حالات المادة
عالِم الكيمياء الفيزيائية مهتم بجميع «حالات» المادة، أي، الشكل المادي الذي توجد عليه. ثمة ثلاث حالات تقليدية للمادة؛ ألا وهي: الحالة الغازية، والسائلة، والصلبة. وثمة حالات بَينيَّة معروفة كذلك، مثل البلورات السائلة التي تُستخدم في الكثير من أجهزة العرض المرئية، والتي تُعد مادة نصف سائلة ونصف صلبة. وتُعد المواد النانونية عنصرًا جديدًا يندرج تحت الحالة الصلبة، وهي عبارة عن مادة يتراوح حجمها بين ١ و١٠٠ نانومتر. وثمة حالة جديدة تمثلها «الجرافين» الذي يعد أقل المواد سماكة. سألقي بعض الضوء على تلك الحالات الجديدة للمادة لاحقًا. وبعض الناس يرون أن «البلازما»، والتي هي غاز أيوني، حالة مختلفة من المادة، ولكنها الآن ليست لها أهمية كبيرة للكيمياء التقليدية ولذا سأتجاهل الحديث عنها.
الحالة الغازية
يسهل على عالِم الكيمياء الفيزيائية التعامل مع الحالة الغازية للمادة. فهذه الحالة هي الأسهل من حيث إمكانية وصفها وإجراء توقعات كمية حيالها. في الحقيقة، يمكن اعتبار دراسة الغازات نقطة انطلاق أخرى للكيمياء الفيزيائية، مع روبرت بويل (١٦٢٧–١٦٩١) ودراسته ﻟ «مرونة الهواء» بأكسفورد في عام ١٦٦٠ تقريبًا. وقد لاقت دراسة الغازات تشجيعًا أكبر من خلال دراسة سمة أخرى لطالما كانت موجودة على مدى قرون، عندما حلق الإنسان في الهواء بواسطة المناطيد واعتمدت التطورات التكنولوجية في هذا الشأن على المزيد من الأبحاث الأساسية. وأذكر هنا جاك شارل (١٧٤٦–١٨٢٣)، ومحاولته للطيران في عام ١٧٨٣، والصياغة اللاحقة لقانونه على يد كيميائي رائد آخر مهتم بالمناطيد، ألا وهو جوزيف لوي جي–لوساك (١٧٧٨–١٨٥٠)، في عام ١٨٠٢.
تعليق
إن وجود معادلة الحالة للغاز المثالي يقودني إلى جانب مهم جدًّا من الكيمياء الفيزيائية، ألا وهو: بناء النماذج. ينظر علماء الكيمياء الفيزيائية إلى العلاقات المثبتة تجريبيًّا (أي، تلك التي بين الخواص التي أثبتتها التجارب مثل معادلة الحالة) باعتبارها تحديًا: ما التفسير الجزيئي الذي يمكن التوصل إليه والذي يفسر القانون أو العلاقة المرصودة، ومن ثَم كيف يمكن تعديله لتفسير الحالات الشاذة عن القانون البسيط؟ وفي حالة الغازات، يتمثل التحدي في بناء نموذج للغاز المثالي يتوافق مع معادلة الحالة للغاز المثالي المرصودة ثم تعديل النموذج بحيث تُستخلص معادلات الحالة للغازات الحقيقية. تنتشر فكرة بناء النماذج في الكيمياء الفيزيائية، ليس فقط عند وصف الغازات، وسأضرب عدة أمثلة عليها أثناء المضي قدمًا عبر هذه الفصول. بالطبع، يعتقد البعض أن العلوم برمتها قائمة على بناء نماذج للواقع المادي؛ وقدر كبير من الكيمياء الفيزيائية قائم على ذلك بالتأكيد.
لقد استخدم علماء الكيمياء الفيزيائية، بالتعاون مع الفيزيائيين، النموذج الحركي لدراسة المعدل الذي تنتقل به الخواص عبر الغازات ومعدل تصادم الجزيئات على الأسطح. فعلى سبيل المثال، استطاعوا الربط بين «التوصيل الحراري» الخاص بغاز ما — أي، قدرته على نقل الحرارة عبر تدرُّج درجة حرارة — والخواص الجزيئية. ويعتبر النموذج أيضًا محوريًّا في دراسة معدلات حدوث التفاعلات الكيميائية في الغازات (انظر الفصل السادس). إن كمية المعلومات التي يمكن استخلاصها من حالة الجهل شبه التام مدهشة جدًّا حقًّا.
الحالة السائلة
تُعد السوائل موضوعًا يصعب سبر أغواره. ويجب على علماء الكيمياء الفيزيائية الاهتمام بها نظرًا إلى أن عددًا كبيرًا من التفاعلات الكيميائية يحدث فيها باعتبارها وسطًا للتفاعل لدرجة أن عدم استكشافها ووضع نموذج لخواصها يُعد إغفالًا جسيمًا. وتكمن الصعوبة في فهمها في أنها مرحلة وسيطة بين طرفي نقيض: الاضطراب الفوضوي للجزيئات في الحالة الغازية والمصفوفات الجامدة للذرات في الحالة الصلبة. علاوة على ذلك، يُعد الماء — وهو أهم سائل يجب علينا فهمه — شيئًا غاية في الغرابة لدرجة أن الفهم العميق لخواصه يظل أمرًا مراوغًا على نحو كبير.
توجد عدة جوانب للحالة السائلة التي تُستهدف دراستها دراسة تجريبية، وتشمل الموضع الذي تتخذه الجزيئات في أي لحظة، ومدى سرعة حركتها، ومدى سهولة حركتها بالنسبة إلى بعضها البعض. كما يمكن دراستها أيضًا من خلال رصد انتقال المواد المذابة عبرها ومن خلال رصد الطريقة التي تمتص بها أنواعًا وألوانًا مختلفة من الإشعاع الكهرومغناطيسي. ويتطلب كل أسلوب تجريبي، كما هو معهود في الكيمياء الفيزيائية، تصميم نموذج لتفسير النتائج. وعلى عكس الغازات، بالطبع، حيث تكون التفاعلات بين الجزيئات ضئيلة من الوهلة الأولى، تكون التفاعلات في السوائل، حيث تتدافع الجزيئات، محورية للوصف.
لدى علماء الكيمياء الفيزيائية عدة طرق لدراسة ديناميكا الجزيئات في السوائل، أي، خواص حركتها. والصورة الأقرب لاستحضارها في الذهن هي حشد متدافع من الناس؛ بحيث إذا دُرست عملية تدفق السائل، تحولت الصورة إلى صورة حشد من المتفرجين يتركون استادًا مكتظًّا عن آخره بالجماهير.
تتمثل الطريقة الكلاسيكية لدراسة حركة الجزيئات في قياس درجة «لزوجتها»، أي، مقاومتها للتدفق، عبر نطاق من درجات الحرارة. ومع ذلك، من الصعب تفسير اللزوجة على الرغم من أهميتها العملية الكبيرة، كما هي الحال عند تصميم منشأة كيميائية حيث تُجبر السوائل على التدفق عبر أنابيب من مكان إلى آخر. وتُدرَس حركة الجزيئات نفسها من خلال مجموعة متنوعة من التقنيات. إحدى هذه التقنيات هي «التشتت النيوتروني»: توجه تيارات من أقارب البروتونات عديمة الشحنة، أي، النيوترونات، نحو عينة السائل، وترتد عن جزيئات السائل بمستويات طاقة مختلفة. ومن خلال فحص تلك المستويات، يمكن تكوين صورة عن حركة الجزيئات وتحديد مجموعات الجزيئات المتعاونة التي تعمل بطريقة متناسقة. ويمكن أيضًا لذلك الجسيم النافع الآخر، الفوتون، الذي يُطلق من أجهزة الليزر، أن يوفر معلومات من نوعية مماثلة.
سأتناول «الرنين المغناطيسي النووي» في الفصل السابع، ولكن أود هنا أن أشير إليه إشارة عابرة، بما أنه تقنية أخرى يمكن الاستعانة بها لدراسة حركة الجزيئات في السوائل. ويمكن الاستعانة به على وجه الخصوص لدراسة كيف تدور الجزيئات في الوسط الكثيف والمقيد داخل سائل ما. ووجد أنه في بعض الحالات تدور الجزيئات في سلسلة من الخطوات الصغيرة، متخذة خطوات كثيرة لتدور بالكامل، في حين أنه في بعض السوائل قد يتأرجح الجزيء بزاوية قائمة أو نحو ذلك في كل خطوة.
فُند هذا النموذج الخاصة بحركة الأيونات عبر الماء على نحو شبه تام حين وُجد أن أيونات الهيدروجين — الأيونات الأصغر على الإطلاق — كانت الأسرع على الإطلاق، ومن ثَم هي بعيدة تمامًا عن التصرف مثلما تتصرف الأيونات الصغيرة والتحرك ببطء عندما تحيط بها جزيئات ماء كثيرة! أعطى التفسير نظرة ثاقبة على سلوك البروتونات في الماء؛ إذ جرى استنتاج أنها لم تكن تتحرك فعليًّا على الإطلاق. وبدلًا من ذلك، ثمة انتقال فعلي لبروتون مع حدوث تغير في ملكية جزيئات الماء المجاورة للبروتونات الخاصة بها. لذا، في سلسلة من جزيئات الماء كهذه:
يؤدي تغير طفيف في الملكية إلى هذه السلسلة:
ويظهر البروتون فجأة وبفعالية على الطرف الآخر من السلسلة ولا يوجد انتقال فعلي متثاقل للبروتون الأصلي.
ما زال علماء الكيمياء الفيزيائية يستعينون بنموذج مبكر لبنية محاليل الأيونات في الماء حتى اليوم باعتباره أول مقاربة لسلوك الأيونات في المحلول ولا سيما خواصها الديناميكية الحرارية. اقترح هذا النموذج كل من بيتر ديباي (١٨٨٤-١٩٦٦) وإريش هوكل (١٨٩٦–١٩٨٠)، في عام ١٩٢٣، وهو، في رأيي، يُعد نموذجًا ممتازًا لعملية بناء النماذج؛ إذ إنه يشمل الكثير من الخطوات الصغيرة، التي كل منها تسترشد بفكرة ثاقبة من علم الفيزياء. تتمثل الفكرة الأساسية في أن الكاتيون (الأيون الموجب الشحنة) في المحلول يكون مُحاطًا عادةً بالأنيونات (الأيونات السالبة الشحنة)، والعكس صحيح. وهكذا، إذا فكرنا في الأمر من حيث متوسط الوقت الخاص ببيئاتها، فإن كل أيون مُحاط ﺑ «وسط أيوني» دقيق له شحنة معاكسة. والتفاعل الخاص بالأيون الأساسي مع الوسط الذي له شحنته المعاكسة يقلل من طاقته وبالتالي يجعله أقل نشاطًا من الناحية الديناميكية الحرارية.
طوَّر ديباي وهوكل هذا النموذج كميًّا واستنتجا ما صار يُعرف ﺑ «قانون ديباي-هوكل» والذي فيه يتناسب انخفاض الطاقة مع الجذر التربيعي لتركيز الأيونات الموجودة. في الواقع، هذا مثال آخر للقوانين المُقيدة التي تميز الكيمياء الفيزيائية: في هذه الحالة، تعني القيم التقريبية المستخلصة في خضم تطويره أنها صحيحة تمامًا في حالة التركيز الصفري. وعلى الرغم من ذلك القصور، يُعد هذا القانون نقطة انطلاق جيدة لنظريات أكثر تطورًا عن المحاليل الأيونية.
الحالة الصلبة
ترتكز الكيمياء الفيزيائية على أساس أكثر رسوخًا فيما يتعلق بالحالة الصلبة للمواد. فهنا، بدلًا من أن تكون الحركة واضحة (كما في حالة الغازات)، أو تكون مقيدة ولكنها ذات أهمية (كما في حالة السوائل)، فإنه يبدو من الوهلة الأولى أنه لا توجد حركة على الإطلاق في المادة الصلبة بما أنه يمكن اعتبار أن جميع ذراتها تتخذ أماكن ثابتة. هناك حركة قطعًا في المواد الصلبة؛ إلا أنها تتمثل بوجه عام في تأرجح الجزيئات في مكانها أثناء اهتزازها، ولهذا يمكن تجاهلها مبدئيًّا.
إن التقنية التجريبية الأساسية لتحديد بنية المواد الصلبة هي «حيود الأشعة السينية» (أو «التصوير البلوري بالأشعة السينية»). ومع ذلك، يجب أن أقر بأن فهم توزيع الذرات في الجزيئات شيء مهم جدًّا بالنسبة إلى علم الأحياء الجزيئي والكيمياء غير العضوية، لدرجة أن اختصاصيي هذين العلمين يعتبرون على الأرجح تقنية حيود الأشعة السينية ملكية خاصة بهم؛ وأظن أنه يصح لنا القول بأن علماء الكيمياء الفيزيائية بوجه عام يروقهم إسقاط هذه التقنية من حساباتهم ولكنهم يتمسكون باستنتاجاتها بشدة. وتتداخل استنتاجاتهم مع اهتمامات علماء المواد، نظرًا إلى أنه هنا، كما في علم الأحياء، ترتبط البنية ارتباطًا وثيقًا بالوظيفة.
لن أسهب في الحديث كثيرًا عن تلك التقنية نظرًا إلى أن علماء الكيمياء الفيزيائية، كما قلت، يروقهم بشدة إسقاطها من حساباتهم؛ وبدلًا من ذلك سأركز على ما تكشفه. باختصار، تستفيد تقنية حيود الأشعة السينية من حقيقة أن الإشعاع الكهرومغناطيسي (الذي يشمل الأشعة السينية) يتألف من موجات قد تتداخل بعضها مع بعض وتكوِّن مناطق ذات شدة كهرومغناطيسية متزايدة ومتناقصة. إن هذا النمط الذي يُسمى ﺑ «نمط الحيود» هو سمة خاصة بالجسم الموجود في مسار الأشعة، ويمكن الاستعانة بالإجراءات الرياضية لتفسير النمط فيما يتعلق ببنية الجسم. ويحدث الحيود عندما يكون الطول الموجي للإشعاع مماثلًا لأبعاد الجسم. وللأشعة السينية أطوال موجية مماثلة للمسافات بين الذرات في المواد الصلبة، ومن ثَم تكون وسيلة مثالية لدراسة توزيعها.
لم يخشَ علماء الكيمياء الفيزيائية هذه المشكلات وإنما تهيبوها. لذا، لجئوا على نطاق واسع إلى الاستعانة بأجهزة الكمبيوتر لجمع كل أنواع البلورات من الأشكال المُعقَّدة، ودمجوا في البرمجيات النماذج الخاصة بكيفية تفاعل المكونات المختلفة بعضها مع بعض وجعلوا أجهزة الكمبيوتر تبحث عن التوزيعات التي لها أقل طاقة. لقد أثبت هذا النوع من الدارسة فاعليته بصفة خاصة عند تطوير المواد الصلبة المعقدة التي أصبحت الآن تُستخدَم كمواد محفزة. وتحظى هذه المواد الصلبة المسامية عادة بقنوات واسعة بين كتل الأيونات تسمح باختراق المواد المتفاعلة وتسللها. وتزيد القنوات بفاعلية من مساحة السطح على نحو كبير من خلال إتاحة وصول جزيئات المواد المتفاعلة إلى النقاط الساخنة المتفاعلة في داخل المادة الصلبة.
لا تُعد التفاعلية الكيميائية الجانب الوحيد الذي يهتم به علماء الكيمياء الفيزيائية فيما يخص المواد الصلبة. فهنا تندمج اهتماماتهم مع اهتمامات الفيزيائيين وعلماء المواد، الذين يملكون التقنيات اللازمة لحوسبة الخواص الكهربائية والضوئية والميكانيكية الخاصة بالمواد الصلبة المُعقدة جدًّا حتى والبحث عن طريقة لتعزيز الخواص التي يهتمون بها، هذا بالتعاون مع علماء الكيمياء الفيزيائية وغير العضوية (وعلى نحو متزايد مع علماء الكيمياء العضوية). وأحد المجالات التي تتبادر إلى الذهن على الفور حيث يكمن التعاون المثمر هو تطوير المواد الخزفية التي تُظهر الخاصية الاستثنائية المتمثلة في الموصلية الفائقة، وهي القدرة على توصيل الكهرباء دون مقاومة، في درجات حرارة لا تقل كثيرًا عن درجة حرارة الغرفة. وثمة مجال آخر هو تطوير مواد قطبية كهربائية ومواد إلكتروليتية للإنتاج الفعَّال للكهرباء بواسطة البطاريات الحديثة.
الحالات الوسيطة للمادة
أظن أن جميع التصنيفات تقريبًا لها حدود متداخلة حيث يوجد كيان لا ينتمي إلى هذه الفئة أو تلك، وربما يكون مزيجًا من الاثنتين. وعادةً ما تكون الحدود المتداخلة مجالات جاذبة لاهتمام كبير، حيث تكمن الخواص المثيرة للاهتمام وحيث ينبع فهم جديد وتقنيات جديدة أيضًا. وثمة نوعان من الحدود التي تهم علماء الكيمياء الفيزيائية، أحدهما حيث يلتقي السائل بالغاز والآخر حيث يلتقي السائل بالمادة الصلبة.
يلتقي السائل بالغاز بطريقة مثيرة للاهتمام وعند «النقطة الحرجة» للمادة. ولتقدير أهمية تلك النقطة، تخيل سائلًا وبخاره في حاوية صلبة مغلقة بإحكام؛ سنتخيل أنها شفافة بحيث يتسنى لنا رؤية ما يحدث بداخلها. عند تسخينها، يتبخر السائل وبالتالي تزداد كثافة البخار فوقه. وستأتي مرحلة تتوافق عندها كثافة البخار مع كثافة السائل ويختفي السطح بينهما. هذه هي النقطة الحرجة. المادة الموجودة في الحاوية لا تكون سائلًا أو غازًا؛ وإنما «مائع فوق حرج». ولهذا المائع كثافة مماثلة لكثافة السائل ولكنه يملأ الحاوية التي يشغلها، مثل الغاز.
يُعد ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج محور اهتمام عدد متزايد من العمليات القائمة على المذيبات. إن الخواص الناقلة الخاصة بأي من هذه الموائع (لزوجته وموصليته الحرارية، على سبيل المثال) تعتمد بشدة على كثافته، التي تتأثر بدورها بالضغط ودرجة الحرارة: يمكن تعديل كثافة ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج من كثافة شبيهة بكثافة الغاز ٠٫١ جرام لكل سنتيمتر مكعب إلى كثافة شبيهة بكثافة السائل ١٫٢ جرام لكل سنتيمتر مكعب. وتعتمد قابلية ذوبان المادة المذابة بشكل كبير على كثافة المائع فوق الحرج، لذا فإن الزيادات الطفيفة في الضغط، خاصة بالقرب من النقطة الحرجة، يمكن أن تكون لها تأثيرات كبيرة جدًّا على القابلية للذوبان.
يلعب علماء الكيمياء الفيزيائية دورًا مهمًّا في تحديد الظروف التي بموجبها يمكن اعتبار إحدى المواد مادة فوق حرجة ويُعد استكشاف خواص هذه الموائع والعمليات التي تحدث فيها مجالًا بحثيًّا واعدًا. الماء نفسه يمكن أن يكون من المواد فوق الحرجة؛ إلا أن الظروف (حوالي ٣٧٤ درجة مئوية و٢١٨ ضغط جوي) مواتية على نحو أقل بالنسبة إليه لكي يكون كذلك مقارنة بثاني أكسيد الكربون. إلا أنه مجال مثير للاهتمام بشدة للاستكشاف التجريبي والنظري.
لقد صار علماء الكيمياء الفيزيائية مهتمين للغاية ﺑ «المادة اللينة» (والتي يُطلق عليها أيضًا «الموائع المعقدة») التي تقع من حيث الطابع بين المواد الصلبة الصلدة والسوائل. ويندرج الكثير من المواد البوليمرية تحت هذا النوع، كما هي الحال مع الطلاءات السطحية، والمواد اللاصقة، والرغويات، والمستحلبات، والكثير من المواد البيولوجية.
للبلورات السائلة خواص بصرية جذابة، كما قد يُستنتج من استخدامها في أجهزة العرض البصرية. وعلى عكس السوائل، فإن لها أيضًا خواص لزجة وميكانيكية تعتمد على الاتجاه. ويُعنى علماء الكيمياء الفيزيائية بشدة بتطوير أنواع مختلفة من خواص البلورة السائلة وتحديد الخواص الديناميكية الخاصة بالجزيئات داخل الطبقات وبينها. كما يمتد أثر هذا النوع من التجريب إلى علم الأحياء، نظرًا إلى أن البلورات السائلة مشابهة جدًّا للأغشية التي تغلف خلايا الكائنات الحية، وفيها خلايانا.
إحدى الفئات الكبرى من المواد التي تنتمي إلى فئة «المواد اللينة» هي البوليمرات، مثل البولي إيثيلين والنايلون وجميع أشكالها المتطورة. تُعد البوليمرات مجالًا رائعًا وخصبًا لعلماء الكيمياء الفيزيائية نظرًا إلى تنوع بنيتها وخواصها على نحو كبير. فهي تتنوع تنوعًا ميكانيكيًّا من المادة الصلبة إلى المادة السائلة، وتتنوع كهربائيًّا من عازل إلى موصل، وتتنوع بصريًّا أيضًا. وتُعدل بعض خواصها عن طريق تطبيق المجالات الكهربائية. إنها تمثل تحديات في توصيفها، مثل أوزانها الجزيئية (انظر الفصل التالي)، وانتشار الأوزان الجزيئية في العينة، والطريقة التي قد تتكور بها وتتحول إلى كرات محكمة أو تنبسط وتنفرد إلى خيوط طويلة، وطول سلاسل البوليمر وهيئاتها.
التحدي الراهن
توفر المواد البوليمرية الفرصة لعلماء الكيمياء الفيزيائية لتعديل المواد، وفي ذلك ألوان الأقمشة، باستخدام المجالات الكهربائية، وتقدم فرصًا رائعة للدراسة المبتكرة على كلا المستويين التجريبي والنظري. تمثل المادة اللينة تحديات بخصوص البنية وعلاقتها بالخواص، وخاصة استجابة العينات للتغيرات المفاجئة في الظروف، وفي ذلك التأثير الميكانيكي. ولدراسة استجابات مثل هذه، من الضروري بناء نماذج خاصة بالسلوك الديناميكي للمكونات الجزيئية ثم تحويل الوصف النظري لهذا السلوك إلى وصف لسلوك لعينات المادة بحجمها الطبيعي.
تمثل المادة الصلبة تحديات أيضًا، لا سيما حين تتمتع بخواص بصرية وإلكترونية رائعة، مثل الموصلية الفائقة، وتحظى بالقدرة على تخزين المعلومات ومعالجتها. فمثلًا على حدود المواد الصلبة يقع الجرافين الذي تسمح دراسته لعلماء الكيمياء الفيزيائية باستكشاف الخواص والسلوكيات المميزة للمواد التي تشغل بشكل أساسي العالم المسطح ثنائي الأبعاد. والجرافيت نفسه عبارة عن أكوام من طبقات ذرات الكربون في ترتيب شبيه بترتيب شبكات حظائر الدجاج السلكية: تنزلق هذه الطبقات بعضها فوق البعض عند وجود شوائب، ولهذا السبب يمكن استخدام الجرافيت غير النقي كمادة تشحيم. ويعد الجرافين واحدًا من هذه الصفائح المعزولة. إن القوة الرائعة لهذه المادة وخواصها الكهربائية المميزة كلاهما يثير اهتمامًا كبيرًا وقد بدأت دراستهما من قبل علماء الكيمياء الفيزيائية الذين يواجهون الآن التحديات التي تمثلها هذه المادة ثنائية الأبعاد بالأساس. ومن المواد المثيرة للاهتمام على نحو مماثل البلورات غير الدورية، التي على الرغم من أنها مكونة من ذرات متراصة على نحو وثيق بجوار بعضها البعض، فإنها لا تتمتع بخواص الترتيب اللامتناهي الخاصة بالبلورات التقليدية.