لذلك احتفظ بالسقاية وحدها دون الرفادة، فلا عجب أن كان أبو طالب على فقره أنبلهم وأكرمهم في قريش مكانةً واحترامًا، ولا عجب أن عهد إليه عبد المطلب بكفالة محمد من بعده.
وقد أحب أبو طالب ابن أخيه كحب عبد المطلب له. أحبه حتى كان يقدمه على أبنائه، وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبر وطيب النفس ما يزيده به تعلقًا: ولقد أراد أن يخرج يومًا في تجارة له إلى الشام حين كان محمد في الثانية عشرة من عمره؛ ولم يفكر في اصطحابه خوفًا عليه من وعثاء السفر واجتياز الصحراء. لكن محمدًا أبدى من صادق الرغبة في مصاحبة عمه ما قضى على كل تردد في نفس أبي طالب. وصحب الغلام القافلة حتى بلغ بصرى في جنوب الشام، وتروي كتب السيرة أنه التقى في هذه الرحلة بالراهب بَحِيرَى، وأن الراهب رأى فيه أمارات النبوة على ما تدله أنباء النصرانية. وتذهب بعض الروايات إلى أن الراهب نصح إلى أهله ألا يوغلوا به في بلاد الشام خوفًا عليه من اليهود أن يعرفوا منه هذه الأمارات فينالوه بالأذى.
في هذه الرحلة وقعت عينا محمد الجميلتان على فسحة الصحراء، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة. وجعل يمر بمدين ووادي القرى وديار ثمود وتستمع أذناه المرهفتان إلى حديث العرب وأهل البادية عن هذه المنازل وأخبارها وماضي نبئها. وفي هذه الرحلة وقف من بلاد الشم عند الحدائق الغنَّاء اليانعة التي أنسته حدائق الطائف وما يُروى عنها، والتي تبدت له جنات إلى جانب جدب الصحراء المقفرة والجبال الجرداء فيما حول مكة. وفي الشام كذلك عرف محمد أخبار الروم ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم وعن مناوأة الفرس من عبَّاد النار لهم وانتظارهم الوقيعة بهم. ولئن كان بعد في الثانية عشرة من سنه لقد كان له من عظمة الروح وذكاء القلب ورجحان العقل ودقة الملاحظة وقوة الذاكرة وما إلى ذلك من صفات حباه القدر بها للرسالة العظيمة التي أعده لها، ما جعله ينظر إلى ما حوله نظرة الفاحص المحقق، فلا يستريح إلى كل ما يسمع ويرى، فيرجع إلى نفسه يسائلها: أين الحق من ذلك كله؟
والراجح أن أبا طالب لم يفد مالًا كثيرًا من رحلته تلك، فلم يعد من بعد إلى رحلة مثلها، بل قنع بحظه، وأقام بمكة يكفل في حدود ماله القليل أولاده الكثيرين. وأقام محمد مع عمه قانعًا بنصيبه، يقوم من الأمر بما يقوم به من هم في مثل سنه. فإذا جاءت الأشهر الحرم ظل بمكة مع أهله، أو خرج وإياهم إلى الأسواق المجاورة لها بعكاظ ومجنة وذي المجاز يستمع لإنشاد أصحاب المذهَّبات والمعلَّقات، وتلتهم أذناه بلاغتهم في غزلهم وفخرهم وذكرهم أنسابهم ومغازيهم وكرمهم وفضلهم، ثم يعرض ذلك على بصيرته تلفظ منه ما لا تسيغ وتعجب بما تراه جديرًا بالإعجاب. ويستمع إلى خطب الخطباء، ومن بينهم اليهود والنصارى الذين كانوا ينقمون من إخوانهم العرب وثنيتهم، ويحدثونهم عن كتب عيسى وموسى. ويدعونهم إلى ما يعتقدونه الحق. ويزن ذلك بميزان قلبه فيراه خيرًا من هذه الوثنية التي غرق فيها أهله، ولكنه لا يطمئن كل الطمأنينة إليه. وكذلك جعل القدر يوجه نفسه منذ نعومة أظفاره الوجه التي تهيئه لذلك اليوم العظيم، يوم الوحي الأول حين دعاه ربه لتبليغ رسالته: رسالة الهدى والحق للناس كافة.
وكما عرف محمد طُرق القوافل في الصحراء مع عمه أبي طالب، وكما استمع إلى الشعراء والخطباء مع ذويه في الأسواق حول مكة أثناء الأشهر الحرم، عرف كذلك حمل السلاح؛ إذ وقف إلى جانب أعمامه في حرب الفِجَار. وحرب الفجار تلك كانت بعض ما يَثور ويتصل بين قبائل العرب من الحروب. وقد سُميت الفجار لأنها وقعت في الأشهر الحرم، إذ تمتنع قبائل العرب عن القتال ويعقدون أسواق تجارتهم بعكاظ بين الطائف ونخلة وبمجنَّة وذي المجاز على مقربة من عرفات، لتبادل التجارة وللتفاخر والجدل، وللحج بعد ذلك عند أصنامهم بالكعبة. وكانت سوق عكاظ أكثر أسواق العرب شهرةً، فيها أنشد أصحاب المعلقات معلقاتهم، وفيها خطب قُسٌّ، وفيها كان اليهود والنصارى وعبَّاد الأصنام يحدِّث كلٌّ عن رأيه آمنًا، لأنه في الشهر الحرام.
على أن البرَّاض بن قيس الكناني لم يحترم هذه الحرمة حين غافل أثناءها عروة الرَّحال بن عُتبة الهوازنيَّ وقتله. وسبب ذلك أن النعمان بن المنذر كان يبعث كل عام قافلة من الحيرة إلى عكاظ تحمل المسك وتجيء بديلًا منه بالجلود والحبال وأنسجة اليمن المزركشة. فعرض البرَّاض الكناني نفسه عليه ليقود القافلة في حماية قبيلته كنانة؛ وعرض عروة الهوازني نفسه كذلك وأن يتخطَّى إلى الحجاز طريق نجد. واختار النعمان عروة؛ فأحفظ ذلك البرَّاض فتبعه وغاله وأخذ قافلته. ثم أخبر البرَّاض بِشر بن أبي خازم أن هوازن ستأخذ بثأرها من قريش. ولحقت هوازن بقريش قبل أن يدخلوا البيت الحرام فاقتتلوا، وتراجعت قريش حتى لاذت من المنتصرين بالحرم، فأنذرتهم هوازن الحرب بعكاظ العام المقبل. وقد ظلت هذه الحرب تنشب بين الفريقين أربع سنوات متتابعة انتهت بعدها إلى صلح من نوع صلح البادية ذلك بأن يدفع من كانوا أقل قتلى دية العدد الزائد على قتلاهم من الفريق الآخر. ودفعت قريش دية عشرين رجلًا من هوازن، وذهب البراض مثلًا في الشقاوة.
لم يحقق التاريخ سن محمد أيام حرب الفجار؛ فقيل كان ابن خمس عشرة سنة؛ وقيل: كان ابن عشرين. ولعل سبب الخلاف أن هذه الحرب استطالت أربع سنوات تجعل حاضر أوَّلها وهو في الخامسة عشرة يلحق آخرها في جوار العشرين.
وقد اختُلف فيما قام به محمد من عمل في هذه الحرب. فقال أناس: إنه كان يجمع السهام التي تقع من هوازن ويدفعها إلى أعمامه ليردوها إلى صدور خصومهم، وقال آخرون: بل اشترك فيها ورمى السهام بنفسه. وما دامت الحرب المذكورة قد امتدت فتراتها في سنوات أربع، فليس ما يمنع صحة الروايتين؛ فيكون قد جمع السهام لأعمامه أول الأمر ورمى من بعد ذلك. وقد ذكر رسول الله الفجار بعد سنوات من رسالته فقال: «قد حضرتُه مع عُمومتي ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت.»
وقد شعرت قريش بعد الفجار بأن ما أصابها وما أصاب مكة جميعًا بعد موت هاشم وموت عبد المطلب من تفرُّق الكلمة وحرص كل فريق على أن يكون صاحب الأمر، قد أطمع فيها العرب بعد ما كانت أمنع من أن يطمع فيها طامع. إذ ذاك دعا الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم، وزُهرة، وتيم، في دار عبد الله بن جُدعان، فصنع لهم طعامًا، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم ليكونُنَّ مع المظلوم حتى يؤدَّى إليه حقه ما بل بحر صُوفةً. وقد حضر محمد هذا الحلف الذي سمَّاه العرب حلف الفضول؛ وكان يقول: «ما أحِب أن لي بحلفٍ حضرتُه في دار ابن جُدعان حُمر النعم ولو دعيت به لأجبت.»
لم تكن حرب الفجار، كما رأيت، تستغرق إلا أيامًا من كل عام؛ أما سائر العام فكان العرب يرجعون فيه إلى أعمالهم يزاولونها دون أن تترك الحرب في نفوسهم من المرارة ما يحول بينهم وبين التجارة والربا والشراب والتسرِّي والأخذ من مختلف ألوان اللهو بأوفر نصيب. أفكان محمد يشاركهم في هذا؟ أم كانت رقَّة حاله وضيق ذات يده وكفالة عمه إياه تجعله بمنأى عنها ينظر إلى الترف نظرة المحروم والمشتهي؟ أما أنه نأى عنها فذلك ما يشهد به التاريخ. لكنه لم ينأ عنها عجزًا عن النيل منها؛ فقد كان الخلعاء المقيمون بأطراف مكة والذين لا يجدون من أسباب الرزق إلا الضنك والإملاق يجدون الوسيلة إليها، بل كان بعضهم أشد من أمجاد مكة وأشراف قريش إمعانًا فيها وإدمانًا لها. إنما كانت نفس محمد مشغوفة بأن ترى وأن تسمع وأن تعرف. وكأن حرمانه من التعلم الذي يتعلمه بعد أنداده من أبناء الأشراف جعله أشدَّ للمعرفة تشوقًا، وبها تعلُّقًا؛ كما أن النفس العظيمة التي تجلت من بعدُ آثارها وما زال يغمر العالم ضياؤها، كانت في توقها إلى الكمال ترغب عن هذا اللهو الذي يصبو إليه أهل مكة، إلى نور الحياة المتجلي في كل مظاهر الحياة لمن هداه الحق إليها، ولاكتناه ما تدلُّ هذه المظاهر عليه وما تحدِّث الموهوبين به. ولذلك ظهر منذ الصِّبا الأول مظهر الكمال والرجولية وأمانة النفس، حتى دعاه أهل مكة جميعًا «الأمين».
ومما زاده انصرافًا إلى التفكير والتأمل اشتغاله برعي الغنم سني صباه تلك، فقد كان يرعى غنم أهله، ويرعى غنم أهل مكة، وكان يذكر رعيه إياها مغتبطًا. وكان يقول: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم …» ويقول: «بُعِثَ موسى وهو راعي غنم، وبُعِثَ داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد.» وراعي الغنم الذكي القلب يجد في فسحة الجوِّ الطلق أثناء النهار وفي تلألؤ النجوم إذا جنَّ الليل موضعًا لتفكيره وتأمله يسبح منه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما ورائها، ويلتمس في مختلف مظاهر الطبيعة تفسيرًا لهذا الكون وخَلْقَه؛ وهو يرى نفسه، ما دام ذكيَّ الفؤاد عليم القلب، بعض هذا الكون غير منفصل عنه. أليس هو يتنفس هواءه ولو لم يتنفسه قضى؟! أليست تحييه أشعة الشمس ويغمرها ضياء القمر ويتصل وجوده بالأفلاك والعوالم جميعًا. هذه الأفلاك والعوالم التي يرى في فسحة الكون أمامه، متصلًا بعضها ببعض في نظام محكم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار؟! وإذا كان نظام هذا القطيع من الغنم أمام محمد يقتضي انتباهه ويقظته حتى لا يعدو الذئب على شاة منها، وحتى لا تضلَّ إحداها في مَهَامِهِ البادية، فأي انتباه وأية قوَّة تحفظ على نظام العالم كل إحكامه؟! وهذا التفكير والتأمل من شأنهما صرف صاحبهما عن التفكير في شهوات الإنسان الدُّنيا والسموُّ به عنها بما يبديان له من كاذب زخرفها. لذلك ارتفع محمد في أعماله وتصرفاته عن كل ما يمس هذا الاسم الذي أطلق عليه بمكة وبقي له: «الأمين».
يدل على ذلك كله ما حدَّث هو عنه، من أنه كان يرعى الغنم مع زميل له، فحدثته نفسه يومًا أن يلهو كما يلهو الشباب، فأفضى إلى زميله هذا ذات مساء أنه يود أن يهبط مكة، يلهو بها لهو الشباب في جنح الليل. وطلب لذلك إليه أن يقوم على حراسة أغنامه. لكنه ما إن بلغ أعلى مكة حتى استرعى انتباهه عرس زواج وقف عنده، ثم ما لبث أن نام. ونزل مكة ليلة أخرى لهذه الغاية، فامتلأت آذانه بأصوات موسيقية بارعة كأنما هي موسيقى السماء، فجلس يستمع ثم نام حتى أصبح. وماذا عسى أن تفعل مغريات مكة بقلب مهذَّب ونفس كلها تفكير وتأمل؟! ماذا عسى أن تكون هذه المغريات التي وصفنا والتي لا يستريح إليها من يكون دون محمد سموًّا بمراحل كثيرة؟! لذلك أقام بعيدًا عن النقص، لا يجد لذة يذوقها أطيب لنفسه من لذة التفكير والتأمل.
وحياة التفكير والتأمل وما يستريح إليه من عمل بسيط كرعي الغنم، ليست بالحياة التي تدر على صاحبها أخلاف الرزق أو تفتح أمامه أبواب اليسار. وما كان محمد يهتم لذلك أو يُعنى به، وقد ظل طول حياته أشد الناس زهدًا في المادة ورغبةً عنها. وما إقباله عليها وقد كان الزهد بعض طبعه؟ وكان لا يحتاج من الحياة إلى أكثر مما يقيم صلبه! أليس هو القائل: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع»؟! أليس هو الذي عُرف عنه كل حياته حرصه على شظف العيش ودعوة الناس إلى الاستمتاع بخشونة الحياة؟ والذين يتوقون إلى المال ويلهثون في طلبه إنما يبتغونه لإرضاء شهوات لم يعرف محمد طوال حياته شيئًا منها. واللذة النفسية الكبرى، لذة الاستمتاع بما في الكون من جمال ومن دعوة إلى التأمل، هذه اللذة العظيمة التي لا يعرفها إلا الأقلون، والتي كانت لذة محمد منذ نشأته ومنذ أرته الحياة في نعومة أظفاره ذكريات بقيت مطبوعة في نفسه داعية إلى الزهد في الحياة، وأولاها موت أبيه وهو ما يزال جنينًا، ثم موت أمه، ثم موت جده — هذه اللذة ليست في حاجة إلى ثروة من المال وإن تكن في حاجة إلى ثروة نفسية طائلة يعرف الإنسان معها كيف يعكف على نفسه ويعيش بها وفي دخيلتها. ولو أن محمدًا ترك وشأنه يومئذ لما نازعته نفسه إلى شيء من المال، ولظل سعيدًا بهذه الحال، حال الرعاة المفكرين الذين ينتظمون الكون في أنفسهم، والذين يحتويهم الكون في حبة قلبه.
لكن عمه أبا طالب كان — كما قدَّمنا — حليف فقر كثير عيال؛ لذلك رأى أن يجد لابن أخيه سببًا للرزق أوسع مما يجيئه من أصحاب الغنم التي يرعى. فبلغه يومًا أن خديجة بنت خويلد تستأجر رجالًا من قريش في تجارتها، وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها يضاربون لها به بشيء تجعله لهم. ولقد زاد في ثروتها أنها — وكانت من بني أسد — قد تزوجت مرتين في بني مخزوم مما جعلها من أوفر أهل مكة غنًى. وكانت تقوم على مالها بمعونة أبيها خويلد وبعض ذوي ثقتها. وقد ردت خطبة الذين خطبوها من كبار قريش؛ لأنها كانت تعتقد أنهم ينظرون إلى مالها، واعتزمت أن تقف جهدها على تنمية ثروتها. وإذ علم أبو طالب أنها تجهز لخروج تجارتها إلى الشام مع القافلة نادى ابن أخيه، وكان يومئذ في الخامسة والعشرين من سنه، وقال له: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وقد بلغني أن خديجة استأجرت فلانًا ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك أن أكلمها؟ قال محمد: ما أحببتَ! فخرج أبو طالب إليها فقال لها: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدًا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانًا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربعة بكار. وكان جواب خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألته لحبيب قريب؟! وعاد العم إلى ابن أخيه يذكر له الأمر ويقول له: هذا رزق ساقه الله إليك.
خرج محمد مع ميسرة غلام خديجة بعد أن أوصاه أعمامه به. وانطلقت القافلة في طريق الصحراء إلى الشام مارة بوادي القرى ومدين وديار ثمود وبتلك البقاع التي مر بها محمد مع عمه أبي طالب وهو في الثانية عشرة من عمره. وأحيت هذه الرحلة في نفسه ذكريات الرحلة الأولى، كما زادته تأملًا وتفكيرًا في كل ما رأى وسمع من قبل عن العبادات والعقائد بالشام أو بالأسواق المحيطة بمكة. فلما بلغ بُصرى اتصل بنصرانية الشام وتحدَّث إلى رهبانها وأحبارها، وتحدَّث إليه راهب نسطوري وسمع منه. ولعله أو لعل غيره من الرهبان قد جادل محمدًا في دين عيسى، هذا الدين الذي كان قد انقسم يومئذ شيعًا وأحزابًا، كما بسطنا من قبل. واستطاع محمد بأمانته ومقدرته أن يتجر بأموال خديجة تجارة أوفر ربحًا مما فعل غيره من قبل، واستطاع بحلو شمائله وجمال عواطفه أن يكسب محبة ميسرة وإجلاله. فلما آن لهم أن يعودوا ابتاع لخديجة من تجارة الشام كل ما رغبت إليه أن يأتيها بها.
فلما بلغت القافلة مر الظهران في طريق عودتها، قال ميسرة: يا محمد، أسرع إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف ذلك لك. وانطلق محمد حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، وكانت خديجة في عِلِّيَّةٍ لها، فرأته وهو على بعيره، ونزلت حين دخل دارها واستقبلته. واستمعت إليه يقص بعبارته البليغة الساحرة خبر رحلته وربح تجارته وما جاء به من صناعة الشام، وهي تنصت مغتبطة مأخوذة. وأقبل ميسرة من بعدُ فروى لها عن محمد ورقة شمائله وجمال نفسه ما زادها علمًا به فوق ما كانت تعرف من فضله على شباب مكة. ولم يك إلا رد الطرف حتى انقلبت غبطتها حبًّا جعلها — وهي في الأربعين من سنها، وهي التي ردت من قبل أعظم قريش شرفًا ونسبًا — تود أن تتزوج من هذا الشاب الذي نفذت نظراته ونفذت كلماته إلى أعماق قلبها. وتحدثت في ذلك إلى أختها على قول، وإلى صديقتها نُفيسة بنت منية على قول آخر. وذهبت نفيسة دسيسًا إلى محمد فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج؟ قال: ما بيدي ما أتزوج به. قالت: فإن كُفيت ذلك ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ أجابت نفيسة بكلمة واحدة: خديجة. قال محمد: كيف لي بذلك؟! وكان قد أنس هو أيضًا إلى خديجة وإن لم تحدِّثه نفسه بزواج منها لِمَا كان يعلم من ردها أشراف قريش وأغنياءها. فلما قالت له نفيسة جوابًا عن سؤاله: عليَّ ذلك، سارع إلى إعلان قبوله. ولم تبطئ خديجة أن حدَّدت الساعة التي يحضر فيها مع أعمامه ليجدوا أهلها عندها فيتم الزواج. وزوجها عمها عمر بن أسد؛ لأن خويلدًا كان قد مات قبل حرب الفجار، مما يكذِّب ما يُروى من أنه كان حاضرًا ولم يكن راضيًا هذا الزواج، وأن خديجة سقته خمرًا حتى أخذت فيه، وحتى زوَّجها محمدًا.
وهنا تبدأ صفحة جديدة من حياة محمد: تبدأ حياة الزوجية والأبوة: الزوجية الموفقة الهنية من جانبه وجانب خديجة جميعًا، والأبوَّة التي تعرف من الآلام لفقد الأبناء ما عرف محمد في طفولته لفقد الآباء.