أَثر مَذهَب النشُوء في الغَرْب
قُوبل إعلان مذهب النشوء في الغرب بثورة عاصفة من حملات الاستنكار والتكفير في البيئات الدينية، ويُرى بعد انقضاء أكثر من قرن على إعلان هذا المذهب، أن حملات الدينيين عليه في البلاد الغربية لم تكن أحذق ولا أليق بالبحث الديني أو العلمي، من أشباه هذه الحملات التي قُوبل بها في بلادنا الشرقية يوم انتقل إليها للمرة الأولى، كما سنبينه فيما يلي:
لقد حرَّم بعض معاهد العلم تدريس مذهب النشوء، فظل هذا التحريم باقي الأثر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بسنوات، وحُوكم الأستاذ سكوب في دايتون (شهر يوليو سنة ١٩٢٥) لأنه خالف القانون الذي حرَّم تدريس المذهب لخروجه على العقيدة الدينية. وهذه بعض الأسئلة والأجوبة التي سُجِّلت أثناء المحاكمة بين محامي الدفاع وخبير الاتهام:
– هل تقرر أن كل ما ورد في التوراة ينبغي أن يُقبل بتفسيره الحرفي؟
– أنا أقرر أن كل ما ورد في التوراة ينبغي أن يُقبل كما ورد فيها، وبعض ما جاء في التوراة قد ورد في سياق التشبيه؛ كقوله: «إنكم ملح الأرض»، فلا أستلزم من ذلك أن الإنسان كان ملحًا، أو أنه كان له دم من الملح، ولكنني أفهمه كما أفهم معنى شعب الله المختار.
– هل لك أن تخبرني، يا مستر بريان، كم عمر الكرة الأرضية؟
– كلا يا سيدي، لست أدري.
– ولا على وجه التقريب؟
– لست أحاول، ولعلي أقترب من تقدير العلماء، ولكنني أحب أن أدقق كثيرًا قبل الجواب.
– إنك لا تعبأ كثيرًا بالعلماء. أتعبأ بهم حقًّا؟
– نعم يا سيدي.
– أتعتقد أن الكرة الأرضية صُنعت في ستة أيام؟
– ستة أيام، نعم، ولكنها ليست أيام الأربع والعشرين ساعة.
وقد احتدم الجدل أثناء الاستجواب حتى اندفع الفريقان إلى التشهير بالعقائد الشائعة والمذاهب العلمية التي كانت مباحة للناشرين، محرمة على المعلمين، وكان أثر الضجة التي رددتها الصحف والأندية الثقافية حول هذه المحاكمة أن قانون التحريم سقط بالإهمال، ثم بالإلغاء.
إلا أن الباحثين الدينيين عدلوا أخيرًا عن التحريم بقوة القانون إلى مناقشة المذهب بالبراهين العلمية، فأخذ منهم فريق في تفسير المذهب بالمعنى الذي يوافق الروايات الدينية بمعانيها الرمزية، وأخذ الفريق الآخر في إنكاره بالأدلة العلمية التي استند إليها العلماء ولا يزالون يستندون إليها إلى هذه الأيام.
إنه لمن المحتمل جدًّا أن السجلات الجيولوجية الباقية لا تحملنا إلى أبعد من منتصف العمر الذي عمرته الحياة على الكرة الأرضية.
فليس في السجلات الجيولوجية دليل ولا قرينة تؤيد القول بتطور الإنسان من نوع آخر، وأهم من ذلك أنه لا يوجد أمامنا دليل يؤيد تحول الأنواع في عالم الحيوان أو عالم النبات، وإنَّ تشابُهَ الأجنة الذي يتخذه بعض النشوئيين دليلًا على التشابه القديم بين أنواع الحيوانات دليل مكذوب؛ لأن صور الأجنة الصحيحة لا تبرز هذا الشبه، وما عدا ذلك من الصور المتشابهة فهو مزور باعتراف واضع تلك الصور العالم الألماني أرنست هكل؛ فإنه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له أنه اضطر إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المائة من صور الأجنة لنقص الرسم المنقول.
ولم يدع بيشوب دليلًا علميًّا بغير تعقيب عليه يستند إلى أقوال العلماء المختصين، فقال: إن حصان الحفريات على أقدم صورة لها يثبت من نسبته إلى نوع الخيل غير الأسنان، وإن الطائر الذي قيل إنه الحلقة المفقودة بين الزواحف والطيور لم يتبعه قط في تسلسل الحفريات طائر ذو أسنان.
وأيًّا كان نظام التطور بالنسبة إلى الخالق، فالعالم النشوئي الأمين على علمه لا يتخذه سببًا من أسباب الإلحاد، وكذلك كان والاس مؤمنًا بالعقل المدبر كما قال في كتابه عن عالم الحياة؛ إذ يقرر جازمًا باعتقاده: «إن ما تتطلبه — إطلاقًا — ولا مناص من الاستدلال عليه، هو ذلك العقل الذي هو أسمى وأعظم وأقوى من كل هذه العقول المتفرقة التي نراها حولنا، وإنه لعقل لا يقدر على تسيير هذه القوى العاملة في الأنواع الحية وعلى إرشادها وتدبيرها وحسب، بل إنه لهو بذاته ينبوع تلك القوى والعوامل، وينبوع لما هو الأساس الأول لكل ما في هذه العوالم المادية.»
•••
ويؤخذ من متابعة الفترات التي يُستعاد فيها النقاش حول أصل الإنسان أنها ترتبط بالمحن «الروحية» التي تثيرها مشكلات العالم الكبرى، وأكبرها في القرن العشرين مشكلة الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وقد تكون المناسبة لاستعادة النقاش تاريخية من قبيل الذكريات الموقوتة بالعشرات أو بالمئات من السنين، ولكنها إنما تستعاد في هذه المناسبات ببواعث الشكوك والمنازعات التي تُصاحب الحروب العالمية والفتن الاجتماعية.
ولهذا كانت نهاية الحرب العالمية الثانية دورًا من أهم أدوار البحث في مذهب النشوء بما دعت إليه من بحوث متشعبة في تنازع البقاء وإرادة القوة، وفي تفسير التاريخ بالعوامل الاقتصادية أو العوامل الفكرية والروحية، وفي هذه السنة — سنة ١٩٤٥ — تدفقت الكتب التي تعرض لهذه المباحث بأقلام علماء الطبيعة وعلماء اللاهوت، ولكن مؤلفات اللاهوتيين في هذه الفترة لم تكن دون مؤلفات العلماء الطبيعيين في حجج العلم، وشواهد التجربة، وصدق النظر في أقوال الأنصار والخصوم.
•••
وقد استفاد مؤلفو هذه المجموعة من جميع المعارك العلمية التي انتشرت بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تكن متداولة بين الكُتَّاب اللاهوتيين في الربع الأول من القرن العشرين، وأمعنوا في التفصيلات التشريحية التي كانت مجملة في الفوارق الواسعة بين تركيب القرد وتركيب الإنسان، ولا سيما الفارق المميز للإنسان الناطق، وهو قوام الفصل بين النوع الآدمي وعامة الأنواع العليا.
فهذا الفارق الواسع في الملكات العقلية يقابله فارق دقيق في تكوين الدماغ يبيِّن استحالة النطق بغير هذا التركيب الإنساني الخاص بدماغ الإنسان دون سواه؛ فالرأس الإنساني يحتوي جميع المناطق التي وضعناها في رءوس القردة، ولكنها تتخصص بمناطق أخرى تسمى بالمناطق الثانوية، أبرزها تلك المنطقة الخاصة بمراكز الألفاظ الكلامية، وهي مستحيلة بغير الاتصال الوثيق بأجهزة الكلام من عضلات الوجه والفم والبلعوم مع جهاز التنفس، سواء من جانب حركات الحس ومراكز اللمس والسمع، بل البصر كذلك.
فهناك مركز للنطق في مقدمة مراكز الحركة في الوجه، ومراكز بصرية للكلام في المنطقة الجدارية، ومراكز سمعية في الفص الصدغي، وفقدان مراكز الحركة يستتبع العجز عن الحركات المتقابلة الضرورية للنطق بغير تعطيل عمل اللسان والشفتين، كذلك تستتبع آفات البصر عجزًا عن قراءة الكلمة المكتوبة، كما تستتبع آفات السمع عجزًا عن فهم الكلمة الملفوظة وإن تيسر سماعها، ويضاف إلى هذه المراكز مراكز أخرى خلفية يرى بعضهم أنها مقر لأدق الوظائف السيكولوجية. ولا يوجد غير الشمبانزي بين القردة المعاصرة حيوان له مناطق ثانوية ذات امتداد جد ضعيف.
•••
وعلى هذه الوتيرة المطردة يؤدي هؤلاء العلماء اللاهوتيون أمانة «العلم الطبيعي» لإبراز مواضع الشبهة في أدلة مذهب النشوء وقرائنه التي ترتفع إلى قوة الدليل، فهم يوسعون الفارق غاية التوسع المحتمل في حدود المقررات العلمية، ولا يدعون فارقًا خفيًّا منها؛ وضَّحوه وكبَّروه وبلغوا به غاية الشك، وباعدوا غاية البعد بينه وبين مرجحات اليقين، ولم يقصروا ذلك على الأدلة أو القرائن التي يستند إليها النشوئيون للقول بتحول النوع الإنساني من الأنواع الدنيا، بل شملوا به كل دليل وكل قرينة تدعم فروض التحول بين نوع ونوع من الحشرات والأسماك والزواحف والطيور والفقاريات، ومنها المتسلقات وغير المتسلقات.
•••
وقُوبل مذهب النشوء باعتراض شديد بين علماء الطبيعة الذين ناقشوه بالأدلة العلمية، وطلبوا من دعاته دليلًا محسوسًا على فعل الانتخاب الطبيعي في تحول الأنواع، ولا سيما نوع الإنسان؛ فالمعترضون عليه — طلبًا للأدلة الطبيعية — لا يقلون عددًا ولا اعتراضًا عن المعترضين اللاهوتيين.
ويرى العالم البيولوجي الكبير أن نظرية التطور على أساس الانتخاب الطبيعي إنما هي نظرية منطقية، وليست بالنظرية التي تعتمد على شواهد التجربة والأدلة الحسية، قال في رده على هربرت سبنسر: «إننا لن نستطيع أن نثبت بالمشاهدة عملية الانتخاب الطبيعي»، وإن قول هربرت سبنسر: «إنه إما أن تحدث وراثة للصفات المكتسبة، أو لا يحدث تطور على الإطلاق»، إنما هو دليل منطقي، وليس بالدليل التجريبي، وهو مع ذلك ليس بالدليل الملزم في قضايا المنطق؛ لأن تعليل التطور بغير وراثة الصفات المكتسبة ليس بالفرض المستحيل.
•••
•••
فليس من السهل أن ننتظر تحول الأنواع بعد تطورها، وابتعاد أواخرها من أوائلها الموغلة في القدم، ولكننا إذا اكتشفنا سر تطور الناسلات وانعزالها بخصائص التوريث دفعة واحدة أو على درجات متقاربة، فها هنا محل الحلقة المفقودة في سلسلة الأنواع.