مُسْتَقبل الإنْسَان في عُلُوم الأَحيَاء
إن العلم الطبيعي حذر في تقرير مذاهبه وأحكامه، وأكثر ما يستبيحه لنفسه إذا وصل إلى شيء لم يثبت لديه كل الثبوت، ولم ير من أمانة العلم كتمانه وإخفاءه، أن يعلنه على أنه ظن مرجح، وأن موضع الشك فيه قابل للدفع والتوضيح بدليل منتظر يذكر أسباب انتظاره. وكذلك فعل دارون عند إعلانه لنظريته في تحول الأنواع.
وإذا وازنا بين حذر العلم في الحكم على الماضي وحذره في الحكم على المستقبل المحدود، فهو في الحكم على المستقبل أحذر وأقرب إلى التردد، بل إلى التوقف عن مجرد الظن إلا مشفوعًا بالاعتذار. ويرى هذا الاختلاف بين حذره من أحكام الماضي وحذره من أحكام المستقبل فيما قرره عن فعل التطور أمس وفعل التطور غدًا؛ فإن علماء النشوء استباحوا لأنفسهم أن يرجحوا وقوع تحول الأنواع وتقدم الإنسان جسدًا وعقلًا منذ ألوف السنين، ولكننا لا نعلم أن واحدًا منهم أباح لنفسه أن يتنبأ بتطور واحد سيحصل غدًا لا محالة، أو بتحول واحد مرجح لا يقابله ترجيح مثله إلى النقيض.
وعذرهم في هذا التهيب مفهوم، وهو أدل شيء على أن دلائل التطور الماضي لم تزد عند القائلين بها على أن تكون بعض الظنون الراجحة، ولم تبلغ عند عالم جدير بصفة العلم أن تكون علم يقين.
عذرهم أن العالم يرسم الطريق كلما تكلم على الماضي ليس إلا، ولكنه ينشئ الطريق ويتمشى فيه كلما أنشأ جزءًا منه حين يسير إلى المستقبل، ولا يتساوى من يفتح طريقًا ومن لا يزيد عمله على رسم طريق.
وطفق الأستاذ يقلب وجوه النظر ويعادل بينها حتى بلغ نهاية محاضراته وهو لم يجزم قط بمصير محدود، سوى أنه رجح بعض الفروض، ولم ينسَ أن يذكر أنها فروض تحيط بها الشكوك والاحتمالات.
قال مثلًا: إن الإحصائيات في بريطانيا العظمى دلت على تكاثر نسبة المواليد الذكور بعد الحروب، وإن بعضهم فسَّر ذلك بأن الطبيعة تعمل لتعويض النقص على عادتها في كثير من المشاهدات، فهو تفسير ليس بالغريب، ولكنه قد يبطل اليقين به أن هذه الزيادة أيضًا قد شوهدت في أمم لم تفقد أبناءها في الحرب، ولم تكن من الأمم المقاتلة.
وقابل الأستاذ بين طرائق الإحصاء، ومنها طريقة المقارنة بين سنة وسنة، وهي غير وافية بالمقارنة الدقيقة، وبين طريقة اختيار طائفة من الرجال والنساء وتسجيل ما يحدث لهم على مدى الفترات الطوال، كل عشرين أو ثلاثين سنة، وقال: إنها طريقة لم تكن ميسرة الوسائل قبل السنين الأخيرة، ولكنها تيسرت الآن لانتظام الإحصاء في شتى مظاهر الحياة، ومنها تسجيل نسبة الجنسين، وتسجيل معدل العقود الزوجية، وسن الذكر وسن الأنثى عند الزواج، وتسجيل هذه السن عند ولادة كل مولود أو مولودة. وهذه الطريقة تفيد ما لا تفيده الطريقة الأولى عند تعليل تعويض المواليد للوفيات؛ لأنها تُبيِّن الوقت الذي تحدث فيه أوائل المواليد، وتُبيِّن للقائمين بالإحصاء هل يزيد العدد لزيادة الخصوبة العائلية، أو لزيادة الوقت المحدود للإحصاء.
ولم يتقبل العالم البيولوجي بالارتياح عبارة المتشائمين الذين يفهمون من كلمة الانحدار أو هبوط الاستعداد الحيوي أن النوع الإنساني سينحدر حتى ينقرض، وقال: إن العبارة «متحف من النقائض»؛ فإننا إذا استطعنا بالعناية أن نحتفظ إلى اليوم بأناس كانوا — لولا ذلك — قد أصبحوا أمواتًا قبل عشر سنوات، فنحن كيفما كانت الحال نعيش اليوم ولا نعيش قبل عشر سنوات، كذلك يمكن أن تعصف نازلة من النوازل بالعقاقير التي تداوي بعض الأمراض، فلا يكون مآل ذلك إلا أن الذين سيموتون غدًا قد يموتون اليوم بدلًا من ذلك.
والمشاهد من أطوار جراثيم «البكتريا» أن لها خاصية عجيبة، وهي خاصية الاحتياط لمعالجة الأضرار التي قد تطرأ في المستقبل، وربما وجدت في الناس خاصة كهذه يدل عليها نجاة فريق منهم من الأوبئة والعلل المنتشرة، وكمون ضرب من المناعة يزود خلاياهم الناسلة بمثل ذلك الاحتياط لمقاومة آفات المستقبل. وقد يدهش السامع — بعد كل ما عرف عن الوراثة — أن يعلم أنه لم توجد بعد فكرة وافية عن الأمور التي تُفعَل والأمور التي تُجتنَب لتحسين نتائج الحيوان بالانتخاب الصناعي.
ويؤخذ من استطراد العالم البيولوجي في أمثال هذه العوامل الجينية أن العلم بها يفتح آفاقًا من فروض التغييرات المحتملة يقصر عنها وسع النبوءة والتوقع، وأن الاستعانة بالمعارف المستحدثة تُمكِّن الإنسان من معرفة وسائل التحسين في الذرية، ووسائل اتقاء الانحطاط فيها، ولكن هذه الوسائل لم تضبط — بعدُ — على يقين من نتائجها.
ولكن ترقية النسل لا تعتمد كلها على ضبط هذه الوسائل الجينية؛ لأن هناك وسائل التفكير أو وسائل الخصائص التي قد تنتقل بالوراثة من الدماغ.
إنني في هذه المحاضرة الأخيرة سأبحث في الكائنات البشرية عن وسيلة جديدة — غير الوسيلة الجينية — للوراثة والتطور مبنية على خصائص وحركات مصدرها الدماغ.
وإن وجود هذه الوسيلة أمر تعرفونه جيد المعرفة، فلم يكن البيولوجيون هم أول من أفضى إلى الإسراع إلى التصديق بأن الكائنات البشرية ذات أدمغة، وأن الأدمغة تُحدث فروقًا شتى، وأن الإنسان قادر على أن يؤثر في الأعقاب الآتية بوسيلة غير الوسيلة الجينية. وإن كثيرًا مما قرأت في أقوال البيولوجيين ليلوح عليه أنه لا يفيدنا بشيء يزيد على ما ذكرت لكم، وإني لأحس أن البيولوجي مطالب بأن يسهم بنصيب يساعد على فهم الأصول البعيدة التي تتفرع عليها الأخلاق وضروب السلوك، وهو ما أحاوله الآن. ولا بد أن تأتي هذه المحاولة مستندة إلى التفكير الصلب لا إلى التفكير «الناعم»، وأعني بذلك تفكيرًا يُعرف له حيز واقع، وتُدرك له تفصيلات بينة، مقابلًا للتفكير الذي يجد متنفسه في الكلمات المونقة، والعبارات المفخمة الشعرية.
وأراني أقارب الوضوح البين إذا عبَّرت عن ذلك بمثال محسوس، وأسألكم أن تعيدوا إلى الذكر ذلك الفارق الهام بين الصندوق العازف والجهاز الحاكي «الجرامفون».
فالصندوق العازف جهاز يحتوي قالبًا أو أكثر من قالب من قوالب الجرامفون، يعيد للسمع كل ما أودعه عند لمس زر معلوم، وأسمي لمس ذلك الزر بالباعث أو المحرض، وهو باعث مقصور على القالب الذي يؤدي إلى سماعه، فهو مؤثر واحد يأتي بأمر واحد بينهما هذه العلاقة المتبادلة. وإنني أبعث الصندوق بلمس الزر — أي زر — إلى إحداث نغمة موسيقية، ولكنني إذا اخترت زرًّا معينًا، فالباعث هنا يدعوه إلى إحداث نغمة دون سائر النغمات الموسيقية، والتوجيهات الموسيقية في هذه الحالة جزء من الصندوق، وليست جزءًا من البيئة المحيطة به، وكل ذلك راجع إلى تركيب الصندوق، فليس ضغطي على الزر توجيهًا للصندوق في أداء نغماته الموسيقية.
والآن تقابلون بين هذا وبين عمل الجرامفون أو أية أداة أخرى تؤدي لنا النغمات الموسيقية: إن لدي قوالب موسيقية أقوم بتحريك بعض المفاتيح، وأضع القالب على الجرامفون، والقالب منقول إليه من البيئة المحيطة؛ فذلك باعث كباعث الصندوق العازف إلى أداء الأنغام الموسيقية، ولكنه يضيف إلى الباعث هناك شيئًا أكثر من ذلك، وهو الخطوط المرسومة التي تمر بها الإبرة فتبعث منها الأنغام المؤداة، وليس لدى الجرامفون مصدر للتوجيهات الموسيقية، وإنما هو القالب الذي جاء إلى الجرامفون من البيئة الخارجية، فكانت علاقتي به — إذن — علاقة تعليمية، لأنني — بمعنًى من المعاني — قد علمته كيف يؤدي النغم المسموع.
ونحن في الحالتين صنعنا الصندوق، وصنعنا الجرامفون، وأعددنا كلًّا منهما للعمل الذي يؤديه، ولكن هذه الحقيقة لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر في مغزى الاختلاف بين عمل هذه الأداة وعمل تلك؛ فلنذكر هذا الاختلاف فيما يلي من المقارنات.
منذ عشر سنوات، اتجه البيولوجيون إلى العلم بأن الأجهزة الحية العليا أشبه بالصندوق العازف منها بالجرامفون، وأن كل ما كنا نحسبه من قبل حركات تعليمية هو في الواقع حركات تنبيهية ليس إلا، أي أن تحريك الكائن الحي يحدث شيئًا هو نتيجة تركيبه وليس — كما كان مظنونًا — نتيجة شيء من الخارج، فليست الآثار المستقرة في الجهاز الحي خطوطًا مرسومة على قالب يديره ذلك الجهاز، ولكنها آثار جينية مودعة في الصبغيات وحوامض الخلايا.
واسمحوا لي أن أُبيِّن بعض الأمثلة لهذه الحقيقة: فأقدم الأمثلة وأشيعها مثل التغيير الذي يعتري جمهورًا من الناس عرض له التطور، فكيف نُصنِّف البواعث التي تفعل فعل التطور في الأجهزة الحية؟ إن النظرية اللاماركية التي تقول بوراثة الصفات المكتسبة، هي على أعمها تنظر إلى البواعث التعليمية، وتعني أن البيئة على نحو من الأنحاء قادرة على إعطاء تأثيرات تعليمية للأجهزة الحية، وأن هذه التأثيرات إذا سرت في البيئة سريانًا حسنًا أمكن أن تنتقل بالوراثة إلى أعقابها.
فالحداد الذي طالما ضرب به المثل لتعزيز هذه الملاحظة، يستفيد قوة في ذراعيه من طرق الحديد، فتؤثر هذه القوة في الخلايا التي تنشئ بذوره المنوية، وتنتقل من ثم إلى أبنائه، فيولد هؤلاء الأبناء وفيهم استعداد لتربية الأذرع القوية، ولست أفيض في مناقشة التجارب التي تكررت لامتحان العوامل اللاماركية، وحسبي أن أجملها فأقول: إنها جميعًا أسفرت عن نتائج غير لاماركية، ودلت على مؤثرات تنبيهية وليست تعليمية.
ومثل آخر من الأمثلة الشائعة هو مثل البكتريا إذا أُعطيت طعامًا غير طعامها المألوف، أو تعرضت لعقار مضر بقوامها، فإنها في هذه الحالة قد تُوفِّق بين قوامها وبين الطعام الجديد، أو تُزيل ضرر العقار وتلغي مفعوله. وقد سميت هذه العملية زمنًا باسم تدريب البكتريا، على اعتبار أنها عملية قادت البكتريا إلى تعلم طريقة جديدة لتوليد الخمائر من طعامها، ولكنها تسمية لم تلبث طويلًا حتى تبين خطؤها، وتبين أن هذه العملية وسيلة تنبيهية وليست بالوسيلة التعليمية؛ فليس في وسع البكتريا أن تنشئ خميرة غير التي هي مفطورة على إنشائها، وكل ما حدث عند تغيير الطعام أنه نبَّه الاستعداد الذي لم يكن له منبه قبل ذلك، وهو استعداد كامن في التركيب، وليس بالتعليم المستفاد من فعل الطعام أو العقار.
ويصدق هذا على تطور الحيوان، فقد كثر الجدل زمنًا بين أنصار القول بالتنبيه وأنصار القول بالتعليم؛ إذ كان الأولون يرون أن كل تطور فإنما هو نشر لما كان مطويًّا هناك، وكان المتطرفون منهم — وطالما تعرضوا للسخرية — يرون أن بذرة النسل إنما هي إنسان صغير. أما الآخرون فعندهم أن العوارض التي تعمل في تكوين الجنين إنما هي بواعث تعرض له مما حوله. ولعل الحقيقة وسط بين هذين الطرفين، فالعوامل الجينية تتم لأنها كامنة هناك، ولكنَّ استيفاءها رهين بالعوامل الخارجية عنها.
وإلى نحو سنتين كنا نشعر أن ضربًا من النمو يتم في أجهزة الحيوانات العليا بفعل البيئة، على اعتبارها مُوجِّهًا أو معلمًا، على النحو الذي نشاهده عند تلقيح الأنسجة بمادة خارجية يؤدي إلى إنشاء البنية لمادة بروتينية خاصة، أغلب ما يكون عملها أن تحول دون تلك المادة والإضرار بالبنية؛ مما يكون له أثره في الوقاية من عدوى الأمراض.
ومع البوادر التي توحي بأن هذه العملية تعليميةٌ أخذ كثيرون من البيولوجيين يشكون في ذلك، ويعتقدون أنها لا تعدو أن تكون تنبيهية في جوهرها. ونعود إلى الصندوق العازف مرة أخرى.
وبعدُ، فأي ظفر يتاح لنا لو أمكن البنية أن تتلقى التعليم من البيئة، وأن نجعل هذه البيئة قادرة على أن تُعلِّمَها ولم يكن قصارى قدرتها أن تُنبِّه ما فيها؟ ربما قال لنا زائر قدِم إلى هذا الكون من كون غريب عنه قبل بضعة ملايين من السنين: نعم، إنه لظفر عظيم، وإنني لألمح سره، وأفهم أن هذا السر يحل مسألة التوفيق والموافقة بين الحي والبيئة، ويجعل الكائنات الحية مهيأة للنمو والتطور على صورة أوفى وأسرع من صورة التطور بفعل الانتخاب الطبيعي، لولا أنها صعبة جدًّا، وأنها ليست مما يُستطاع.
إلا أنكم تعلمون أنها استطيعت، وأن هنالك جهازًا قابلًا لأن يتلقى التعليمات من الخارج، وهو جهاز الدماغ.
وإننا لنعلم القليل من أسرار هذه المسألة، وهو ما نفهم منه مقدار تعقدها واشتباك وظائفها؛ فإن تطور الدماغ قد كان آية رائعة في هذا الوجود، وهو — ولا ريب — أعظم الآيات بعد آية الحياة نفسها.
على أنني أظن أن الدماغ إنما نشأ في مبدأ أمره كذريعة للتنبيه، وأن السلوك الغريزي إنما هو ذلك السلوك الذي تستجيب به البنية لتنبيه المؤثرات الخارجية، فإذا لقحت دجاجة بهرمونات الذكر أخذت هذه الدجاجة في سلوك — كسلوك الديك — لم يكن أصله بعيدًا من تكوينها.
ولكن وظائف الدماغ العليا تستجيب للمؤثرات التعليمية، فنحن نتعلم، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يسري من جيل إلى جيل كما تسري الخطابات المتسلسلة التي تبدأ بكتابة خطاب إلى أحد الناس، وتسأله أن يبعثَ به إلى غيره ويوصيَ ذلك الغيرَ بأن يبعث به كذلك إلى آخر وآخر، إلى غاية الشوط الميسور؛ فيتعلم الأب ويُعلِّم ابنه كيف يُعلِّم حفيده وابن حفيده، وهكذا على مدى الأجيال.
ومن المهم جدًّا أن نُميِّز بين أربعة أدوار في تطور الدماغ؛ أولها: الجهاز العصبي، وقد نشأ لتنبيه البنية، ثم دور الدماغ، وفيه تتلقى الكائنات الحية التعليم من الخارج، ثم دور الوراثة من طريق غير الطرق الجينية يأتي من قدرة الدماغ الدقيق التركيب على شيء أكثر من تلقي التعليم، وهو تسليمه إلى آخرين. وإنه لعامل خاص بالنوع الإنساني، لعله قام بعمله الهامِّ منذ خمسمائة ألف سنة. أما الدور الرابع فهو شديد الشبه بالدور المتقدم، ولكنه لا يماثله تمام المماثلة، ونعني به دور التطور الذي يشمل الجماعة كلها، وقد تضاعف عمله منذ مائتي سنة.
ونسأل بعد هذا: ما الذي نستفيده مما تقدم؟ فنقول: إن الاغترار بالمشابهات خطر؛ لأنه يغض من أثر الاختلافات، فالمشابهة بين تطور الفرد وتطور الجماعة لا يجعلهما عملية واحدة في مجرى الحوادث ولا في عواقبها؛ فصناعة الحداد تورث ولا شك، ولكن وراثتها من طريق الناسلات والصبغيات — أو ما نسميه بالطرق الجينية — غير مستطاعة.
وفائدة التمييز بين التطور الفردي وتطور الجماعة أن نُبعد عن أذهاننا فكرة القوانين الطبيعية التي تعمل في الحالتين على سُنَّة التغييرات الجينية، أو الفكرة التي تقول لنا: إن الجماعة لا بد أن تولد وأن تموت كما يتعاقب الموت والولادة على الكائنات الحية، أو الفكرة التي توحي إلينا ترك الجهد في تحسين الجماعة اعتمادًا على أن الطبيعة أخبر وأدرى.
ونحن إذن نستطيع أن نُهذِّب الطبيعة، ولكن استطاعتنا هذه مرهونة بمقدار ما نملك من وسائل الغوص على أسرارها وخفاياها، ومثابرتنا على زيادة محصولنا من العلم بما يجري فيها. ولست أقول: إن الإنسان مدفوع بغريزة تحفزه إلى الكشف والاستطلاع، وإنه مسخر أبدًا في طلب الحقيقة، فإن الحيوان أيضًا مزود بما يمكن أن يُسمَّى على الإجمال حبًّا للتطلع أو التجسس، ولكن هذه الغريزة وإنْ بلغت غايتها من الإحكام والقوة لا تُقيِّدنا، ولا ينبغي أنْ نكون مدفوعين دفعًا إلى الاستطلاع.
وإنَّ أولئك الذين يبسطون لنا قوانينهم عن مقاصد الطبيعة يقاربون حدود الخطر والوبال، وما علينا إلا أن نذكر عاقبة الدعوى التي زعم أصحابها أن الإنسان مزود أبدًا بنزعة النضال والقتال ونحن نقابل بيننا وبين أنواع الحيوانات الأخرى؛ فنرى على التحقيق أن الفارق بيننا وبينها في هذه الخصلة هو: أن الأجراس التي تدق لنا دقات التنبيه إنما هي كأجراس الماشية بجبال الألب معلقة بأعناقها، فلا لوم على أحد سوانا إذا لم نسمع منها ما يرضينا.
هذه خلاصة مقتبسة من كلام العالم البيولوجي اقتباسًا تحرَّينا فيه تصوير معناه، ولم نلتزم حروف نصوصه، ومجمل هذا المعنى أن مستقبل الإنسان الطبيعي مستكن في كيانه، وأنه يملك وسائل التهذيب الاجتماعي، ولكنه لا يقدر على إحداث أثر لم تكن مولداته مطوية في استعداده، وأن الأجراس التي تدق له دقات الخطر على حياته النوعية أو الفردية هي نفسها جزء من تلك الحياة، وكذلك العلاج الذي يحتال به على الخطر، بعد الانتباه إليه، إنما هو من عقار أرضه ووصفات طبه.
قال: «ونعيد مرة أخرى أن التطور لن يكون مفهومًا إلا إذا سلمنا أنه خاضع لغاية، وأنها غاية بعيدة مقدورة.»
إن بعضهم قد يرى أننا على مسافة بعيدة من اليوم الذي يصبح فيه الإنسان وقد تطور التطور الذي يجعله أهلًا لأن يشعر بضميره، وألا يكون كل حقه في المعاملة أن يعامل كما يعامل الطفل القاصر، وربما صح هذا، ولكنه — إذا صح — كان خليقًا أن يصبح سببًا للاتجاه بجهوده إلى تلك الغاية.
وإن الإنسان المتطور قد بلغ حالة من نمو الضمير تيسر له أن يوسع أفق النظر، وأن يلمح الدور العظيم الذي يضطلع به في إنجاز غايات التطور، فليس الإنسان كذلك الحيوان الأعمى الذي يعمل في أعماق البحر ولا يدري أنه يبني بعمله جزيرة مرجانية سوف تعمر بالكائنات التي هي أصلح منه وأعلى؛ لأن الإنسان يعمل وهو يعلم أنه رائد للسلالة المقبلة التي ستكون على وجه من الوجوه وليدة سعيه وجهده.
وعلى كل إنسان أن يذكر أن القانون قد كان، وسيبقى كما كان، وأن يناضل، وأن النضال لم يهدأ لأنه تَحوَّل من الميدان المادي إلى ميدان الروح، وعليه ألا ينسى أن كرامته، باعتباره كائنًا آدميًّا، ينبغي أن تصدر من جهاده في تحرير نفسه، وأن ينقاد في ذلك الجهاد لأعمق البواعث من قرارة وجدانه، ولا ينسى أبدًا أن الشرارة الإلهية كامنة في تلك القرارة، في قرارته دون غيره، وأنه هو حر قادر على أن يهملها وأن يقتلها، قدرته على أن يقترب من الله، وأن يعرب عن غيرته على العمل مع الله، والعمل في سبيل الله.
ولقد آل تطور الإنسان عند غير البيولوجيين إلى تطور الإنسان الصانع، وقيام الصناعة الكبرى مقام الصناعات الصغيرة التي بدأت منذ مئات القرون، فجعلت الإنسان سيد الخليقة حين جعلته قادرًا على العمل بيديه، واختراع الآلة المصنوعة لإنجاز عمله. وستفعل الصناعة الكبرى بأيدي المجاميع البشرية فعل الأداة الحجرية قبل مئات القرون بيد الإنسان الأول، إذ لم تكن له قدرة على الحيوان الأعجم غير تلك الأداة.
ولا نخال أن أحدًا عبَّر عن هذا الرأي تعبيرًا أدنى إلى الفهم من تعبير الأستاذ رسل هاريسون في كتابه «ماذا يكون الإنسان؟» فإنه ترك لغة «بابل» الحديثة: لغة البلبلة العلمية بين الفروض الصريحة والفروض المبهمة، والمقابلات من هنا والمعارضات من هناك، ووضع أمل التطور حيث ينبغي أن يوضع، إن كان له موضع على الإطلاق، وذلك هو موضعه في «الشخصية الإنسانية».
فلا مستقبل للإنسان إن لم يكن مستقبلًا لشخصيته الكاملة، ولا تطور لهذه الشخصية إن لم تكن شخصية «ذات جوانب»، ولم تكن جوانبها براء من النقص والخلل.
إن الشخصية الإنسانية عاطفة وعقل وضمير، وليست مجرد أعضاء ووظائف وخلايا وأعصاب. ومعنى تطور الإنسان في الذهن أن تتم له هذه الشخصية بعدما نبتت له بذورها مع أطواره الماضية، وليس في الواقع ما يمنع «الشخصية الإنسانية» أن تتحقق كما تحققت في الذهن فكرة قابلة للتمام.