فحص المادة
تكمن الكيمياء الفيزيائية في صميم أحد تطبيقات الكيمياء وإنجازاتها الأساسية؛ ألا وهو، التعرُّف على المواد الموجودة في عينة ما وتحديد مدى توافرها وبنيتها. ومع تطور هذه التقنيات، صار علماء الكيمياء الفيزيائية معنيين أكثر من أي وقت مضى بتفسير البيانات الثرية التي توفرها تلك التقنيات. وهم يستفيدون من الكثير من المفاهيم الكثيرة التي عرضتها في الفصول السابقة، مثل نظرية الكم (في علم التحليل الطيفي)، والديناميكا الحرارية (من خلال الكيمياء الحرارية والكيمياء الكهربائية)، وعلم الحركية. وفي حالات كثيرة، تكون مجموعة متنوعة من المفاهيم أساسية لتطوير التقنية وفهم البيانات التي تقدمها.
لقد ساهم عنصران بدرجة هائلة وبصفة شبه عامة في تطوير التقنيات الكلاسيكية؛ وهما: الليزر والكمبيوتر. لقد طور الليزر علمي التحليل الطيفي والحركية، ولعب أيضًا دورًا في الكيمياء الحرارية. ويكاد لا يوجد أي جزء من جهاز، بخلاف أبسط الأجزاء، غير خاضع للتحكم أو التحليل من قبل جهاز كمبيوتر، والكمبيوتر في حد ذاته أتاح ظهور مجال الكيمياء الحاسوبية.
التحليل الطيفي
يستخلص الضوء، والإشعاع الكهرومغناطيسي بوجه عام، المعلومات من الأجزاء الداخلية الخاصة بالذرات والجزيئات. ولقد كان اكتشاف الأطوال الموجية والترددات الموجودة في هذا الضوء وتحليلها مصدرًا لكمية هائلة من المعلومات، ولا تزال التقنيات المبنية عليها قيد التطوير. وهناك أربعة أنواع من التحليل الطيفي — الانبعاث، والامتصاص، والتشتت، والرنين — وتقنيات مختلفة للمناطق المختلفة الخاصة بالطيف الكهرومغناطيسي.
في «تحليل طيف الانبعاث»، الذي يقتصر غالبًا على تحديد الذرات ودراستها، ينبعث الضوء من الذرات التي جرت إثارتها بقوة والتي تطلق بعد ذلك فوتونًا أثناء رجوعها إلى حالات الطاقة المنخفضة. ويُعد الضوء الأصفر المنبعث بواسطة ذرات الصوديوم في إنارة الشوارع مثالًا على ذلك. وبالإضافة إلى تحديد وجود العناصر في عينة ما، يقدم هذا النوع من التحليل الطيفي الذري معلومات تفصيلية جدًّا عن البنى الداخلية للذرات وكان الحافز الأصلي لتطبيق قوانين ميكانيكا الكم على الذرات.
ويُعد «تحليل طيف الامتصاص» هو التحليل الطيفي الأساسي. وفيه تُمرَّر حزمة من الإشعاع بتردد متغير ولكنه معروف بدقة عبر عينة ويُسجل مقدار توهين شدته. وثمة ثلاثة أنواع فرعية جوهرية. إذ يرصد «التحليل الطيفي بإشعاع الميكروويف» امتصاص إشعاع الميكروويف (وهو إشعاع بأطوال موجية تبلغ عدة سنتيمترات) بواسطة الجزيئات التي لها مطلق الحرية للدوران في الطور الغازي. ويعتمد هذا النوع من التحليل على إثارة الدورانات ويوفر معلومات دقيقة للغاية عن طول الروابط وزاويتها. ويستفيد «التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء» من امتصاص الأشعة تحت الحمراء عن طريق ذبذبات الجزيئات ويُستخدم للتعرف على الجزيء من خلال بصمة ذبذباته. وعلى نحو مماثل، يرصد «التحليل الطيفي بالأشعة فوق البنفسجية/المرئية» الامتصاص، ولكن بأطوال موجية أقصر وترددات أعلى. ويكون الامتصاص عند هذه الترددات بسبب استثارة الإلكترونات خارج المدارات التي تشغلها في الحالة القاعدية. وتؤدي إعادة التوزيع المفاجئة لكثافة الإلكترونات إلى تحفيز الجزيء للانطلاق في الذبذبة، وهذا الانطلاق في الذبذبة يمكن أن يتسبب أيضًا في دوران الجزيء بمعدلات مختلفة. ويمكن استكشاف عواقب تحفيز الذبذبة والدوران عند استثارة إلكترون داخل الجزيء في الطور الغازي واستخدامها لاستخلاص معلومات حول قوة الروابط وصلابتها؛ أما في المحلول، فإنها تطمس الامتصاص وتؤدي إلى ظهور نطاقات عريضة في الطيف.
أشرتُ إلى التشتت باعتباره أحد الأشكال هنا. وهذا هو مجال «تحليل طيف رامان»، الذي ابتكره تشاندراشيكارا رامان (١٨٨٨-١٩٧٠) وكاريامانيكام كريشنان (١٨٩٨–١٩٦١) في عام ١٩٢٨ والذي بموجبه حصد رامان وحده بدون كريشنان جائزة نوبل (في الفيزياء) في عام ١٩٣٠. و«أثر رامان» هو التشتت غير المرن للضوء عن طريق الجزيئات. وفي هذه التقنية، توجه فوتونات الضوء (والأشعة فوق البنفسجية) إلى العينة وتُشتت بواسطة جزيئاتها. وللضوء المُشتت تردد أقل إذا فقد في خضم تفاعله مع الجزيئات طاقته من أجلها أو تردد أعلى إذا اكتسب طاقة أثناء التصادم. ويكشف فحص الترددات الموجودة في الضوء المُشتت مستويات الطاقة التي تحظى بها الجزيئات ويمكن من خلال تلك المعلومات استنتاج معلومات أخرى عن هويتها وبنيتها. لم يحظَ تحليل طيف رامان باهتمام خارج المعامل ولو بالقدر الضئيل إلى أن طُورت تقنية الليزر نظرًا إلى أن شدة الإشعاع المُشتت قليلة ومختفية تحت الإشعاع الساقط إلا إذا كان الأخير يغطي نطاقًا ضيقًا للغاية. يوفر الليزر ضوءًا مكثفًا أحادي التردد تقريبًا («أحادي اللون»)، ومن ثَم جرى التغلب على المشكلتين السابقتين وتحول تحليل طيف رامان ليصبح إحدى تقنيات التحليل الطيفي الأساسية. كما أنه أصبح تقنية فعَّالة، عند الجمع بينه وبين الفحص المجهري، للتحليل التفصيلي للأسطح.
وللشكل الرابع، الرنين، أهمية بالغة لدرجة أنني سأفرد له قسمًا قائمًا بذاته.
الرنين المغناطيسي
نحن جميعًا نستخدم الرنين كل يوم. يحدث الرنين عندما تجرى موالفة التردد الطبيعي لجهاز ما على نفس التردد الخاص بمثير ما، مثل الإشعاع الكهرومغناطيسي الصادر من جهاز إرسال لا سلكي بعيد. وتكون استجابة الجهاز هي الأكبر عندما تجرى موالفته على هذا النحو، وكل أنواع الاتصال اللاسلكي قائمة على هذا. وفي أبسط تطبيقات الرنين بمجال التحليل الطيفي، تُعدل خواص الجزيئات من خلال التحكم في بيئتها (في جميع التطبيقات التي سأصفها، من خلال تغيير قوة المجال المغناطيسي) حتى تصل إلى رنين بتردد مجال كهرومغناطيسي متذبذب.
وتُعد تقنية «الرنين المغناطيسي النووي» البالغة الأهمية — والتي اخترعها الفيزيائيون في أربعينيات القرن الماضي واستعان بها على الفور الكيميائيون لدرجة أنه لا يمكن تأسيس معمل محترم بدونها — تقنية تردد راديوي تستخدم مغانط (تكون فائقة التوصيل، في التطبيقات الحديثة) للتأثير على الجزيئات محل الدراسة. ولقد خضع الكثير من الناس للملاحظة كعينة فحص بالرنين المغناطيسي النووي، نظرًا إلى أنه يُستخدم كتقنية لتشخيص الأمراض تحت اسم «التصوير بالرنين المغناطيسي»، حيث حُذفت كلمة «نووي» حتى لا تثير الذعر في نفوس الأشخاص الموسوسين.
ما كان لهذه التقنية أن يكون لها أي تأثير يُذكر في الكيمياء لو أن كل ما تقوم به هو تغيير اتجاه بروتون يلف بشكل مغزلي. وهي تكتسب فائدتها الاستثنائية من سمتين رئيسيتين (وفي التصوير بالرنين المغناطيسي نضيف سمة ثالثة). أولًا، البروتونات الموجودة في أجزاء مختلفة من نفس الجزيء تتعرض لمجالات مغناطيسية مختلفة قليلًا عن المجال المطبق عليها: فالمجال المطبق يحدث تيارات موضعية في الجزيئات مما يزيد من قوة المجال أو يقللها، وبالتالي يحدث الرنين عند مختلف قوى المجال المطبق. توفر هذه «التغيرات الكيميائية» المختلفة معلومات قيمة حول مجموعات الذرات الموجودة. ثانيًا، يتفاعل البروتون مع المجال المغناطيسي الناتج عن بروتونات تبعد عنه برابطة أو اثنتين، ويقسم التفاعل امتصاص الرنين الفردي إلى أنماط مميزة. وتساعد هذه «البنية الدقيقة» في تحديد هوية الجزيء.
يُعد الرنين المغناطيسي النووي الحديث أكثر تعقيدًا مما يوحي به هذا السرد البسيط، ولقد ساهم علماء الكيمياء الفيزيائية بشكل كبير في تطوره. وتستخدم معظم مقاييس طيف الرنين المغناطيسي النووي نبضات إشعاع التردد الراديوي لتغيير اللف المغزلي الخاص بمجموعات من البروتونات نحو اتجاهات جديدة وملاحظة إلى أي مدى تعود البروتونات التي جرى تغييرها إلى اتجاهات ذات طاقة عالية مرة أخرى إلى اتجاهات ذات طاقة أقل. ومقاييس الطيف هذه هي ما يُطلق عليها مقاييس طيف الرنين المغناطيسي النووي المعتمد على تحويل فورييه، والتي تستعين بعمليات رياضية لاستخلاص الأطياف من البيانات المستمدة من تسلسل النبضات. ولا تُستخدم فقط التقنيات المتمثلة في التسلسلات النبضية الذكية، واستبدال نوى الكربون-١٢ المغناطيسية بنوى الكربون-١٣ غير المغناطيسية، وتوسيع نطاق مقاييس الطيف لمراقبة رنين نوى الفوسفور والفلور، وإدخال الأيونات المغناطيسية في البنية عند مواضع معروفة، لتحديد الجزيئات المعقدة وإنما تُستخدم أيضًا لتحديد بنيتها. ويعزز هذا التطبيق المعلومات المستمدة من حيود الأشعة السينية (ارجع للفصل الرابع) لأنه يمكن تحديد البنى في الأوساط المائية الطبيعية المميزة للأجزاء الداخلية للخلايا البيولوجية، والتي قد تختلف بشكل كبير عن البنى الملحوظة عندما تُحبس الجزيئات على نحو مصطنع في البلورات. وتفسح المزيد من التطورات في تقنية الرنين المغناطيسي النووي المجال أمام إمكانية إجراء عمليات رصد لعينات بمقاييس نانومترية.
يُستخدم الرنين المغناطيسي النووي أيضًا لتحديد حركة الجزيئات في السوائل ولتعيين الخواص الديناميكية للأغشية التي تشكل جدران الخلايا البيولوجية. وثمة تلميحات تفيد بأنه ربما يُعد الرنين المغناطيسي النووي إحدى التقنيات المستخدمة لتصميم الكمبيوتر الكمي؛ ومن ثَم قد يأتي يوم تفهم فيه مقاييس طيف الرنين المغناطيسي النووي ما تفعله. وتمكن نسخة الرنين المغناطيسي النووي المُستخدمة في أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي الأطباء من فحص الأنسجة الرخوة بطريقة غير جراحية: إذ تعتمد على تعريض الكائنات الحية لمجالات تتكون من موجات مغناطيسية وموجات تردد راديوي يتم التحكم فيها بعناية، لرصد أوقات استرخاء البروتونات في البيئات المختلفة، وإنشاء صور ثلاثية الأبعاد لتوزيع البروتونات.
وضعت لهذا القسم عنوان: «الرنين المغناطيسي» بدلًا من «الرنين المغناطيسي النووي» لأن هناك تقنيات أخرى تستخدم مبادئ الرنين المغناطيسي. فالرنين البارامغناطيسي الإلكتروني (أو «رنين اللَّف المغزلي الإلكتروني») مشابه للرنين المغناطيسي النووي، غير أنه يعتمد على الخواص المغناطيسية للإلكترونات. ويقتصر عمله على الجزيئات التي تحتوي على إلكترون مفرد (وتشمل هذه الجذور الحرة التي ذكرتها في الفصل السادس)؛ لذا فهو أقل قابلية بكثير للتطبيق على نطاق واسع من الرنين المغناطيسي النووي. ومع ذلك، فهو يوفر معلومات قيِّمة عن هذه الجزيئات وعن بعض أنواع الجزيئات البيولوجية (الهيموجلوبين مثلًا).
قياسات الطيف الكتلي
«الطيف الكتلي» هو مسألة مختلفة تمامًا عن الأطياف التي ذكرتها حتى الآن، حيث يتتبع مقياس الطيف المُستخدم للتوصل إليه شظايا الجزيئات التي تتميز بكتلها المختلفة. والمبدأ المتضمن هنا بسيط: حطم جزيئًا إلى شظايا، وسرع الأيونات إلى سرعة تعتمد على كتلتها، واستخدم جهازًا يرصد هذه الكتل المختلفة عن طريق انحراف الأيونات باستخدام مجال كهربائي أو مغناطيسي (يعتمد الانحراف أيضًا على الكتلة والسرعة) وتسجيل الشظايا التي تتجه نحو الجهاز الراصد. وتتمثل مهمة المُختَبِر بعد ذلك في استنتاج هوية الجزيء الأصلي وبنيته من مجموعة الشظايا.
يُستخدم قياس الطيف الكتلي على نطاق واسع في الكيمياء العضوية للمساعدة في تحديد المركبات. ويتمثل أحد أوجه القصور التي تقيد تطبيقه على الجزيئات الكبيرة المهمة في علم الأحياء في صعوبة الحصول على كمية كافية منها على شكل بخار بحيث يكون من العملي تجزئتها عن طريق الاصطدام بحزمة إلكترونات. وقد جرى التغلب على تلك الصعوبة إلى حد كبير من خلال دمجها في مادة بوليمرية ثم إطلاقها هي والجزيئات إلى الفراغ من خلال تبخيرها باستخدام حزمة ليزر.
استخدمت في عنوان هذا القسم عبارة «قياسات الطيف» بصيغة الجمع لأنني أريد التحدث عن أحد أشكال قياس الطيف الكتلي الأكثر أهمية بالنسبة إلى الكيمياء الفيزيائية من قياس الطيف الكتلي التقليدي. يُستخدم «مقياس طيف الإلكترونات الضوئية» من أجل اكتشاف مستويات الطاقة التي ترتبط بها الإلكترونات داخل الجزيئات وتحديد الأنواع الموجودة على الأسطح.
في هذه التقنية، تُعرض الجزيئات لإشعاع فوق بنفسجي يتسبب في انبعاث الإلكترونات؛ تحل هذه الإلكترونات محل الشظايا الجزيئية الخاصة بقياس الطيف الكتلي التقليدي؛ وبخلاف ذلك يكون الإجراء واحدًا. تُسرع الإلكترونات المنبعثة وتُركز نحو جهاز رصد ما. ومن خلال تغيير قوة المجال المستخدم لانحرافها، فإنه يمكن استنتاج مقدار الطاقة التي استخدمتها للانفصال عن الجزيء. وتلك الطاقة هي الفرق بين طاقة فوتون الإشعاع الذي بعثها والقوة التي ارتبطت بها، ومن ثَم يمكن استنتاج الأخيرة. وهذا النوع من الرصد يعزز حسابات الكيمياء الحاسوبية ويعد وسيلة تجريبية للتأكد من مستويات الطاقة التي جرى حسابها وكذلك تكوين صورة أكثر اكتمالًا عن البنية الإلكترونية للجزيء مما يستطيع مقياس طيف الإشعاع الفوق بنفسجي وحده أن يوفره.
وفي تعديل اتخذ ذلك المسمى السطحي «مقياس الطيف الإلكتروني للتحليل الكيميائي»، حلت الأشعة السينية الأعلى طاقة محل الأشعة فوق البنفسجية لمقياس طيف الإلكترونات الضوئية التقليدي. تتمتع فوتونات الأشعة السينية بطاقة عالية جدًّا لدرجة أن بإمكانها بعث الإلكترونات التي تقع على مقربة شديدة من النوى. ولا تلعب هذه الإلكترونات دورًا كبيرًا جدًّا في إنشاء الروابط الكيميائية؛ إذ إنها تكاد تتمتع بالطاقة نفسها الموجودة في الذرة غير المرتبطة بذرات أخرى، ومن ثَم تكون مستويات الطاقة المُكتشفة مميزة للعنصر بغض النظر عن حالة تركيبه وبالتالي يمكن استخدامها لتحديد هوية المادة الموجودة.
دراسات الأسطح
لقد ثبت أنه من الصعب جدًّا دراسة الأسطح — رغم كونها الإطار الخارجي للمادة الصلبة — رغم أهميتها العظيمة، لا سيما في عملية التحفيز الكيميائي. فعليها يحدث النشاط التحفيزي، أي، تسريع التفاعلات الكيميائية، وذلك كما ذكرت في الفصل السادس. وقد أشرت في نفس هذا الفصل أيضًا إلى أن دراستها تغيرت تغييرًا جذريًّا منذ عدة سنوات مضت من خلال ظهور تقنية جديدة وتطويراتها.
وأحد التنويعات الخاصة ﺑ «المجهر النفقي الماسح» يحول اختصاصي كيمياء الأسطح من مجرد مراقب سلبي إلى مشارك فعَّال. ففي «مجهر القوة الذرية»، يُستخدم المسبار الصغير لدفع الذرات حول السطح وفي الحقيقة لبناء الجزيئات الفردية ذرة تلو الأخرى.
ولا يزال اختصاصيو كيمياء الأسطح — أي علماء الكيمياء الفيزيائية الذين يدرسون الأسطح — يستخدمون التقنيات الكلاسيكية لدراسة الأسطح لأن ترتيب الذرات ليس هو نوعية المعلومات الوحيدة التي يحتاجونها. ثمة جزء مهم للغاية في فهم الدور الذي يلعبه سطح ما في تعزيز التفاعلات الكيميائية، وهو قدر المواد المتفاعلة الممتز على السطح وطبيعته عند وجوده هناك. لقد أنشأ علماء الكيمياء الفيزيائية نماذج للعمليات التي تحدث على الأسطح، وتوصلوا إلى العلاقات بين مقدار المواد الممتزة وضغط الطور الغازي، ودرسوا تحولات الطاقة الخاصة بالامتزاز. ووجدوا أنه من المفيد مبدئيًّا التفريق بين «الامتزاز الفيزيائي»، عندما يلتصق الجزيء بالسطح بدون أي تغير، و«الامتزاز الكيميائي» عندما يحدث الامتزاز من خلال كسر الروابط التساهمية وتكوينها وفي بعض الحالات يصاحبه تجزئة الجزيء. والامتزاز الكيميائي هو أساس التحفيز الكيميائي، هذا لأن الجزيء الممزق جزئيًّا على الأقل يكون جاهزًا للتفاعل.
ومساحة السطح المتاحة للتفاعل من قِبل العامل المحفز ذات أهمية لكي يؤدي وظيفته، هذا لأنه من الطبيعي كلما كانت تلك المساحة أكبر، كان العامل المحفز أكثر فاعلية. ولدى اختصاصيي كيمياء الأسطح طرق لتحديد تلك المساحة وجعلها أكبر. وأحد الأساليب تتمثل في تصنيع ما يسمى بالمواد «دقيقة المسام» والتي (كما ذكرت في الفصل الرابع) هي عبارة عن مواد صلبة مليئة بالمسام والفجوات والقنوات لدرجة أن كلها تعتبر سطحًا من الناحية الواقعية، بحيث إن جرامًا واحدًا من هذه المادة له مساحة سطح تضاهي مساحة ملعب تنس. إن الجرافين، وهو المادة التي أحدثت قدرًا كبيرًا من الإثارة بسبب خواصها الميكانيكية والبصرية والكهربائية الفريدة والتي حصد مكتشفاها بالفعل (الفيزيائيان أندريه جيم وكونستانتين نوفوسيلوف في عام ٢٠١٠) جائزة نوبل، هو في الأساس طبقة واحدة من ذرات الكربون التي لها ترتيب شبيه بترتيب شبكات حظائر الدجاج السلكية السداسية الشكل، كما في الجرافيت الصلب. إنه سطح شبه نقي، وهو حاليًّا هدف لمزيد من الاستكشاف من قبل كيمياء الأسطح.
الليزر
لقد غيَّر الليزر نواحي كثيرة من الكيمياء الفيزيائية تغييرًا جذريًّا وصار من السمات الشائع استخدامها في المختبرات. والسبب في ذلك ثلاث خواص للإشعاع الذي ينتجه؛ ولقد تطرقت إليها في الفصل السادس.
إحدى هذه الخواص هي شدته. فيمكن اعتبار كل نبضة من الإشعاع بمنزلة حشد مندفع مكوَّن من عدد هائل من الفوتونات. ولقد أعادت هذه الخاصية إحياء تحليل طيف رامان؛ إذ إن لنسبة صغيرة من الفوتونات المشتتة على نحو غير مرن من ذلك الحشد القدرة على أن تنتج شعاعًا كثيفًا إلى حد معقول يمكن تتبعه وتسجيله وتحليله. كما أن شدة الإشعاع تسمح بالتعرف على ما يسمى «الظواهر البصرية غير الخطية» حيث قد يتفاعل أكثر من فوتون واحد في آنٍ واحد مع جزيء بدلًا من مجرد التفاعل العادي بين فوتون واحد وجزيء واحد، ويؤدي إلى ظهور ظواهر جديدة وطرق جديدة لاستكشاف بنية المادة محل الدراسة. وتشمل الظواهر الجديدة فصل النظائر عن طريق تشعيع الليزر وفرصًا جديدةً لاستخدام إشعاع الليزر في التصنيع الكيميائي. بل يمكن استخدام الضوء المُشتت من الجزيئات دون حدوث تغيير في تردده، فيما يُسمى ﺑ «تشتت رايلي»، لتقييم أحجام الجزيئات الكبيرة المميزة للبوليمرات وفحص حركة الجزيئات في السوائل.
يستفيد علماء الكيمياء الفيزيائية أيضًا من أحادية لون إشعاع الليزر، أي حقيقة أنه يتكون من نطاق ضيق جدًّا من الأطوال الموجية والترددات. ولا يقتصر الأمر على أن هذا النطاق الضيق يجعل تحليل طيف رامان أكثر جدوى مما كان عليه عندما كان عليه الاعتماد على المصادر الضوئية التقليدية، وإنما يوفر أيضًا للمُختَبِر دقة أكبر عند اختيار الحالة التي تُثار إليها الجزيئات في أي تجربة كيميائية ضوئية.
وللمجال المكثف لشعاع الليزر تطبيق آخر مختلف تمامًا: فعند تركيزه إلى نقطة تقريبًا، يمكن أن يقوم بدور «ملقط بصري» ويلتقط جسيمات صغيرة من المادة لدراستها على نحو منفرد. ويجري أيضًا تطوير تقنيات طيفية أخرى تمكننا من دراسة الجزيئات المفردة. وهذا النوع من الدراسة ذو أهمية خاصة لمراقبة السلوك المُعقد على الأرجح للجزيئات البيولوجية أثناء مشاركتها في العمليات الكيميائية الحيوية.
أجهزة الكمبيوتر
لقد تركت أجهزة الكمبيوتر أثرًا عميقًا على أدوات القياس في معامل الكيمياء الفيزيائية الحديثة وحظيت بتطبيقات خارج نطاق مساهمتها الجوهرية في الكيمياء الحاسوبية، مثل الحساب الميكانيكي الكمي للبنية الجزيئية، وفي ذلك المسألة التي لا تزال محيرة حتى الآن الخاصة بكيفية طي سلاسل الحمض الأميني الطويلة الخاصة بجزيئات البروتين إلى أشكال دقيقة وشبه جامدة ذات أهمية بالنسبة إلى وظيفتها. وتندرج الأخيرة، نوعًا ما، تحت مجال «الميكانيكا الجزيئية»، حيث تُستخدم قوانين نيوتن الخاصة بالفيزياء الكلاسيكية (فمن الواضح أن ميكانيكا الكم يصعب جدًّا الاستعانة بها هنا) من أجل توقع كيف يتحرك جزيء أو أجزاء من جزيء كبير تحت تأثير القوى المؤثرة داخل الجزيء. لقد حدد علماء الكيمياء الفيزيائية معظم مصادر هذه القوى. وتكمن صعوبة التعامل معها في أن بعضها طويل المدى، يؤثر على عرض الجزيء، وبعضها قصير المدى، يؤثر فقط عندما تتفاعل أجزاء الجزيئات معًا، وبعضها ليس بقوى على الإطلاق. وبهذه الملاحظة الغامضة الأخيرة، أعني أن أي ماء موجود حول أجزاء من جزيء بيولوجي قد يؤثر على حركته كما لو أنه يُمارس قوة. ويُعد دمج كل هذه التأثيرات في النموذج أمرًا في غاية الصعوبة ويظل محور تركيز الكثير من الأبحاث الحالية.
تتحكم أجهزة الكمبيوتر في مقاييس الطيف ومقاييس الحيود (بالنسبة إلى حيود الأشعة السينية). وبصفة عامة تستخدم التقنيات الطيفية الحديثة إجراءات غير مباشرة للحصول على الأطياف، وهي البيانات التي يجب معالجتها بالحوسبة واسعة النطاق جدًّا. والتشبيه المفيد الذي يوضح تقنيات «تحويل فورييه» هذه هو تحديد الترددات (النغمات) الموجودة في البيانو. تتمثل إحدى الطرق في عزف كل نغمة على حدة وتسجيل وجودها. ويتمثل البديل في إسقاط البيانو على الأرض وتسجيل الضوضاء المريعة بينما تتلاشى. ويمكن تحديد النغمات الفردية التي تساهم في هذه الضوضاء من خلال تسجيل الضوضاء وإخضاعها لنفس نوعية التحويل الرياضي؛ أي تحليل فورييه. وتسرع هذه الإجراءات، التي تُستخدم في عدة فروع للتحليل الطيفي، وفيها الرنين المغناطيسي النووي، من عملية جمع البيانات الطيفية بشكل كبير وتوفر معلومات تفصيلية للغاية.
التحدي الراهن
تصير التقنيات القديمة أكثر تطورًا وتكشف النقاب عن معلومات كانت خارج نطاق أسلافها؛ إذ تفتح التقنيات الجديدة أعيننا على خواص جديدة. وتأتي كلتاهما بمشكلات متعلقة بالتفسير وتطوير نماذج الطبيعة القديمة. وتُعد الكيمياء الفيزيائية تزاوجًا ناجحًا بين التجربة والنظرية، والأخيرة مستلهمة من الأولى والنظرية تلهم التجارب الجديدة. وغالبًا ما تؤكد هذه التجارب ببساطة ما كان مفترضًا أو ترسي أساسًا كميًّا لأفكار نوعية. إلا أنها غالبًا ما تفتح آفاقًا جديدة تمامًا أمام الكيمياء الفيزيائية عليه الولوج إليها واستكشافها.
يواصل الليزر إحداث المفاجآت وإتاحة الفرص، مثل استكشاف نطاقات زمنية أقصر وتمكين علماء الكيمياء الفيزيائية من فحص الجزيئات المفردة لفهم كل من بنياتها وسلوكها الديناميكي. ولا شك أن الحوسبة، لا سيما الحوسبة العالية الأداء، حيث يمكن تطويع الموارد الحاسوبية الهائلة لتوليد نماذج محاكية لأنظمة معقدة، هي السبيل نحو التقدم وستوفر لنا فرصًا تتجاوز مخيلتنا، أو على الأقل مخيلتي. فنحن نحصل على معلومات تفصيلية على المستوى الذري من خلال استخدام مصادر إشعاعية مُكثفة جدًّا، مثل الإشعاع المُولد من خلال مصادر سنكروترونية (والتي تكون عبارة عن منشأة وطنية في العديد من المناطق، نظرًا إلى أنها آلات ضخمة)، وفي ذلك توسيع نطاق دراسات الأشعة السينية للبروتينات لتشمل سلوكها الديناميكي. ويُستخدم الفحص المجهري بمختلف أشكاله جنبًا إلى جنب مع أشكال التحليل الطيفي لاستخلاص معلومات تفصيلية حول الظواهر المتعلقة بالأسطح. وحتى الأشكال الجديدة من المادة — مثل ذلك النوع الخاص من المادة، الذي يُسمى «تكاثف بوس»، الذي يتشكل عندما تُعزَل مجموعات صغيرة جدًّا من الذرات وتُبرَّدها إلى درجات حرارة منخفضة جدًّا بحيث تصبح الظواهر الكمية هي المهيمنة — صارت متاحة للدراسة والفحص.
لا يساهم علماء الكيمياء الفيزيائية في تطوير تقنيات جديدة لدراسة الأشكال التقليدية والمثيرة للاهتمام والجديدة للمادة فحسب، وإنما يساهمون أيضًا في استخلاص المعلومات التي توفرها هذه التقنيات المتطورة أكثر من أي وقت مضى. إنهم يوسعون مجال بحثهم وتفسيراتهم ليشمل البنى النانوية — حيث هناك حاجة إلى أنواع جديدة تمامًا من أدوات القياس والتحليل النظري — وبصورة متزايدة علم الأحياء، حيث تتفاعل الظواهر التقليدية، وتظهر سلوكًا معقدًا، ولا يمكن فهمها بدون التحليل والمحاكاة بواسطة الكمبيوتر. فلن يُترك علماء الكيمياء الفيزيائية أبدًا بلا عمل؛ فأمامهم الكثير لاستكشافه.