تمهيد
إنسان القرآن هو إنسان القرن العشرين، ولعل مكانه في هذا القرن أوفق وأوثق من أمكنته في كثير من القرون الماضية؛ لأن القرون الماضية لم تُلجئ الإنسان إلى البحث عن مكانه في الوجود كله، وعن مكانه بين الخلائق الحية على هذه الأرض، وبين أبناء نوعه وأبناء الجماعة التي يعيش فيها من ذلك النوع، وبين كل نسبة ظاهرة أو خفية ينتمي إليها، كما ألجأه إلى ذلك كله هذا القرن العشرون.
قديمًا كان الحكماء يجعلون شعارهم في نصيحة الإنسان: «اعرف نفسك!» وإنها لنصيحة قد ترادف سؤالهم: مَن أنت؟ أو سؤالهم: ما اسمك؟ غير أن الإنسان إذا أجابه فإنما يجيبه باسم «باطني» يعرفه بملامح وجدانه، وقسمات ضميره، ولا يقف عند تعريفه بالاسم الذي يختار اعتسافًا من بضعة حروف.
وهو على أية حال سؤال إلى «شخص» بعد شخص، قد يسمعه عشرون في الحجرة الواحدة ويجيبون عليه عشرين جوابًا متفرقات.
وقديمًا كانوا يزعمون أن أبا الهول كان يلقي سؤاله، فيهلك من لم يعرف جوابه. وكان سؤالًا عن الحيوان الذي يمشي على أربع في الصباح، وعلى اثنتين عند الظهيرة، وعلى ثلاث عند المساء، فكان سؤالهم لغزًا من ألغاز الأقدمين عن الإنسان في أطوار عمره، بين الطفل الذي يحبو على أربع، والفتى الذي يعتدل على قدمين، والشيخ الذي يتحامل على عصاه. وهو لغز شبيه بطفولة الإنسان كله؛ لا تبتعد المسافة بين جهله وعلمه، ولا بين الهلاك فيه والنجاة.
إلا أن القرن العشرين جمع الأسئلة، فلم يدع سؤالًا عن نسبة من نسب الإنسان لم يطلب جوابه، على نذير بالهلاك لمن جهل الجواب، وقد يكون هلاكًا للجسد والروح.
ما مكان الإنسان من الكون كله؟
ما مكانه من هذه السيارة الأرضية بين خلائقها الأحياء؟
ما مكانه بين أبناء نوعه البشري؟ وما مكانه بين كل جماعة من هذا النوع الواحد، أو هذا النوع الذي يتألف من جملة أنواع يضمها عنوان «الإنسان»؟
وهي أسئلة لا جواب لها في غير «عقيدة دينية» تجمع للإنسان صفوة عرفانه بدنياه، وصفوة إيمانه بغيبها المجهول، تجمع له زبدة الثقة بعقله، وزبدة الثقة بالحياة؛ حياته وحياة سائر الأحياء والأكوان.
إن القرن العشرين كان حقيقًا أن يسمى بعصر «الأيديولوجية»، أو عصر الحياة «على مبدأ وعقيدة»؛ لأنه كلما ألقى على الإنسان سؤالًا من أسئلته تلك لم يعفه من جوابه، ولم يسلمه إلى جزاء أهون من جزاء الحيرة عند السكوت عليه؛ فإن يكن سكوتًا عن الأجوبة جميعًا؛ فهو الهلاك المحدق بالأبدان والعقول.
وليس أكثر من «المبادئ والعقائد» التي نسمع عنها في هذا القرن ويسمونها بالمذاهب و«الأيديولوجيات».
ولكن أجوبة القرن العشرين، مهما يكن من شأنها، فهي أجوبة العصر الذي يحل المشكلة الزمنية ولا يتعداها إلى مشكلة الأبد: مشكلة ما مضى، وما أتى من الدهر، وما يأتي إلى غير نهاية، ولا جواب لهذه المشكلة غير العقيدة الدينية التي تؤمن بها الإنسانية، فلا يغني فيها إيمان فرد واحد بينه وبين ضميره، أو جواب سؤال واحد لمن يقول: من أنت؟ وماذا تعرف من نفسك بين عامة النفوس؟ قصاراك أنك واحد منها بين ألوف الألوف، عاشوا ويعيشون وسيعيشون، ولا يسكتون عن تلك الأسئلة عامة، ولا أمان لهم ولا لك إن سكتوا عليها.
هذه العقيدة الدينية توجد كما ينبغي أن توجد، وإنما الضلالة فيمن يريدها على غير سوائها الذي تستقيم عليه، ولا تستقيم على سواه.
هذه العقيدة الدينية لا توجد اليوم لتنبذ غدًا، ولا توجد على الأيام للعَارفين دون الجاهلين، وللعاملين دون الخاملين، ولمن يطلبون الخير للناس دون من يطلبون الخير لأنفسهم، ولمن يعتقدون دراية ومحبة دون من يعتقدون تسليمًا ورهبة، ولمن يسعون سعيهم إلى العلم والإيمان دون من يقعدون في مواطنهم منتظرين، وقد يقعدون وهم يجهلون أنهم قاعدون، ولا يعلمون ما الخبر وما المنتظر، إن علموا أنهم منتظرون!
هذه العقيدة بنية حية، قوامها دهور وأمم، ومعايش وآمال، ونفوس خُلقت ونفوس لم تُخلق، ونفوس يخلق لها تراثها قبل أن يصير إليها، وسبيلها جميعًا أن تتهدى إلى قبلة واحدة: تنظر إليها فتمضي قُدمًا، أو تفقدها في الأفق فهي أشلاء ممزقة، كأنها أشلاء الجسم المشدود بين مفارق الطريق.
إن القرن العشرين منذ مطلعه يعرض العقيدة بعد العقيدة على الإنسان وعلى الإنسانية، ولا نعلم أنه عرض عليها حتى اليوم قديمًا معادًا، أو جديدًا مبتدعًا هو أوفق من عقيدة القرآن، وأوفق ما فيها أنها غنية عن الاختراع والامتحان، وأنها على شرط العقيدة الدينية من بنية حية شملت ملايين الخلق، وثبتت معهم وحدها في كل معترك زبون يوم خذلتهم كل قوة يعتصم بها الناس.
•••
ونحن ندعي في هذه الصفحات أن المنصف بين النصائح لا يستطيع أن ينصح لأهل القرآن بعقيدة في الإنسان والإنسانية أصح وأصلح من عقيدتهم التي يستوحونها من كتابهم، وأن القرن العشرين سينتهي بما استحدث من مبادئ ومذاهب و«أيديولوجيات» ولا ينتهي ما تعلَّمه أهل القرآن من القرآن، وأن أهل هذا الكتاب يتدبرون القول فيتبعون أحسنه، إذا تدبروا فلم يأخذوا بعقيدة من هذه العقائد التي يُروِّجها دعاتُها باسم المادية، أو الفاشية، أو العقلية، ويريدون بها أن تكون على الزمن بديلًا من العقائد الإلهية، ومن عقائد الغيب الذي يحسبونه معدومًا، أو موجودًا كمعدوم.
وقد استمع الناس إلى المادية التاريخية فقالت لهم: إن الإنسان عملة «اقتصادية» في سوق الصناعة والتجارة، تعلو وتهبط في طبقاتها بمعيار العرض والطلب، وصفقات الرواج والكساد. أما الإنسانية فقد أنصتت إلى المادية التاريخية فقالت لها: إنها شيء لا وجود له مع طوائفها التي تخلقها الأسعار والأجور.
واستمع الناس إلى الفاشية فقالت لهم: إن الإنسان واحد من عنصر سيد أو عنصر مسود، وإن أبناء الإنسانية جميعًا عبيد للعنصر السيد، والعنصر السيد قبل ذلك عبد للسيد المختار، بغير اختيار.
واستمع الناس إلى «العقلية» فقال لهم قائل منها: إن «إنسانيتهم» كذلك شيء لا وجود له، ووهم من أوهام الأذهان، وإن الشيء الموجود حقًّا هو الفرد الواحد! وبرهان وجوده حقًّا أن يفعل ما استطاع من نفع أو أذًى كلما أمن المغبة من سائر الأفراد والأحداث.
وغير جديد ما استمعوه من أهل العقائد الإلهية عن مكان هذا الإنسان من الأرض والسماء، ومكانه من إخوته في آدم وحواء.
سمعوا أنه روح وجسد، ودنيا وآخرة، ينجو شطره بمقدار ما يهلك شطره، ويصح له الوجود بمقدار ما صح له من عقبى الفناء.
وسمعوا أنه إنسانان؛ إنسان صحيح مقبول، وإنسان زائف مدخول. صحيح مقبول كل من اجتباه مولاه على هواه، وزائف مدخول كل من خلقه ونفاه، ولعله لم يخلقه ودعاه إليه من دعاه.
وسمعوا أن الإنسان يُولد بذنب غيره، ويموت بذنب غيره، ويبرأ من الذنب بكفارة غيره، ويمضي بين النعمة واللعنة بقدر من الأقدار لا نصيب له فيه من عصيان أو طاعة، ومن إباء أو اختيار.
وسمعوا من القرآن غير ذلك، فهم متدبرون يستمعون إلى العقل كما يستمعون إلى الإيمان إذا اطمأنوا وثبتوا على اطمئنانهم إليه.
الإنسان في عقيدة القرآن هو الخليقة المسئول بين جميع ما خلق الله، يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب فلا تدركه الأبصار والأسماع.
و«الإنسانية» من أسلافها إلى أعقابها أسرة واحدة لها نسب واحد وإله واحد، أفضلها من عمل حسنًا واتَّقى سيئًا، وصدَق النية فيما أحسنه واتقاه.
•••
وفي الصفحات التالية كتابان في كتاب وجيز، نبدؤهما بعقيدة القرآن، فنعيد هذه الكلمات القلائل في صفحات، ونتلوها بعرض مفيد لتاريخ البحث عن نشأة الإنسان في مذاهب الفكر والعلم، أو مذاهب الحدس والخيال، ولا نزيد في سردها على الإلمام بما يصلح أن يكون محكًّا للنظر فيما يؤخذ بالبرهان، أو يؤخذ بالإيمان عن حقيقة الإنسان.