الدِّين وَمذْهَب دَارون
نعود فنقرر في هذا الفصل ما ختمنا به الفصل السابق، فنقول: إن مذهب التطور، أيًّا كان تفسير القائلين به لنشأة الأنواع، ليس فيه ما يصح أن يستند إليه الملحدون لإبطال الدين، أو إنكار الخالق، أو القول بخلو الكون من دلائل القصد والتدبير.
وقد نُسب القول بنشأة الأنواع من أثر الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي إلى عالِمين كبيرين من علماء القرن التاسع عشر؛ هما: شارلز دارون، وألفريد رسل ولاس، ولم يكن أحد منهما منكرًا لوجود الله.
فأولهما — شارلز دارون — كان يقول: إنه يستريح إلى الإيمان بوجود الإله في هذا الكون الكبير، ولكنه يرى أن شعوره هذا لا يلزم أحدًا أن يشعر به مثله، ولا يبلغ من شأنه أن يكون حجة علمية تقنع المنكرين.
كتب في سنة (١٨٩٧) إلى الأستاذ فرديس، صاحب كتاب «صور من الشكوك»، يقول جوابًا على سؤاله: «إنني في أشد أحوال التردد لم أكن قط ملحدًا إذا كان معنى الملحد إنكار وجود الله، وأرى على العموم — وبخاصة مع تقدم السن — أنني أحرى أن أُسمَّى (لاأدريًّا)، وأن هذا الاسم أقرب إلى الصواب في وصف تفكيري.»
يبدو لي أن استحالة القول بأن هذا الكون العجاب العظيم، وما انطوى عليه من شعورنا الواعي إنما كان وليد المصادفة، هو أكبر سند للقول بوجود الله، ولكنه سند لا أستطيع أن أقرر قوة إقناعه، كما لا أستطيع أن أغضي عن المشكلة التي تنجم مما يتخلل هذا العالم من الآلام.
إن مستر دارون يعتذر لكثرة الرسائل التي ترد إليه ولا يتيسر له الرد عليها جميعها، ويود أن يقول: إن مذهب التطور يوافق كل الموافقة إيمان المؤمن بالله، غير أننا يجب أن نذكر أن الناس يختلفون كثيرًا في تعريفهم لما يعنونه بالإله.
ويُفهم من خلاصة رأيه في سيرته التي كتبها بقلمه، أنه لا يُفرِّق بين كتب العهد القديم وكتب الديانة الهندية من حيث نسبتها إلى الوحي الإلهي، وأنه لم يقم لديه الدليل على حدوث هذا الوحي في التاريخ، ولكنه إذا أراد أن ينظر إلى المسألة الإلهية من جانب الانتخاب الطبيعي؛ فإن أنواع الأحياء كانت خليقة أن تضرب عن تجديد وجودها، واستمرار نسلها لو كانت شرور الحياة أكبر من حسناتها. وهي الحجة التي يستند إليها الملحدون في إنكارهم للمقاصد الإلهية.
وكان دارون على تردده في مسائل الغيب يشعر بقداسة الدين، ويحرص على رعاية شعور المتدينين، ولا يرتضي من العلماء أن يقحموا مذاهبهم على ضمائر الناس فيما اطمأنوا إليه من عقائدهم الروحية، فلما أراد كارل ماركس أن يهدي إليه كتابه عن رأس المال؛ كتب إليه معتذرًا وقال من رسالة محفوظة الآن بمعهد ماركس وإنجلز في موسكو: «إنني أشكر لك رسالتك الودية، وأُفضِّل أن يكون هذا الجزء من الكتاب غير مهدى إليَّ مع شكري لهذه التحية؛ إذ كان إهداؤه إليَّ يتضمن على وجه من الوجوه إقراري لما في سائر الكتاب الذي لا علم لي به. وإنني — مع غيرتي على الدعوة إلى حرية الفكر في جميع المسائل — أرى، صوابًا أو خطأ، أن المناقشات المباشرة التي تناقض المسيحية والإيمان بوجود الله قلما يكون لها أثر على جمهرة الناس، وأن خير وسيلة لتحقيق الحرية الفكرية أن تتقدم العقول تبعًا لتقدم العلوم؛ ولهذا أراني أتجنب الكتابة في أمور الدين، وأقصر كتابتي على المباحث العلمية.»
وعاش دارون بقية حياته على هذا الرأي، مؤمنًا بأن مذهبه لا يقتضي من العقل أن ينفي وجود الله، ولا أن يمس عقائد المؤمنين بوجوده، وأن الإيمان بأية ديانة من الديانات لا يتوقف على الفصل في قضية التطور إلى الرفض أو إلى القبول.
أما «ألفريد رسل ولاس» شريك دارون في القول بتعدد الأنواع من أثر الانتخاب الطبيعي وعوامل البنية الطبيعية، فقد كان مؤمنًا قوي الإيمان بوجود الإله، وكانت مراقبته لعوامل الطبيعة سببًا لتصديقه بالمعجزات وخوارق العادات؛ لأنه كان يستخلص من فعل هذه العوامل في الطبيعة أنها لا تجري على هذا المجرى لزامًا، بحكم العقل أو بحكم التفكير المنطقي، وأنها كان يجوز أن تجري على مجراها هذا، أو على مجرى آخر يساويه ويماثله في حكم العقل والأقيسة المنطقية، وإنما هي الإرادة الإلهية التي أوجبت هذا النظام نتيجة لتلك العوامل، فليست المعجزة التي يريدها الله أغرب من نظام العوامل المطردة في ظواهر الكون، ومرجعها جميعًا إلى الإرادة الإلهية على اطراد أو على استثناء.
•••
ومن عقيدة صاحبي المذهب في مسائل الغيب، نفهم أن العلماء والمفكرين في الغرب ينقسمون هذا الانقسام، وأن القول بأن عالمًا من العلماء أو فيلسوفًا من الفلاسفة يقبل مذهب التطور، على تعدد معانيه، لا يدلنا على رأي محدود يراه في الدين المسيحي، أو في الدين عامة؛ لأنه يجوز أن يكون من المؤمنين، كما يجوز أن يكون من المنكرين أو المترددين، حسب المنهج الذي ينهجه في تفكيره وأساليب استدلاله.
ومن المفكرين والعلماء من كان يجعل التطور أساسًا لعقيدته الروحية أو الفكرية، وأشهر هؤلاء بين فلاسفة القرن العشرين «برجسون» الفرنسي، و«هويتهد» الإنجليزي، وهو عدا اشتغاله العميق بالبحوث الرياضية والفلسفية رجل من رجال الدين، وعالم من علماء اللاهوت.
ويكثر بين العلماء الطبيعيين من يعتبرون التطور دليلًا على النظام، ويعتبرون النظام دليلًا على وجود الخالق، ومنهم أعضاء في مجمع العلوم الملكي؛ كالأستاذ «جلادستون» الذي يقول: «كثير منا نحن المسيحيين من رجال العلم من يدركون أن هناك وحدة في النظام، ووحدة في الغاية، تبدوان من خلال النظر إلى خلائق الله، ونحن ندين بأن مذهب دارون عن بقاء الأنسب لا يبطل فكرة التدبير الإلهي، أو فكرة النظام المقصود، بل يؤكد هذه الفكرة، ويمهد لنا سبيل النظر إلى الوسائل التي اختارتها العناية الإلهية لتدبير مقاصدها منذ القدم، فنرى أنها نتيجة قانون منتظم، وليست مجرد سلسلة من المفاجآت المتفرقة.»
•••
أما المنكرون من علماء الطبيعة، فحجتهم في الإنكار أن العقيدة الدينية تقوم على الخوارق والمعجزات، وأنه لا سبيل إلى التوفيق بين عقيدة تقوم على خرق قوانين الطبيعة، وبين علم يقوم على تفسير الكائنات بما تقتضيه هذه القوانين.
وأشهر القائلين بهذا الرأي بين علماء الطبيعة «إرنست هيكل» الألماني، و«توماس هكسلي» الإنجليزي، وهو أقرب إلى الاعتدال في الإنكار من زميله.
فهيكل يقول: «إن العقيدة الدينية تعني دائمًا تصديق معجزة خارقة، وهي بهذه المثابة قائمة على مناقضة ينقطع الرجاء في التوفيق بينها وبين عقيدة العقل الطبيعية، وهي — على خلاف سنن العقل — تذهب إلى فرض العوامل فوق الطبيعية، ويحق من أجل ذلك لمن يشاء أن يسميها خرافية، أو غير طبيعية، وإن ذلك الوحي المدَّعَى الذي تأسست عليه عقائد المسيحية ليس مما يتفق مع أثبت النتائج التي وصل إليها العلم الحديث.»
وهكسلي يقول: «إننا — أمام الأمور التي لا شك في بُعدها عن الاحتمال — لا نقول إننا محقون في طلب البرهان المقنع لتصديق وقوع المعجزة الخارقة، بل نقول: إن الواجب الأدبي يتقاضانا أن نجد هذا البرهان قبل أن نأخذ تلك المعجزة الخارقة مأخذ الجد والاعتبار، ولكننا إذا كنا — بدلًا من الوصول إلى ذلك البرهان المقنع — لا نرى أمامنا إلا حكايات نجهل كيف نشأت ومتى نشأت بين أناس يستطيعون أن يصدقوا كل التصديق أن الشياطين تتلبس بأجسام الخنازير؛ فإنني أصرح بأن شعوري إنما هو شعور الدهشة من أن أرى الإنسان العاقل ينظر إلى شهادة هؤلاء نظرة جدية.»
•••
وعلى مثل هذا المحور يدور الخلاف بين الفريقين اللذين يتفقان في قبول مذهب التطور، ولكنهما لا يتفقان في الحكم على دلالته من الوجهة الدينية، ولكن هذا الاختلاف لا يرجع إلى المذهب في ذاته، وإنما يرجع إلى طريقة النظر إليه وطريقة التفكير التي تعودها ذهن العالم أو الفيلسوف، فربما خرج الذهنان بنتيجتين متناقضتين من فكرة واحدة يراها أحدهما برهانًا على وجود الله، ويراها الآخر مغنية عن البحث في إثبات وجود الله.
وقد سأل نابليون بونابرت أكبر علماء الفلك في زمانه — لا بلاس — عن مكان العناية الإلهية في حركات الأفلاك، فكان جوابه أنه لا يرى لها مكانًا فيما يعلمه من تلك الحركات، كأنه يقول: إن قوانين الحركة وحدها تفسر دورة الفلك تفسيرًا يغني عن النظر إلى علة أخرى وراءها، وهو أسلوب من التفكير يناقض أساليب الذهن الذي يراقب دورة الفلك، ويعلم أن العقل لا يستلزم حصولها على هذا الوجه دون غيره، وأنه لا بد إذن من البحث عن الإرادة التي اختارت لها هذا الوجه من الحركة فانتظمت عليه.
ولعل الفارق بين هذين النمطين من التفكير يتعلق بالنظرة إلى النظام والمعجزة، فمن كان من القائلين بالتطور، مؤمنًا بالعناية الإلهية؛ فطريقته في التفكير أن يستدل بانتظام الخلق على وجود الخالق، وأن يرى بعد ذلك أن المعجزة لا تستغرب مع الإيمان بالقدرة الإلهية والحكمة التي تستدعيها، إذا كان هناك ما يستدعي صنع المعجزات في رأيه.
ومن كان من القائلين بالتطور، معطلًا للعقيدة الدينية؛ فطريقته في التفكير أن التوفيق متعذر بين تفسير الكائنات بالقوانين الطبيعية، وبين خرق هذه القوانين لإثبات عقائد الدين.
لكن الرأي الأخير الغالب على علماء اللاهوت المسيحيين أن معارضة الرؤساء من رجال الدين لمذهب التطور، عند إعلانه قبل مائة سنة، لم يكن من سداد الرأي في شيء، وأن هذه المعارضة ينبغي أن تُحسب على أصحابها، ولا تُحسب على الديانة المسيحية التي لا تأبى التفسير على وجه موافق لمذهب التطور على أقواله المتعددة، ويُعبِّر عن هذا الرأي في كتاب مؤلف لهذا الغرض عالِمٌ من أكبر علماء الرياضة وعلماء اللاهوت المعاصرين، وهو الأستاذ كولسون، عضو مجمع العلوم الملكي وصاحب كتاب «العلم والعقيدة المسيحية»، ومدار الرأي فيه كله على هذه الفكرة، سواء فيما يرجع إلى مذهب التطور أو إلى غيره من مذاهب العلم الحديث.