الفصل الأول

المادة من الداخل

إحدى الطرق لفهم كيف يفكر عالِم الكيمياء الفيزيائية ويقدم إسهاماته للكيمياء هي البدء من داخل الذرة والانتقال إلى عالم المادة في حجمها الطبيعي bulk matter. وتُعد الأجزاء الداخلية للذرة هي الموضع الذي نجد عنده الكثير من التفسيرات الخاصة بالمادة وهنا يدين الكيميائي بالفضل الأكبر للفيزياء. وداخل إطار هذا العالم، أي، داخل الذرة، تعول التفسيرات بالضرورة على ميكانيكا الكم، ذلك الوصف المحير الخاص بسلوك الجسيمات الصغيرة جدًّا. ولا ينبغي أن يؤخذ حديثنا عن أهمية الدور الذي تلعبه ميكانيكا الكم في تلك التفسيرات على أنه تحذير من أن بقية هذا الفصل ستكون عصيَّة على الفهم! فسأستخلص من تلك النظرية المضمون الكيفي الذي نحتاج إليه في هذا المقام.

الذرَّات

افترض اليونانيون القدماء أن المادة تتكون من ذرَّات. كان هذا مجرد افتراض لا تدعمه أي أدلة تجريبية وبالتالي لا يمكن اعتباره نقطة بداية للكيمياء الفيزيائية. لقد جمع جون دالتون (١٧٦٦-١٨٤٤) الأدلة التجريبية على وجود الذرَّات في أوائل القرن التاسع عشر عندما أتاح الميزان الكيميائي إجراء القياسات الكميَّة في التفاعلات التي تخضع لها المادة. واستنتج دالتون من قياساته وجود الذَّرَّات؛ إلا أنه لم تكن لديه وسيلة لتقدير أحجامها الفعلية. ولم يكن يعلم بأنه بعد قرابة قرنين من الزمان، وتحديدًا في أواخر القرن العشرين، سيتمكن العلماء من رؤيتها أخيرًا.

من وجهة نظر عالِم الكيمياء الفيزيائية، تتكوَّن الذَّرَّة من «نواة» مركزية، صغيرة، ثقيلة، موجبة الشحنة تحيط بها سحابة من «الإلكترونات» الأخف وزنًا بكثير والسالبة الشحنة. ولا يهتم الكيميائيون كثيرًا بالتفاصيل الخاصة ببنية النواة في حد ذاتها ويكتفون باعتبارها مجموعة شديدة الترابط من نوعين من الجسيمات الأساسية؛ «البروتونات» الموجبة الشحنة و«النيوترونات» المتعادلة كهربائيًّا. ويحدد عدد البروتونات الموجودة في النواة، أو «العدد الذَّرِّي» للذَّرَّة، هوية العنصر (١ للهيدروجين، و٢ للهيليوم، وهلم جرًّا، وصولًا حتى الآن إلى ١١٨ لليفرموريوم). وعدد النيوترونات هو تقريبًا نفس عدد البروتونات (صفر للهيدروجين العادي، و٢ للهيليوم العادي، ونحو ١٧٠ لليفرموريوم). وهذا العدد متغير قليلًا، وينشأ عنه «النظائر» المختلفة للعنصر. ومن وجهة نظر عالم الكيمياء الفيزيائية، تُعد النواة بنية دائمة إلى حد كبير ذات ثلاث خواص مهمة: فهي المسئولة عن معظم كتلة الذَّرَّة، وهي موجبة الشحنة، وفي الكثير من الحالات تلف بشكل مغزلي حول محورها بمعدل ثابت.

وثمة نواة محددة ستضطلع بدور مهم في هذا السرد؛ ألا وهي نواة ذرة الهيدروجين. تتكون نواة الهيدروجين — بشكله الأكثر شيوعًا — من بروتون واحد، وهو عبارة عن جسيم أساسي موجب الشحنة يلف بشكل مغزلي بلا توقف. وعلى الرغم من بساطته الشديدة، فهو يتمتع بأهمية قصوى في الكيمياء ويشكل محور تفكير علماء الكيمياء الفيزيائية فيما يخص الذَّرَّات بوجه عام وفي بعض التفاعلات التي تشارك فيها. وهناك نظيران آخران للهيدروجين؛ إذ يحتوي الديوتيريوم («الهيدروجين الثقيل») على نيوترون إضافي يرتبط بالبروتون برابطة قوية، ويحتوي التريتيوم على نيوترونين. ولهذين النظيرين دور ضئيل في سياق بقية هذا الكتاب، ولكن لكل منهما خواص تهم الكيميائيين من الناحية التقنية.

البنية الإلكترونية للذَّرَّات

يولي علماء الكيمياء الفيزيائية اهتمامًا كبيرًا للإلكترونات التي تحيط بنواة الذَّرَّة: فهنا يحدث النشاط الكيميائي ويعبر العنصر عن هويته الكيميائية. والنقطة المهمة التي يجب علينا تذكرها في هذا المقام هي أن عدد الإلكترونات في الذَّرَّة مماثل لعدد البروتونات في النواة. والشحنة الكهربائية للإلكترونات والبروتونات لها نفس المقدار ولكنها متضادة، ومن ثَم فإن تلك المساواة في العدد تضمن أن تكون الذَّرَّة في المجمل متعادلة كهربائيًّا. لذا، فإن لذَرَّة الهيدروجين إلكترونًا واحدًا حول نواتها، ولذَرَّة الهيليوم إلكترونين، ولذَرَّة الليفرموريوم ١١٨ إلكترونًا، وهلم جرًّا.

وتلعب ميكانيكا الكم دورًا محوريًّا في تفسير توزيع الإلكترونات حول النواة. ويُعد «نموذج بور» المبكر للذَّرَّة — وهو النموذج الذي اقترحه نيلز بور (١٨٨٥-١٩٦٢) في عام ١٩١٣، مفترضًا وجود إلكترونات في مدارات تحيط بالنواة ككواكب مصغرة والمُستخدم على نطاق واسع في الرسومات المنتشرة لشكل الذرة — نموذجًا خاطئًا من جميع النواحي تقريبًا، إلا أنه من الصعب محوه من مخيلة العامة. ويرى تصور ميكانيكا الكم للذَّرَّات أنه لا يمكن تحديد مسار محدد حول النواة ليدور فيه الإلكترون، وأن «المدارات» الكَوكَبيَّة الخاصة بنظرية بور غير موجودة ببساطة، وأن بعض الإلكترونات لا تدور حول النواة من الأساس.

يستند فهم علماء الكيمياء الفيزيائية للبنى الإلكترونية الخاصة بالذَّرَّات إلى نموذج شرودنجر لذَرَّة الهيدروجين، الذي وضعه في عام ١٩٢٦. كان إرفين شرودنجر (١٨٨٧–١٩٦١) أحد مؤسسي علم ميكانيكا الكم، وفي إحدى النزوات الشهوانية — على حد وصفه — أثناء قضاء إجازة مع إحدى عشيقاته، وضع المعادلة التي تحمل اسمه وحل لغز موقع الإلكترون في ذَرَّة الهيدروجين. فبدلًا من نموذج المدارات، وجد أنه يمكن للإلكترون أن يتخذ واحدة من عدة توزيعات متنوعة أشبه بالموجة حول النواة، تُسمى «دوالَّ موجية»، وكل موجة تتوافق مع مستوى معين من الطاقة.

استخدم علماء الكيمياء الفيزيائية حلول شرودنجر لذرة الهيدروجين واتخذوا منها نقطة انطلاق لنقاشهم حول ذَرَّات جميع العناصر. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت ذَرَّة الهيدروجين محورية جدًّا لفهمهم الكيمياء. وهم يطلقون على التوزيعات الإلكترونية الشبيهة بالموجات «المدارات الذرية»، مما يشير إلى وجود صلة ما بمدارات بور إلا أنها تشير إلى شيء أقل تحديدًا من المسار الفعلي للإلكترونات.

ينبغي علينا استخدام بعض المصطلحات هنا. يُعد المدار الذَّرِّي الأقل طاقة في ذرة الهيدروجين مثالًا على «المدار ». ويمكن تخيل الإلكترون في المدار (يستخدم علماء الكيمياء الفيزيائية كلمة «في» عندما يقصدون توزيعًا يوضحه مدار معين) على هيئة توزيع كروي الشكل شبيه بالسحابة أكثر سُمكًا عند النواة ويتناقص هذا السُّمك بشدة مع الابتعاد عنها (انظر شكل ١-١). وهذا يعني أنه من المرجح أكثر العثور على الإلكترون عند النواة، ويقل هذا الترجيح تدريجيًّا عند نقاط تبتعد عنها بمسافة أكبر. بالمناسبة، لا يسعى الإلكترون في هذا النوع من المدارات للدوران حول النواة؛ وإنما في الواقع يحوم حولها ويحيط بها فحسب. وكثيرًا ما يُقال إن الذَّرَّة عبارة عن مساحة فارغة في أغلبها. وهذا ما تبقى من نموذج بور الذي يدور فيه الإلكترون الشبيه بالنقطة حول النواة؛ أما في نموذج شرودنجر، فلا توجد مساحة فارغة، وإنما ثمة احتمالات متفاوتة للعثور على الإلكترون في موقع محدد.
fig1
شكل ١-١: الأشكال الأساسية لمدارات و و و . تحيط الحدود بالمناطق التي من المرجح أن يوجد فيها الإلكترون. يبين المقطع الداخلي البنية الداخلية لمدار ، بدرجات تظليل تمثل احتمالية إيجاد إلكترون عند كل موضع.
توجد مدارات أخرى من النوع ، لكل منها طاقة أعلى تباعًا، وكل منها يشكل غلافًا كرويًّا شبيهًا بالسحابة على مسافات أبعد تدريجيًّا من النواة. وهي تُسمى (المدار الأقل طاقة) و و وهلم جرًّا. وفي ذرة الهيدروجين، يوجد الإلكترون الوحيد في المدار .
كما توجد حلول موجية أخرى لمعادلة شرودنجر لذرة الهيدروجين (كما هو مبين في الشكل التوضيحي). فما يُطلق عليه «المدار » هو عبارة عن تجمع من ساحبتين على طرفين متقابلين للنواة، ويتكون «المدار » من أربع مناطق شبيهة بالسحابة، و«المدار » يتكون من ثماني مناطق مشابهة، وهلم جرًّا. وثمة نقطتان نود الإشارة إليهما في هذا المقام: أولًا، الرموز و و و مستقاة من ملاحظات طيفية مبكرة جدًّا للذرات ولم يعد أصلها يمثل أية أهمية لأحد باستثناء مؤرخي العلوم؛ إلا أن الرموز ظلت قائمة وتعد جزءًا محوريًّا من المصطلحات التي يستخدمها كل الكيميائيين. ثانيًا، تتتابع الرموز وصولًا إلى الحرفين و وما إلى ذلك؛ ولكن لا يكاد الكيميائيون يتعاملون أبدًا مع هذه المدارات الأخرى، ولسنا بحاجة إلى الاستزادة في مناقشتها.
ومضى شرودنجر ليوضح أنه بينما توجد طريقة واحدة لإحاطة النواة بغلاف كروي (مما يؤدي إلى وجود مدار واحد فقط عند أي مستوى من الطاقة)، توجد ثلاث طرق لإحاطة النواة بمدار (مما يؤدي إلى وجود ثلاثة مدارات عند أي مستوى من الطاقة). وعلى نحو مماثل، توجد خمس طرق لإحاطة النواة بمدار الأكثر تعقيدًا (أي توجد خمسة مدارات عند أي مستوى من الطاقة)، وتوجد سبع طرق لإحاطة النواة بمدار . علاوة على ذلك، عند أي مستوى طاقة معين، لا يمكن أن توجد سوى أنواع معينة من المدارات.
ولذا، نجد أن النمط الفعلي كما يلي:
وهلم جرًّا، بحيث يعد المدار الأقل طاقة.
وفي ذرة الهيدروجين، تحظى جميع المدارات الموجودة على المستوى نفسه (أي نفس الصف في هذه القائمة) بالطاقة نفسها. وفي جميع الذرات الأخرى، حيث يوجد أكثر من إلكترون واحد، يعدِّل التنافر المتبادل بين الإلكترونات مستويات الطاقة، وتتغير القائمة بوجه عام إلى ما يلي:

مع ظهور المزيد من التغيرات المُعقدة في المدارات الأخرى. وسأعقب بنقطتين في هذا الصدد.

أولًا، للكيمياء الفيزيائية تخصص فرعي يُعرف باسم «الكيمياء الحاسوبية». وكما يوحي اسمه، يستخدم هذا التخصص الفرعي أجهزة الكمبيوتر لحل معادلات شرودنجر في نُسخها الأكثر تعقيدًا والتي تنشأ عند التعامل مع الذرات والجزيئات. سأتناول الجزيئات في موضع لاحق من هذا الكتاب؛ ولكنني أركز هنا على المشكلة الأبسط كثيرًا للذرات المفردة، التي جرى التعامل معها بعد صياغة معادلة شرودنجر بفترة قصيرة جدًّا عن طريق القيام بعمليات حسابية يدوية بالغة التفصيل. الآن، صارت الذرات في جوهرها مشكلة تافهة بالنسبة إلى أجهزة الكمبيوتر الحديثة، وصارت تُستخدم لصياغة توصيفات شديدة التفصيل لتوزيع الإلكترونات في الذرة ومستويات الطاقة المدارية. لكن على الرغم من أن علماء الكيمياء الفيزيائية يستطيعون الآن حساب الخواص الذرية بدقة كبيرة بضغطة زر واحدة تقريبًا، فإنه يروقهم وضع نماذج للذرات تمنحنا نظرة ثاقبة على بنيتها وتقدم لنا فهمًا بدلًا من مجرد سلسلة أرقام. ويُستعان بهذا الفهم بعد ذلك في الكيمياء غير العضوية والعضوية بالإضافة إلى أجزاء أخرى من الكيمياء الفيزيائية. لقد طورت النماذج بِناءً على الطريقة التي يؤثر بها التنافر بين الإلكترونات الموجودة في ذرات عناصر أخرى غير الهيدروجين على مستويات الطاقة المدارية ونمط شغل الإلكترونات لهذه المدارات.

تقدم عبارة «نمط شغل الإلكترونات لهذه المدارات» مبدأً مهمًّا آخر مأخوذًا من الفيزياء. ففي عام ١٩٢٥، وضع فولفجانج باولي (١٩٠٠–١٩٥٨) مبدأً مهمًّا عندما صادف بعض السمات الغريبة الخاصة بالتحليل الطيفي للذرات؛ إذ لاحظ اختفاء ترددات معينة في الأطياف، واستنتج أن حالات معينة للذرة محظورة. وبعد أن صيغت قوانين ميكانيكا الكم، أدرك العلماء أن ثمة طريقة عميقة للتعبير عن مبدئه، والتي لن نستخدمها في هذا الكتاب، وأن ثمة طريقة مباشرة أكثر في هذا الشأن ستخدم أغراضنا هنا، وتُعرف ﺑ «مبدأ الاستبعاد لباولي»:

لا يمكن لأكثر من إلكترونين شغل أي مدار، وإذا شغل إلكترونان ذلك المدار، يجب أن يلفا بشكل مغزلي في اتجاهين معاكسين.

سنستخدم تلك الصيغة من المبدأ، والتي تناسب الكثير من التطبيقات في الكيمياء الفيزيائية.

ينص المبدأ، في أبسط صوره، على ألا تشغل جميع إلكترونات الذرة المدار (باستثناء ذرة الهيدروجين التي تحتوي على إلكترون واحد فقط وذرة الهيليوم التي تحتوي على إلكترونين). على سبيل المثال، يحتوي الليثيوم على ثلاثة إلكترونات: اثنان منها تشغل المدار ، ولا يستطيع الإلكترون الثالث أن ينضم إليهما، ويجب أن يشغل المدار التالي ذا المستوى الأعلى من الطاقة، أي المدار . مع أخذ هذه النقطة في الاعتبار، يتضح أمامنا شيء رائع للغاية؛ تتكشف لنا بنية الجدول الدوري للعناصر، الذي يعد الأيقونة الرئيسية لعلم الكيمياء.
لنرى مثالًا عمليًّا على ذلك، تأمَّل الأحد عشر عنصرًا الأولى في الجدول الدوري، والتي تحتوي على إلكترون واحد وحتى ١١ إلكترونًا (عدد الإلكترونات مكتوب بين أقواس في هذه القائمة):
  • H[1] He[2]
  • Li[3] Be[4] B[5] C[6] N[7] O[8] F[9] Ne[10]
  • Na[11] …
(إذا كنت بحاجة إلى تذكرة بأسماء العناصر، فألقِ نظرة على الجدول الدوري الوارد في الملحق الموجود بنهاية هذا الكتاب.) يمكن أن يشغل الإلكترون الأول المدار ، ويستطيع الإلكترون الثاني في عنصر الهيليوم ( ) أن ينضم إليه. عند تلك النقطة، يمتلئ المدار بالإلكترونات، ويجب أن يشغل الإلكترون الثالث في عنصر الليثيوم ( ) المدار التالي الأعلى، أي المدار . ويمكن للإلكترون التالي، لعنصر البيريليوم ( )، أن ينضم إليه؛ وهكذا سيمتلئ بالإلكترونات. وعند هذه النقطة، يمكن للإلكترونات الستة التالية أن توزع بالتناوب على مدارات الثلاثة. وبعد توزيع هذه الإلكترونات الستة (كما في عنصر النيون، )، تكون المدارات كلها قد امتلأت عن آخرها، ويجب على الإلكترون الحادي عشر، لعنصر الصوديوم ( ) أن ينتقل إلى المدار . وفي الوقت نفسه، يبدأ صف جديد من الجدول الدوري. وعلى الفور، يمكنك أن تلاحظ الآن السبب وراء تقارب الليثيوم والصوديوم واصطفافهما في نفس العمود («المجموعة») في الجدول الدوري؛ إذ يملك كل منهما إلكترونًا مفردًا في المدار . ويسري منطق مشابه على جميع عناصر الجدول، حيث إن عناصر المجموعة نفسها تحظى جميعها بترتيبات إلكترونية متشابهة وكل صف («دورة») تالٍ يمثل غلاف المدارات الخارجي التالي.

وعند هذا الموضع، تتحول الكيمياء الفيزيائية إلى «كيمياء غير عضوية»، أي الكيمياء الخاصة بجميع العناصر. فالكيمياء الفيزيائية فسرت البنية العامة للجدول الدوري، أما الكيمياء غير العضوية فتستكشف العواقب. ومن اللافت للانتباه، في رأيي، أن الأفكار البسيطة جدًّا حول وجود المدارات ومستويات الطاقة الخاصة بها، مقرونة بمبدأ يحكم شغلها، تفسر العلاقات بين العناصر، كما يتضح من الجدول الدوري.

خواص الذَّرَّات

لا يتخلى علماء الكيمياء الفيزيائية عن دراسة الذَّرَّة عند هذا المستوى ويسلمون الراية إلى علماء الكيمياء غير العضوية. وإنما يواصلون الاهتمام بالخواص المتنوعة للذرات التي تنشأ من بنيتها الإلكترونية وتلعب دورًا في التحكم بالشخصية الكيميائية الخاصة بالعناصر.

ربما أهم خاصية للذرة وذات صلة بالمركبات التي يمكنها تكوينها هي حجمها، لا سيما «نصف قطرها». فعلى الرغم من أن الذرة تملك سحابة ضبابية من الإلكترونات تحيط بنواتها، تتناقص كثافة السحابة على نحو سريع جدًّا من عند الحافة، ومن ثم فإن الحديث عن نصف قطر الذرة ليس مضللًا للغاية. فمن الناحية العملية، يتحدد نصف قطر الذرة معمليًّا من خلال قياس المسافة بين ذرتين متحدتين في جزيء أو مادة صلبة، وتقسيم تلك المسافة على كل ذرة بطريقة معينة. ونجد أن أنماط نصف القطر الذري ترتبط بالمكان الذي يشغله العنصر في الجدول الدوري. وبالتالي، عند الاتجاه من يسار الجدول إلى يمينه، تصير الذرات أصغر حجمًا: فعلى الرغم من تزايد عدد الإلكترونات على نحو تدريجي، تزداد شحنة النواة أيضًا، وتجتذب السُّحب الإلكترونية إليها. ومع الاتجاه إلى أسفل أي مجموعة، تصير الذرات أكبر حجمًا لأن أغلفة خارجية جديدة تظهر في الدورات المتعاقبة (كما يحدث عند الاتجاه من الليثيوم إلى الصوديوم) وكل طبقة جديدة من السحابة تجعل الذرة أكبر حجمًا (انظر شكل ١-٢).

وتأتي «طاقة التأيُّن» في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، وهي الطاقة اللازمة لنزع إلكترون واحد أو أكثر من الذرة. كما سنرى، تحدد القدرة على انتزاع الإلكترونات من الذرة على نحو جزئي أو كلي أنواع الرابطة الكيميائية التي تستطيع الذَّرَّة أن تكونها، ومن ثَم تلعب دورًا كبيرًا في تحديد خواصها. وتتتبع طاقة التأيُّن بشكل أو آخر أنماط نصف القطر الذري ولكن بصورة معاكسة لأنه كلما اقترب الإلكترون من النواة الموجبة الشحنة، كان من الصعب انتزاعه. وبالتالي، تزداد طاقة التأيُّن عند الاتجاه من يسار الجدول الدوري إلى يمينه حيث تكون الذرات أصغر حجمًا. وبالاتجاه إلى أسفل أي مجموعة، تقل طاقة التأيُّن لأن الإلكترون الخارجي (ذلك الذي يسهل انتزاعه) يبتعد عن النواة على نحو متزايد تدريجيًّا. وبإمكان العناصر الموجودة يسار الجدول الدوري أن تفقد إلكترونًا أو أكثر بسهولة معقولة: كما سنرى في الفصل الرابع، تتمثل إحدى النتائج في أن هذه العناصر تُعد فلزات. أما العناصر الموجودة على يمين الجدول فتأبى بشدة أن تفقد الإلكترونات ومن ثَم فهي ليست فلزات (إنها «لا فلزات»).

fig2
شكل ١-٢: تغير نصف القطر الذري عبر الجدول الدوري. يتناقص نصف قطر الذرات على نحو نموذجي من يسار الجدول الدوري إلى يمينه ويزداد من أعلى إلى أسفل أي مجموعة. يوضح هذا الشكل عناصر «المجموعات الأساسية» (لا العناصر الانتقالية).

ويأتي «الميل الإلكتروني» في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية، وهو الطاقة المنبعثة عندما يُضاف إلكترون إلى ذَرَّة. ويكون الميل الإلكتروني عند أقصى حد في العناصر الموجودة يمين الجدول الدوري (بالقرب من عنصر الفلور؛ تجاهل الحالة الخاصة للغازات النبيلة). ويمكن أن تسع هذه الذرات الصغيرة نسبيًّا إلكترونًا في طبقة السحابة الخارجية الممتلئة بشكل غير كامل وبمجرد أن يصل إلى هناك يستطيع التفاعل بقوة وعلى نحوٍ مُواتٍ مع النواة القريبة.

وتظهر أهمية طاقة التأين والميل الإلكتروني عندما نتأمل «الأيونات» التي من المرجح أن تكوِّنها الذرات. و«الأيون» هو ذرة ذات شحنة كهربائية. وتأتي هذا الشحنة إما لأن الذرة المتعادلة الشحنة فقدت إلكترونًا أو أكثر، وفي هذه الحالة تصبح «كاتيونًا» cation موجب الشحنة وإما لأنها اكتسبت إلكترونًا أو أكثر وصارت «أنيونًا» anion سالب الشحنة. وسُميت هذه الأيونات ﺑ «الكاتيونات» و«الأنيونات» من جانب علماء الكيمياء الفيزيائية الدارسين للموصلية الكهربائية للأيونات في المحاليل، مثل الملح المذاب في الماء، والذين لاحظوا أن إحدى فئات الأيونات تحركت إلى «أعلى» تدرج فرق الجهد الكهربائي بينما تحركت فئات أخرى «لأسفله» (والمقابل الإنجليزي لكلمة «أيون» ion مشتق من الكلمة اليونانية التي تعني المسافر، وan وcat هما سابقتان تعنيان «لأعلى» و«لأسفل»، على التوالي). ومن المرجح أن تفقد العناصر الموجودة على يسار الجدول الدوري، ذات طاقات التأين المنخفضة، إلكترونات وتكون كاتيونات؛ أما العناصر الموجودة على يمين الجدول الدوري، ذات المستوى العالي من الميل الإلكتروني، فمن المرجح أن تكتسب إلكترونات وتكوِّن أنيونات. يقودنا هذا الفارق إلى لب موضوع استكشفه علماء الكيمياء الفيزيائية وشرحوه؛ ألا وهو طبيعة الرابطة الكيميائية.

الرابطة الأيونية

«الرابطة الكيميائية» هي ما يربط الذَّرَّات المتجاورة معًا لتكوين البنى المُعقدة الخاصة بالعالم من حولنا. وتنشأ جميع الروابط الكيميائية من تغيرات في توزيع الإلكترونات في الذرات المتحدة، وبالتالي فإن تكوينها يقع بشكل كبير جدًّا ضمن اختصاص علم الكيمياء الفيزيائية.

يميز الكيميائيون بين ثلاثة أنواع من الروابط: الرابطة الأيونية والرابطة التساهمية والرابطة الفلزية. سأرجئ مناقشة الرابطة الفلزية والفلزات حتى الفصل الرابع. تتكون المواد المتحدة أيونيًّا من كاتيونات وأنيونات مرتبطة معًا نتيجة للتجاذب بين شحناتها الكهربائية المعاكسة. وأشهر مثال على هذا النوع من الروابط هو كلوريد الصوديوم، ملح الطعام، الذي كل حبة منه تتكون من عدد كبير من كاتيونات الصوديوم (Na+) التي تتجمع معًا مع عددٍ مساوٍ من أيونات الكلوريد (Cl). وربما يكون مصطلح «تجمع» مصطلحًا مضللًا، فالمركب ليس مجرد خليط عشوائي من الأيونات وإنما صفوف متراصة منها، كل أيون Na+ تحيط به ستة أيونات Cl وكل أيون Cl بدوره تحيط به ستة أيونات Na+ في مصفوفة شديدة الترتيب تمتد عبر البلورة الصغيرة (انظر شكل ١-٣).
fig3
شكل ١-٣: بنية كلوريد الصوديوم (NaCl). كل أيون صوديوم (Na+) مُحاط بستة أيونات كلوريد (Cl)، وكل أيون Cl مُحاط بستة أيونات Na+. ويتكرر هذا النمط عبر البلورة.
يحدد علماء الكيمياء الفيزيائية عدة سمات مهمة للرابطة الأيونية. إحداها أنها ليست برابطة تترابط فيها أيونات فردية بعضها مع بعض. وما أطلقت عليه «التجمع معًا» يحدث نتيجة أن جميع الأيونات في البلورة تتفاعل بعضها مع بعض: فأيون Na+ يتفاعل على نحو مُواتٍ مع أيونات Cl المحيطة به، لكنه يتنافر مع أيونات Na+ المحيطة بكل من أيونات Cl هذه، ثم يتفاعل على نحوٍ مُواتٍ مع الصف التالي من أيونات ، وعلى نحو غير مُواتٍ مع الصف التالي من أيونات Na+ وهلم جرًّا. وتتضاءل عمليات التجاذب والتنافر بفعل المسافة؛ غير أنه يجب النظر إلى الترابط الأيوني باعتباره سمة شاملة للبلورة، وليست سمة موضعية.
وتعود قوة الرابطة الأيونية، والسبب وراء وجودها، إلى أن الأيونات الموجودة في البلورة تمتلك طاقة أقل من نفس العدد من ذرات الصوديوم والكلور الفردية المتباعدة على نطاق واسع. وهذا هو الموضع الذي تلعب فيه طاقة التأين والميل الإلكتروني دورًا مهمًّا لتحديد ما إذا كان تكوين رابطة مواتيًا أم غير ذلك. وهنا يتحول علماء الكيمياء الفيزيائية إلى محاسبين يحسبون الأرباح والخسائر. ومن الوهلة الأولى، يوضح بيان الميزانية الخسارة بدلًا من الربح. فطاقة التأين الخاصة بالصوديوم قليلة، إلا أن إلكترونها الخارجي المنفرد لا ينفصل بسهولة؛ إذ يتطلب انتزاعه استثمار قدر هائل من الطاقة. والميل الإلكتروني الخاص بالكلور يعوض ذلك الاستثمار تعويضًا جزئيًّا، بالطاقة المنبعثة حين يرتبط الإلكترون بذرة كلور لتكوين Cl. رغم ذلك، لا تزال هذه العملية بأكملها تتطلب طاقة لأن انخفاض الطاقة الذي يحدث في الخطوة الثانية أقل بكثير من الطاقة المطلوبة في خطوة التأين الأولى. وانبعاث الطاقة الإضافي الذي يحول الخسارة إلى ربح هو نتيجة التفاعل الإجمالي المواتي بشدة بين الأيونات التي تكونت، وهي الطاقة التي تنبعث عند تجمعها معًا. في الواقع، هذا التراجع المهول في الطاقة يؤدي إلى ظهور الأيونات وتنتج عنه بلورة مستقرة من كلوريد الصوديوم.

الآن، يمكنك ملاحظة سمة ثالثة للروابط الأيونية؛ ألا وهي أنها تتكون بالأساس بين ذرات العناصر الموجودة يسار الجدول الدوري وتلك الموجودة على يمينه. تتمتع ذرات العناصر الموجودة في اليسار بطاقة تأين منخفضة، وبالتالي تكون الطاقة المستثمرة لتكوين الكاتيونات منخفضة على نحو معقول. وتتمتع ذرات العناصر الموجودة في اليمين بميل إلكتروني عالٍ إلى حد معقول، ومن ثَم يكون هناك انخفاض معقول في الطاقة عندما تكوِّن أنيونات. وتتحول هذه الخسارة الصافية (وهي خسارة دومًا، لأن طاقة التأين عالية والميل الإلكتروني في هذه الحالة لا يسعف كثيرًا) إلى ربح من خلال التجاذب الإجمالي العام بين الأيونات.

الرابطة التساهمية

تتمتع العناصر الموجودة على يمين الجدول الدوري بمستوى عالٍ من طاقة التأين بحيث إنها إذا شاركت بمفردها في تكوين رابطة، لا تتحول خسارة الطاقة إلى مكسب أبدًا. حدد علماء الكيمياء الفيزيائية طريقة أخرى تستطيع بها الذرات أن تكوِّن روابط بعضها مع بعض، لا سيما إذا أبت العناصر المشابهة الموجودة على يمين الجدول التخلي عن الإلكترونات وتكوين كاتيونات. لذا، تتوصل تلك الذرات لحل وسط: إنها «تشارك» إلكتروناتها وتكوِّن ما يُعرف ﺑ «الرابطة التساهمية».

وهنا يجب أن أتراجع خطوة إلى الوراء قليلًا بعيدًا عن هذه النقطة المتقدمة قبل الخوض في شرح مفهوم الرابطة التساهمية ونتائجها، وأُوضح نقطتين. أولًا، أشدد على أهمية مقطع valent في المقابل الإنجليزي لكلمة تساهمية Covalent. فهو مشتق من الكلمة اللاتينية التي تعني «قوة» (Valete! هي تحية الوداع الرومانية وتعني «كن قويًّا!») أصبحت كلمة valence — التي تعني التكافؤ — الآن مصطلحًا كيميائيًّا شهيرًا في علم الكيمياء يشير إلى النظرية المعنية بتكوين الروابط. والمقطع يشير إلى التعاون بين الذرات لتحقيق قوة الترابط.

ثانيًا، من الصعب تحديد اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها الكيمياء الفيزيائية تخصصًا مميزًا قائمًا بذاته داخل الإطار العام لعلم الكيمياء. بالتأكيد، كان هناك علماء كيمياء فيزيائية في القرن التاسع عشر؛ من بينهم مايكل فاراداي بل وروبرت بويل أيضًا (انظر الفصل الرابع) الذي عاش في وقت سابق عن ذلك تحديدًا في القرن السابع عشر، على الرغم من أنهم لم يستخدموا المصطلح آنذاك. ورغم ذلك، ظهر أحد فروع الكيمياء الفيزيائية في مطلع القرن العشرين مباشرة عندما صار الإلكترون (المُكتشف عام ١٨٩٧) عنصرًا أساسيًّا في تفسير الظواهر الكيميائية، وربما تتمثل نقطة انطلاق جيدة لهذا الفرع من التخصص في تحديد الرابطة التساهمية. ويرجع الفضل في هذا إلى الكيميائي الأمريكي جيلبرت لويس (١٨٧٥–١٩٤٦) الذي اقترح في عام ١٩١٦ أن الرابطة التساهمية عبارة عن تشارك زوج من الإلكترونات. ويُعد عدم حصول جيلبرت لويس على جائزة نوبل رغم إسهاماته العديدة والمؤثرة في علم الكيمياء بوجه عام وفي الكيمياء الفيزيائية بوجه خاص واحدًا من فضائح التاريخ الفكري.

كما أشرت آنفًا، الرابطة التساهمية عبارة عن تشارك زوج من الإلكترونات. فإذا كان للذرة طاقة تأين عالية جدًّا بحيث يصعب معها تكوُّن كاتيونات بسبب الطاقة اللازمة لذلك، فلربما اكتفت بالتخلي جزئيًّا عن سيطرتها على أحد الإلكترونات. علاوة على ذلك، ربما تستعيد قدرًا من هذا الاستثمار الضئيل للطاقة من خلال التشارك في إلكترون توفره ذرة أخرى ذات سلوك مشابه شريطة انخفاض مستوى الطاقة بشكل عام. لقد استخدمت عمدًا مفردتين تشبيهيتين خاصتين بالبشر، «اكتفت» و«سلوك مشابه»، نظرًا إلى أن مثل هذه المفردات عادةً ما تتسلل إلى محادثات الكيميائيين كمختصرات لما يقصدونه فعلًا، وهي الإشارة إلى التغيرات الحادثة في الطاقة المصاحبة لإعادة توزيع الإلكترونات. سأتجنب استخدامها مستقبلًا؛ لأنها غير دقيقة وغير مناسبة (ولكنها عادةً ما تكون جذابة على نحو غريب وتشبه كثيرًا المحادثات غير المتكلفة، وبالتالي تساعد في تجنب التناول المتحذلق).

وعلى عكس الرابطة الأيونية، تتمثل السمة الرئيسية المميزة للرابطة التساهمية في أنها ظاهرة «موضعية». والمقصود من هذا أنه نظرًا إلى أن الإلكترونات تجرى مشاركتها بين الذرات المتجاورة، فتحدث رابطة محددة بين تلك الذرات ولا تتوزع الإلكترونات على عدد لا يُحصى من الأيونات. وإحدى نتائج هذه السمة الموضعية هي أن ما ترتبط برابطة تساهمية هي جزيئات مفردة، مثل الهيدروجين: H2 (H—H)، والماء: ، وثاني أكسيد الكربون: CO2 (O=C=O). وضربت مثالًا بهذه الجزيئات الثلاثة لسبب معين.
أولًا، يُظهر جزيء الهيدروجين H2 أن ذرات العنصر نفسه قد ترتبط بعضها ببعض برابطة تساهمية. وهذا الشكل من العناصر شائع بين اللافلزات (تأمل الأكسجين O2 والكلور Cl2). وتبين الصيغة H—H كيف يرمز الكيميائيون إلى الروابط التساهمية؛ أي إنهم يستخدمون شرطة بين الذرات المترابطة. وتشير كل شرطة إلى زوج متشارك من الإلكترونات. وجزيء الماء هو H2O، وقد ذكرته لأبين أنه لا يجب لجميع الإلكترونات التي تمتلكها إحدى الذرات أن تشارك في تكوين الرابطة التساهمية وأنه من خلال تكوين رابطتين تكون ذرة الأكسجين مُحاطة بثمانية إلكترونات (أي، أربعة أزواج). وتُسمى الأزواج غير المستخدمة «الأزواج الوحيدة». وتشير حقيقة وجود ثمانية إلكترونات إلى أن ذرة الأكسجين كونت أكبر عدد ممكن من الروابط إلى أن وصلت إلى ما رأيناه بالفعل بوصفه أقصى سعة للغلاف الخارجي للإلكترونات الخاص بها. هذا «التكوين الثماني» كما يُطلق عليه هو أحد المبادئ الإرشادية، غير الجديرة بالثقة دومًا، لتكوين الروابط. وأخيرًا، ذكرت مثال ثاني أكسيد الكربون لأنه يوضح أنه يمكن لأكثر من زوج واحد من الإلكترونات أن تجري مشاركته بين ذرتين؛ والرمز = يشير إلى «رابطة مزدوجة»، تتكون من زوجين متشاركين من الإلكترونات. هناك أيضًا جزيئات ذات روابط ثلاثية (ثلاثة أزواج متشاركة)، ونادرًا جدًّا ما تكون هناك روابط رباعية.

وليست جميع الأشياء المترابطة برابطة تساهمية هي جزيئات منفردة. فمن الممكن في بعض الحالات أن يسفر تكوين الروابط التساهمية عن شبكات موسعة من الروابط. ويعد الألماس أشهر مثال على ذلك، حيث إن كل ذرة كربون تكوِّن رابطة أحادية مع أربع ذرات مجاورة، وكل ذرة من هذه الذرات ترتبط بجاراتها من الذرات، وهكذا عبر البلورة. هذا، وسأعاود مناقشة هذه البنى في الفصل الرابع.

ميكانيكا الكم الخاصة بالروابط

على الرغم من أن جيلبرت لويس طور عدة فرضيات نظرية، فإنه لم تكن لديه أدنى فكرة عن السبب الحقيقي وراء الأهمية البالغة التي يضطلع بها زوج الإلكترونات لتكوين رابطة تساهمية. استلزم فهم ذلك انتظار تطور ميكانيكا الكم وتطبيقها شبه الفوري على نظرية رابطة التكافؤ. ومنذ ذلك الحين نمت بذور ذلك التطبيق وانبثق عنها فرع رئيسي من الكيمياء الفيزيائية، ألا وهو «الكيمياء النظرية»، أو بالأحرى «الكيمياء الحاسوبية» بالنسبة إلى من يتعاملون مع الحسابات العددية.

لقد طوَّر علماء الكيمياء الفيزيائية، بالتعاون مع الفيزيائيين في بادئ الأمر، نظريتين عن تكوين الروابط تستندان إلى ميكانيكا الكم؛ ألا وهما «نظرية رابطة التكافؤ» و«نظرية المدارات الجزيئية». لم تعد النظرية الأولى مستخدمة الآن إلا أن مصطلحاتها تركت علامة لا تُمحى في علم الكيمياء ولا يزال الكيميائيون يستخدمون الكثير من مصطلحاتها حتى اليوم. لقد اجتاحت نظرية المدارات الجزيئية المجال نظرًا إلى أنه ثبت إمكانية تنفيذها على أجهزة الكمبيوتر بسهولة أكبر. ونظرًا إلى أن مصطلحات نظرية رابطة التكافؤ لا تزال مُستخدمة في مجال الكيمياء إلا أن إجراء الحسابات قائم على استخدام نظرية المدارات الجزيئية، يجب على جميع الكيميائيين، تحت إشراف علماء الكيمياء الفيزيائية، أن يكونوا على دراية تامة بكلتا النظريتين.

وُضعت نظرية رابطة التكافؤ على يد كل من فالتر هايتلر (١٩٠٤–١٩٨١)، وفريتز لندن (١٩٠٠–١٩٥٤)، وجون سلاتر (١٩٠٠–١٩٧٦)، ثم طُورت على يد الكيميائي لينوس باولنج (١٩٠١–١٩٩٣) فور خروج ميكانيكا الكم إلى النور في عام ١٩٢٧. ويُعد هذا التعاون بين الفيزيائيين والكيميائيين نموذجًا ممتازًا للأساس الذي تقوم عليه الكيمياء الفيزيائية: كما أنه يوضح الخصوبة الفكرية التي يتمتع بها الشباب، حيث إن جميع مؤسسيها كانوا في العشرينيات من أعمارهم. وتكمن الفكرة الأساسية وراء نظرية رابطة التكافؤ في أنه يمكن كتابة الدالة الموجية لزوج الإلكترونات الذي يكوِّن الرابطة. ويكمن سبب أهمية زوج الإلكترونات في أن لكل إلكترون حركة لف مغزلي (كما ذكرت آنفًا عندما ناقشنا الذرات) ولكي توجد دالة موجية لتلك الرابطة يجب أن يلف الإلكترونان في اتجاهين متعاكسين. لاحظ أن هذا الوصف يركز على أزواج الذرات المتجاورة؛ إذ توفر إحدى الذرتين إلكترونًا يلف باتجاه عقارب الساعة، وتوفر الذرة الأخرى إلكترونًا يلف في عكس اتجاه عقارب الساعة، ويقترن الإلكترونان بعضهما ببعض. ويُظهر التحليل الدقيق للدالة الموجية الناتجة أن هذا الاقتران يسمح للإلكترونين بالاجتماع بين النواتين، ومن خلال تجاذبهما الكهروستاتيكي نحو النواتين، تلتصق الذرتان بعضهما ببعض بفعالية.

سرعان ما واجهت النظرية صعوبات مبدئية مع الكربون ومركبه الأساسي، الميثان، CH4. وهنا، قدم باولنج إسهامه الأساسي وظلت المصطلحات التي ابتكرها مُستخدمة في الكيمياء الحديثة. تملك ذرة الكربون، في أدنى حالة طاقة لها، أربعة إلكترونات في سحابتها الإلكترونية الخارجية («غلاف التكافؤ» خاصتها)، اثنان منها مقترنتان بالفعل. ويمكن للاثنين المتبقيين أن يقترنا مع الإلكترونين اللذين توفرهما ذرتا هيدروجين، ولكن هذا سيسفر عن CH2، لا CH4. اقترح باولنج فكرة «الترقي»، وفيها يُتخيل وجود استثمار افتراضي للطاقة لنقل أحد إلكترونَي مدار المقترنين إلى مدار خالي. وبذلك يمكن أن تتاح جميع الإلكترونات الأربعة للاقتران بالإلكترونات التي توفرها ذرات الهيدروجين، مما يتيح تكوين الميثان، CH4.
غير أن عملية الترقي تثير مشكلة أخرى، فإحدى هذه الروابط (تلك المتضمنة مدار الأصلي) تختلف عن الروابط الثلاثة الأخرى (التي تكونت من خلال الاقتران بالإلكترونات في مدارات الثلاثة)؛ ولكن في الميثان CH4 من المعروف أن جميع الروابط الأربعة متماثلة. تغلَّب باولنج على هذه المشكلة من خلال اقتراح مفهوم «التهجين». فكل مدار و أشبه بموجة تدور حول النواة: ومثل جميع الموجات، فهي يمكن أن تتداخل إذا ما شغلت نفس الحيز المكاني، وهو ما تفعله بالفعل في هذه الذرة. ويُظهر تحليل التداخل بين الموجات الأربعة أنها تؤدي إلى أربعة أنماط للتداخل تتوافق مع المدارات المتطابقة باستثناء الاتجاه نحو اتجاهات مختلفة (نحو زوايا شكل رباعي الأوجه في هذه الحالة). واقترح باولنج أن هذه «المدارات الهجينة» ينبغي استخدامها لتكوين الروابط التساهمية لجزيء CH4. والنتيجة هي أربع روابط متطابقة وجزيء يشبه نموذجًا مصغرًا من رباعي الأوجه، تمامًا كما رُصد شكلها.
ويمثل جزيء آخر بسيط، وهو كلوريد الهيدروجين (HCl)، مشكلة أخرى؛ إذ أظهر تحليل الدالة الموجية وفقًا لنظرية رابطة التكافؤ أنها كانت بمثابة وصف ضعيف لتوزيع الإلكترونات في إحدى النواحي المهمة؛ ألا وهي أنها لم تسمح أبدًا لكلا الإلكترونين أن يوجدا على ذرة الكلور في الوقت نفسه. لقد رأينا أن عنصر الكلور، الموجود على يمين الجدول الدوري، يتمتع بمستوى عالٍ من الميل الإلكتروني، وبالتالي من غير المعقول ألا يقضي إلكترونا الرابطة جزءًا كبيرًا من وقتهما بالقرب من ذرة الكلور. وهنا اقترح باولنج مفهوم «الرنين». فبدلًا من كتابة دالة موجية واحدة تمثل جزيء H–Cl، يجب كتابة دالة أخرى لبنية أيونية صغيرة (في هذه الحالة، موضعية)، H+Cl، ويجب أن تساهم كلتاهما في البنية الفعلية للجزيء. وهذا «التراكب» للدالتين الموجيتين — الذي يسمح بمساهمة كل منهما في الوصف — يُسمى بالرنين، وإدراجه يحسن وصف الجزيء (ويسفر عن طاقة أقل: وهي دومًا علامة على التحسن).

لقد كان مفهوم الرنين بمنزلة المنقذ لنظرية رابطة التكافؤ والسبب وراء انهيارها في آنٍ واحد. فقد قدم حلًّا للجزيئات الصغيرة، حيث لا يوجد سوى عدد ضئيل من البنى الرنينية، ولكنه ثبت أنه عائق كبير في حالة الجزيئات الكبيرة حيث توجد آلاف البنى التي قد تسهم في الرنين.

في البداية، صيغت نظرية المدارات الجزيئية في عام ١٩٢٧ على يد كل من روبرت موليكن (١٨٩٦–١٩٨٦) وفريدريش هوند (١٨٩٦-١٩٩٧) بوصفها نظرية منافسة لنظرية رابطة التكافؤ؛ صك مولكين الاسم في عام ١٩٣٢. ويمكن اعتبارها امتدادًا طبيعيًّا لنظرية البنية الإلكترونية للذرات. وكما رأينا، داخل الذرة تشغل الإلكترونات (أي تكون لها توزيعات تُوصف من خلال) دوالًا موجية تُسمى المدارات الذرية. وداخل الجزيء، وفقًا إلى نظرية المدارات الجزيئية، تشغل الإلكترونات دوالَّ موجية تُسمى «المدارات الجزيئية» التي تنتشر عبر كل الأنوية الموجودة في الجزيء وتساعد في ارتباط بعضهما ببعض في ترتيب مستقر. ووفقًا لمبدأ الاستبعاد لباولي، لا يمكن لأي مدار جزيئي، مثل المدار الذري، أن يستوعب أكثر من إلكترونين، ويجب أن يلفا بشكل مغزلي في اتجاهين معاكسين، وهذا يفسر أهمية الاقتران الإلكتروني الذي افترضه لويس.

من الصعب جدًّا حل معادلة شرودنجر للمدارات الجزيئية، ولذا فالمقاربات هنا ضرورية. أولًا، تتألف المدارات الجزيئية من جميع المدارات الذرية الموجودة في الجزيء. وبالتالي، في جزيء الهيدروجين H2، يُستخدم المداران الذريان اللذان من نوع . وكما هي الحال مع أي موجات، يحدث التداخل حيث تنتشر هذه الدوال الموجية في نفس الحيز المكاني (كما ذكرنا في النقاش الخاص بالتهجين، لكن هنا يوجد تداخل بين الموجات المتمركزة حول الذرات المتجاورة). وفي هذه الحالة، ربما يؤدي التداخل إلى تعزيز سعة الموجات حيث تتداخل أو تقليلها. وتؤدي الحالة الأولى إلى ظهور «مدار ترابط»، لأن الإلكترونات التي تشغله ستكون مجتمعة بين النواتين وستربط النواتين بعضهما ببعض بسبب التجاذب بين الشحنتين المتضادتين. ويؤدي التداخل المدمر إلى تقليل سعة الدالة الموجية بين النواتين ومن ثَم انتزاع الإلكترونات من الموضع الذي يستحسن أن تكون عنده. وبالتالي، يُطلق على هذا الاتحاد «مدار مضاد للترابط»، نظرًا إلى أن الإلكترونات الموجودة به تتسبب في تباعد النواتين بعضهما عن بعض (انظر شكل ١-٤).
fig4
شكل ١-٤: مدار الترابط والمدار المضاد للترابط في جزيء مكوَّن من ذرتين. في مدار الترابط، تجتمع الإلكترونات بين النواتين وتربطهما معًا. أما في المدار المضاد للترابط، فتُنتزع الإلكترونات من الحيز بين النواتين وتتباعد النواتان بعضهما عن البعض. والأمر نفسه ينطبق على الجزيئات التي تتألف من ذرات عديدة. الأسطح عبارة عن خطوط ذات احتمالية متساوية للعثور على إلكترونات.

على الرغم من الصعوبة البالغة لحل معادلة شرودنجر على مستوى الجزيئات، فإن علماء الكيمياء النظرية طوروا عمليات حاسوبية فعَّالة للتوصل إلى حلول عددية بالغة الدقة في هذا الصدد. وتبدأ جميع العمليات بإنشاء مدارات جزيئية من المدارات الذرية المتاحة ثم الشروع في البحث عن أفضل الأنماط. وهذا الفرع من الكيمياء الفيزيائية يخضع للتطوير المكثف نظرًا إلى أن قدرات أجهزة الكمبيوتر تتزايد. ورسومات توزيعات الإلكترونات في الجزيئات مألوفة الآن ومفيدة جدًّا لفهم خواص الجزيئات. وهذا الأمر ذو صلة خاصة بتطوير عقاقير جديدة وفعَّالة دوائيًّا؛ حيث إن توزيعات الإلكترونات تلعب دورًا مهمًّا في تحديد كيف يرتبط جزيء بآخر مما قد يؤدي إلى وقف النشاط الضار لجزيء غازي على نحو خطير.

وتندرج هذه العمليات الحاسوبية تحت ثلاث فئات واسعة النطاق. ترى العمليات «شبه التجريبية» أن بعضًا من العمليات الحاسوبية تستهلك الكثير من الوقت (وبالتالي فهي باهظة الثمن) ما لم تكن بعض المعاملات اللازمة في الحسابات مأخوذة من التجارب العملية. أما العمليات «الأولية» ab initio الأكثر نقاءً، فهي في معزل عن الحلول الوسط هذه، وتسعى إلى إجراء الحسابات بمدخلات لا تزيد عن هويات الذرات الموجودة. في البداية، كان لا يمكن التعامل بهذه الطريقة إلا مع الجزيئات الصغيرة؛ ولكن مع تزايد القدرة الحاسوبية، أمكن أن تضم إلى نطاقها الجزيئات الأكبر حجمًا أكثر فأكثر. وتُعد إحدى العمليات الرائجة حاليًّا مزيجًا بين هذين النهجين: إن «نظرية الكثافة الدالية» قابلة للتطبيق على نطاق واسع نظرًا إلى أنها توفر طريقة سريعة ودقيقة إلى حد معقول لحساب خواص نطاق واسع من الجزيئات.

التحدي الراهن

فُهِم تكوين الروابط على نحو كامل بمعزل عن بعض المسائل العويصة المتعلقة بدور إسهامات طاقة الوضع والطاقة الحركية وبوجود التأثيرات النسبية في الذرات الثقيلة. والآن ينصب التركيز الأساسي على الحساب الحاسوبي الفعَّال والموثوق به للبنى الإلكترونية الخاصة بالجزيئات الأكبر، وفيها الجزيئات المثيرة للاهتمام البيولوجي، والخواص الإلكترونية للأنظمة النانوية، والأوصاف التفصيلية لسلوك الإلكترونات داخل الجزيئات. وتجري نمذجة التفاعلات الكيمائية بصورة حاسوبية على نحو متزايد، مما يجعلنا نتعرف على كيف تُكسر الروابط وكيف تتكوَّن أخرى جديدة. ويُعد اكتشاف الأدوية — أي، تحديد الجزيئات أو المركبات النشطة دوائيًّا من خلال العمليات الحاسوبية بدلًا من إجراء التجارب داخل جسم الكائن الحي — هدفًا مهمًّا للكيمياء الحاسوبية الحديثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤