المادة من الداخل
الذرَّات
افترض اليونانيون القدماء أن المادة تتكون من ذرَّات. كان هذا مجرد افتراض لا تدعمه أي أدلة تجريبية وبالتالي لا يمكن اعتباره نقطة بداية للكيمياء الفيزيائية. لقد جمع جون دالتون (١٧٦٦-١٨٤٤) الأدلة التجريبية على وجود الذرَّات في أوائل القرن التاسع عشر عندما أتاح الميزان الكيميائي إجراء القياسات الكميَّة في التفاعلات التي تخضع لها المادة. واستنتج دالتون من قياساته وجود الذَّرَّات؛ إلا أنه لم تكن لديه وسيلة لتقدير أحجامها الفعلية. ولم يكن يعلم بأنه بعد قرابة قرنين من الزمان، وتحديدًا في أواخر القرن العشرين، سيتمكن العلماء من رؤيتها أخيرًا.
من وجهة نظر عالِم الكيمياء الفيزيائية، تتكوَّن الذَّرَّة من «نواة» مركزية، صغيرة، ثقيلة، موجبة الشحنة تحيط بها سحابة من «الإلكترونات» الأخف وزنًا بكثير والسالبة الشحنة. ولا يهتم الكيميائيون كثيرًا بالتفاصيل الخاصة ببنية النواة في حد ذاتها ويكتفون باعتبارها مجموعة شديدة الترابط من نوعين من الجسيمات الأساسية؛ «البروتونات» الموجبة الشحنة و«النيوترونات» المتعادلة كهربائيًّا. ويحدد عدد البروتونات الموجودة في النواة، أو «العدد الذَّرِّي» للذَّرَّة، هوية العنصر (١ للهيدروجين، و٢ للهيليوم، وهلم جرًّا، وصولًا حتى الآن إلى ١١٨ لليفرموريوم). وعدد النيوترونات هو تقريبًا نفس عدد البروتونات (صفر للهيدروجين العادي، و٢ للهيليوم العادي، ونحو ١٧٠ لليفرموريوم). وهذا العدد متغير قليلًا، وينشأ عنه «النظائر» المختلفة للعنصر. ومن وجهة نظر عالم الكيمياء الفيزيائية، تُعد النواة بنية دائمة إلى حد كبير ذات ثلاث خواص مهمة: فهي المسئولة عن معظم كتلة الذَّرَّة، وهي موجبة الشحنة، وفي الكثير من الحالات تلف بشكل مغزلي حول محورها بمعدل ثابت.
وثمة نواة محددة ستضطلع بدور مهم في هذا السرد؛ ألا وهي نواة ذرة الهيدروجين. تتكون نواة الهيدروجين — بشكله الأكثر شيوعًا — من بروتون واحد، وهو عبارة عن جسيم أساسي موجب الشحنة يلف بشكل مغزلي بلا توقف. وعلى الرغم من بساطته الشديدة، فهو يتمتع بأهمية قصوى في الكيمياء ويشكل محور تفكير علماء الكيمياء الفيزيائية فيما يخص الذَّرَّات بوجه عام وفي بعض التفاعلات التي تشارك فيها. وهناك نظيران آخران للهيدروجين؛ إذ يحتوي الديوتيريوم («الهيدروجين الثقيل») على نيوترون إضافي يرتبط بالبروتون برابطة قوية، ويحتوي التريتيوم على نيوترونين. ولهذين النظيرين دور ضئيل في سياق بقية هذا الكتاب، ولكن لكل منهما خواص تهم الكيميائيين من الناحية التقنية.
البنية الإلكترونية للذَّرَّات
يولي علماء الكيمياء الفيزيائية اهتمامًا كبيرًا للإلكترونات التي تحيط بنواة الذَّرَّة: فهنا يحدث النشاط الكيميائي ويعبر العنصر عن هويته الكيميائية. والنقطة المهمة التي يجب علينا تذكرها في هذا المقام هي أن عدد الإلكترونات في الذَّرَّة مماثل لعدد البروتونات في النواة. والشحنة الكهربائية للإلكترونات والبروتونات لها نفس المقدار ولكنها متضادة، ومن ثَم فإن تلك المساواة في العدد تضمن أن تكون الذَّرَّة في المجمل متعادلة كهربائيًّا. لذا، فإن لذَرَّة الهيدروجين إلكترونًا واحدًا حول نواتها، ولذَرَّة الهيليوم إلكترونين، ولذَرَّة الليفرموريوم ١١٨ إلكترونًا، وهلم جرًّا.
وتلعب ميكانيكا الكم دورًا محوريًّا في تفسير توزيع الإلكترونات حول النواة. ويُعد «نموذج بور» المبكر للذَّرَّة — وهو النموذج الذي اقترحه نيلز بور (١٨٨٥-١٩٦٢) في عام ١٩١٣، مفترضًا وجود إلكترونات في مدارات تحيط بالنواة ككواكب مصغرة والمُستخدم على نطاق واسع في الرسومات المنتشرة لشكل الذرة — نموذجًا خاطئًا من جميع النواحي تقريبًا، إلا أنه من الصعب محوه من مخيلة العامة. ويرى تصور ميكانيكا الكم للذَّرَّات أنه لا يمكن تحديد مسار محدد حول النواة ليدور فيه الإلكترون، وأن «المدارات» الكَوكَبيَّة الخاصة بنظرية بور غير موجودة ببساطة، وأن بعض الإلكترونات لا تدور حول النواة من الأساس.
يستند فهم علماء الكيمياء الفيزيائية للبنى الإلكترونية الخاصة بالذَّرَّات إلى نموذج شرودنجر لذَرَّة الهيدروجين، الذي وضعه في عام ١٩٢٦. كان إرفين شرودنجر (١٨٨٧–١٩٦١) أحد مؤسسي علم ميكانيكا الكم، وفي إحدى النزوات الشهوانية — على حد وصفه — أثناء قضاء إجازة مع إحدى عشيقاته، وضع المعادلة التي تحمل اسمه وحل لغز موقع الإلكترون في ذَرَّة الهيدروجين. فبدلًا من نموذج المدارات، وجد أنه يمكن للإلكترون أن يتخذ واحدة من عدة توزيعات متنوعة أشبه بالموجة حول النواة، تُسمى «دوالَّ موجية»، وكل موجة تتوافق مع مستوى معين من الطاقة.
استخدم علماء الكيمياء الفيزيائية حلول شرودنجر لذرة الهيدروجين واتخذوا منها نقطة انطلاق لنقاشهم حول ذَرَّات جميع العناصر. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت ذَرَّة الهيدروجين محورية جدًّا لفهمهم الكيمياء. وهم يطلقون على التوزيعات الإلكترونية الشبيهة بالموجات «المدارات الذرية»، مما يشير إلى وجود صلة ما بمدارات بور إلا أنها تشير إلى شيء أقل تحديدًا من المسار الفعلي للإلكترونات.
مع ظهور المزيد من التغيرات المُعقدة في المدارات الأخرى. وسأعقب بنقطتين في هذا الصدد.
أولًا، للكيمياء الفيزيائية تخصص فرعي يُعرف باسم «الكيمياء الحاسوبية». وكما يوحي اسمه، يستخدم هذا التخصص الفرعي أجهزة الكمبيوتر لحل معادلات شرودنجر في نُسخها الأكثر تعقيدًا والتي تنشأ عند التعامل مع الذرات والجزيئات. سأتناول الجزيئات في موضع لاحق من هذا الكتاب؛ ولكنني أركز هنا على المشكلة الأبسط كثيرًا للذرات المفردة، التي جرى التعامل معها بعد صياغة معادلة شرودنجر بفترة قصيرة جدًّا عن طريق القيام بعمليات حسابية يدوية بالغة التفصيل. الآن، صارت الذرات في جوهرها مشكلة تافهة بالنسبة إلى أجهزة الكمبيوتر الحديثة، وصارت تُستخدم لصياغة توصيفات شديدة التفصيل لتوزيع الإلكترونات في الذرة ومستويات الطاقة المدارية. لكن على الرغم من أن علماء الكيمياء الفيزيائية يستطيعون الآن حساب الخواص الذرية بدقة كبيرة بضغطة زر واحدة تقريبًا، فإنه يروقهم وضع نماذج للذرات تمنحنا نظرة ثاقبة على بنيتها وتقدم لنا فهمًا بدلًا من مجرد سلسلة أرقام. ويُستعان بهذا الفهم بعد ذلك في الكيمياء غير العضوية والعضوية بالإضافة إلى أجزاء أخرى من الكيمياء الفيزيائية. لقد طورت النماذج بِناءً على الطريقة التي يؤثر بها التنافر بين الإلكترونات الموجودة في ذرات عناصر أخرى غير الهيدروجين على مستويات الطاقة المدارية ونمط شغل الإلكترونات لهذه المدارات.
لا يمكن لأكثر من إلكترونين شغل أي مدار، وإذا شغل إلكترونان ذلك المدار، يجب أن يلفا بشكل مغزلي في اتجاهين معاكسين.
سنستخدم تلك الصيغة من المبدأ، والتي تناسب الكثير من التطبيقات في الكيمياء الفيزيائية.
-
H[1] He[2]
-
Li[3] Be[4] B[5] C[6] N[7] O[8] F[9] Ne[10]
-
Na[11] …
وعند هذا الموضع، تتحول الكيمياء الفيزيائية إلى «كيمياء غير عضوية»، أي الكيمياء الخاصة بجميع العناصر. فالكيمياء الفيزيائية فسرت البنية العامة للجدول الدوري، أما الكيمياء غير العضوية فتستكشف العواقب. ومن اللافت للانتباه، في رأيي، أن الأفكار البسيطة جدًّا حول وجود المدارات ومستويات الطاقة الخاصة بها، مقرونة بمبدأ يحكم شغلها، تفسر العلاقات بين العناصر، كما يتضح من الجدول الدوري.
خواص الذَّرَّات
لا يتخلى علماء الكيمياء الفيزيائية عن دراسة الذَّرَّة عند هذا المستوى ويسلمون الراية إلى علماء الكيمياء غير العضوية. وإنما يواصلون الاهتمام بالخواص المتنوعة للذرات التي تنشأ من بنيتها الإلكترونية وتلعب دورًا في التحكم بالشخصية الكيميائية الخاصة بالعناصر.
وتأتي «طاقة التأيُّن» في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، وهي الطاقة اللازمة لنزع إلكترون واحد أو أكثر من الذرة. كما سنرى، تحدد القدرة على انتزاع الإلكترونات من الذرة على نحو جزئي أو كلي أنواع الرابطة الكيميائية التي تستطيع الذَّرَّة أن تكونها، ومن ثَم تلعب دورًا كبيرًا في تحديد خواصها. وتتتبع طاقة التأيُّن بشكل أو آخر أنماط نصف القطر الذري ولكن بصورة معاكسة لأنه كلما اقترب الإلكترون من النواة الموجبة الشحنة، كان من الصعب انتزاعه. وبالتالي، تزداد طاقة التأيُّن عند الاتجاه من يسار الجدول الدوري إلى يمينه حيث تكون الذرات أصغر حجمًا. وبالاتجاه إلى أسفل أي مجموعة، تقل طاقة التأيُّن لأن الإلكترون الخارجي (ذلك الذي يسهل انتزاعه) يبتعد عن النواة على نحو متزايد تدريجيًّا. وبإمكان العناصر الموجودة يسار الجدول الدوري أن تفقد إلكترونًا أو أكثر بسهولة معقولة: كما سنرى في الفصل الرابع، تتمثل إحدى النتائج في أن هذه العناصر تُعد فلزات. أما العناصر الموجودة على يمين الجدول فتأبى بشدة أن تفقد الإلكترونات ومن ثَم فهي ليست فلزات (إنها «لا فلزات»).
ويأتي «الميل الإلكتروني» في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية، وهو الطاقة المنبعثة عندما يُضاف إلكترون إلى ذَرَّة. ويكون الميل الإلكتروني عند أقصى حد في العناصر الموجودة يمين الجدول الدوري (بالقرب من عنصر الفلور؛ تجاهل الحالة الخاصة للغازات النبيلة). ويمكن أن تسع هذه الذرات الصغيرة نسبيًّا إلكترونًا في طبقة السحابة الخارجية الممتلئة بشكل غير كامل وبمجرد أن يصل إلى هناك يستطيع التفاعل بقوة وعلى نحوٍ مُواتٍ مع النواة القريبة.
الرابطة الأيونية
«الرابطة الكيميائية» هي ما يربط الذَّرَّات المتجاورة معًا لتكوين البنى المُعقدة الخاصة بالعالم من حولنا. وتنشأ جميع الروابط الكيميائية من تغيرات في توزيع الإلكترونات في الذرات المتحدة، وبالتالي فإن تكوينها يقع بشكل كبير جدًّا ضمن اختصاص علم الكيمياء الفيزيائية.
الآن، يمكنك ملاحظة سمة ثالثة للروابط الأيونية؛ ألا وهي أنها تتكون بالأساس بين ذرات العناصر الموجودة يسار الجدول الدوري وتلك الموجودة على يمينه. تتمتع ذرات العناصر الموجودة في اليسار بطاقة تأين منخفضة، وبالتالي تكون الطاقة المستثمرة لتكوين الكاتيونات منخفضة على نحو معقول. وتتمتع ذرات العناصر الموجودة في اليمين بميل إلكتروني عالٍ إلى حد معقول، ومن ثَم يكون هناك انخفاض معقول في الطاقة عندما تكوِّن أنيونات. وتتحول هذه الخسارة الصافية (وهي خسارة دومًا، لأن طاقة التأين عالية والميل الإلكتروني في هذه الحالة لا يسعف كثيرًا) إلى ربح من خلال التجاذب الإجمالي العام بين الأيونات.
الرابطة التساهمية
تتمتع العناصر الموجودة على يمين الجدول الدوري بمستوى عالٍ من طاقة التأين بحيث إنها إذا شاركت بمفردها في تكوين رابطة، لا تتحول خسارة الطاقة إلى مكسب أبدًا. حدد علماء الكيمياء الفيزيائية طريقة أخرى تستطيع بها الذرات أن تكوِّن روابط بعضها مع بعض، لا سيما إذا أبت العناصر المشابهة الموجودة على يمين الجدول التخلي عن الإلكترونات وتكوين كاتيونات. لذا، تتوصل تلك الذرات لحل وسط: إنها «تشارك» إلكتروناتها وتكوِّن ما يُعرف ﺑ «الرابطة التساهمية».
ثانيًا، من الصعب تحديد اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها الكيمياء الفيزيائية تخصصًا مميزًا قائمًا بذاته داخل الإطار العام لعلم الكيمياء. بالتأكيد، كان هناك علماء كيمياء فيزيائية في القرن التاسع عشر؛ من بينهم مايكل فاراداي بل وروبرت بويل أيضًا (انظر الفصل الرابع) الذي عاش في وقت سابق عن ذلك تحديدًا في القرن السابع عشر، على الرغم من أنهم لم يستخدموا المصطلح آنذاك. ورغم ذلك، ظهر أحد فروع الكيمياء الفيزيائية في مطلع القرن العشرين مباشرة عندما صار الإلكترون (المُكتشف عام ١٨٩٧) عنصرًا أساسيًّا في تفسير الظواهر الكيميائية، وربما تتمثل نقطة انطلاق جيدة لهذا الفرع من التخصص في تحديد الرابطة التساهمية. ويرجع الفضل في هذا إلى الكيميائي الأمريكي جيلبرت لويس (١٨٧٥–١٩٤٦) الذي اقترح في عام ١٩١٦ أن الرابطة التساهمية عبارة عن تشارك زوج من الإلكترونات. ويُعد عدم حصول جيلبرت لويس على جائزة نوبل رغم إسهاماته العديدة والمؤثرة في علم الكيمياء بوجه عام وفي الكيمياء الفيزيائية بوجه خاص واحدًا من فضائح التاريخ الفكري.
كما أشرت آنفًا، الرابطة التساهمية عبارة عن تشارك زوج من الإلكترونات. فإذا كان للذرة طاقة تأين عالية جدًّا بحيث يصعب معها تكوُّن كاتيونات بسبب الطاقة اللازمة لذلك، فلربما اكتفت بالتخلي جزئيًّا عن سيطرتها على أحد الإلكترونات. علاوة على ذلك، ربما تستعيد قدرًا من هذا الاستثمار الضئيل للطاقة من خلال التشارك في إلكترون توفره ذرة أخرى ذات سلوك مشابه شريطة انخفاض مستوى الطاقة بشكل عام. لقد استخدمت عمدًا مفردتين تشبيهيتين خاصتين بالبشر، «اكتفت» و«سلوك مشابه»، نظرًا إلى أن مثل هذه المفردات عادةً ما تتسلل إلى محادثات الكيميائيين كمختصرات لما يقصدونه فعلًا، وهي الإشارة إلى التغيرات الحادثة في الطاقة المصاحبة لإعادة توزيع الإلكترونات. سأتجنب استخدامها مستقبلًا؛ لأنها غير دقيقة وغير مناسبة (ولكنها عادةً ما تكون جذابة على نحو غريب وتشبه كثيرًا المحادثات غير المتكلفة، وبالتالي تساعد في تجنب التناول المتحذلق).
وليست جميع الأشياء المترابطة برابطة تساهمية هي جزيئات منفردة. فمن الممكن في بعض الحالات أن يسفر تكوين الروابط التساهمية عن شبكات موسعة من الروابط. ويعد الألماس أشهر مثال على ذلك، حيث إن كل ذرة كربون تكوِّن رابطة أحادية مع أربع ذرات مجاورة، وكل ذرة من هذه الذرات ترتبط بجاراتها من الذرات، وهكذا عبر البلورة. هذا، وسأعاود مناقشة هذه البنى في الفصل الرابع.
ميكانيكا الكم الخاصة بالروابط
على الرغم من أن جيلبرت لويس طور عدة فرضيات نظرية، فإنه لم تكن لديه أدنى فكرة عن السبب الحقيقي وراء الأهمية البالغة التي يضطلع بها زوج الإلكترونات لتكوين رابطة تساهمية. استلزم فهم ذلك انتظار تطور ميكانيكا الكم وتطبيقها شبه الفوري على نظرية رابطة التكافؤ. ومنذ ذلك الحين نمت بذور ذلك التطبيق وانبثق عنها فرع رئيسي من الكيمياء الفيزيائية، ألا وهو «الكيمياء النظرية»، أو بالأحرى «الكيمياء الحاسوبية» بالنسبة إلى من يتعاملون مع الحسابات العددية.
لقد طوَّر علماء الكيمياء الفيزيائية، بالتعاون مع الفيزيائيين في بادئ الأمر، نظريتين عن تكوين الروابط تستندان إلى ميكانيكا الكم؛ ألا وهما «نظرية رابطة التكافؤ» و«نظرية المدارات الجزيئية». لم تعد النظرية الأولى مستخدمة الآن إلا أن مصطلحاتها تركت علامة لا تُمحى في علم الكيمياء ولا يزال الكيميائيون يستخدمون الكثير من مصطلحاتها حتى اليوم. لقد اجتاحت نظرية المدارات الجزيئية المجال نظرًا إلى أنه ثبت إمكانية تنفيذها على أجهزة الكمبيوتر بسهولة أكبر. ونظرًا إلى أن مصطلحات نظرية رابطة التكافؤ لا تزال مُستخدمة في مجال الكيمياء إلا أن إجراء الحسابات قائم على استخدام نظرية المدارات الجزيئية، يجب على جميع الكيميائيين، تحت إشراف علماء الكيمياء الفيزيائية، أن يكونوا على دراية تامة بكلتا النظريتين.
وُضعت نظرية رابطة التكافؤ على يد كل من فالتر هايتلر (١٩٠٤–١٩٨١)، وفريتز لندن (١٩٠٠–١٩٥٤)، وجون سلاتر (١٩٠٠–١٩٧٦)، ثم طُورت على يد الكيميائي لينوس باولنج (١٩٠١–١٩٩٣) فور خروج ميكانيكا الكم إلى النور في عام ١٩٢٧. ويُعد هذا التعاون بين الفيزيائيين والكيميائيين نموذجًا ممتازًا للأساس الذي تقوم عليه الكيمياء الفيزيائية: كما أنه يوضح الخصوبة الفكرية التي يتمتع بها الشباب، حيث إن جميع مؤسسيها كانوا في العشرينيات من أعمارهم. وتكمن الفكرة الأساسية وراء نظرية رابطة التكافؤ في أنه يمكن كتابة الدالة الموجية لزوج الإلكترونات الذي يكوِّن الرابطة. ويكمن سبب أهمية زوج الإلكترونات في أن لكل إلكترون حركة لف مغزلي (كما ذكرت آنفًا عندما ناقشنا الذرات) ولكي توجد دالة موجية لتلك الرابطة يجب أن يلف الإلكترونان في اتجاهين متعاكسين. لاحظ أن هذا الوصف يركز على أزواج الذرات المتجاورة؛ إذ توفر إحدى الذرتين إلكترونًا يلف باتجاه عقارب الساعة، وتوفر الذرة الأخرى إلكترونًا يلف في عكس اتجاه عقارب الساعة، ويقترن الإلكترونان بعضهما ببعض. ويُظهر التحليل الدقيق للدالة الموجية الناتجة أن هذا الاقتران يسمح للإلكترونين بالاجتماع بين النواتين، ومن خلال تجاذبهما الكهروستاتيكي نحو النواتين، تلتصق الذرتان بعضهما ببعض بفعالية.
لقد كان مفهوم الرنين بمنزلة المنقذ لنظرية رابطة التكافؤ والسبب وراء انهيارها في آنٍ واحد. فقد قدم حلًّا للجزيئات الصغيرة، حيث لا يوجد سوى عدد ضئيل من البنى الرنينية، ولكنه ثبت أنه عائق كبير في حالة الجزيئات الكبيرة حيث توجد آلاف البنى التي قد تسهم في الرنين.
في البداية، صيغت نظرية المدارات الجزيئية في عام ١٩٢٧ على يد كل من روبرت موليكن (١٨٩٦–١٩٨٦) وفريدريش هوند (١٨٩٦-١٩٩٧) بوصفها نظرية منافسة لنظرية رابطة التكافؤ؛ صك مولكين الاسم في عام ١٩٣٢. ويمكن اعتبارها امتدادًا طبيعيًّا لنظرية البنية الإلكترونية للذرات. وكما رأينا، داخل الذرة تشغل الإلكترونات (أي تكون لها توزيعات تُوصف من خلال) دوالًا موجية تُسمى المدارات الذرية. وداخل الجزيء، وفقًا إلى نظرية المدارات الجزيئية، تشغل الإلكترونات دوالَّ موجية تُسمى «المدارات الجزيئية» التي تنتشر عبر كل الأنوية الموجودة في الجزيء وتساعد في ارتباط بعضهما ببعض في ترتيب مستقر. ووفقًا لمبدأ الاستبعاد لباولي، لا يمكن لأي مدار جزيئي، مثل المدار الذري، أن يستوعب أكثر من إلكترونين، ويجب أن يلفا بشكل مغزلي في اتجاهين معاكسين، وهذا يفسر أهمية الاقتران الإلكتروني الذي افترضه لويس.
على الرغم من الصعوبة البالغة لحل معادلة شرودنجر على مستوى الجزيئات، فإن علماء الكيمياء النظرية طوروا عمليات حاسوبية فعَّالة للتوصل إلى حلول عددية بالغة الدقة في هذا الصدد. وتبدأ جميع العمليات بإنشاء مدارات جزيئية من المدارات الذرية المتاحة ثم الشروع في البحث عن أفضل الأنماط. وهذا الفرع من الكيمياء الفيزيائية يخضع للتطوير المكثف نظرًا إلى أن قدرات أجهزة الكمبيوتر تتزايد. ورسومات توزيعات الإلكترونات في الجزيئات مألوفة الآن ومفيدة جدًّا لفهم خواص الجزيئات. وهذا الأمر ذو صلة خاصة بتطوير عقاقير جديدة وفعَّالة دوائيًّا؛ حيث إن توزيعات الإلكترونات تلعب دورًا مهمًّا في تحديد كيف يرتبط جزيء بآخر مما قد يؤدي إلى وقف النشاط الضار لجزيء غازي على نحو خطير.
التحدي الراهن
فُهِم تكوين الروابط على نحو كامل بمعزل عن بعض المسائل العويصة المتعلقة بدور إسهامات طاقة الوضع والطاقة الحركية وبوجود التأثيرات النسبية في الذرات الثقيلة. والآن ينصب التركيز الأساسي على الحساب الحاسوبي الفعَّال والموثوق به للبنى الإلكترونية الخاصة بالجزيئات الأكبر، وفيها الجزيئات المثيرة للاهتمام البيولوجي، والخواص الإلكترونية للأنظمة النانوية، والأوصاف التفصيلية لسلوك الإلكترونات داخل الجزيئات. وتجري نمذجة التفاعلات الكيمائية بصورة حاسوبية على نحو متزايد، مما يجعلنا نتعرف على كيف تُكسر الروابط وكيف تتكوَّن أخرى جديدة. ويُعد اكتشاف الأدوية — أي، تحديد الجزيئات أو المركبات النشطة دوائيًّا من خلال العمليات الحاسوبية بدلًا من إجراء التجارب داخل جسم الكائن الحي — هدفًا مهمًّا للكيمياء الحاسوبية الحديثة.