المادة من الخارج
في بدايات علم الكيمياء الفيزيائية، والتي ربما تعود إلى القرن السابع عشر أو على نحو أوقع خلال القرن التاسع عشر، استكشف ممارسوه — الذين كانوا يفتقرون إلى الأدوات الرائعة التي نمتلكها الآن — المظهر الخارجي للمادة بدلًا من التعمق في دراسة البنية الداخلية المجهولة آنذاك. وثبت أن ذلك الاستكشاف، عند إجرائه من منظور كمي بدلًا من مجرد سرد الطريقة التي تبدو بها الأشياء، مثمر بصورة استثنائية لا سيما في إطار التخصص الذي صار معروفًا باسم «الديناميكا الحرارية».
الديناميكا الحرارية هو علم الطاقة والتحولات التي قد تمر بها. وقد نشأ هذا العلم من ملاحظات عن قدرات المحركات البخارية سجلها المهندسون والفيزيائيون الذين سعوا لاستخراج أكبر قدر من القوة الدافعة من رطل الفحم، أو من رطل الزنك حين اختُرعت الكهرباء. وأظن أنه لم يتصور الرواد الأوائل هؤلاء على الإطلاق أن اكتشافاتهم ستُنقل بفعالية شديدة إلى علم الكيمياء لدرجة أن تلعب الديناميكا الحرارية دورًا محوريًّا في فهم التفاعلات الكيميائية وتصل إلى ما هو أبعد مما توحي به عبارة «تحول الطاقة».
لا تزال الديناميكا الحرارية الكيميائية الحديثة تدور حول الطاقة، غير أنه في خضم التوصل للقوانين التي تحكم الطاقة يبدو أننا أحيانًا نكتشف علاقات غير متوقعة بين الخواص المختلفة للمادة في حجمها الطبيعي. وتكمن فائدة ذلك في أن قياسات إحدى الخواص يمكن استخدامها للتعرف على خواص أخرى ربما لا تكون خاضعة بسهولة للقياس.
توجد حاليًّا أربعة قوانين للديناميكا الحرارية، مرقمة اعتباطيًّا إلى حد ما من الصفر وحتى ثلاثة. يرسي القانون الصفري مفهوم درجة الحرارة، وعلى الرغم من أن لدرجة الحرارة أهمية أساسية عند مناقشة جميع أشكال المادة وخواصها، أرى أن أساسها المفاهيمي والمنطقي لا يعد موضع اهتمام كبير لعالم الكيمياء الفيزيائية العادي ولذا لن نتطرق إليه أكثر من ذلك. (سأتطرق بإيجاز إلى أهمية درجة الحرارة مرة أخرى في الفصل الثالث.) يقدم القانون الأول مبدأ حفظ الطاقة المهم للغاية، أما القانون الثاني فيتناول خاصية الإنتروبي الرائعة على نحو كبير، ويعرض القانون الثالث عدم إمكانية الوصول بالحرارة إلى الصفر المطلق، وهو الأمر الذي يبدو محبطًا. ونظرًا إلى أنه لا يمكن أن تحدث تفاعلات كيميائية عند الصفر المطلق، فربما يبدو القانون الثالث غير مهم كثيرًا بالنسبة إلى علماء الكيمياء الفيزيائية، ولكنه على أرض الواقع يلعب دورًا مهمًّا حيال الطريقة التي يستخدمون بها البيانات ولا يمكنني أن أتجاهله. إننا نجد أغلب العلاقات بين الخواص القابلة للقياس في إطار القانون الثاني، ولذا سأشرح ما يتضمنه ذلك في الوقت المناسب.
«المادة من الخارج» هو عنوان مناسب لفصل مخصص للحديث عن الديناميكا الحرارية، نظرًا إلى أنه في إطار أنقى صورها، وأقصد هنا «الديناميكا الحرارية الكلاسيكية»، لا تعول المناقشات أو الاستنتاجات على أي نموذج للتكوين الداخلي للمادة. وحتى ولو كنت لا تؤمن بوجود الذرات أو الجزيئات، يمكنك أن تكون عالمًا مؤثرًا في تخصص الديناميكا الحرارية (وإن كانت رؤيتك في هذه الحالة ستكون قاصرة). وتشير جميع العلاقات التي جرى التوصل إليها في الديناميكا الحرارية الكلاسيكية إلى خواص قابلة للرصد للمادة في حجمها الطبيعي ولا تستند إلى خواص الذرات والجزيئات المكونة لها. ومع ذلك، يمكن تكوين نظرة ثاقبة أكبر على أصل هذه الخواص والعلاقات بينها إذا تخلصت من محدودية الرؤية هذه وتعرفت على البنية الذرية للمادة. وهذا هو دور «الديناميكا الحرارية الإحصائية»، التي يبدو اسمها مخيفًا بعض الشيء، والتي سأقدم لها في الفصل الثالث.
سأركز خلال هذا الفصل على تطبيقات الديناميكا الحرارية في نطاق علم الكيمياء الفيزيائية. ومن نافلة القول أن الديناميكا الحرارية قابلة للتطبيق أيضًا على نطاق واسع في الهندسة والفيزياء، حيث كانت نشأتها الأولى. وهو أيضًا موضوع رياضي إلى حد كبير، خاصة عندما يتعلق الأمر بصياغة علاقات بين الخواص (بل حتى تعريف تلك الخواص)، إلا أنني سأبذل قصارى جهدي لعرض محتواه دون التطرق إلى التفاصيل الرياضية الدقيقة.
القانون الأول
وتكمن العلاقة بين التغيرات في الإنثالبي والخرج الحراري في صميم الكيمياء الفيزيائية، أو هي بالأحرى جوهر الديناميكا الحرارية الكيميائية، المعروفة باسم «الكيمياء الحرارية»، والتي تدرس عمليات الانتقال الحراري المصاحبة للتفاعلات الكيميائية. وهذا الجانب من الكيمياء ذو أهمية حيوية أينما تُستخدم أنواع الوقود، حيث لا تشمل أنواع الوقود بنزين محركات الاحتراق الداخلي فحسب، وإنما أيضًا الأطعمة التي تمد الكائنات الحية بالطاقة. وفي هذا الاستخدام الأخير، فإن دور استخدام الطاقة في الكائنات الحية يدرسه علم «الطاقة الحيوية»، وهو قسم فرعي للكيمياء الحرارية يركز على العمليات الكيميائية الحيوية.
والأداة الرئيسية التي يستخدمها علماء الكيمياء الحرارية هو «المُسعِّر الحراري»، وهو بالأساس عبارة عن وعاء مزود بترمومتر؛ إلا أنه طُور إلى حد كبير، مثل الكثير من الأجهزة العلمية، ليصبح أداة متقدمة عالية الدقة خاضعة للتحكم والتحليل من قِبل جهاز كمبيوتر. وبشكل عام، يُسمح بحدوث التفاعل الكيميائي المعني بالدراسة في الوعاء ويُسجل الارتفاع الناتج في درجة الحرارة. ويحول هذا الارتفاع (أو الانخفاض في بعض الحالات النادرة) في درجة الحرارة بعد ذلك إلى خرج حراري من خلال مقارنته بتفاعل معروف مسبقًا أو التأثير الخاص بالتسخين الكهربائي. وإذا كان المُسعِّر الحراري معرضًا للأجواء المحيطة (وبالتالي مُعرضًا لضغط ثابت)، حينئذٍ يكون الخرج الحراري مكافئًا للتغير في الإنثالبي الخاص بمزيج التفاعل. وحتى وإن كان وعاء التفاعل محكم الإغلاق ومحتوياته خاضعة للتغير في الضغط، لدى الكيميائيين وسائل لتحويل البيانات إلى ظروف ذات ضغط ثابت، ويمكنهم استنباط التغير في الإنثالبي من التغير الملاحظ في درجة الحرارة.
هذا، وتُعد التغيرات في الإنثالبي مهمة جدًّا من أجل إجراء مناقشة منطقية للتغيرات الطارئة على الحالة الفيزيائية (التبخر والتجمد على سبيل المثال) وسأعود إليها في الفصل الخامس. وهي أساسية أيضًا للتطبيقات الخاصة بالقانون الثاني للديناميكا الحيوية.
القانون الثاني
يُعد القانون الثاني للديناميكا الحرارية قانونًا أساسيًّا تمامًا لتطبيق الديناميكا الحرارية في مجال الكيمياء، والذي عادةً ما يتخذ شكلًا متخفيًا، ولكن دائمًا ما يكون قابعًا وراء النقاشات الدائرة حول التفاعلات الكيميائية وتطبيقاتها في علم الأحياء والتكنولوجيا على حد سواء.
يعين القانون الأول حدود التغيرات المحتملة (فهي يجب أن تحافظ على إجمالي كمية الطاقة، ولكن تتيح لها الانتقال من مكان إلى آخر أو التحول إلى حرارة أو شغل). ومن بين تلك التغيرات المحتملة يحدد القانون الثاني التغيرات التي قد تحدث بشكل تلقائي. والمعنى الاعتيادي ﻟ «التلقائية» هو أنها تحدث «بدون وساطة خارجية»؛ وهذا يعني في الكيمياء الفيزيائية، بدون الاضطرار إلى بذل «شغل» لإحداث التغير. وهذا لا يعني السرعة، كما تعني الكلمة ضمنًا أحيانًا في إطار الكلام العادي. قد تكون التغيرات التلقائية بطيئة جدًّا: فالاسم يشير ببساطة إلى أن بها «نزعة» لأن تحدث بدون تدخل. ومن منطلق هذا المعنى، يُعد تحول الألماس إلى جرافيت أمرًا تلقائيًّا؛ إلا أنه يحدث ببطء شديد لدرجة أنه يمكن التغاضي عن التغير من الناحية العملية. فتمدد الغاز في فراغ هو عملية تلقائية وسريعة على حد سواء. أما انضغاطه إلى حجم أصغر فهو عملية غير تلقائية: يجب علينا أن نبذل شغلًا ونضغط على مكبس ما لإحداث هذا التغير. باختصار، يحدد القانون الأول التغيرات المحتملة؛ ويحدد القانون الثاني أي هذه التغيرات المحتملة هي تغيرات تلقائية.
لقد استعان علماء الكيمياء الفيزيائية بصيغة كلاوزيوس لتجميع جداول قيم الإنتروبي الخاصة بمجموعة كبيرة من المواد (حيث استعانوا أيضًا بالقانون الثالث للديناميكا الحرارية، الذي سأشرحه بعد قليل)، والتي يمكن الاستعانة بها لتقييم التغير في الإنتروبي عندما تتغير المواد المتفاعلة ذات إنتروبي معين إلى نواتج ذات إنتروبي مختلف. وهذه معلومة ضرورية لتقرير ما إذا كان التفاعل تلقائيًّا عند أية درجة حرارة معينة (تذكر أنه ليس بالضرورة سريعًا وإنما تلقائيًّا فحسب). وهذا مثال آخر للأهمية القصوى لاعتماد الكيميائيين على إنجازات الفيزيائيين، الفيزيائي كلاوزيوس في هذه الحالة، لفهم السبب وراء «حدوث» تفاعل كيميائي ما دون الآخر، وهذا أمر أساسي لعلم الكيمياء ويقع في نطاق تخصص الكيمياء الفيزيائية، الذي يعد حلقة الوصل بين الفيزياء والكيمياء.
الطاقة الحرة
ثمة شرَك هنا. ففي جميع المراجع الخاصة بالديناميكا الحرارية الكيميائية، يجري التأكيد على أنه من أجل استخدام القانون الثاني، من الضروري الوضع في الاعتبار إجمالي التغير في الإنتروبي، أي، مجموع التغيرات داخل النظام (مزيج التفاعل) ووسطه المحيط. يمكن استنتاج الأولى من جداول قيم الإنتروبي التي جرى تجميعها، ولكن كيف تُحسب الثانية؟
هذا هو الموضع الذي يعود فيه الإنثالبي ليلعب دورًا. فإذا كنا نعرف التغير في الإنثالبي الحادث أثناء تفاعل ما، فعندئذٍ سنعرف مقدار الطاقة المنبعثة على هيئة حرارة إلى الوسط المحيط، هذا بشرط أن تتم العملية تحت ضغط ثابت. وإذا قسمنا انتقال حرارة هذا على درجة الحرارة، فسنحصل على التغير في الإنتروبي في الوسط المحيط. وبالتالي، إذا تراجع الإنثالبي الخاص بنظام ما بمقدار ١٠٠ جول أثناء تفاعل يحدث عند درجة حرارة ٢٥ درجة مئوية (٢٩٨ كلفن)، فإن المائة جول هذه تترك النظام على هيئة حرارة وتدخل إلى الوسط المحيط وبالتالي يزيد الإنتروبي الخاص بها بمقدار ٠٫٣٤ جول لكل كلفن. كل ما علينا أن نفعله هو أن نجمع تغيُّري الإنتروبي، ذلك الخاص بالنظام والآخر الخاص بالوسط المحيط، معًا، ونحدد ما إذا كان إجمالي التغير موجبًا (التفاعل تلقائي) أم سالبًا (التفاعل غير تلقائي).
لقد وجد علماء الكيمياء الفيزيائية طريقة ذكية لتحديد الجزئية المزعجة من عملية الحساب هذه والمتمثلة في تقييم التغير في الإنتروبي الخاصة بالوسط المحيط. في واقع الأمر، وإحقاقًا للحق، يعود الفضل إلى عالم فيزياء نظرية آخر ألا وهو الأمريكي جوسايا جيبس (١٨٣٩–١٩٠٣) الذي سلط الضوء على الديناميكا الحرارية في سبعينيات القرن التاسع عشر حيث أمكن اعتبارها أحد جوانب الكيمياء الفيزيائية، وأسس بفعالية لهذا الفرع من المجال. مرة أخرى، نرى أن الفيزياء توفر نقطة انطلاق لإحراز التقدم في الكيمياء الفيزيائية.
ويتعين عليَّ هنا أن أدلي بملاحظة أخرى. فعلى الرغم من أنه يبدو أن من البديهي أكثر اعتبار عمليةٍ ما طبيعيةً إذا كانت تتضمن «انخفاضًا» في خاصية ما، في هذه الحالة طاقة جيبس، فيجب أن نتذكر أن طاقة جيبس هي نسخة متخفية من الإنتروبي الإجمالي. ويكون الاتجاه التلقائي للتغير إلى «أعلى» على نحو ثابت بالنسبة إلى الإنتروبي الإجمالي. أوضح جيبس للكيميائيين أنهم، في مقابل التخلي عن التعميم والتعامل فقط مع التغيرات عند درجة حرارة وضغط ثابتين، يستطيعون التعامل مع خاصية واحدة للنظام، ألا وهي طاقة جيبس، وببساطة وبحكم تعريفها، مع وجود علامة الناقص، يعني «الانخفاض» في طاقة جيبس «الارتفاع» في الإنتروبي الإجمالي.
ثمة جانب مهم جدًّا خاص بالتلقائية يجب عليَّ أن أطرحه الآن. يولي الكيميائيون اهتمامًا بالغًا بالتركيب الذي يختفي عندها ميل أي تفاعل كيميائي نحو التغير: وهذا ما يُعرف ﺑ «حالة الاتزان الكيميائي». ولا يكون التفاعل الأمامي أو العكسي تلقائيًّا عندما يصل المزيج إلى حالة الاتزان. بعبارة أخرى، عند التركيب المكافئ لحالة الاتزان، لا يوازي أي تغير في البنية، سواء أتمثل هذا التغير في تكوين المزيد من النواتج أم تحللها، انخفاضًا في طاقة جيبس: لقد وصلت طاقة جيبس إلى أدنى مستوى، مع الوضع في الاعتبار أن التغير في أي من الاتجاهين يوازي زيادة في طاقة جيبس. وكل ما يجب على علماء الكيمياء الفيزيائية القيام به من أجل توقع التركيب في حالة الاتزان هو تحديد التركيب الذي تصل عنده طاقة جيبس إلى أدنى مستوى. وثمة طرق مباشرة لإجراء تلك العملية الحسابية، ويمكن حساب تركيب حالة الاتزان لأي تفاعل تقريبًا عند أية درجة حرارة بشرط أن تتوفر البيانات الخاصة بطاقة جيبس.
والقدرة على توقع تركيب حالة الاتزان الخاصة بأي تفاعل وإلى أي مدى يعتمد على الظروف لهي أمر ذو أهمية بالغة في مجال الصناعة، نظرًا إلى أنه لا جدوى من بناء مصنع كيميائي إذا كان عائد النواتج لا يُذكر، وتعول الاعتبارات الاقتصادية على توفير ظروف درجة الحرارة والضغط التي قد تؤدي إلى تحسين العوائد.
أخيرًا، يتعين عليَّ شرح مصطلح «الطاقة الحرة» الذي اتخذت منه عنوانًا لهذا القسم وبهذا أفتح بابًا آخر مهمًّا أمام التطبيقات البيولوجية والتكنولوجية للقانون الثاني للديناميكا الحرارية.
ثمة نوعان من الشغل. النوع الأول هو الشغل المبذول أثناء التمدد الذي يحدث عندما يولد التفاعل غازًا ويقاوم الضغط الجوي (ربما من خلال الضغط على مكبس). يُسمى هذا النوع «الشغل التمددي». ولكن ربما يبذل التفاعل شغلًا آخر غير ذلك المبذول من خلال الضغط على مكبس أو مقاومة الضغط الجوي. فعلى سبيل المثال، ربما يبذل شغلًا من خلال دفع الإلكترونات عبر دائرة كهربائية متصلة بمحرك. وهذا النوع من الشغل يُطلق عليه «الشغل اللاتمددي». والآن نأتي إلى النقطة المهمة هنا: التغير في طاقة جيبس الخاصة بنظام ما عند درجة حرارة وضغط ثابتين يعادل الحد الأقصى للشغل اللاتمددي الذي يمكن بذله من جانب التفاعل. ومن ثَم، تفاعل تقل فيه طاقة جيبس بمقدار ١٠٠ جول يمكن أن يبذل شغلًا لا تمدديًّا حتى ١٠٠ جول. وهذا الشغل اللاتمددي ربما يكون الشغل الكهربائي الخاص بدفع الإلكترونات عبر دائرة خارجية. وهكذا، نصل إلى حلقة وصل مهمة بين الديناميكا الحرارية و«الكيمياء الكهربائية»، التي تشمل توليد الكهرباء من خلال التفاعلات الكيميائية وعلى وجه التحديد آلية عمل البطاريات الكهربائية وخلايا الوقود (انظر الفصل الخامس).
وثمة حلقة وصل أخرى مهمة تكشفها هذه العلاقة: فالصلة التي تربط الديناميكا الحرارية وعلم الأحياء هي أن التفاعل الكيميائي ربما يبذل الشغل اللاتمددي الخاص ببناء أحد البروتينات من الأحماض الأمينية. لذا، فإن معرفة التغيرات في طاقة جيبس المصاحبة لعمليات الأيض مهمة جدًّا في علم الطاقة الحيوية، وأهم بكثير من معرفة التغيرات في الإنثالبي وحدها (التي تشير فقط إلى قدرة التفاعل على شعورنا بالدفء). وتُعد هذه الصلة إسهامًا كبيرًا تقدمه الكيمياء الفيزيائية إلى مجال الكيمياء الحيوية وعلم الأحياء بوجه عام.
القانون الثالث
لقد راوغتك قليلًا، ولكن هذا فقط من أجل التناول السريع للقانون الثاني للديناميكا الحرارية ذي الأهمية البالغة. ما تجاهلته هو قياس الإنتروبي. ذكرت أن التغيرات في الإنتروبي تُقاس من خلال مراقبة الحرارة المضافة إلى عينة ما وملاحظة درجة الحرارة. ولكن هذا يعطينا فقط قيمة «التغير» في الإنتروبي. ما الذي نحصل عليه بالنسبة إلى القيمة الأولية؟
هنا يلعب القانون الثالث دورًا. وكما هي الحال مع القانونين الآخرين، هناك طرق يمكن التعبير بها عن القانون الثالث إما من خلال الملاحظات المباشرة وإما من خواص الديناميكا الحرارية التي ذكرتها، مثل الطاقة الداخلة أو الإنتروبي. ويندرج التعريف التالي للقانون الثالث تحت النوع الأول؛ إذ ينص على أنه «لا يمكن الوصول إلى درجة حرارة الصفر المطلق في عدد متناهٍ من الخطوات». ولتلك الصيغة للقانون أهمية بالغة في علم التبريد الشديد، أي، الوصول إلى درجات حرارة منخفضة جدًّا، ولكنها ليست ذات صلة مباشرة كبيرة بالكيمياء الفيزيائية. أما الصيغة التي لها صلة مباشرة بالكيمياء الفيزيائية فتحمل المنطق نفسه (ويمكن البرهنة عليها)، ولكنها مختلفة تمامًا ظاهريًّا، وهي كالتالي: «يتماثل الإنتروبي الخاص بجميع البلورات المثالية عند درجة حرارة الصفر المطلق». وبغرض تسهيل الفكرة (ولأسباب مبينة باستفاضة في الفصل الثالث)، تُقدر القيمة المشتركة هذه بالصفر.
الآن، نحن لدينا نقطة انطلاق لقياس قيم الإنتروبي المطلقة (أو قيم إنتروبي «القانون الثالث»). نقلل درجة الحرارة الخاصة بمادة ما إلى أقرب ما يمكن إلى الصفر المطلق، ثم نقيس الحرارة المتوفرة عند تلك الدرجة. ثم نرفع درجة الحرارة قليلًا، ونفعل الشيء نفسه. تستمر تلك السلسلة من الخطوات حتى نصل إلى درجة الحرارة التي عندها نرغب في تسجيل الإنتروبي، الذي هو ببساطة عبارة عن مجموع كل هذه القيم الناتجة عن «قسمة الحرارة على درجة الحرارة». توفر هذه العملية التغير في الإنتروبي ما بين درجة الحرارة الصفرية ودرجة الحرارة المعنية، لكن يكون الإنتروبي عند الأولى صفرًا، بمقتضى القانون الثالث، لذا يعطينا التغير القيمة المطلقة الخاصة بالإنتروبي أيضًا.
ومن ثَم، يلعب القانون الثالث دورًا مهمًّا في الكيمياء الفيزيائية من خلال السماح لنا بتجميع جداول قيم الإنتروبي المطلقة واستخدام تلك القيم لحساب قيم طاقة جيبس. إنه جزء مهم من تركيبة الديناميكا الحرارية الكيميائية، بيد أنه تفصيلة تقنية أكثر من كونه إسهامًا يقدم نظرة متبصرة. أم إن هذا غير صحيح؟ أيمكن للقانون الثالث أن يقدم نظرة متبصرة؟ سنرى في الفصل الثالث كيف يمكن تفسيره.
العلاقات بين الخواص
قلت في بداية هذا الفصل إن الديناميكا الحرارية الكيميائية توفر العلاقات، التي أحيانًا تكون غير متوقعة، بين خواص المواد، وغالبًا ما تكون تلك الخواص غير ذات صلة من الناحية الظاهرية بالاعتبارات الخاصة بتحولات الطاقة. ومن ثَم، ربما تُربط قياسات خواص متعددة معًا باستخدام إرشادات الديناميكا الحرارية للتوصل إلى قيمة خاصية ربما يصعب تحديدها مباشرة.
يصعب عليَّ عرض هذا القسم ليس فقط لأنني أريد أن أتجنب الرياضيات ولكن أيضًا لأنك على الأرجح لن تجد الكثير من العلاقات مثيرة للاهتمام ولن تتأثر بمعرفة أنه ثمة طرق بارعة لقياس خواص تبدو مبهمة! وأفضل طريقة يمكنني أن أجدها لتوضيح نوعية العلاقات المتضمنة هنا هي تلك العلاقة بين أنواع مختلفة من إحدى الخواص المألوفة نوعًا ما، ألا وهي السعة الحرارية (التي تُشار إليها على نحو شائع ﺑ «الحرارة النوعية»).
قد يبدو هذا المثال تافهًا وغير مثير للاهتمام بشكل خاص (كما حذرت من قبل). ومع ذلك، فهو يكشف أن علماء الكيمياء الفيزيائية يمكنهم الاستعانة بقوانين الديناميكا الحرارية، تلك القوانين التي لها صلة بالمادة من الخارج، لتحديد العلاقات بين الخواص وإيجاد صلات مهمة تربط بينها.
التحدي الراهن
طُورت الديناميكا الحرارية من أجل دراسة المادة بحجمها الطبيعي. يتحوَّل الاهتمام الآن إلى أشكال خاصة من المادة مثل الأنظمة النانوية الصغيرة جدًّا وإلى الأنظمة البيولوجية بوظائفها وبنياتها الخاصة. وأحد فروع الديناميكا الحرارية التي لم يُحرز فيها تقدم كبير منذ وضعها هي «الديناميكا الحرارية غير القابلة للانعكاس»؛ حيث ينصب التركيز على معدل تبدد الطاقة ويُولد الإنتروبي من خلال أنظمة ليست في حالة اتزان: ربما يكون القانون الخامس مترصدًا في الخفاء الآن في انتظار من يكتشفه.