من الزواج إلى البعث
(صفة محمد – بناء المكيين الكعبة – حكم محمد بينهم في الحجر الأسود – حكماء قريش والوثنية – بناء محمد وبناته – موت أبنائه – زواج بناته – ميل محمد للعزلة – تحنُّثه في حراء – الرؤيا الصادقة – أول الوحي)
***
وكان محمد وسيم الطلعة، ربعة في الرجال ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، ضخم الرأس، ذا شعر رَجْلٍ شديد سواده، مبسوط الجبين فوق حاجبين سابغين منوَّنين متصلين، واسع العينين أدعجهما، تشوب بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة وتزيد في قوة جاذبيتهما وذكاء نظرتهما أهداب طوال حوالك، مستوي الأنف دقيقه، مفلَّج الأسنان، كث اللحية، طويل العنق جميله، عريض الصدر رحب الساحتين، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين (أي غليظهما) يسير ملقيًا جسمه إلى الأمام مسرع الخطو ثابته، على ملامحه سيما التفكير والتأمل، وفي نظرته سلطان الآمر الذي يخضع الناس لأمره. فلا عجب وتلك صفته أن تجمع خديجة بين حبه والإذعان له، ولا عجب أن تعفيه من تدبير ما لها لتقوم هي على هذا التدبير كدأبها من قبل، وأن تدع له ما شاء من فسحة الوقت ليفكر وليتأمل.
وأقام محمد وقد أغناه الله بزواج خديجة في ذروة من النسب وسعة من المال، وأهل مكة جميعًا ينظرون إليه نظرة غبطة وإكبار. وكان في شغل عن نظرتهم بما أسبغه الله عليه من فضله، وما يبشره به خصب خديجة من عقب صالح. لكن ذلك لم يصرفه عن الاختلاط بهم والأخذ معهم بنصيب في الحياة العامة على ما كان يفعل من قبل، بل لقد زاده جاهًا بينهم ومكانة فيهم، وزاده لذلك تواضعًا على جمِّ تواضعه. فلقد كان على عظيم ذكائه وظاهر تبريزه حَسَن الإصغاء إلى محدِّثه لا يلوي عن أحد وجهه، ولا يكتفي بإلقاء السمع إلى من يحدِّثه، بل يلتفت إليه بكل جسمه. وكان قليل الكلام كثير الإنصات، ميالًا للجِدِّ من القول، وإن كان لا يأبى أن يشارك في مفاكهة وأن يمزح ثم لا يقول إلا حقًّا. وكان يضحك أحيانًا حتى تبدو نواجذه. فإذا غضب لم يظهر عليه من أثر الغضب إلا نفرة عرق بين حاجبيه؛ ذلك أنه كان يكظم غيظه ولا يريد أن يظهر غضبه، لِما جُبل عليه من سعة الصدر وصدق الهمة والوفاء للناس، ومن البر والجود وكرم العشرة، وما كان عليه إلى جانب ذلك من ثبات العزيمة، وقوة الإرادة، وشدة البأس، ومضاء التصميم مضاءً لا يعرف التردد. وهذه الصفات مجتمعة فيه كان ذات أثر عميق في كل ما اتصل به، فمن رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبَّه. فما كان أعظم أثرها إذن فيما اتَّسَق بينه وبين خديجة الزوج الوفيَّة من مودة صادقة ووفاء كامل!
لم ينقطع محمد عن مخالطة أهل مكة والأخذ معهم بنصيب في الحياة العامة، وكانوا يومئذ في شغل بما أصاب الكعبة؛ فقد طغى عليها سيل عظيم انحدر من الجبال فصدع جدرانها بعد توهينها. وكانت قريش من قبل ذلك تفكر في أمرها. فهي لم تكن مسقوفة، وكانت لذلك عرضة لانتهاب السارقين ما تحتوي من نفائس. لكن قريشًا كانت تخشى إن هي شيدت بنيانها ورفعت بابها وسقفتها أن يصيبها من ربِّ الكعبة المقدسة شرٌّ وأذى. فقد كانت تحيط بها في مختلف عهود الجاهلية أساطير تخيف الناس من الإقدام على تغيير شيء من أمرها، وتجعلهم يعتبرون ذلك بدعًا. فلما طغى عليها السيل لم يكن بدٌّ من الإقدام ولو في شيء من الخوف والتردد. وصادف أن رمى البحر إذ ذاك بسفينة قادمة من مصر مملوكة لتاجر روميٍّ اسمه باقوم فحطمها. وكان باقوم هذا بنَّاء على شيء من العلم بالنجارة. فلما سمعت قريش بأمره خرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى جدة، فابتاعوا السفينة من الرومي وكلَّموه في أن يقدم معهم إلى مكة ليعاونهم في بناء الكعبة؛ وقبل باقوم. وكان بمكة قبطيٌّ يعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم ويعاونه باقوم.
ثم إن قريشًا اقتسمت جوانب أربعة، لكل قبيلة جانب تقوم بهدمه وبنائه. ولقد ترددوا قبل هدمها مخافة أن يصيبهم أذى، ثم أقدم الوليد بن المغيرة في شيء من الخوف، فدعا آلهته وهدم بعض الجانب من الركن اليماني. وأمسى القوم ينتظرون ما الله فاعل بالوليد. فلما أصبح ولم يصبه شيء أقدموا يهدمون وينقلون الحجارة، ومحمد معهم، حتى انتهى الهدم إلى حجارة خضر ضربوا عليها بالمعول فارتد عنها؛ فاتخذوها أساسًا للبناء فوقه، ونقلت قريش أحجار الجرانيت الأزرق من الجبال المجاورة وبدأت في البناء. فلما ارتفع إلى قامة الرجل وآن أن يوضع الحجر الأسود المقدس في مكانه من الجانب الشرقي، اختلفت قريش أيهم يكون له فخار وضع الحجر في هذا المكان. واستحر الخلاف حتى كادت الحرب الأهلية تنشب بسببه.
تحالف بنو عبد الدار وبنو عدي أن يحولوا بين أية قبيلة وهذا الشرف العظيم؛ وأقسموا على ذلك جهد أيمانهم. حتى قرب بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا وأدخلوا أيديهم فيه توكيدًا لأيمانهم، ولذلك سموا «لعقة الدم». فلما رأى أبو أمية بن المغيرة المخزومي ما صار إليه أمر القوم، وكان أسنهم وكان فيهم شريفًا مطاعًا، قال لهم: اجعلوا الحكم فيما بينكم أول من يدخل من باب الصفا. فلما رأوا محمدًا أول من دخل قالوا: هذا الأمين رضينا بحكمه. وقصوا عليه قصتهم، وسمع هو لهم ورأى العداوة تبدو في عيونهم، ففكر قليلًا ثم قال: هلم إليَّ ثوبًا، فأتي به؛ فنشره وأخذ الحجر فوضعه بيده فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف الثوب؛ فحملوه جميعًا على ما يحاذي موضع الحجر من البناء، ثم تناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه، وبذلك انحسم الخلاف وانفض الشر. وأتمت قريش بناء الكعبة حتى جعلت ارتفاعها ثماني عشرة ذراعًا، ورفعوا بابها عن الأرض ليُدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا. وجعلوا فى داخلها ست دعائم في صفين، وجعلوا في ركنها الشآمي من داخلها درجًا يُصعد به إلى سطحها. ووضع هبل في داخل الكعبة، كما وضعت في داخلها النفائس التي تعرضت من قبل بنائها وسقفها لمطامع اللصوص.
اختُلف في سن محمد حين بناء الكعبة وحين حكمه بين قريش في أمر الحجر، فقيل: كان ابن خمس وعشرين، وقال ابن إسحاق: كان ابن خمس وثلاثين. وسواء أصحت الأولى أم الأخرى من هاتين الروايتين فإن إسراع قريش إلى الرضا بحكمه أول ما دخل من باب الصفا، وتصرفه هو في أخذ الحجر ووضعه على الثوب وأخذه من الثوب لوضعه مكانه من جدار الكعبة، يدل على ما كان له من مكانة سامية في نفوس أهل مكة ومن تقدير جم لما عُرف عنه من سمو النفس ونزاهة القصد.
وهذا الخلاف بين القبائل، وهذا التحالف بين لعقة الدم، وهذا الاحتكام لأول مقبل من باب الصفا، يدل على أن السلطة في مكة كانت انحلت، فلم يبق لرجل منها ما كان لقصي ولا لهاشم ولا لعبد المطلب من سلطان. ولقد كان لتنازع بني هاشم وبني أمية السلطان بعد وفاة عبد المطلب أثره في ذلك لا ريب. وكان الانحلال في السلطة جديرًا بأن يجر على مكة الأذى، لولا ما كان لبيتها العتيق في نفوس العرب جميعًا من تقديس. وأدى انحلال السلطان إلى نتيجته الطبيعية؛ أدى إلى مزيد من حرية الناس في التفكير والجهر بالرأي، وإلى إقدام اليهود والنصارى، ممن كانوا يخافون صاحب السلطان، على تعيير العرب عبادة الأوثان. وانتهى ذلك بكثير من أهل مكة ومن القرشيين أنفسهم إلى أن زال من نفوسهم تقديس الأصنام، وإن ظل أمجاد مكة وسادتها يظهرون لها التقديس والعبادة، ولهؤلاء من العذر ما للذين يرون في الدين القائم وسيلة من وسائل ضبط النظام وعدم تبلبل الأفكار، وفي عبادة الأصنام بالكعبة ما يحفظ على مكة مكانتها الدينية والتجارية. وقد ظلت مكة بالفعل تنعم من وراء هذه المكانة بالرخاء واتصال التجارة، ولكن ذلك لم يغير من زوال تقديس الأصنام في نفوس المكيين.
ذكروا أن قريشًا اجتمعت يومًا بنخلة تُحيي عبد العُزى، فخلص منهم أربعة نجيًّا، هم زيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش وورقة بن نوفل؛ فقال بعضهم لبعض: «تعلموا والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال. فما حجر نُطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور؟! يا قوم التمسوا لكم دينًا غير هذا الدين الذي أنتم عليه.» أما ورقة فدخل النصرانية، وقيل: إنه نقل إلى العربية بعض ما في الأناجيل. وأما عبيد الله بن جحش فظل فيما هو فيه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، وهناك دخل في النصرانية ومات عليها، وأقامت امرأته أم حبيبة بن أبي سفيان على الإسلام حتى صارت من أزواج النبي وأمهات المؤمنين. وأما زيد بن عمرو ففر من وجه زوجه ومن عمِّه الخطاب. وطوَّف في الشام وفي العراق ثم عاد ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية. وفارق دين قومه واعتزل الأوثان، وكان يقول وهو مستند إلى الكعبة: «اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه.» وأما عثمان بن الحويرث — وكان من ذوي قرابة خديجة — فذهب على بيزنطة وتنصر وحسنت مكانته عند قيصر الروم، ويقال: إنه أراد أن يخضع مكة لحماية الروم وأن يكون عامل قيصر عليها، فطرده المكيون فاحتمى بالغساسنة في الشام، وأراد أن يقطع الطريق على تجارة مكة، فوصلت إلى الغساسنة هدايا المكيين، فمات ابن الحويرث عندهم مسمومًا.
تعاقبت السنون ومحمد يشارك أهل مكة في حياتهم العامة، ويجد في خديجة خير النساء حقًّا: الودود الولود التي وهبت نفسها له، والتي أنجبت له من الأبناء القاسم وعبد الله الملقب بالطاهر وبالطيب، ومن البنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. أما القاسم وعبد الله فلم يعرف عنهما إلا أنهما ماتا طفلين في الجاهلية لم يتركا على الحياة أثرًا يبقى أو يذكر؛ لكنهما من غير شك قد ترك موتهما في نفس أبويهما ما يتركه موت الابن من أثر عميق، وترك موتهما من غير شك في نفس خديجة ما جرح أمومتها جرحين داميين. وهي لا ريب قد اتجهت عند موت كل واحد منهما في الجاهلية إلى آلهتها الأصنام تسألها: ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها؟
وما بالها لم ترحم قلبها من أن يهوي به الثكل ليتحطم على قرارة الحزن مرة فمرة؟! وقد شعر معها زوجها لا ريب بالألم لوفاة ابنيه، كما حزَّ في قلبه هذا الألم الحي ممثلة صورته في زوجه يراه كلما عاد إلى بيته وجلس إليها. وليس يتعذر علينا أن نقدر عمق هذا الحزن السحيق في عصر كانت البنات يوأدن فيه، وكان الحرص على العقب الذكر يوازي الحرص على الحياة بل يزيد عليه. وبحسبك مظهرًا لهذا الألم أن لم يطق محمد على الحرمان صبرًا، حتى إذا جيء بزيد بن حارثة يُشترى، طلب إلى خديجة أن تبتاعه ففعلت، ثم أعتقه وتبناه، فكان يدعى زيد بن محمد، واستبقاه ليكون من بعد من خيرة أتباعه وصحبه.
ولقد حزن محمد من بعد حين مات ابنه إبراهيم أشد الحزن بعد أن حرَّم الإسلام وأد البنات. وبعد أن جعل الجنة تحت أقدام الأمهات. فلا ريب إذن أن قد كان لما أصاب محمدًا في بنيه ما هو جدير بأن يترك في حياته وتفكيره أثره. ولا ريب في أنه استوقف تفكيره ولفت نظره في كل واحدة من هذه الفواجع ما كانت خديجة تتقرب به إلى أصنام الكعبة، وما كانت تنحر لهبل ولللات والعُزى ولمناة الثالثة الأخرى، تريد أن تتفادى مما ألمَّ بها من ألم الثكل، فلا تُفيد القرابين ولا تجدي النحور.
وأما البنات فقد عُني محمد بتزويجهن من أكفاء لهن: زوج زينب كُبراهن من أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكانت أمه أختًا لخديجة، وكان فتًى مقدرًا من قومه لاستقامته ونجاح تجارته، وكان هذا الزواج موفقًا على الرغم مما كان بعد الإسلام، حين أرادت زينب الهجرة من مكة إلى المدينة، من فرقة بينهما سترى من بعد تفصيلها. وزوج رقية وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني عمه أبي لهب. ولم تبق هاتان الزوجتان مع زوجيهما بعد الإسلام؛ إذ أمر أبو لهب ابنيه بتسريحهما، فتزوجهما عثمان واحدة بعد الأخرى، وكانت فاطمة ما تزال طفلة فلم تزوج من علي إلا بعد الإسلام.
حياة طمأنينة ودعة إذن كانت حياة محمد في هذه السنين من عمره. ولولا احتسابه بنيه لكانت حياة نعمة بمودة خديجة ووفائها، وبهذه الأبوة السعيدة الراضية. طبيعي لذلك أن يترك نفسه لسجيتها، سجية التفكير والتأمل، وأن يستمع إلى قومه فيما كان حوارهم يقع عليه من أمور أصنامهم، وما كان النصارى واليهود يقولونه لهم، وأن يفكر ويتدبَّر وأن يكون أشد من كل قومه تدبرًا وتفكيرًا. فهذا الروح القوي الملهم، هذا الروح الذي أعدته الأقدار ليبلغ الناس من بعدُ رسالات ربه ويوجِّه حياة العالم الروحية الاتجاه الحق، لا يمكن أن يظل مطمئنًّا إلى ما غرق الناس فيه إلى الأذقان من ضلال، ولا بد أن يلتمس في الكون أسباب الهدى، حتى يعده الله ليلقي عليه ما قدر في الغيب من رسالته. ومن عظيم توجهه إلى هذه الناحية الروحية وشديد تعلقه بها، لم يكن يريد لنفسه أن يكون من طراز الكهان، ولا أراد أن ينصب نفسه حكيمًا على نحو ما كان ورقة بن نوفل وأمثاله؛ إنما كان يريد الحق لنفسه، فكان لذلك كثير التفكير، طويل التأمل، قليل الإفضاء إلى غيره بما يجيش بنفسه من آثار تفكيره وتأمله.
وقد كان من عادة العرب إذ ذاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمنًا في كل عام يقضونه بعيدًا عن الناس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم يلتمسون عندها الخير والحكمة، وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة التحنف والتحنث، وقد وجد محمد فيه خير ما يمكنه من الإمعان فيما شُغلت به نفسه من تفكير وتأمل، كما وجد فيه طمأنينة نفسه وشفاء شغفه بالوحدة يلتمس أثناءها الوسيلة إلى ما لم يبرح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما في الكون من أسبابها. وكان بأعلى جبل حراء — على فرسخين من شمال مكة — غار هو خير ما يصلح للانقطاع والتحنث، فكان يذهب إليه طول شهر رمضان من كل سنة يقيم به مكتفيًا بالقليل من الزاد يحمل إليه ممعنًا في التأمل والعبادة، بعيدًا عن ضجة الناس وضوضاء الحياة، ملتمسًا الحق، والحق وحده. ولقد كان يشتد به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لقد كان ينسى نفسه وينسى طعامه وينسى كل ما في الحياة؛ لأن هذا الذي يرى في حياة الناس مما حوله ليس حقًّا. وهناك كان يقلِّب في صحف ذهنه كل ما وعى فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبةً وازورارًا.
وهو لم يكن يطمع في أن يجد في قصص الأحبار وفي كتب الرهبان الحق الذي ينشد، بل في هذا الكون المحيط به: في السماء ونجومها وقمرها وشمسها، وفي الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء، وساعات صفوها البديع إذ تكسوها أشعة القمر أو أضواء النجوم بلباسها الرطب الندي، وفي البحر وموجه، وفي كل ما وراء ذلك مما يتصل بالوجود وتشمله وحدة الوجود. في هذا الكون كان يلتمس الحقيقة العليا، وكان ابتغاء إدراكها يسمو بنفسه ساعات خلوته ليتصل بهذا الكون وليخترق الحجب إلى مكنون سره. ولم يكن في حاجة إلى كثير من التأمل ليرى أن ما يباشر قومه من شئون الحياة وما يتقربون به إلى آلهتهم ليس حقًّا. فما هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تدفع عن أحد غائلة شر يصيبه!
وهبل واللات والعُزى، وكل هذه الأنصاب والأصنام القائمة في جوف الكعبة أو حولها، لم تخلق يومًا ذبابة ولا جادت مكة بخير! ولكن أين الحق إذن؟ أين الحق في هذا الكون الفسيح بأرضه وسمواته ونجومه؟ أهو في هذه الكواكب المضيئة التي تبعث إلى الناس النور والدفء، ومن عندها ينحدر ماء المطر؛ فتكون للناس، ولأهل الأرض كافة من خلائق، حياةٌ بالماء والنور والدفء؟ كلا! فما هذه الكواكب إلا أفلاك كالأرض سواء، أهو فيما وراء هذه الأفلاك من أثير لا حد ولا نهاية له؟ ولكن ما الأثير؟ وهذه الحياة التي نحيا اليوم فتنقضي غدًا، ما أصلها وما مصدرها؟ أمصادفة تلك التي أوجدت الأرض وأوجدتنا عليها؟ لكن للأرض وللحياة سننًا ثابتة لا تبديل لها ولا يمكن أن تكون المصادفة أساسها. وما يأتي الناس من خير أو شر، أفيأتونه طواعيةً واختيارًا، أم هو بعض سليقتهم فلا سلطان لاختيارهم عليه؟
في هذه الأمور النفسية والروحية كان محمد يفكر أثناء انقطاعه وتعبده بغار حراء، وكان يريد أن يرى الحق فيها وفي الحياة جميعًا. وكان تفكيره يملأ نفسه وفؤاده وضميره وكل ما في وجوده، ويشغله لذلك عن هذه الحياة وصبحها ومسائها. فإذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة وبه من أثر التفكير ما يجعلها تسائله تريد أن تطمئن على أنه بخير وعافية.
أفكان محمد يتعبد أثناء تحنثه ذاك على شرع بذاته؟ هذا أمر اختلف العلماء فيه. وقد روى ابن كثير في تاريخه طرفًا من آرائهم في الشرع الذي كان يتعبد عليه: فقيل شرع نوح، وقيل إبراهيم، وقيل موسى، وقيل عيسى، وقيل كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به. ولعل هذا القول الأخير أقوم من كل ما سبقه، فهو الذي يتفق وما شغف محمد به من التأمل ومن التفكير على أساس هذا التأمل.
وشارف محمد الأربعين، وذهب إلى حراء يتحنث وقد امتلأت نفسه إيمانًا بما رأى في رؤاه الصادقة، وقد خلصت نفسه من الباطل كله، وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد اتجه بقلبه إلى الصراط المستقيم وإلى الحقيقة الخالدة. وقد اتجه إلى الله بكل روحه أن يهدي قومه بعد أن ضربوا في تيهاء الضلال. وهو في توجهه هذا يقوم ويرهف ذهنه وقلبه، ويطيل الصوم، وتثور به تأملاته، فينحدر من الغار إلى طرق الصحراء، ثم يعود إلى خلوته ليعود فيمتحن ما يدور بذهنه وما يتبين له في رؤاه. ولقد طالت به الحال ستة أشهر، حتى خشي على نفسه عاقبة أمره؛ فأسر بمخاوفه إلى خديجة وأظهرها على ما يرى، وأنه يخاف عبث الجن به. فطمأنته الزوج المخلصة الوفية، وجعلت تحدثه بأنه الأمين، وبأن الجن لا يمكن أن تقترب منه، وإن لم يدر بخاطرها ولا بخاطره أن الله يهيئ مصطفاه بهذه الرياضة الروحية إلى اليوم العظيم وإلى النبأ العظيم، يوم الوحي الأول، ويهيئه بها إلى البعث والرسالة.
ولكنه ما لبث أن استيقظ فزعًا يسأل نفسه: أي شيء رأى؟ أتراه أصابه ما كان يخشى من جنة؟ وتلفت يمنة ويسرة فلم ير شيئًا. ومكث برهةً أصابته فيها رِعدة الخوف وتولاه أشد الوجل، وخاف ما قد يكون بالغار، ففر منه وكله حيرة لا يستطيع تفسير ما رأى. وانطلق هائمًا في شعاب الجبل يسائل نفسه عمَّن دفعه ليقرأ. لقد كان إلى يومئذ يرى وهو في تحنثه الرؤيا الصادقة تنبلج من خلال تأمله فتملأ صدره فتضيء أمامه وتدله على الحق أين هو، وتنير له حجب الظلمات التي زجت قريشًا في وثنيتهم إلى عبادة أصنامهم. وهذا النور الذي أضاء أمامه وهذا الحق الذي هداه سبيله هو الواحد الأحد. فمن هذا المذكِّر به، وبأنه الذي خلق الإنسان، وبأنه الأكرم الذي علم الإنسان بالقلم ما لم يعلم؟ وتوسط الجبل وهو في هذه الحال من فزع وخشية ومساءلة، فسمع صوتًا يناديه، فأخذه الروع ورفع رأسه إلى السماء، فإذا الملك في صورة رجل هو المنادي، وزاد به الفزع ووقفه الرعب مكانه، وجعل يصرف وجهه عما يرى، فإذا هو يراه في آفاق السماء جميعًا ويتقدم ويتأخر فلا تنصرف صورة الملَك الجميل من أمامه. وأقام على ذلك زمنًا كانت خديجة قد بعثت أثناءه من يلتمسه في الغار فلا يجده.
فلما انصرفت صورة الملك رجع محمد ممتلئًا بما أوحي إليه، وفؤاده يجِفُ وقلبه يضطرب خوفًا وهلعًا. ودخل على خديجة وهو يقول: زملوني؛ فزملته وهو يرتعد كأن به الحمى. فلما ذهب عنه الروع نظر إلى زوجه نظرة المستنجد. وقال: يا خديجة! مالي؟! وحدَّثها بالذي رأى، وأفضى إليها بمخاوفه أن تخدعه بصيرته أو أن يكون كاهنًا. وكانت خديجة — كما كانت أيام تحنثه في الغار ومخاوفه أن تكون به جنة — ملك الرحمة وملاذ السلام لهذا القلب الكبير الخائف الوجل. لم تبد له أي خوف أو ريبة، بل رنت إليه بنظرة الإكبار وقالت: «أبشِر يا بن عم واثبت. فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ووالله لا يخزيك الله أبدًا. إن لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.»
واطمأن روع محمد، وألقى على خديجة نظرة شكر ومودة، ثم أحس جسمه متعبًا في حاجة إلى النوم فنام. نام ليستيقظ من بعد لحياة روحية قوية غاية القوة؛ حياة تأخذ بالأبصار والألباب، ولكنها حياة تضحية خالصة لوجه الله والحق والإنسانية. تلك رسالة ربه يبلغها ويدعو الناس إليها بالتي هي أحسن، حتى يتم الله نوره ولو كره الكافرون.