أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ
خُيِّل إلى علماء القرن السابع عشر من الغربيين أنهم مطالبون بتغيير كتاب العلم من الألف إلى الياء، وأن تعريف شيء من الأشياء بأنه من عقائد القرون الوسطى كافٍ لرفضه ولإعادة بحثه، ثم إعادته إلى الاصطلاح بمدلول جديد.
وأول هذه التعريفات المتبدلة تعريف الإنسان حسب موضعه من هذا العالم؛ لأن الإنسان لم يزل في كل عصر، وفي كل علم، وفي كل عقيدة مقياسًا لما عداه من خلائق هذا العالم، بل مقياسًا للعالم أجمع، يتبدل النظر إليه كلما تبدل النظر إلى الوجود بأسره.
ولم يتبدل النظر إلى مركز الكرة الأرضية من الأجرام السماوية، حتى خُيِّل إلى كثير من الفلكيين والجغرافيين أن حقائق السماوات والأرضين قد تغيرت؛ لأن الكرة الأرضية مركز الإنسان.
وأعيد «تصنيف» هذا النوع الحيواني، فذهب بعضهم بعيدًا في تقسيمه إلى عناصر، وإلى الرجوع بكل عنصر منها إلى نوع من القردة الأوائل، كما سيجيء في الكلام على آراء النشوئيين القائلين بالتطور والارتقاء.
والذين قالوا: إنه نوع واحد لم يرتابوا في تقسيمه إلى «عناصر» أو سلالات تكاد — لولا التناسل فيما بينهما — أن تعتبر أنواعًا مستقلة بتراكيب أبدانها وعقولها، بل قال بعضهم: إن تجارب العلم لم تثبت إمكان التناسل بينها، ولم تنفِ إمكان التناسل بين بعضها وبعض أنواع القردة المشابهة للبشرية، ويجب أن نتمهل قليلًا قبل التحقق من أن السلالات الإنسانية كلها قابلة للتوالد فيما بينها، كما يتوالد ذكور الحيوان وإناثه من النوع الواحد بغير عائق للنمو في دور الحمل ودور الطفولة.
والذين قنعوا باختلاف العناصر والسلالات لم يقنعوا بالقليل من فوارق هذا الاختلاف؛ فمنهم من كاد يجعل السلالة «الآرية» نوعًا «سيكولوجيًّا» يضارع النوع «البيولوجي» في الاختلاف، وفي قابلية «التفاهم» والتعامل و«تناسل» العواطف والأفكار.
وعادوا بعد الحرب العالمية الثانية إلى التراجع السريع في هذا «التصنيف»، الذي خُيِّل إلى أصحابه قبل جيل واحد أنه حقيقة واقعة تستغني بالنظر عن البرهان، وما كانوا ليسرعوا هذا الإسراع في التراجع لولا بلاء «الإنسانية» بعواقب ذلك «التصنيف» الوبيل؛ لأنه التصنيف الذي سوَّغ لعنصر من العناصر أن يستبيح السيادة على الأمم عنوة، وأن يستكثر حق الآدمية على تلك الأمم التي لم يدخلها معه في قرابة الإنسان للإنسان.
فمن كبار علماء الأنواع في العصر الحاضر من يقول، كما جاء في كتاب «قرن من مذاهب دارون»: «إن التفرقة بين عناصر النوع الإنساني اعتساف أو توسع في التعبير، فقد نُقسِّم النوع الإنساني إلى عنصرين كبيرين يسكن أحدهما في القارتين الآسيوية والأوروبية والأمريكتين، ويسكن الآخر في أفريقية وبلاد الملايا والقارة الأسترالية، فإذا أردنا المزيد من الحصر، فقد نُقسِّمها حسب الألوان إلى بيضاء وصفراء وحمراء وسوداء وسمراء، ونزيد حصرًا فنبلغ بها ثلاثين، ولا يمنعنا أن نجعلهم مائتين إلا صعوبة التفاهم على هذا التقسيم.»
•••
فحوى هذا أن فوراق العناصر فوارق أسماء وعناوين، وأن «الإنسان» أسرة واحدة على تعدد أبنائها، وتعدد أقسامها، واختلاف الألقاب اللغوية التي تُطلق على تلك الأقسام.
•••
فحوى هذا أن القرآن قد وضع الإنسان — علمًا ودينًا — في موضعه الصحيح، حين جعل تقسيمه الصحيح أنه «ابن ذكر وأنثى»، وأنه ينتمي بشعوبه وقبائله إلى الأسرة البشرية التي لا تفاضل بين الإخْوة فيها بغير العمل الصالح، وبغير التقوى.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: ١٣).
وقد نسميهم باصطلاح الأسماء «أممًا» كثيرة كلما تباعدت بينهم المواطن، وتحيزت بهم الحدود، وتشعبت بينهم العقائد واللغات، ولكنهم قبل هذا الاختلاف أمة واحدة لها إله واحد: هو رب العالمين.
•••
فإذا كانوا قد تعددوا شعوبًا وقبائل كما جاء في الآية الشريفة، فإنما كان هذا التعدد أقوى الأسباب لإحكام صلة التعارف بينها، وتعريف «الإنسانية» كلها بأسرار خلقها؛ فإن تعدد الشعوب والقبائل يعدد المساعي والحيل لاستخراج كنوز الأرض، واستنباط أدوات الصناعة، على حسب المواقع والأزمنة، وعلى حسب الملكات والعادات التي تتفتق عنها ضرورات العيش والذود عن الحياة، فينجم عن هذا ما لا بد أن ينجم عنه من تعدد الحضارات، وأفانين الثقافة، وتزداد «الإنسانية» عرفانًا بأسرار خلقها، وعرفانًا بخالقها، واقترابًا فيما بينها، وتضطر إليه اضطرارًا لما تحسه من اشتباك منافعها، وسريان الضرر من قريبها إلى بعيدها: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (الروم: ٢٢).
وهذا هو حكم القرآن في وحدة بني الإنسان، وفي تدعيم هذه الوحدة بما يحسبه الناظر المتعجل بابًا من أبواب الإفراق والتباين، وهو تعدد الشعوب والقبائل واختلاف اللغات والألوان: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (يونس: ١٩). كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (البقرة: ٢١٣). وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (هود: ١١٨). وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (المائدة: ٤٨).
إن هذه الوحدة في صلة الإنسان مشدودة الأزر بالوحدة بين الناس كافة في الصلة بالله — ربهم ورب العالمين — الذي يُسوِّي بينهم، ويدينهم بالرحمة والإنصاف، ثم لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه إلا بقسطاس العدل، أيهم أحسن عملًا وأقرب إلى التقوى واستباق الخيرات: وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (البقرة: ١٦٣). قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (الكهف: ١١٠). إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: ٩٢). قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (الأنبياء: ١٠٨).
ولقد كان من الحق في ذمة العلم أن يتريث علماء المقابلة بين الأديان طويلًا عند هذه المرحلة العظمى في تاريخ العقيدة، وفي تاريخ الفكر، وفي تاريخ القيم الأخلاقية، بل في تاريخ الحياة الإنسانية من مطلعها، في ظلمات الماضي المجهول، إلى هذا الأوج السامق الذي ارتفعت إليه بعد ألوف السنين، وما كانت لترتفع إليه بعمل ولا عقيدة غير العقيدة في رب واحد هو رب العالمين.
إنها لم تكن كلمة في موضع كلمة، ولم تكن صفة من صفات التقديس بديلًا من صفة مثلها، ولم تكن رمية من غير رامٍ على لسان ناسك ذاهل يقول في تسبيح المعبود كيف يقول.
إنها لم تكن لفتة من لفتات الساعة تهيم بالنظر الشارد في تيهٍ من السحر والكهانة، ثم لا تبالي أن تعود إلى خلفها كما تعود إلى أمامها على غير هدى.
لو كانت كذلك لذهبت في غمار الكلمات والأوهام، ولم يبالِ من لفَظ بها أو استمع إليها أن يعيدها مرتين.
ولكنها كانت قبلة يستقبلها الإنسان على سواء لم يكن بَالِغَهُ لو لم يعتدل إليه في مطلع الطريق، وهيهات — على غير هذه القبلة — أن ينتظم للإنسان مسلك معقول إلى الرشد والضمير.
إن قيم الأعمال والأخلاق لا قوام لها مع الإيمان برب هو رب هذا القبيل أو هذا الشعب، بين من خلق الله من قبائل لا يختارها وشعوب لا ينظر إليها.
وإن هذه القيم لغو عند أناس يحيق بهم الذنب وما اقترفوه، ويهبط عليهم الغفران وما صعدوا إليه، ويتقلبون بين النقمة والنعمة بغير جريرة من إثم، وبغير شفاعة من توبة، وبغير نية للإساءة ولا نية للتكفير.
إن العالم الإنساني كلمة غير مفهومة عند من يدين برب غير رب العالمين، وإن قيم الأخلاق كيل جزاف حين تنقطع الأسباب بين الحسنات والسيئات، وبين الثواب والعقاب، وإن «الإنسانية» الجامعة شيء لا وجود له قبل أن يوجد «الإنسان المسئول».
وإنما توجد «الإنسانية الواحدة»، ويتساوى الإنسان والإنسان مع الإله الواحد الأحد، رب الناس ورب العالمين أجمعين، أفضلهم عنده أتقاهم وأصلحهم وأسبقهم إلى الخيرات.
وما التقوى؟
التقوى كلمة واحدة تجمع كل وازع يزع الضمير.
وأقدر الناس على أمانة التقوى أقدرهم على النهوض بالتبعة، وأعرفهم بمواضع المعروف والمنكر، والمباح والمحظور.
والإنسان التقي مرة أخرى هو الإنسان «الإنسان».
ما هذه التقوى التي يتعلق بها كل فضل للإنسان عن رب العالمين؟
لو شاء فلاسفة الأخلاق لعلموا ما هي هذه التقوى، وعلموا حقًّا أن موازينهم جميعًا لا تحسن الترجيح بين فضل وفضل، وبين قدرة وقدرة كما تحسنه هذه «التقوى» التي يحسبونها «تسبيحة» من تسابيح المعابد، ويُخيَّل إليهم أنها أفشل من أن تنفع العالم المحقق في مقام الموازنة والتفضيل، فليس بين فاضل ومفضول قط من رجحان غير رجحان الأفضل في القدرة على التبعة، بما طاب لهم من ألوان التبعات.
هي موضع الرجحان للعالِم على الجاهل، وللرشيد على القاصر، وللذكي على الغبي، وللقادر على العاجز، وللمهذب على الفدم، وللمجدود على المحروم، وللغني على الفقير، وللسيد على العبد، وللحاكم على المحكوم، ولصاحب الخلق المكين على صاحب الخلق الهزيل، ولكل فاضل — بالإيجاز — على كل مفضول، وما من ميزان آخر ينفع فلاسفة الأخلاق في طائفة من هذه الخصال إلا خذلهم في طائفة غيرها، بل في أكثرها وأحوجها إلى الموازنة والتفضيل.
فليست «جملة» الإنسان ماثلة في تفضيل العلماء على الجُهلاء، أو الراشدين على القُصَّر، أو الأذكياء على الأغبياء، أو غير هؤلاء على غير هؤلاء من الفاضلين على المفضولين؛ فإن العالم يفضل الجاهل بالعلم ولا مراء، ولكنه قد يئوب مفضولًا عند المقابلة بينهما في باب من أبواب الخبرة، أو نزعة من نزعات الفطرة.
وهكذا كل راجح وكل مرجوح بميزان المال أو النسب أو الخلائق والعادات، ولكننا إذا حكمنا بأن إنسانًا يفضل إنسانًا بالقدرة على تحمل التبعات، فهو الراجح لا مراء في كل ميزان من موازين المفاضلة بين بني الإنسان، وكل قيمة تحسب للإنسان فهي داخلة في هذا الحساب، فإن جاز أن تهمل ويبقى الإنسان بعدها أهلًا للرجحان بالتبعات؛ فهي مهملة حقًّا ولو كان لها شأنها في غير هذا الإنسان.
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: ١٣).
صدق الله العظيم، إنه لهو القسطاس الذي ينشئ «للإنسانية» حقوق المساواة بين أبنائها دينًا وعلمًا، وفلسفة وشريعة، وإلهامًا من الوحي الإلهي، وتمحيصًا من البديهة الإنسانية.
ومكان الوحي الإلهي في هذه المساواة أنها قد شرعت للإنسان شريعتها حقًّا من حقوق الخلق والتكوين، ولم تشرعها له وسيلة من وسائل الحكم، وإجراء من «إجراءات» السياسة في إبان الخطر المطبق خيفة من ثورة النفوس، وتنافسًا على عدد الأصوات في معارك الانتخاب؛ فإن أحدًا ممن خولهم القرآن تلك المساواة لم يطلبها، ولم يكن لينالها قبل أن تنزل عليه من وحي رب العالمين، ولكنها لم تنشأ في حضارة من حضارات العالم القديم أو الحديث إلا كان وراءها حيلة، أو وسيلة سياسية، أو مراوغة تمليق وتسكين.
ولولا حروب أثينا وإسبارطة، وحروب رومة وفارس، وحروب الأمم في القرن العشرين، لما سمع «ديموس» بشيء يسمى الديمقراطية، ولا رضخ «الديموقراطيون» المتأخرون بشيء لذوي المعاول والمناجل، أو لذوي الألوان المجندين للمصانع والمعسكرات، ولا سمع العالم بمساواة بين بني آدم لا فضل فيها لأحد منهم على أحد بغير العمل الصالح وتقوى الله.