سِلْسِلَة الخَلْق العُظْمى
سلسلة الخلق العظمى مذهب يوازي مذهب التطور، ويتمشى معه في معظم الطريق، ولكنه لا يبتدئ معه من البداية، ولا ينتهي إلى الغاية.
وصفوة القول بسلسلة الخلق العظمى أن الوجود درجات متفاوتة في ترتيب الضعة والشرف، تبتدئ من المادة الأولى التي لا صورة لها، وترتفع إلى مرتبة الوجود الإلهي الذي تمحض له العلم والخير، فهو علم لا يعرض له الجهل، ولا يحتجب عنه سر، وخير لا يشوبه الشر ولا يقع له في إرادة.
وهذه السلسلة العظمى كاملة في انتظامها لكل حلقة من حلقات الوجود، وكل قابلية من قابليات الصفات والأعراض، فلا تفرغ السلسلة العظمى من إحدى هذه الحلقات، ولا يعقل أن توجد في الإمكان قابلية لشيء قط ولا توجد في الواقع مع حلقة من حلقات الوجود السفلي أو العلوي.
•••
والرائد الأكبر لهذا المذهب بين الأقدمين أفلاطون الملقب بالحكيم الإلهي، فهو الذي وضَّح هذا المذهب توضيحًا فلسفيًّا، وبناه على حجة عقلية، وهي أن الإله — وهو خير محض — يأبى له كرمه أن يضن على شيء، كائنًا ما كان، بنعمة الوجود، فمهما يبلغ من حقارة شأنه فهو مستحق لحصته من الوجود في مرتبته من الخلق، ومستحق لأن يصعد من هذه المرتبة إلى ما فوقها بنعمة من الله، وبما ركَّب في طبائع الأشياء من شوق إلى الكمال.
والراجح أن هذا المذهب وصل من الهند إلى حكماء اليونان من طريق العبادات السرية التي عُرِفت باسم النحل «الأورفية»، وأسبق ناقليه من كبار الفلاسفة اثنان؛ هما: فيثاغوراس وإمبدوقليس، وكلاهما يقول بتناسخ الأرواح، ويتنطس في معيشته على نظام الرياضة الصوفية والرياضة البدنية، وبين أتباعهما من كان يجمع بين التقشف ومراس الرياضة البدنية، ويفوز في مبارياتها العامة.
وقد كان فيثاغوراس يجتنب أكل اللحوم، ويقسم الأغذية إلى: صالحة للروح، وغير صالحة لها لأنها بهيمية، وكأنه كان يُحرِّم أكل اللحوم لأنها مأكل السباع، ويُحرِّم أكل الفول وما إليه لأنه مأكل البهائم، ويحسب أن الأرواح تنتقل بين الأجساد لترتفع أو تهبط في درجات الخلق ومراتب البهيمية والروحانية، وله من الأقوال المقتضبة ما يشبه مذهب الهند في الدورات الأبدية التي يحسبونها بعدد مقدور من ألوف السنين، مع قسمة السنين إلى شمسية وكونية.
•••
وجاء بعده إمبدوقليس، فقسَّم درجات المادة، واعتبر العناصر الأربعة أشرفها وأعلاها، وسمَّاها بالجذور قبل أن تُعرَف باسم العناصر وتُسمَّى بعنصر النار، وعنصر الهواء، وعنصر الماء، وعنصر التراب.
•••
وقد كان لفلسفة أرسطو نصيب غير قليل من الأثر في توجيه عقول الأوروبيين منذ القرون الوسطى إلى مذاهبهم أو أقوالهم، في سلسلة الوجود العظمى؛ لأنه رتَّب الموجودات على حسب نصيبها من الحس، وقارب بين النبات والحيوان فجعلهما مشتركين في «النفس» النامية، وكاد أن يجعلها رتبة من رتب العقل يتوسط فيها النبات بين الجماد والحيوان، ولم يكن في تصنيفه للكائنات فاصل حاسم بين الحيوان وما دونه؛ لأن «التولد الذاتي» كان في تقديره من الممكنات، وانقضت بعده القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث قبل أن تظهر للعلماء استحالة تولد الحيوان من غير الحيوان.
وتقبَّل اللاهوتيون الأوروبيون فكرة السلسلة العظمى كما وصلت إليهم من مفكري العرب ومتصوفتهم، فلم يجدوا فيها تناقضًا ينكرونه بين القول بخلاص الإنسان بالإيمان، وقول سقراط وأفلاطون: إن العقل هو الصفة الإلهية التي يتحلى بها الإنسان، ويعلو بها من أفق الخلائق الدنيا إلى أفق النعمة الإلهية، وإن الإنسان بمعرفته للأشياء يحتويها ويملكها، ويؤتمن على تدبيرها محاكاة لقدرة الله على تدبير الخير لمخلوقاته؛ فإن التناقض بين خلاص الإنسان بالإيمان، وخلاصه من أوهاق المادة بالعقل والمعرفة، يبطل ويزول متى اعتقد المفكر أن العقل الرشيد سبيل إلى الإيمان بالله، والتعويل على البركة الإلهية في تطلعه إلى النجاة والخلاص.
ولم يصطدم الرأيان من بعض الجوانب إلا بعد ظهور فلسفة إبيلارد (١٠٧٩–١١٤٢م)، الذي فسَّر السلسلة العظمى بأنها لازمة ضرورية تستوعب كل الممكنات، فيستحيل أن يوجد شيء غير ما هو موجود؛ لأن الخالق في علمه وقدرته يعلم جميع الممكنات، ولا يعجز عن تحقيق ممكن منها يتعلق بعلمه وإرادته، فأنكر عليه معاصره برنارد دي كليرفو (١٠٩١–١١٥٣)، داعية الحرب الصليبية الثانية، ذلك التفسير وقال: إنه يناقض ما ينبغي أن نؤمن به من غضب الله على الخطيئة والرذيلة، ومن إنعامه بالخلاص على الخطاة.
وكان القديس توما الإكويني (١٢٢٦–١٢٧٤) يميل إلى تأييد برنارد في اعتراضه على تفسير إبيلارد، ويكاد يعيد ردود الغزالي على ابن رشد في مثل هذه المناقشة، فيقول: إن خَلْق الله لهذه الموجودات على سنتها التي أودعها فيها لا ينفي قدرته على خلق غيرها زائدًا عليها، ولا ينفي قدرته على خلقها مرة أخرى في صورة غير هذه الصورة، فليس انتظام سلسلة الخلق مانعًا أن تنتظم لها حلقات غير هذه الحلقات، وسلسلة غير هذه السلسلة مع استيعاب الله لجميع الممكنات؛ لأن التبديل في الممكنات غير مستحيل.
وعاد البحث في مكان الإنسان بعد كشف كوبرنيكوس لدوران الأرض حول الشمس، وتجدد المناقشة عن مركز الخليقة وعن مكان الإنسان على هذا المركز المختار؛ فقد يجوز أن يكون للعالم الأرضي نظراء له من العوالم السماوية، وأن يكون لتلك العوالم سكانها من الخلائق العقلاء، ولكن هذه المناقشة لم تزعزع أساس الفكرة التي تسلسل الموجودات من أدناها إلى أعلاها في العالم المعروف، وفي كل عالم يمكن أن يُعرف قياسًا عليه، وظلت فكرة السلسلة العظمى غالبة على الباحثين في مركز الإنسان من الخليقة، وقال بها فلاسفة الشعراء كما قال بها فلاسفة الحكمة والدين إلى زمن قريب، وعلى أساس هذه الفكرة نظم الشاعر الإنجليزي إسكندربوب (١٦٨٨–١٧٤٤) قصيدته الكبيرة التي سماها: مقالة عن الإنسان، وقال فيها يخاطب الإنسان:
وهذا هو مكان الإنسان الأوسط، بين حلقات هذه السلسلة العظمى «التي إذا انكسرت إحداها وقع الخلل في سائرها».
وجاء بعده شاعر آخر هو جيمس تومسون صاحب قصيدة الفصول (١٧٠٠–١٧٤٨)، فنظم الوجود من طرفي هذه السلسلة العظمى «بين الكمال الذي لا حد له، وبين حافة الهاوية السفلى والعدم المرهوب».
•••
وتوقف البحث في سلسلة الخلق العظمى بعض التوقف بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ولكنه لم ينقطع، ولا نعتقد أن الانقطاع عن البحث يعرض لمسألة الإنسان ومركزه من الكون في زمن من الأزمان، وإنما انقطع البحث فترة يسيرة، ليتجدد بكل ما يُستطاع من قوة مع البحث في مذهب التطور، وفي علوم الأحياء عامة، وعلم الإنسان خاصة، على هذا النطاق الواسع الذي يشمل اليوم علم الحياة أو «البيولوجي»، وعلم الحيوان «الزولوجي»، وعلم الأجناس البشرية «الأنثولوجي»، وعلم الإنسان «الأنثروبولوجي»، عدا مباحث شتى تتصل بالمعلومات العامة عن الإنسان ومركزه بين الكائنات في آراء علماء الطبيعة، وآراء الفلاسفة والمفكرين.
•••
ونعود إلى السلسلة العظمى عند العرب الذين نقلوا أهم مصادرهم إلى الأوروبيين، فنقول: إنهم عرفوها — كما تقدم — من مصادر شتى، ولم يجعلوها دستورًا عامًّا يحيط بالموجودات، ويقرر للإنسان مكانه على مذاهب القائلين بتلك السلسلة؛ لأن مكان الإنسان كما ورد في آيات القرآن الكريم أغناهم عن القول بمكان له ينسبه إلى سلسلة الخلق، ويلحقه بها لزامًا على طريقة الأقدمين في إلحاقه بغير الخلائق الآدمية.
وإنما عُرفت لحكماء العرب أقوال تشير إلى ترتيب السلسلة في مواضع متفرقة من بحوث العلم أو الدين.
ومنها ترتيب آفاق الموجودات كما تقدم في فصل «التطور قبل مذهب التطور» من هذا الكتاب.
ومنها الكلام على «النفس والروح والعقل» والتفرقة بين مراتبها، ابتداء من النفس التي كان أرسطو يجعلها قوة مشتركة في الخلائق النامية، إلى الروح التي تعلو على النفس في هذا الاعتبار، ويمتاز بها الإنسان عمَّا دونه، إلى العقل، وهو الصفة الإلهية التي يتحلى بها الإنسان، ويقترب بها من أفق الخالق أو المحرك الذي تقترب منه الموجودات بمقدار حركتها إليه، وأشرفها حركة الإنسان إلى المعرفة، وشوقه إلى الكمال.
•••
وعُرف القول بالعالم الأكبر والعالم الأصغر بين المتصوفة، كما جاء في أبيات تُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، ولم تتحقق نسبتها إليه، ومنها عن الإنسان:
إن هذا الشوق ربما ساق الإنسان على منهج قويم وقصد صحيح، حتى ينتهي إلى غاية كماله، وهي سعادته التامة، وقلما يتفق ذلك. وربما اعوجَّ به عن السمت والسنن، وذلك لأسباب كثيرة يطول ذكرها، ولا حاجة بك إلى علمها الآن وأنت في تهذيب خلقك. فكما أن الطبيعة المدبرة للأجسام ربما شوقت إلى ما ليس بتمام للجسم الطبيعي؛ لعلل تحدث به، وآفات تطرأ عليه، بمنزلة من يشتاق إلى أكل الطين وما جرى مجراه، مما لا يكمل طبيعة الجسد، بل يهدمه ويفسده.
كذلك أيضًا النفس الناطقة ربما اشتاقت إلى النظر والتمييز الذي لا يكملها ولا يشوقها نحو سعادتها، بل يحركها إلى الأشياء التي تعوقها وتقصر بها عن كمالها، فحينئذ يحتاج إلى علاج نفساني روحاني كما احتاج في الحالة الأولى إلى طب طبيعي جسماني، ولذلك تكثر حاجات الناس إلى المقوِّمين والمنفعين، وإلى المؤدبين والمسدِّدين؛ فإن وجود تلك الطباع الفائقة التي تنساق بذاتها من غير توقف إلى السعادة عسرة الوجود، لا توجد إلا في الأزمنة الطوال والمدد البعيدة.
وهذا الأدب الحق الذي يؤدينا إلى غايتنا يجب أن نلحظ فيه المبدأ الذي يجري مجرى الغاية، حتى إذا لحظت الغاية تدرج منها إلى الأمور الطبيعية على طريق التحليل، ثم يبتدئ من أسفل على طريق التركيب. وينبغي أن يعلم أن كل إنسان معد نحو فضيلة ما، فهو إليها أقرب، وبالوصول إليها أحرى، ولذلك تصير سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر، إلا من اتفق له نفس صافية وطبيعة فائقة، فينتمي إلى غايات الأمور، وإلى غاية غاياتها، وأعني السعادة القصوى التي لا سعادة بعدها.
ويرى المتصوفة أن المعرفة معرفتان كما يرى الحكماء من أمثال ابن مسكويه، ولكنهم يقسمونها إلى معرفة لدنية ومعرفة كسبية، ويقصدون بالمعرفة اللدنية ما يدركه الإنسان بالإلهام والاستشراق، ويهتدي إليه برياضة النفس وقمع الجسد، وهي معرفة غير معرفة التعليم والدراسة، على حد قول سعيد بن أبي الخير فيما روى من كلامه عن ابن سينا: «إن ما يُرى على ضوء المصباح وصل إليه هذا الأعمى بعكازه.»
ويتممه قول ابن سينا عن الحدس الصادق أنه حالة يقابل بها عقل الإنسان مصدر العقول جميعًا، فيدرك بالإلهام والتوفيق ما ليس يدرك ابتداء بالدرس والبرهان.
•••
وفي غير هذا الفصل بيان لمذهب حجة الإسلام الإمام الغزالي في حكمة الموجودات، وحكمة خلق الإنسان بين خلائق السماوات والأرضين، وهو أمثل ما يقال عن سلسلة الخلق العظمى بتفسير أهل السنة، على هدى القرآن الكريم.