العَرَض والمَرَض: في الخطاب الديني الحديث
(١) تجديد الفكر الديني في الدولة الدستورية
أولًا: تعليق على ما حدث
وكنت أتمنى أن أكون معكم حتى تروا الابتسامة الواضحة على وجهي. هذا قرار سحب قرار، وهذا القرار كما قلت في بعض الصحف، وأنا أكرر الآن، هذا القرار أضعه تحت حذائي. ذلك أنه قرار سياسي ناتج عن الخضوع للابتزاز والضغوط. من حق أي جماعة ومن حق أي أفراد أن يعترضوا على دخول مواطن إلى بلدهم، من حق أي جماعة أن تعترض على فكر ما، لكن أن يرضخ مسئول لهذا الاعتراض، نحن الآن دخلنا نفقًا مظلمًا، هذا النفق المظلم يستدعي سؤالًا، من الذي يملك أوطاننا؟
من هنا فإن خصومتي ليست مع الذين يرفضون حضوري، خصومتي مع الذي منحني التأشيرة ثم سحبها بلا إبداء أسباب.
تذكرني هذه القصة المضحكة، وأنا أقول المضحكة وأرجو أن تبتسموا معي، تذكرني بقصة حدثت للباحث طارق رمضان (طارق رمضان باحث مصري ولد في سويسرا، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة سويسرية وهو مواطن سويسري) كان قد حصل على فيزا لدخول الولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة سنوات؛ لأنه قد عُين أستاذًا في جامعة «نوتردام» في أمريكا، ثم قررت الإدارة الأمريكية سحب الفيزا من الدكتور طارق رمضان، لكنها أعطت أسبابًا. سواء كنا نتفق مع هذه الأسباب الغبية من الإدارة الأمريكية أو نختلف معها، فإنها أعطت أسبابًا على الأقل.
القرار الذي منعني من الالتقاء بكم لم يعطِ أي أسباب. وهذه هي المفارقة. بين مجتمعات ربما تتشابه، ربما في درجة غباء إدارتها، لكن على الأقل تحترم الناس فتبرر القرار، لكن في مجتمعاتنا لا يحترمون الناس.
لماذا هذا الأمر مُضحك؟ ولماذا هذا الأمر يُعد من المساخر؟ لأننا نعيش في عالم الآن قد زالت فيه الحدود، لم أستطع أن ألتقي بكم بوجهي ولكني ألتقي بكم بصوتي، لا يدور هذا ولم يدر بخلد الذين اعترضوا ولا بخلد صاحب القرار أن الناس تتواصل وأننا في عصر أصبح التواصل فيه خارج حدود القوانين التي تُوضع وخارج حدود الأسوار التي تُقام.
أنا سعيد بأن ألتقي بكم، وأريد أن أشكر المنتدى، وكل الإخوة الأفاضل في هذا المنتدى، وأريد أن أوجه الشكر لبعض الرجال في المطار الذين حاولوا على قدر الإمكان أن يجعلوا الساعات التي قضيتها في المطار ساعات طيبة، أنا أريد أن أشكرهم جميعًا، ولهذا أريد أن أكرر مرة أخرى انتمائي المصري العربي.
في البداية أردت أن أقول مرحبًا بكم من القاهرة، وأنا في بيتي، وطبعًا أفتح قوسًا وأنا أقول مرحبًا بكم من القاهرة، بهذه النبرة، وأنا أفتح قوسًا، قوس تحليل الخطاب، عادة حين يقول الناس مرحبًا بكم من القاهرة قلب العروبة النابض، وهذه هي شراك اللغة، اللغة أيضًا لها شراك، لها مشكلات إذا لم نكن واعين لاستخدام اللغة يمكن للغة أن تسحبنا إلى شراكها، ومن هنا حين أقول مرحبًا بكم من القاهرة، وأنتم ترحبون بي في الكويت، لا أريد أن أقع في شراك اللغة وأن أقول ما يمكن أن يقوله كل من يقع في شراك اللغة، من القاهرة «قلب العروبة النابض»؛ لأن العروبة في كل مكان وأصبح لها أكثر من قلب. قلب العروبة النابض هم المثقفون العرب، الذين يتجاوزون حدود الزمان وحدود المكان، ويتواصلون مع ماضيهم القريب، ومع ماضيهم البعيد، تواصلًا نقديًّا بنَّاءً، لا تواصلًا قائمًا على التقليد، والتكرار والإعادة بلا إفادة.
ما هو الدرس؟ الدرس هو أننا يجب أن نعي أن هناك هذا الزواج الكاثوليكي بين السياسي والديني في مجتمعاتنا، ليس فقط أن الخطاب الديني يحول الدين إلى سياسة، وإنما أيضًا أن الخطاب السياسي يحول السياسة إلى دين. منذ فترة طويلة جدًّا وفي كتابي نقد الخطاب الديني، قلت ذلك بشكل واضح وصريح. الخطاب السياسي والخطاب الديني قد يختلفان في المفردات، قد يختلفان في بعض المفاهيم، ولكن في بنيتهما العميقة كخطاب ينطلقان من منطلقات ثابتة واحدة.
لماذا التضحية بالمثقف؟ لماذا حينما حاول هذا السياسي أن يرضخ للابتزاز، أن يرضخ للضغط حرصًا على منصبه، حرصًا على كرسيه المزور، هكذا قال الكندي وهكذا قال ابن رشد، «الذين يحرصون على كراسيهم المزورة». لماذا تكون التضحية بالمثقف؟ هل لأن المثقف في مجتمعاتنا العربية هو كما نقول في مصر «ابن البطة السوداء»؟ هل هو النقطة الضعيفة؟ أعتقد أيضًا أن هذا سؤال مهم، لماذا المثقف؟ لماذا المثقف هو دائمًا المستهدف؟ لماذا المثقف هو دائمًا ما يمكن التضحية به؟
طبعًا من خلال خبرتي ومن خلال حياتي أستطيع أن أعطي نماذج كثيرة جدًّا جدًّا، من أول رفض جامعة القاهرة ترقيتي إلى درجة أستاذ عام ١٩٩٣م. الذي دار بخلد رئيس الجامعة آنذاك أن هذا أستاذ مُنع من الترقية يمكن أن يُرقَّى في الدورة الثانية، لكن لا نريد أن نتعرض لضغوط وابتزازات الجماعات الإسلامية داخل الجامعة. هكذا يمكن أن يتم القضاء على كل القيم، التفكير الحر، الحرية الأكاديمية، وحرية البحث، فيتم التضحية بها من أجل مخاوف المسئول على كرسيه المزور. ذلك أن رئيس الجامعة في مصر تعينه الدولة، يعينه النظام السياسي، فهو ينتمي إلى النظام السياسي أكثر مما ينتمي إلى المؤسسة التي يترأسها، لماذا المثقف؟ هذا سؤال علينا أن نتأمله.
علينا أن نعيد النظر في منظومة نقدنا، للتيارات الفكرية والتيارات السياسية والتيارات الدينية في مجتمعاتنا، أساليب الضغط والابتزاز هي التكفير، والتكفير ممكن أن يكون تكفيرًا دينيًّا، ويمكن أن يكون تكفيرًا سياسيًّا، وسأتعرض لهذا التكفير السياسي الذي يستخدم مفردات أخرى. الفرق بين أساليب الضغط وأساليب الابتزاز، وأساليب التنوير، هو أن أساليب الضغط والابتزاز تركز على التكفير، والتكفير نبذ، إقصاء، عزل، قتل، أساليب التنوير تعتمد على التفكير. وقلت مرارًا إن الفرق بين التكفير والتفكير، وهما يرتدان إلى جذر لغوي واحد (كفر وفكر) ربما هو فقط استبدال مكان الكاف والفاء، والفاء إلى الكاف، إلى هذا الحد الفرق بين التفكير والتكفير لغوي، طبعًا هذا مضحك إذا اعتمدنا على التحليل اللغوي، الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.
في التفكير حتى داخل الفكر الفقهي، الفكر الفقهي الذي ينتسب له هؤلاء. الذين يتصورون أنفسهم داخل إطار الفكر الفقهي، داخل إطار الفكر الفقهي «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب» أين هذا التفكير الفقهي الكلاسيكي من التفكير الفقهي الراهن؟ هذا فارق أيضًا بين المعرفة وبين ظلال المعرفة، هذا فرق بين العقل في حيويته، النشاط الفكري في حيويته، وبين النشاط الفكري حين يقوم فقط بتلخيص المقولات دون أن يدرك من أين أتت هذه المقولات، وما هي جذورها الفكرية. أسلوب الضغط والابتزاز هو التفكير داخل الصندوق، صندوق مغلق، يبدو أن كل شيء فيه واضح مع أن كل شيء مظلم. أساليب التنوير تفكير خارج الصندوق، تفكير يتخطى المقولات الثابتة. لا يعترف بالخطوط الحمراء؛ لأن الخطوط الحمراء من صنع بشر وضعوها عبر التاريخ، وعبر فترات متتالية من التاريخ، التفكير داخل الصندوق والتفكير خارج الصندوق. هو الفارق بين أساليب الضغط والابتزاز (التكفير) وبين أساليب التنوير (التفكير).
في تاريخنا الحديث وسوف أتعرض بسرعة إلى هذا، أريد أن أعطي فكرة عن موضوع المحاضرة التي كان من المفترض أن أقولها، أنا مغرم بإعطاء بعض القصص، في الصراع بين اللغوي وبين الشاعر، بين عالم اللغة وعالم النحو، والشاعر. ندرك التفكير داخل الصندوق والتفكير خارج الصندوق. اللغوي النحوي يرى اللغة مجموعة من القواعد الصارمة لا يمكن الخروج عليها، بينما الشاعر يمتلك اللغة، الشعراء أمراء اللغة، أمراء الكلام. الشعر هو الذي وضع قواعد اللغة وبالتالي لا يمكن للشعر أن يخضع لقواعد اللغة. ومن هنا كان اللغويون يتصيدون أخطاء الشعراء. وهنا سأعطي نموذجًا مضحكًا: اللغوي عبد الله بن إسحاق الحضرمي وهو يتصيد أخطاء الشاعر بشار بن برد، حتى إن بشار ضاق ذرعه بهذا اللغوي الذي يفكر داخل الصندوق فكتب فيه بيتًا هجائيًّا قال فيه:
فما كان من النحوي إلا أن قال له: «أخطأت ثانية، علام نصبت مواليا؟» كان المفروض حسب قواعد اللغة أن يقول: «ولكن عبد الله مولى الموالي» وليس المواليَ. فقال له: «على ما نصبت مواليا؟» قال له الشاعر: «على ما يسوءك وينوءُك»؛ لأن الشعر مرتبط بالإيقاع، والإيقاع جزء من قواعد اللغة، ولا أريد أن أعطي نماذج من القرآن الكريم من الإيقاع والحفاظ على بنية الإيقاع تم التضحية بالعلامة النحوية العلامة اللغوية.
الفقه بشكل عام حين دخل مرحلة الاجترار وحين دخل مرحلة الإعادة بلا إفادة عادَى كل أنماط الفكر في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية، الفقهاء عادوا الصوفية ولم يحبوا لغتهم ولم يحبوا تجاربهم، واتهموهم اتهامات شتى ليس أقلها أنهم قد أسقطوا الشريعة، وهذا ليس صحيحًا. عادى الفقهاء المتكلمين، عادى الفقهاء الفلاسفة وقصة ابن رشد مع فقهاء الأندلس معروفة.
ما هو الدرس الذي يمكن أن نخرج به من هذا التعليق السريع على ما حدث؟ ماذا يفعل المثقف حتى لا يعامل معاملة ابن البطة السوداء؟ أو ابن البطة العرجاء؟ كما نقول في الأمثال المصرية العامية. المثقف يجب ولن أملَّ من تكرار هذا، أن يحافظ على استقلاله؛ لأن السلطة السياسية والسلطة الدينية في مجتمعاتنا كلتاهما تحاول أن تأخذ المثقف إلى جانبها، باسم الحرب على الإرهاب، وأنا أتحدث هنا ليس عن الحرب العالمية على الإرهاب، وإنما الحرب على الإرهاب داخل مجتمعاتنا، باسم الحرب على الإرهاب تم تجنيد المثقفين لمساندة الأنظمة، وفي هذه المساندة ضد الحرب على الإرهاب لم ينتج المثقف معرفة حقيقية بأسباب نشوء الإرهاب في مجتمعاتنا. ولم يستطع المثقف أن يرى ما تمارسه السلطة السياسية من إرهاب ضد المواطنين، في جميع المستويات وعلى جميع الأصعدة.
المثقف في رأيي يجب أن يكون حارسًا قيمًا لا كلب حراسة، حارسًا قيمًا بمعنى حتى لو النظام السياسي في بلدي وفي وطني الذي أنتمي إليه تبنى الأفكار التي أؤمن بها كاملة، يجب عليَّ دائمًا أن أحافظ على هذه المسافة المعرفية، هذه المسافة المعرفية تجعلني حارسًا لهذه القيم؛ لأن القيم في تطبيقها السياسي تُصاب بكثير من التلوث.
سأعطي مثالًا من التاريخ الذي نعرفه جميعًا: قضية خلق القرآن والمحنة التي خلقها النظام السياسي على أيدي المعتزلة المفكرين العقلانيين، ضد غير المعتزلة، هذه قضية يجب أن نتعلم منها الكثير؛ لأن السلطة السياسية في ذلك الوقت المأمون أرادت أن تجمع قوة الدين مع قوة السياسة في يديها. وأنا حين أقرأ في الطبري في التاريخ، بعض المناطق التي تكشف عن الظلام المهيمن على هذه القضية. يجعلنا نعيد النظر في مسألة المأمون المفكر المتفتح العقلاني … إلخ. بالصدفة أقرأ في تاريخ الطبري فوجدت أنه في حالة تبادل الأسرى بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية، تبادل أسرى الحروب، كان يتم امتحان أسرى المسلمين حول خلق القرآن، كان لا بد للأسير الجندي المسكين، لا بد أن يُمتحن، فإذا قال إن القرآن مخلوق يمكن للدولة أن تدفع الفدية، إذا لم يكن عندها أسرى. كان يحدث هذا حين يزيد عدد أسرى الجنود المسلمين على عدد أسرى الدولة البيزنطية.
ما هذا؟ ما هذا بالضبط؟ لم تصبح المسألة هنا مسألة فكر وإنما استخدام السلطة لمقولة ربما على درجة عالية من الأهمية، هذا النقاش الذي دار بين المعتزلة وبين خصوم المعتزلة حول خلق القرآن هو نقاش في العمق، من قضايا يجب أن يعاد النقاش حولها، لكن حين استخدمت السلطة السياسية في عصر المأمون هذه القضية لكي تمتحن كل الفقهاء وكل القضاة، استخدمت الدولة هذه المقولة الفكرية كسلاح لسيطرة الدولة السياسية. كان من الطبيعي ومن المتوقع بعد عدة أجيال في عصر المتوكل أن ينقلب الحال. انقلبت الدولة على نفسها، غيَّرت الدولة قناعتها، وبالتالي ما كان مُضَطهدًا بالأمس صار مُضطِهدًا اليوم، ومن كان في الأسر أمس أصبح هو الحر اليوم.
هذا درس وهذا يحدث الآن في المجتمعات العربية والإسلامية. يحدث ذلك وبالتالي المثقف لازم يقف على هذه الأرض من الاستقلال، حين يدافع المثقف عن الحرية لا بد أن يدافع عن حرية الجميع بلا استثناء، حين يدافع المثقف عن حقوق الإنسان، لا بد أن يدافع عن حقوق الإنسان بلا استثناء، على المثقف أن يخرج من عزلته، أي من عزلة أهل الحل والعقد.
أذكر وأنا أعيش في مدينة السادس من أكتوبر خارج القاهرة أنه في ذلك الوقت كانت حقوق الإنسان ومؤسسات حقوق الإنسان، كانت مهتمة بما حدث في الجامعة. وفي المدينة التي أسكن بها كان يتم القبض على العمال بدون إبداء أي سبب، لأن مسكن أحد الضباط قد سُرق. وبالتالي يلجأ قسم الشرطة إلى القبض على جميع العمال الذين يأتون من القاهرة للعمل بمدينة ستة أكتوبر لم يكن أحد يدافع عن هؤلاء العمال، وحين حضرت أحد الاجتماعات للدفاع عن الحقوق الأكاديمية أنا قلت لا تدافعوا عن الحقوق الأكاديمية فقط بينما الحقوق الأساسية للمواطنين مُهدرة.
حقوقنا كمثقفين لا تنعزل ولا يجب أن تنعزل عن حقوق أدنى مواطن في أدنى بقعة من العالم العربي. إذا عشنا بهذا الإحساس بالصفوة، هذا الإحساس بأننا فوق البشر، بأننا لنا ميزات، لأننا نعمل بالفكر، هذا خطأ يجب أن نتحرر منه، الفكر عمل، والرجل الذي ينظف الطريق يعمل، هذا عمل وهذا عمل، وإجادة هذا العمل لا تقل عن إجادة هذا العمل الذي يُسمى الفكر. الفكر عمل، الفكر ليس ميزة، كوننا مثقفين وكوننا نفكر وكوننا نؤلف كتبًا، وكوننا أن هناك قنوات يمكن أن تعبر عنا، لا يجب أن تكون ميزة. الدفاع عن حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق المواطن، يجب أن تكون في القلب من دفاعاتنا وألا يكون هناك أي مهادنة في هذا الدفاع.
هذه كلها كانت مقدمة، والآن أريد إذا سمحتم لي وسمح الوقت أن أعطي ملخصًا شديدًا على ما كنت أنوي أن أقوله في المحاضرة، عن الخطاب الديني المعاصر، تجديد الفكر الديني أو إصلاح الفكر الديني — أيًّا كانت التسمية — في الدولة الدستورية.
وأبدأ بمسألة لا تحتمل النقاش حولها: الدولة الدستورية، الدولة التي تعيش طبقًا للدستور، وتنظم حياتها طبقًا للدستور، هي بالطبيعة أو بالتبعية دولة القانون. هذه الدولة ليس لها دين، ولا يجب أن يكون لها دين، الدين هو أمر المجتمعات وليس أمر الدولة، وهذه طبعًا مسألة من مسائل الخط الأحمر، كيف ننقي دساتيرنا من هذه الفقرة التي تقول: الدين الإسلامي دين الدولة. خاصة في الدولة المتعددة الأديان، ربما أضع المسألة في شكل كاريكاتيري، الدولة لا تصلي، الدولة لا تصوم، الدولة لا تذهب إلى الحج، الدولة لا تدفع الزكاة. الدولة هي دولة المواطنين، إذا كان للدولة دين فمعنى ذلك أن المواطنين الذين ينتمون إلى دين غير دين الدولة، هم بالضرورة مواطنون من الدرجة الثانية. الأدهى من ذلك أن المواطن الذي ينتمي إلى نفس الدين وله رأي مخالف واجتهاد مغاير لمؤسسات الدولة وما يحيط بمؤسسات الدولة من الفكر الديني، أيضًا يتعرض للخطر.
هذه أمور أيها الزملاء الأعزاء لا يجب أن نتردد فيها. ليس هذا فصلًا للدين عن المجتمع، الدولة ليست هي المجتمع، المجتمع يستمر، المجتمع يعيش، المجتمع يدخل في التاريخ والدولة تتغير. ليست الدولة أيضًا هي النظام السياسي. كيف نميز بين الدولة وبين النظام السياسي وبين المجتمع؟ وكيف نتقبل مجتمعًا تتعدد فيه الديانات، وتتعدد فيه الأعراق وتتعدد فيه الثقافات، وتتعدد فيه الاجتهادات دون أن يُخل ذلك بتخيُّل أو تصور ما يسمى وحدة الدولة، المشكلة نراها في كل مكان، إذن إذا أردنا فعلًا تجديد الخطاب الديني أو إصلاح الخطاب الديني، هذه مقدمة أولى.
ليس معنى ذلك أن نسمح لجماعات بإنشاء أحزاب، في دساتير بعض دولنا، مسائل في الواقع هي نوع من «الهلهلة» وسأضرب مثلًا من الدستور المصري، الدستور المصري ينص على أن الإسلام دين الدولة، وعلى أن مبادئ الشريعة هي أساس التشريع، وهذا بالضبط ما يطالب به الإخوان المسلمون، ما هو الفرق بين دستور الدولة ودستور الإخوان المسلمين؟ لا فرق. ينص في نفس الدستور على أنه لا يجوز إقامة أحزاب على أساس ديني، إذا كانت الدولة تقوم على أساس ديني، فكيف لهذه الدولة أن تمنع قيام أحزاب على أساس ديني؟ نحن نتحدث عن هذه التناقضات التي تجعل الدستور كأنه رقعة من ثوب مهلهل، كل هذا يحتاج إلى تفكير، يحتاج إلى نضال المثقفين المستقلين، حراس القيم مرة أخرى، حراس القيم وليس كلاب الحراسة.
إذا أردنا تجديد الخطاب الديني، أو إصلاح الخطاب الديني، طبعًا التمييز بين الخطاب الديني وبين الدين هذا أمر لا يحتاج إلى كلام كثير فيه، لكن المشكلة في الخطاب الديني المعاصر أنه يعتبر نفسه هو الدين، يعتبر أن مقولاته، وهناك جرأة عجيبة من الخطاب الديني حين يقول إنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن هذا أمر مُجمع عليه. أنا أريد أن أميز في الخطاب الديني المعاصر حتى نستطيع أن نقترح روشتة للعلاج، أن نفرِّق بين الأعراض وبين المرض. الأعراض كثيرة ويمكن أن نمضي ساعات في الحديث عن هذه الأعراض. هذا الخطاب الديني الشائع والمسيطر والمهيمن، هذا لا يعني أن هنا وهناك أصواتًا عاقلة، لكن أنا أتحدث عن الخطاب المهيمن المؤثر، هو خطاب ضد الآخر بامتياز. يستوي في ذلك أن يكون الآخر في الدين (المسيحي، اليهودي، البهائي، الملحد) هذا الآخر يستحق القتل. أو يكون الآخر في الملة (الشيعي – السني). أن يكون الآخر في الجنس (المرأة) أو يكون الآخر في الرأي (الردة) أو في المنع.
الإبداع هو الآخر أيضًا، الإبداع بدعة، وأنا لا أريد أن أذكر الحالات، حالة المطربين والرسامين والشعراء الذين صودرت قصائدهم. إذن هو خطاب ضد الآخر هو خطاب إقصائي. المرأة هي الآخر، المرأة التي لم يذكر القرآن شيئًا عن إغوائها لآدم وعن مسئوليتها عن هذا الإغواء، لكن هذا الإغواء المأخوذ من التراث اللاهوتي التوراتي قد تم استيعابه كلية في التفسير.
هذه هي الأعراض، ما هو المرض؟ أستطيع أن أضع المرض في النقاط الآتية:
هيمنة الرؤية الفقهية للعالم؛ أنا أشرت إلى رؤًى مختلفة، رؤًى متكاملة، الرؤية الصوفية للعالم تختلف عن الرؤية الفقهية للعالم. الرؤية اللاهوتية للعالم تختلف عن الرؤية الفقهية للعالم. الرؤية الفقهية للعالم تتعامل مع الإنسان باعتباره مقيدًا، باعتباره الإنسان المكلف، المقيد بقيود الحلال والحرام، وقد تم في الفكر الفقهي المعاصر اختصار مساحة المباح؛ لأن هناك الحرام وهناك الحلال وهناك المكروه وهناك المباح. دخل المكروه في الحرام، والمباح تم اختصار مساحته إلى حد كبير.
نتيجة الأسئلة الآن أصبحنا نعيش مؤسسات الفتوى، تجعل المواطن الذي كان يعرف منذ أربعين سنة، كان يمارس حياته دون أن يضطر للسؤال عن كل التفاصيل، ودون أن يطلب فتوى في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، أصبح الآن يسأل في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، نسمع أشياء مُضحكة، ومُبكية في الوقت نفسه.
هذه الرؤية الفقهية للعالم ليست هي الرؤية الوحيدة في القرآن، القرآن هو رؤًى للعالم، رؤًى للعالم متضافرة في رؤية للعالم تحتاج إلى اكتشاف، لم يُكتشف حتى الآن، ذلك أن تاريخ التفسير اعتمد على البدء من سورة الفاتحة والانتهاء بسورة الناس، وتفسير القرآن تجزيئيًّا. حتى إن بعض الفقهاء يقولون إن نهاية الآية قد نسخت أول الآية. طبعًا لا أريد أن أدخل في البنية المعرفية لعلم الفقه، البنية المعرفية التي تضع القرآن والسنة ثم تضع الإجماع والقياس، على كل الخلاف.
كيف نفهم القرآن؟ الفقه التقليدي وضع مستويات للمعنى ومستويات للدلالة، الفقه الحديث لا يدري عنها شيئًا، ليس هناك من معنًى واضح، يعني ما يسمى «ما هو معلوم من الدين بالضرورة» ليس عند الفقهاء الكلاسيكيين معلومًا من الدين بالضرورة كما يقول الناس الآن، طبعًا تاريخ تكوُّن نظرية الفقه، تاريخ تكوُّن علم أصول الفقه أي النظرية القانونية في الفقه الإسلامي يحتاج إلى إعادة دراسة، كيف تكوَّنت هذه المنظومة الفكرية؟ وعلى أي أساس تكوَّنت هذه المنظومة الفكرية؟
في تاريخ الفكر الإسلامي كما قلت تم تهميش الرؤى الأخرى، الرؤية اللاهوتية، علم الكلام، الفكر الفلسفي، الفكر الصوفي، بينما في القرآن الكريم نجد هذه الرؤى، سواء كانت عالمًا فلسفيًّا، عالمًا صوفيًّا روحيًّا أخلاقيًّا، ممزوجة مزجًا عميقًا بالعالم التشريعي في القرآن، يعني بحسب الإحصائيات التي قالها الإمام أبو حامد الغزالي ليس في القرآن أكثر من خمسمائة آية تشريعية، هذا يساوي اثني عشر في المائة من القرآن. باقي القرآن مُستبعد من هذه الرؤية الفقهية للعالم، ويجب ونحن ننظر الآن إلى كلية القرآن أن نعيد النظر في هذه الرؤية الفقهية للعالم. هذا الأمر يحتاج إلى دراسات ودراسات، بعضها قمنا به وبعضها لم نقم به.
أزمة الحداثة خلقت أزمة الهوية، الحداثة كما سمعت في التقديم الرائع، لأخي الكريم الأستاذ طالب، هي ثورة في الفكر وثورة في العقل، وتغير كامل فيما يسمى «البراديم»، العالم الذي كان مركزه المقدس أصبح مركزه الإنسان، كل هذا غيَّر من مفاهيم كثيرة، ولولا الإصلاح الديني الذي بدأ في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، هذا الإصلاح الديني الذي أدى إلى نمو النزعة الفردية، ونمو النزعة الفردية أدى إلى مزيد من حرية الفكر، وهذا أدى إلى تطور العلم، وتطور العلم ثورات وراء ثورات، ونحن لم نمر بأي ثورة من هذه الثورات، الحداثة جاءتنا من فوق، مرتبطة بالغرب، مرتبطة بالحامل الاستعماري للحداثة، من هنا خلقت هذه الحداثة أزمة هوية.
في فترة متقدمة جدًّا تم قبول ثمرات الحداثة، التكنولوجيا، اشترينا الأسلحة من الغرب، محمد علي مشروعه كله كان إقامة جيش حديث. لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية. إذن قُبلت ثمرات الحداثة دون الأساس الفكري للحداثة. في دراسات كثيرة بينت كيف تم قبول الحداثة على أساس الاحتماء بالتراث، وشرط قبول الفكر الحداثي كان دائمًا مرهونًا بالتراث، لكن التراث الذي قدمه المفكرون الأوائل كان هو التراث العربي الإسلامي العقلاني، تراث المعتزلة وتراث ابن رشد، في البداية تمت إعادة فتح باب الاجتهاد: شاه ولي الله في الهند، ورفاعة رافع الطهطاوي في مصر والسيد أحمد خان. إعادة فتح باب الاجتهاد، ونقد الإجماع والبحث عن إجماع جديد، وأصبح هناك جيل جديد من العلماء.
الاستجابة لتحدي العقلانية يمكن أن نقول إن محمد عبده هو الذي قدم هذه الاستجابة لتحدي العقلانية، تفسير محمد عبده تفسير يحتاج إلى قراءة، وهو لا يُقرأ في الأزهر على أي حال، محمد عبده غائب في أفق الفكر الديني المعاصر. خطاب تحرير المرأة. النقد الديني لمفهوم الخلافة علي عبد الرازق، إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، العبَّادي وأحمد أمين وطه حسين. إذًا رد الفعل الأول للحداثة كان هو تحديث الفكر الإسلامي، لم يكن عزل الفكر الإسلامي عن الحداثة، وإنما كيف يمكن أن نستعيد الفكر الإسلامي ونحدث الفكر الإسلامي لكي يتقبل قيم الحداثة، سواء كانت هذه القيم هي العلم، أو المؤسسات السياسية، أو المساواة وكل هذه القيم.
طبعًا العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي مرت بمنحنيات كثيرة، وأنا هنا أريد أن أؤكد أن محاولة الفهم والتفسير لا تعني التبرير؛ لأن في تحليلات بعض المثقفين كثيرًا ما يختلط التفسير بالتبرير، لا شك أن هذه العلاقة الملتبسة مع الغرب خلقت كثيرًا من الإشكاليات، وهذا كان أحد العوامل التي أحدثت التحول في الفكر التحديثي، رشيد رضا يقف في هذه المنطقة، بين محمد عبده وبين الإخوان المسلمين، رشيد رضا عاش أزمات العالم الإسلامي التي لم يعشها محمد عبده، رشيد رضا عاش أزمة إلغاء الخلافة، والصراع حول الخلافة في العالم العربي، سعي معظم الحكام العرب لكي يكونوا خلفاء. تأسيس الإخوان المسلمين ١٩٢٨م، وعلى بند الإخوان المسلمين الأول أسلمة المجتمع، وهذا هو الفرق الكبير بين تحديث الفكر وأسلمة المجتمع.
هذا يعيدني إلى ما ذكرته في البداية بين الفكر وبين التغيير بالقوة. إذا أردت أن تعيد أسلمة المجتمع تحتاج إلى القوة، إذا أردت أن تعيد تحديث الفكر تحتاج إلى الفكر، وبالتالي مع وجود هذه الضغوط على المجتمعات العربية لقبول الديمقراطية … إلخ. كثير من الإسلاميين قد قبلوا فكرة الديمقراطية لكنهم لم يتخلوا عن فكرة القوة، لم يتخلوا عن فكرة الضغط على المجتمع ولا الضغط على الأنظمة السياسية المهترئة من أجل تحقيق أهدافهم.
الوضع في الهند معروف، محمد إقبال هو أول من دعا إلى إقامة مجتمع خاص بالمسلمين، وانفصال مسلمي الهند عن غير المسلمين، فكر المودودي هو امتداد لبعض جوانب فكر محمد إقبال، يمكن أن نعمل مقارنة بين محمد إقبال ومحمد عبده، وكيف تم أخذ الجانب الأيديولوجي في فكرهم وتطويره في حالة الهند أبو الأعلى المودودي، وفي حالة مصر رشيد رضا. حتى وصلنا إلى سيد قطب والجاهلية الجديدة.
المثقف مرة ثانية: شهدت مصر التحول من اليسار إلى اليمين، ومن الشيوعية إلى الإسلامية، وفي ذلك الوقت قلت وأقول دائمًا النبي عليه الصلاة والسلام له مقولة «خيركم في الجاهلية خياركم في الإسلام»، يعني الخير لا يرتبط بالانتقال من أفق إلى أفق آخر. الخير كائن في طريقة التربية، طريقة التنشئة. الذين انقلبوا من اليسار إلى اليمين ومن الشيوعية إلى الإسلامية، هم كانوا متعصبين داخل اليسار، وكانوا متعصبين داخل الشيوعية، وكانوا يمارسون التكفير داخل اليسار، ويمارسون التكفير داخل الشيوعية، التكفير داخل الشيوعية؛ الانحراف، يقولون الرفيق منحرف، الرفيق منحرف تساوي كافرًا.
ما بعد القطبية الجماعات الإرهابية، إذًا الانتقال من تحديث الفكر إلى أسلمة الحداثة، هو انتقال تم عبر متغيرات سياسية يجب أن نفهمها لا لكي نبرر بها هذا الذي حدث، بل يجب علينا كمثقفين، تفكيك مقولات الخطاب الديني، أحد هذه التفكيكات: «لا اجتهاد فيما فيه نص»، وهنا فيه مخادعة دلالية ماكرة؛ لأن كلمة نص في هذه العبارة وهذه عبارة صحيحة في أصول الفقه؛ «لا اجتهاد فيما فيه نص» كلمة نص معناها أحد مستويات الدلالة في الخطاب القرآني، وهو مستوى موجود إلى جانب مستويات أخرى، المُجمل والمحتمل والغامض والمتشابه، ويقول الفقهاء جميعًا: «والنصوص عزيزة». النص هو العبارة الواضحة وضوحًا بيِّنًا، يفهمه أي شخص يفهم اللغة العربية، وهذا ما يقال عن الحج ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ (سورة ٢ البقرة: ١٩٦). ليس هناك حتى مجال للاجتهاد وجمع سبعة وثلاثة عشرة، حتى لا يخطئ في الحساب. «النصوص عزيزة» حين يقول الخطاب الديني الآن «لا اجتهاد فيما فيه نص» وهو يقصد بالنص مجمل القرآن ومجمل السنة، هذا تزييف؛ لأن كلمة نص في الفكر المعاصر مختلفة، كلمة نص هي مصطلح دلالي، لا يدل على مجمل الكتاب ومجمل السنة، كما في السابق.
المعلوم من الدين بالضرورة: هذه أيضًا إحدى القضايا؛ لأنه التفريق بين العلم الضروري وبين العلم النظري وبين المعرفة الضرورية والمعرفة النظرية، تجعل العلم الضروري هو البديهيات، فالمعلوم من الدين بالضرورة لا يخرج عن إطار البديهيات، لا يدخل فيها كل هذه التفاصيل التشريعية ولا كل هذه التفاصيل اللاهوتية؛ لأن حتى مفهوم التوحيد؛ «الله واحد» هذا حتى من البديهيات لكن كيف صيغ مفهوم التوحيد لاهوتيًّا، وكيف صيغ مفهوم التوحيد فلسفيًّا؟ إذًا «المعلوم من الدين بالضرورة» مساحة تتسع يومًا بعد يوم، حتى يقال إن الحجاب معلوم من الدين بالضرورة، طبعًا علينا أن ننتظر في القريب إن شاء الله أن النقاب سيكون معلومًا من الدين بالضرورة. الآن الخلاف هل النقاب تقليد أم تشريع؟
ثم المرجعية الوحيدة هي مرجعية الشريعة، يميزون نظريًّا بين الشريعة وبين الفقه، لكن حين يأتون بنماذج من الشريعة يأتون بنماذج من الفقه، ما هي الحدود الفاصلة بين ما يسمى الشريعة والفقه، هل تُفهم الشريعة كما يفهمها المتصوفة كمقابل للحقيقة، الظاهر والباطن؟ هل تُفهم الشريعة كمقابل للبرهان كما فهمها الفلاسفة؟ كل هذه المعرفة، وهي معرفة في التراث الإسلامي، غائبة عن الخطاب الديني المعاصر.
جوهر المشكلة — حتى أختم لأنني أطلت — الخطاب الديني المعاصر بشكل عام ليس فقط الخطاب الديني الإسلامي، إنما الخطاب الديني في جميع الأديان، يفزع من التاريخ، التاريخ يلقي أضواء على المناطق المعتمة في الماضي الذي يعتمد عليه هذا التراث، الفزع من التاريخ، حين تقول نقرأ القرآن قراءة تاريخية، يقولون لك هذا معناه أنك تُخرج القرآن من دائرة المقدس، والفزع من التاريخ يظهر على أنه فزع على المقدس، وفي أحيان كثيرة يبدو هؤلاء وكأنهم يدافعون عن حقوق الله، خذ بالك حقوق الله.
الفزع على المقدس، ما هو المقدس؟ هل المقدس كائن قاهر في النصوص؟ هل المقدس قاهر في الأماكن؟ أم أن المقدس هو علاقة الإيمان التي تربط المؤمن بالمكان، أو بالشعيرة، أو بالنص، لو كان المقدس صفة قاهرة في الأشياء لأقر بها جميع البشر، هذا هو الاختلاف في المقدس، ما هو مقدس عند المسيحي ليس مقدسًا عند المسلم، ما هو مقدس عند اليهودي ليس مقدسًا عند المسيحيين ولا عند المسلم. المقدس هو علاقة قداسة ينشئها الإيمان، خارج الإيمان ليس هناك مقدس، إذًا الخطر على المقدس ليس من دراسة النصوص، وليس من تسليط التاريخ على الممارسات الدينية، الخوف على المقدس هو خوف على عدم الثقة في الفرد، ومن هنا يحتاج الأفراد في الخطاب الديني المعاصر إلى حماية، إلى حماية من أي فكر يهدد إيمانهم، ونحن نريد ويجب أن نسعى إلى ذلك، أن يتحول الإيمان إلى قوة الفرد، أنا الذي يمنح المقدس قداسته، هو مقدس لأنني أؤمن به، هو مقدس لأنني أقدسه، الدليل على ذلك أنه ليس مقدسًا بالنسبة للإنسان غيري. إذا علمت أن المقدس هو علاقة الإيمان وبين الظاهرة سيجعل كلًّا منا يحترم مقدس الآخر، القرآن مقدس لأنني أؤمن به. هو في ذاته خارج الإيمان ليس مقدسًا بدليل أن الذي لا يؤمن به لا يراه مقدسًا، الفزع على المقدس يعني حماية البشر من أن يمارسوا إيمانهم بحرية.
التحايل لحل التناقضات: لكي أنهي هذا اللقاء الذي طال والذي أتمنى أنه لا ينتهي معكم، سأطرح مسألة غزو الكويت مثلًا من قِبل نظام صدام حسين، الفتاوى التي خرجت في ذلك الوقت لكي تبرر الاستعانة بالقوات الأجنبية، بأمريكا لتحرير الكويت، أخذ يقلب الفقهاء في دفاترهم القديمة فوجدوا أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، قد استعان بأحد المشركين وهو في طريق هجرته إلى يثرب، فقالوا قياسًا على هذه الواقعة يجوز الاستعانة بالكفار، خذ بالك أن الأمريكان هنا أصبحوا كفارًا، وكأن النبي، عليه السلام، كان مخيرًا، كأنه كان هناك مؤمن يستطيع أن يدله على الطريق. هذا معناه أن الناس تعيش خارج التاريخ، أن الأمر لا يناقش على أساس الأسس الواقعية لهذا الأمر أن كان هناك عجز في النظام العربي آنذاك، عجز شامل وتام عن الوقوف ضد عدوان نظام عربي على وطن عربي آخر، بدل ما تناقش هذه المسألة من هذه الزاوية، لكي ننقد هذه الأنظمة، ولكي نحيي في شعوبنا قوة المقاومة، فيلجأ المفتي إلى هذه الواقعة لكي يقول يجوز الاستعانة بالكفار، خذوا بالكم من المصطلحات.
إذا طرحت أمثلة أطرح أمثلة كثيرة، تزويج الصغار، يستشهد مفتي لا أريد أن أذكر جنسيته بأن النبي قد تزوج السيدة عائشة وكان سنها تسع سنوات، سبع سنوات وبنى بها وهي بنت تسع، القرن السابع أيها الناس، والقرآن لا يمل من التكرار أن محمدًا عليه السلام بشر، بشر يعني شخص عاش في التاريخ، لكن أن تكون قيم القرن السابع هي القيم التي نبني عليها قيم القرن الواحد والعشرين.
أين المفر؛ إعادة دراسة القرآن من منظور التاريخ، إعادة فهم عالم القرآن أو عوالم القرآن والعلاقة الخصبة بين عوالم القرآن، بين التشريع والعالم الروحي والأخلاقي؛ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (سورة ٢٩ العنكبوت: ٤٥). كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (سورة ٢ البقرة: ١٨٣)، التقوى. إذًا الشعائر ليست مرادة لأنفسها. الشعائر لا تعلل؛ لأن تجربة التدين هي روحية وأخلاقية، ومهمة الشعائر أنها تنمي هذه الطاقة الروحية والأخلاقية، مسألة أنها لا تعلل كلام يقال من باب الإيمان، لكنه من الناحية العلمية ليس صحيحًا، في الحج وفي الأضحية لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى (سورة ٢٢ الحج: ٣٧) إذا أردت أن أعدد فيما يسمى الآيات التشريعية في القرآن، العلاقة بين التشريعات وبين الأخلاق لا بد. ونحتاج إلى إعادة ربط هذه العلاقة.
في الفكر الإسلامي تم تجزيء القرآن، سواء كنا نتكلم عن التفاسير التي أخذته بالطول، أو عن العلوم الدينية، يعني استقلت الفلسفة بجزء من القرآن، واستقل علم الكلام بجزء من القرآن، استقل التصوف بجزء من القرآن، واستقل الفقه بجزء من القرآن. القرآن جُزِّئ ونحن نحتاج إلى وحدة القرآن التي تمكننا من أن نرى التشريع في ضوء هذه الأبعاد كلها، في ضوء البعد الروحي البعد الأخلاقي البعد الفلسفي البعد اللاهوتي، وأن نرى البعد الفلسفي في ضوء هذه الأشياء، هذا أمر يحتاج إلى إنجاز، يحتاج إلى عمل، ليس عندنا مؤسسات لدراسة الدين، عندنا مؤسسات لتعليم الدين، وليس لدراسة الدين، وهناك فرق كبير بين دراسة الدين وبين تعليم الدين، تعليم الدين يمكن أن يكون في المسجد، يمكن أن يكون في الأسرة، يمكن أن تكون بعض المؤسسات التعليمية لتعليم الدين لكن إلى جانب ذلك لا بد أن تقوم مؤسسات لدراسة الدين. ودراسة الأديان وتاريخ الأديان، والأديان المقارنة … إلخ. كل هذا غائب عن أفق نظمنا التعليمية، بشكل عام ليس فقط في العالم العربي بل في العالم الإسلامي، بشكل أو بآخر.
أيها الإخوة الأعزاء كما ترون التقيت بكم، بصوتي نعم، لكننا التقينا، لن يستطيع ولا يستطيع أحد أن يمنعنا من اللقاء. هذه قوتنا، هذه قوة الحداثة. ومن هذا المنطلق أشكركم وأنحني تقديرًا واحترامًا لهذا المنتدى وجميع الحضور الذين حضروا.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(٢) العرَض والمَرض في الخطاب الديني الحديث
أنا مشغول بأزمة الفكر الديني منذ نعومة أظفاري، كما نقول، أزمة الفكر الديني وأزمة الخطاب الديني بشكل عام، منذ فترة طويلة جدًّا وكتبت في هذا الموضوع كتابات كثيرة. لكن أتمنى اليوم أن أقدم شيئًا، إضافة، ربما ستقال لأول مرة في هذه المحاضرة. ومن هنا يهمني جدًّا بعد المحاضرة النقاش، الذي سيدور في هذه القاعة؛ لأن هذا النقاش يساعدني كثيرًا جدًّا على بلورة الأفكار. على تطوير الأفكار … إلخ.
أود أن أبدأ بهذا التمييز؛ حين نقوم بتحليل للفكر أي فكر، خاصة الفكر الإسلامي المعاصر، يجب التمييز بين العرَض والمرض، نحن دائمًا نتحدث وننقض الأعراض، نغضب؛ لأن هذا الخطاب الديني يقول كذا، ونغضب؛ لأن هذا الخطاب الديني يقول كذا. كل هذه أعراض، وأنا أريد أن أتعرض لبعض أعراض هذا المرض. وليس هناك شك استخدام كلمة مرض هنا أرجو أن تكون مقبولة، بسبب أننا نحس مجتمعاتنا العربية ما تزال، ولا نعمم على المجتمعات الإسلامية، مجتمعاتنا العربية تعيش حالة مرضية، على جميع المستويات والأصعدة. الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، لكن أنا سأهتم هنا فقط بهذا الجانب الفكري؛ لأن الفكر الإسلامي والفكر الديني ليسا منفصلين عن السياق الاجتماعي الذي يُدار فيه، يعني إذا كان المجتمع في مرحلة من التاريخ مجتمعًا ناهضًا ومتقدمًا. نجد الفكر الديني فكرًا ناهضًا ومتقدمًا. إذا كان المجتمع في حالة انتكاس ونكسة، الفكر الديني يعاني من نفس النكسة. الفكر الديني ليس ظاهرة وحدها تتسم بالتخلف؛ لأنه لو نظرنا إلى المجتمع المصري فسنجد أن الفكر المسيحي في الكنيسة المصرية هو فكر متخلف أيضًا، هذا يغضب إخواننا الأقباط لما أتحدث في هذا؛ لأن هذه هي الحقيقة أن مُجمل المجتمع المصري في حالة تخلف. فنجد الأصوات المنادية بالتقدم أصواتًا ضعيفة وخافتة ومضطهدة ومهمشة … إلخ.
ما هي أعراض الخطاب الديني المعاصر في العالم العربي؟ ممكن تلخيص هذا العرَض في أنه خطاب ضد الآخر. إنه خطاب يرفض الآخر، إنه خطاب يمتلك الحقيقة، وأي آخر لا يوافق على هذه الحقيقة فهو عدو، خصم. هذا الآخر قد يكون الآخر الديني، قد يكون المسيحي أو اليهودي أو البهائي أو الملحد. لكن هذا الآخر قد يكون هو الآخر في الملة، الشيعي، السني. هذه ظاهرة لا نستطيع أن ننكرها الآن، ليس فقط في المجتمع العراقي لكن في جميع المجتمعات العربية. وليس خافيًا عن ذهنكم بعض العلماء المسلمين السنة، أصدروا بعض الآراء ضد الشيعة. دخل في الأمر ليس فقط العامة وإنما دخل فيه بعض ممثلي الخطاب الديني.
مثلًا كلمة شيعي في قريتي أحيانًا تختلط في ذهن الناس بالشيوعية؛ لأنه ليس هناك شرح، رغم أن المجتمع المصري مجتمع عاش قرونًا، تحت حكم الدولة الفاطمية، المفروض أن تكون المعرفة بهذا الفكر الشيعي فكر الدولة الفاطمية الفكر الإسماعيلي، المفروض يبقى فيه معرفة حتى في التعليم، لا يوجد، أنا حضرت محاضرة في جامعة القاهرة، أستاذ في قسم اللغات الشرقية، وهو بجانبي على المنصة، ومتخصص في اللغة الفارسية، وقال كلامًا عن الشيعة، لم أستطع أن أمنع نفسي على المنصة أن أقول له هذا عار عليك، وعلينا، وعلى الجامعة. إنك رجل تعرف اللغة الفارسية وتتكلم بهذا الشكل، كرجل عامي عن الشيعة والفرس … إلخ.
كراهية الآخر أيضًا، الخطاب ضد الآخر ضد المرأة. المرأة تحولت إلى آخر، يعني كأن الخطاب الديني — وأنا هنا أتحدث عن الخطاب وليس الفكر — كأن الخطاب الديني منح نفسه الذكورية، أصبح خطابًا ذكوريًّا، وبالتالي أصبحت المرأة هي الآخر أيضًا. يصبح عندنا الآخر في الدين، الآخر في الملة، الآخر في الجنس، وبعدين الآخر في الرأي؛ يعني لا هو مسيحي، ولا يهودي، ولا شيعي، ولا امرأة، لكنْ له رأي مختلف.
هذا الخطاب ممكن أن نذكر أمثلة كثيرة جدًّا، جدًّا، لكن لا أريد أن أدخل في الأمثلة؛ لأن أنا الآن مهتم أن أضع ما يسمى أعراض المرض. هذا الخطاب خطاب ضد الآخر، والآخر هنا يتسع للآخر في الدين، الآخر في الملة، الآخر في الجنس، الآخر في الرأي. وبالتالي أصبحت مساحة الخطاب الديني الذي هو خطاب يمتلك حقائق كثيرة جدًّا، لا يستطيع أحد، أو لا يجب على أحد أن ينازعه في هذه الحقائق.
أنتقل إلى كيف وصلنا إلى هذه الحالة؛ كيف وصل الخطاب الديني إلى هذه الحالة؟ طبعًا، في كل هذا التحليل ربما لا أتعرض إلى السياق الثقافي والاجتماعي … إلخ. لكن مفهوم أن كل هذا يحدث في سياقات. أنا أطرح السؤال الآتي: ما هو شكل الفكر الديني الذي وصل العالم العربي إليه وهو يدخل على أبواب العالم الحديث أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؟ لا بد أن نبحث عن شكل الفكر الديني الذي صار مهيمنًا. الله أعلم، ممكن نقول من القرن الثالث عشر، ممكن نقول من القرن الرابع عشر، حتى القرن الثامن عشر، عندنا أربعة قرون نستطيع أن نحدد الفكر الديني أو نمط الفكر الديني المهيمن، بأنه الخطاب الفقهي، أو الرؤية الفقهية للإسلام. قبل القرن الثالث عشر، أو القرن الرابع عشر، كانت فيه رؤًى داخل الإسلام. الرؤية الفقهية كانت واحدة من هذه الرؤى. كانت هناك الرؤية اللاهوتية، علماء الكلام، بالفِرق المختلفة، المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، والحنابلة … إلخ، كل هذا كان ثراءً. هناك اختلافات في مفاهيم أساسية في الدين، هناك اختلاف في التوحيد، ماذا يعني التوحيد مثلًا. هذا كان نقاشًا، هذا الأمر اختفى، لا نجد له صدًى في الأربعة قرون من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر. الفكر الفلسفي، سواء كانت الفلسفة الإشراقية أو كانت الفلسفة العقلانية، كنا نتحدث عن ابن رشد ونتحدث عن ابن سينا والفارابي، كان فيه رؤية فلسفية من داخل منظومة الإسلام. رؤى من داخل منظومة الإسلام يمكن أن نطلق عليها الرؤية اللاهوتية، الرؤية الفلسفية. داخل هذه المنظومة أيضًا الرؤية الصوفية، التي بدأت مبكرًا جدًّا في حركة الزهد، وأسستها امرأة في بغداد اسمها رابعة العدوية. وهي بداية نظرية الحب، وبعدين نظرية العرفان، عاملها واحد مصري، وبعدين كيف تطور الفكر الصوفي؟ الفكر الصوفي رؤية للعالم يمكن أن نسميها الرؤية الصوفية لكن داخل كل هذه الرؤى رؤى مختلفة. كل هذا اختفى وترك المجال لهيمنة الخطاب الفقهي، ما يسمى الآن في الخطاب العام الشريعة. ما أصبح يسمى ويختصر الإسلام في الشريعة.
فلا بد لكي نعرف المرض أن ندرس هذا الخطاب الذي وصلنا، ما هو نوع هذا الخطاب الفقهي، الذي امتد وتضخم تعرض أحيانًا في سياق القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، إلى نوع من المقاومة. سوف نتكلم عنها. لكن عاد بقوة مرة أخرى ليكون هو الخطاب المهيمن على الرؤية الدينية، الرؤية الإسلامية للعالم، الحرام والحلال … إلخ. لا بد أن نطرح البنية المعرفية لهذا الفكر، الرؤية الفقهية للعالم؛ لأن الفكر الإسلامي المعاصر قائم على هذه الرؤية. البنية المعرفية تقوم على الآتي: أن هناك مصدرًا أساسيًّا وجوهريًّا للمعرفة، هو القرآن الكريم، وبنص الإمام الشافعي مؤسس هذه الرؤية للعالم، أن القرآن فيه حلول لجميع المشاكل، الماضي والحاضر والمستقبل، فيه الهدى، حتى أكون دقيقًا، فيه الهدى لهذه الحلول، ويطرح الإمام الشافعي في كتاب الرسالة وفي كتاب الأم كيف نقرأ القرآن. أُضيفَ إلى هذا النص الأساسي الأول، السنة، لماذا؟ لأن السنة اعتبرت هي الشارحة للقرآن.
السنة وهي أفعال النبي وأقوال النبي، وسلوك النبي وعلاقة النبي بأصحابه، كيف وافق على أقوالهم أو رفض أقوالهم … إلخ، أصبحت هي المصدر الثاني. الإمام الشافعي قام بخطوة هامة جدًّا، جدًّا، أنه جعل هذا المصدر الثاني وحيًا، الإمام الشافعي الذي صنع ذلك، يعني القرآن وحي هذا جميع المؤمنين يؤمنون به، كلام الله كل المسلمين يؤمنون بذلك. الإمام الشافعي أراد أن يؤسس نوعًا من القداسة للسنة، فقال إنها أيضًا وحي — طبعًا اعتمد على بعض النصوص من القرآن — وإن كانت بلغة النبي، والفرق بين القرآن وبين السنة: أن كليهما وحي من الله، ولكن لغة القرآن هي لغة الله. ولغة السنة أو لغة الأحاديث هي لغة محمد. هذا هو الفرق، يعني كلاهما مقدس على مستوى المضمون، على مستوى اللغة، القرآن مقدس، الحديث بشري على مستوى اللغة فقط، هذا هو المفهوم السائد حتى هذه اللحظة.
لبناء نظرية تشريعية، لم يكن يكفي القرآن والسنة، خاصة أن السنة لم تكن قد جُمعت والأحاديث لم تكن قد جُمعت ودونت، وأن هذا أخذ على الأقل مائة وخمسين سنة، بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، حتى استطاع البخاري أن يضم الأحاديث، ويَنخل الأحاديث، ويطبق منهج نقد الحديث … إلخ. احتاج المسلمون من أجل إقامة هذا البنيان الفقهي، الذي أعتقد أنه بنيان فقهي شامخ، لو لم نجد حلًّا واضحًا في القرآن ولا حلًّا واضحًا في السنة أمام مشكلة، إزاء مشكلة؟
فأضيف إليهما الإجماع، كعنصر ثالث، لكن الخلاف بينهم إجماع من؟ هذا سؤال خطير، إجماع مَن؟ طبعًا المعتزلة يرفضون الإجماع، الخوارج يرفضون الإجماع؛ لأن الإجماع ارتبط بما يسمى تأسيس سلطة مركزية في عصر الدولة الأموية، وعصر الدولة العباسية. فكل من كان خارج هذه السلطة المركزية رفض الإجماع، يعني الإجماع في بنيته مفهوم سياسي، ثم حُمِّل دلالات دينية، بعد ذلك. يعني الفصل بين التطور الحادث في المجتمعات الإسلامية، وتطور الفكر مسألة مهمة جدًّا، نجد أن الذين رفضوا الإجماع هم الذين كانوا خارج هذه المنظومة، هم الذين رفضوا السلطة المركزية، وقاوموا السلطة المركزية. سواء كانوا الخوارج، وسواء كانوا الشيعة.
الشيعة مثلًا يرفضون الإجماع، بشكل عام، طبعًا إجماع الأئمة هذا موضوع تاني في الفكر الشيعي، ولكن إجماع الأئمة ليس ضروريًّا في الفكر الشيعي لأن كل إمام من حقه الاجتهاد. فهذا يعطي مفهوم الإجماع في الفقه الشيعي نوعًا من السيولة لا توجد في مفهوم الإجماع. لكن اتفق الجميع في النهاية على أنه إجماع الجيل الأول، إذًا الصحابة اجتمعوا على شيء، يكون لا بد هذا الاتفاق، ذهنيًّا، نظريًّا، لا بد أنهم يستندون إلى سُنة لم تصل إلينا، لأنهم الصحابة، هم من رأوا الرسول وهم من عاشوا معه وكذا وكذا. فإذا اتفقوا على حاجة — هذا منطق مفهوم الإجماع — يبقى لا بد أنه فيه أساس في السُّنة.
لكن هذا الأساس في السُّنة لم يصل إلينا. طبعًا مفهوم الإجماع هذا يضربه الحروب التي حدثت بين الصحابة. على مسائل خطيرة، مسألة القيادة السياسية، من يكون القائد السياسي، ونعرف الحروب التي خاضتها عائشة وطلحة والزبير ضد علي في موقعة الجمل، وعارفين الحرب بين علي ومعاوية في موقعة صفين، وعارفين كل هذه الحروب. مما يدل على أن هذا الجيل الأول لم يكن هناك إجماع. اختلفوا على نظام الحكم واختلفوا على من الحاكم. واختلفوا على من الأمير ومن الخليفة. يبقى ربما يكون اتفقوا على أمور لا أهمية لها. هذا هو مفهوم الإجماع، لكن ظل هذا غير كافٍ.
فقيل بالاجتهاد، البند الرابع والأخير والأضعف هو الاجتهاد. لأنك قبل أن تقوم بأي عمل اجتهادي، عليك أن تعود إلى القرآن وإلى السنة، وأن تعود إلى الإجماع. وبعد ذلك مع تطور العصور إلى أن تعود إلى ما قاله أئمة المذهب، يعني كلما تأخر الجيل، أصبحت الأجيال السابقة تمثل نوعًا من المصداقية، لا يستطيع الجيل اللاحق أن يتجاهلها. وبالتالي تجمدت المدارس الفقهية، المدارس الفقهية سواء نتحدث عن المدارس الرسمية الأربع، وأنا أقول المدارس الرسمية؛ لأن فيه مدارس فقهية كثيرة جدًّا هُمشت وبالتالي اختفت من التاريخ. الشافعية والمالكية والحنابلة، تجمدت هذه المدارس، بعد فترة قليلة من موت أصحاب هذه المدارس تجمدت، لماذا؟ لأنه أصبح رأي الجيل السابق في المدرسة ينضم إلى مفهوم الإجماع، داخل المذهب، فأصبح كل مذهب له مفهوم للإجماع.
عندي هنا أربعة مصادر، القرآن، الحديث أو السنة، الإجماع، الاجتهاد. الاجتهاد كان في فترة معينة كان هو القول بالرأي، وعندنا في تاريخ الفكر الإسلامي ما يسمى بأصحاب الرأي، شيخهم الإمام أبو حنيفة، كان من أصحاب الرأي، أراد الإمام الشافعي أن يُحجِم من مسألة الرأي، كان عندنا على الأقل إمامان، واحد يقول بالرأي «أجتهد رأيي ولا آلو» بحسب الحديث الذي يُنسب إلى مُعاذ بن جبل، أن الرسول أرسله ليكون قاضيًا في اليمن، وسأله بمَ تحكم؟ وهذا حديث تجده الآن يتكرر، «قال أحكم بكتاب الله، قال فإن لم تجد قال بسنة رسوله، قال فإن لم تجد، قال أجتهد رأيي ولا آلو». يعني أجتهد رأيي بكل العزم. لا يوجد إجماع هنا طبعًا.
بناءً على هذا كان الرأي شيئًا معتدًّا به في الفكر الإسلامي، وكان فيه أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، في فترة معينة، كان فيه هذا الجدل بين أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، وأصحاب الحديث الذين يقولون لا، لا بد من وجود حديث، عملوا نكتة على أصحاب الرأي أسموهم (الأرأيتيون) أرأيت لو كان الأمر كذا، فعملوها نكتة. كان فيه أصحاب الرأي، المؤسس أبو حنيفة، وكان الإمام مالك يقول بالاستحسان، في كتاب الموطأ يقول «ليس هناك حكم، ولكن هذا رأي استحسنته».
الإمام الشافعي حريص جدًّا جدًّا في عمله على أنه، أولًا يرفض الاستحسان، ويقول: «من استحسن فقد شرَّع» يعني وضع نفسه أعوذ بالله، مكان الله، وأراد أن يحجم من الرأي بنظرية معقدة جدًّا، في القياس، إذن حصر الاجتهاد في القياس. لكن ما معنى القياس؟ معناه أن شيئًا يحدث، أي نازلة تحدث، لا بد أن يكون لها نموذج ما في هذه المصادر الثلاثة، يعني احتمال أن يحدث شيء لا سابقة له غير وارد في هذه الرؤية للعالم، لا بد أن نجد مشابهة بين الواقعة التي نريد أن نصل إلى حكم فيها، وبين وقائع حدثت قبل ذلك.
العالم الحديث دخل في مشاكل كثيرة جدًّا ليس لها قياس في الماضي، سنرى على كل حال. هذه هي البنية المعرفية، طبعًا هذه البنية المعرفية ليست هي بالضبط البنية المعرفية في علم اللاهوت، في علم الكلام، وليست هي بالضبط البنية المعرفية في الفلسفة، ولا هي البنية المعرفية للتصوف. فيه بنى معرفية مختلفة في هذه المجالات الثلاثة، على الأقل، وبنى تقول كلامًا مختلفًا، ليست هناك بنية معرفية في تاريخ الفكر الإسلامي مثلًا، لم تعرف بأهمية النص القرآني كنص مؤسس، ولا بأهمية السنة كنص مؤسس، لكن الإجماع والقياس والرأي مسائل طوال الوقت خلافية.
بالإضافة إلى أنه لا علم اللاهوت ولا الفلسفة مشغولان بقضية القوانين، التشريعات. ما أقوله أنه بناءً على هذا النسق المعرفي تم بناء علم شامخ في الحقيقة، مؤسسة فقهية كاملة وشامخة. لكن اجتهاد العلماء طبقًا لظروف عصرهم، وطبقًا لظروف مجتمعاتهم، هذا هو علم الفقه بشكل عام، هذه هي الشريعة بشكل عام. إن عدد الآيات القرآنية التي يُؤخذ منها أحكام لا يزيد على خمسمائة آية، باعتراف الفقهاء أنفسهم، خمسمائة آية من أكثر من ستة آلاف آية، يعني ثمانية في المائة من القرآن له مدلول فقهي أو له مدلول تشريعي مباشر. خارج الثمانية في المائة، يعني الاثنين وتسعين في المائة، عندنا السرديات والقصص، والمواعظ والطبيعة، عندنا رؤية كاملة أو رؤى كاملة يمكن أن نسميها رؤى العالم في القرآن، وهذا موضوع تاني، موضوع محتاج إلى شغل، لم نبدأه بعد. لم نبدأه في سياق الفكر الإسلامي المعاصر. لم يبدأ أحد فيه بعد.
تم طبعًا تهميش الرؤى اللاهوتية للعالم، علماء الكلام الأوائل، آباء علم الكلام ثلاثة على الأقل، واحد ذُبح في المسجد، بعد صلاة العيد، نزل الوالي وقال لهم بعد الخطبة: «قوموا إلى صلاتكم وأضحياتكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم لأنه يزعم قبحه الله أن الله لم يكلم موسى.» هذا بداية نظرية ما يسمى نظرية خلق القرآن، ولها سياق معقد جدًّا، جدًّا، لا بد أن يدرس في سياقه. وغيره قُتلوا الثلاثة. المعتزلة تعرضوا للاضطهاد. والمعتزلة اضطهدوا خصومهم، وتعرضوا للاضطهاد أيضًا. ابن حنبل تعرض للاضطهاد، يعني لم يخلُ من الاضطهاد لا يسار ولا يمين. نحن في تاريخنا الحقيقة تاريخ الاضطهاد السياسي للفكر لا يُفرق بين اليسار وبين اليمين.
الفلاسفة المتصوفة تعرضوا للاضطهاد. يعني نتكلم عن السهروردي، اسمه السهروردي المقتول، رجل لقبه هكذا، قتله صلاح الدين الأيوبي، عندنا ابن رشد ومأساة ابن رشد معروفة وما حدث له من الخليفة الذي كان يعتز به جدًّا جدًّا، لكن اضطر أن يضحي به من أجل خاطر الفقهاء. كانت حرب والخليفة يريد أن يفرض ضرائب جديدة في الأندلس، ولكي تفرض ضرائب جديدة تحتاج إلى الفقهاء معك، والفقهاء قالوا له لكن ابن رشد واقف لنا هنا، وابن رشد فقيه، له كتاب في الفقه.
هذا أدى إلى تهميش، هذه الرؤى الأخرى في تاريخ الفكر الإسلامي. اللاهوت، الفلسفة، والتصوف. وهذا كان طبعًا في سياق انحدار كامل لهذه الحضارة، يعني في النصف الثاني من عصر الدولة العباسية تقريبًا كل الخلفاء قُتلوا. من مات مسمومًا، من خُزقت عينه. تغير القوى السياسية، ثم مجيء المغول، استيلاء المغول على بغداد. وبغداد دي طول عمرها مسكينة الحقيقة … إلخ. كل هذا أدى إلى انحطاط عام، هذا الانحطاط العام، أدى إلى تهميش هذه الرؤى، لم يبقَ إلا هذه البنية الفقهية، أو ما يسمى الرؤية الشرعية للإسلام. التي وصلت إلينا في القرن الثامن عشر. صورة الإسلام التي وصلت في عصر النهضة هي هذا الإسلام، المرتبط برؤية واحدة هي الرؤية الفقهية للعالم.
النقطة الثالثة: أزمة الحداثة؛ لأن النهضة مرتبطة بالحداثة، الحداثة مرتبطة بالهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي وعلى العالم العربي، ليس هناك شك أن نابليون حينما حطَّ أقدامه على أرض مصر وعمل صدمة، وعمل إزعاجًا لعلماء الأزهر. وللمماليك، الذين اكتشفوا أن هذا عالم جديد، وهذه كانت بداية السؤال، ماذا حدث؟ ماذا جرى؟ والسؤال الذي تجدونه متكررًا فيما يسمى مشروع النهضة، سموها النهضة، سموها اليقظة، وسموها الحداثة. هو: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟ ستجدون هذا السؤال متكررًا عند الأفغاني وعند محمد عبده وعند رشيد رضا، ومتكررًا في الهند. ومتكررًا في كل مكان. وهو السؤال الذي ما زلنا فيه حتى الآن، نحن طوال الوقت نسأل هذا السؤال. هذا كان السؤال الذي كان مركز ما يسمى بأزمة الحداثة، ما هي مشكلة أزمة الحداثة؟ الحداثة مُنتج غربي وجاءت محمولة إلى هذا العالم من خلال الحامل الاستعماري، يعني اكتشفنا الحداثة والمجتمعات الحديثة من خلال أرضك تُنتهك، اعتداء على الهوية … إلخ. لا نريد أن ندخل في هذه الأشياء.
الصدمة: التي يمكن أن نراها في كتابات واحد مثل الجبرتي، مؤرخ مثل الجبرتي، هذه الصدمة خلقت نوعًا مما يمكن أن نسميه جدلية القبول والرفض، لا شك أن الرواد الأوائل وجدوا في هذه الحداثة أشياء مقبولة، وفيه هناك أشياء لم يستطيعوا تقبلها، هذه الأشياء المقبولة تتصل بالمجتمع الحديث شكل الحكم الحديث، البرلمان، الديمقراطية التي تم تقبلها تحت إعادة تأويل الشورى، شكل الدولة، الطرق، الكباري، المستشفيات، التقدم التكنولوجي. كل هذا ليس من الصعب قبوله. العقلانية: وجد الرواد الأوائل أنها لا تتناقض مع العقلانية التي وُجدت في تاريخ الفكر الإسلامي، ومن هنا بدأ — مثلًا — جمال الدين الأفغاني يقرأ في الفلسفة، فلسفة ابن سينا. أول مرة نجد حضورًا للفلسفة، عند مفكري النهضة، وجمال الدين الأفغاني كان في تركيا كان «هيروح فيها» لأنه عمل محاضرة عن مفهوم النبوة واستعان برأي الفارابي والفلاسفة عن النبوة، العلاقة بين النبي والفيلسوف … إلخ. هذا لم يكن المجتمع يستطيع أن يتقبله؛ أن النبي هو إنسان عادي لكنه يمتلك مُخيلة قوية، يستطيع من خلال هذه المخيلة القوية أن يتصل بالملأ الأعلى، الذي يتصل به الفيلسوف لكن من خلال تأمله العقلي. هذه نظرية النبوة عند الفلاسفة.
فتم قبول الحداثة بشرط ألا تتعارض مع التراث الماضي، ولكن التراث الذي كان الرواد ينظرون إليه هو التراث العقلاني. سنجد أن محمد عبده — مثلًا — يشير إلى المعتزلة كثيرًا، في تفسير المنار، وبدأ حوار حول ابن رشد في هذا الوقت، يعني العالم الإسلامي عرف ابن رشد في القرن التاسع عشر تقريبًا، حينما كتب الرجل الفرنسي رسالته عن ابن رشد والرشدية. ورد عليه جمال الدين الأفغاني، ودخل في المعركة فرح أنطون، ودخل محمد عبده، فنحن اكتشفنا ابن رشد في الحقيقة شكرًا «لأرنست رينان».
نستطيع أن نقول في الفترة الأولى، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت المحاولة التي قام بها الرواد: هو تحديث الفكر الإسلامي. أي جعل الفكر الإسلامي يتلاءم مع قيم الحداثة، دون الإضرار بالأصول، المؤسسة لهذا الفكر الإسلامي، بالذات القرآن، لكن السُّنة تعرضت لبعض النقد، الأحاديث الكثيرة التي ليس لها لازمة، والتي ليس لها معنى، محمد عبده، بحذر شديد ينقد هذه الأحاديث، خاصة ما ورد عن نزول الملائكة، حتى هذا في القرآن، نزول الملائكة في بدر، والملائكة كم ألف حاربوا مع المسلمين. محمد عبده يرجع إلى المعتزلة والمعتزلة يقولون، والله المؤرخون قالوا لنا بالضبط عدد القتلى في معركة بدر، المؤرخون قالوا لنا من قتل من، فنعرف ما حدث بالضبط تاريخيًّا، يبقى الملائكة نزلوا عملوا أيه بالضبط؟ فمحمد عبده يرى في الآية، وهذه هي القراءة وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (سورة ٨ الأنفال: ١٠) بُشرى، طمأنة للقلوب، يعني نأخذها حرفيًّا. محمد عبده له محاولات مهمة جدًّا، جدًّا، ضد التأويل الحرفي.
كان فيه ثلاثة تحديات على الأقل: تحدي العلم، التفكير العلمي. تحدي العقلانية. وتحدي البنية السياسية الحديثة، يعني تغيير شكل المجتمعات، الانتقال من الإمبراطوريات إلى الدولة القومية، وهذا شكل ثانٍ من أشكال الدولة، وهذا حصل بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، هذا الانتقال. هنجد استجابات لهذا العلم، سنجد تفسيرًا، مثلًا السيد أحمد خان في الهند، تفسير المنار الجزء الذي كتبه محمد عبده … إلخ.
يعني كان فيه محاولات نستطيع أن نقول إن هذه المحاولات طوال القرن التاسع عشر وإلى حد كبير المنتصف الأول من القرن العشرين، محاولات للمفكرين المسلمين، لتقبل النهضة، ولكن في إطار التراث وفي إطار التقاليد. الأمر الذي احتاج إلى بعض النقد، يعني مثلًا النقد الأساسي كان رفض الإجماع، أن ما اجتمع عليه القدماء جميل، لكن ليس ملزمًا لنا، حتى المذاهب أيضًا، تم نقد للمذاهب، وأن الإنسان لا يجب أن يتمسك بمذهب معين، هذا يقول أنا شافعي … إلخ، هذا عمل حرية في تقنين القوانين، بأنه لا يلتزم المشرع الحديث بأنه يتبع مذهبًا معينًا، أنه يأخذ الآراء التي تصلح للتقنين الجديد. أصبح فيه نقد للإجماع، أصبح فيه نقد للسنة، أصبح فيه دعوة للاجتهاد، حتى خارج إطار القياس. وهنجد هذا في شغل محمد رشيد رضا، تلميذ محمد عبده والذي كان يصدر مجلة المنار، وعندنا هنا دكتور عمرو رياض خبير في رشيد رضا ومجلة المنار، في مسألة الاجتهاد في فتح باب الاجتهاد. في مسألة الدخول في قضايا شائكة، لم يدخل فيها القدماء.
وكان الفقيه عنده من الشجاعة والجسارة أن يقول: والله هذه أمور لم يتحدث عنها القدماء، وبالتالي لا نحتاج إلى القياس فيها. نحتاج إلى إعمال العقل فيها. لكن احنا إزاء أزمة، إزاء حداثة لا يمكن تقبلها ولا يمكن رفضها، وبالتالي أصبح الحل هو تحديث الفكر الإسلامي، هنا فيه فاعل ومفعول به، الفكر الإسلامي مفعول به والحداثة فاعل. يتم تطوير الفكر الإسلامي طبقًا لمفاهيم الحداثة، هذا باختصار شديد الذي نقدر أن نقوله مشروع النهضة. أو نسميه اليقظة أو نسميه الإصلاح الديني. نسميه كما نشاء.
إلغاء الخلافة سنة ١٩٢٤م في تركيا، قلب المعادلة، لأنه هنا دولة إسلامية وهي تركيا، وتركيا الفتاة قرروا أن يدخلوا في الحداثة. من غير مشاكل، هم مسلمون، نعم لكن يفصلون بين الدين والدولة. يقيمون دولة حديثة، وشطحوا شوية، وأحيانًا المجتمعات محتاجة شطح الحقيقة. المجتمعات الحذرة لا تعمل تقدم، وهذا خلق في الجزء العربي من العالم، وفي الجزء الهندي من العالم مشكلات كثيرة جدًّا. حين اختفى منصب الخليفة، الذي كان قد فقد معناه منذ زمن طويل، بل إن المجتمعات العربية التي كانت تحت حكم العثمانيين، كانوا لا يكفون عن مناوأة العثمانيين. ولا عن الشكوى من الاستبداد العثماني ولا عن الشكوى من السلطان عبد الحميد شخصيًّا، عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد يكاد يكون هشم السلطان عبد الحميد، الخليفة. لكن فجأة اختفى المنصب، وهذه مسألة سيكولوجية، سيكولوجية جماعية. اختفى المنصب فكأن العالم العربي أو العالم الإسلامي أصبح عاريًا. وهنا خُلقت مشكلة الهوية، لو أردنا أن نرجع لتاريخ نشأة أزمة الهوية ومشكلة الهوية نرجع إلى هذه اللحظة.
الاحتفال الذي قام في العالم العربي، بناءً على قرار الكماليين؛ لأنه كان فيه قرار قبل إلغاء الخلافة وهو الفصل بين السلطنة والخلافة، يعني الخليفة قالوا له ظل خليفة في إسطنبول، لكن الحكومة ستكون في أنقرة، لا دخل لك بالحكومة، فلغوا السلطنة وتركوا الخليفة، هذا القرار قوبل باستحسان شديد في مصر، وقوبل باستهجان شديد في الهند، والهنود في هذا الوقت قالوا إن هذا تحويل الإسلام لفاتيكان. سلب السلطة السياسية عن الخليفة. المصريون احتفلوا بذلك؛ لأن الخليفة على الأقل لن يكون هو رئيس الدولة التركية، سيكون خليفة لكل المسلمين، لكن إلغاء الخلافة خلق رد الفعل المباشر. وهذه بداية أزمة الهوية، من نحن؟ والمتتبع للأدب الذي كُتب في هذه الفترة يكتشف أن هذه فعلًا لحظة لا يمكن إنكار دورها في خلق الأزمة.
رشيد رضا وأنا طوال الوقت أتناقش مع الدكتور عمرو في هذه المسألة، رشيد رضا تحول من عقلانية محمد عبده تدريجيًّا إلى الوهابية، ولازم ندرس هذا التحول، فلا نكتفي بأن نلعن الرجل، هناك مقالات كثيرة جدًّا تلعن رشيد رضا، ونحن لا نريد أن نلعن، نريد أن نفهم. أنا رأيي، محمد عبده لو عاش — توفي ١٩٠٥م — لكن رشيد رضا عاش ورأى الأزمات تتراكم، ومشكلات الغرب مع العالم الإسلامي، عاش تجارب أكثر قسوة على المجتمع من الفترة التي عاشها محمد عبده. فتحول تأييده للأتراك، كان تأييدًا للفصل بين السلطنة والخلافة، إلى نوع من اكتشاف أن الإسلام الحقيقي عند الوهابية، هؤلاء الأتراك يعني هم خارجون عن الإسلام، هذا تحول، خذوا بالكم، أن محمد رشيد رضا هو هو شيخ حسن البنا الذي أسس الإخوان المسلمين، والإخوان المسلمين ١٩٢٨م يعني أربع سنوات بعد إلغاء الخلافة، والبند الأول في رسائل حسن البنا، أسلمة مصر، وجد أن مصر قطعت شوطًا طويلًا في الحداثة، في التعليم، في زي المرأة، في خروج المرأة، في تعليم المرأة، ونستخدم التاريخ الإفرنجي وليس التاريخ الهجري، الناس تقول هالو، باي، لم يعودوا يقولون السلام عليكم، قوي مثل زمان. فيه تغير في شكل الحياة، تغير في التواصل بين البشر.
كل هذا كان خروجًا عن النسق، إعادة مصر للإسلام، أسلمة مصر، كنموذج يمكن أن يُطبق بعد ذلك على بلدان العالم العربي والإسلامي، تمهيدًا، أو لإعادة تأسيس الخلافة. لكن كانوا الخطين الموجودين في هذا الوقت، من سنة ثمانية وعشرين إلى الخمسينيات، إلى الستينيات، نستطيع أن نقول إنه كان فيه هذا التيار، تيار الأسلمة يقابله على نفس الدرجة من القوة التيار المضاد للأسلمة، ليس التيار العلماني، هناك فرق أن يكون الإنسان نقيض الأسلمة وأنه يبقى علماني، العلمانيون الحقيقيون الذي يطالبون بفصل الدين عن الدولة في تاريخ الفكر العربي الحديث قلائل، يمكن معظمهم من الشوام، معظمهم من المسيحيين، وهذا شيء طبيعي جدًّا جدًّا، وقلة قليلة من المسلمين؛ لأنه من أول دستور مصري، هو الإسلام دين الدولة، دستور ١٩٢٣م. في تنامي هذا الخط، خط الأسلمة، وخط الأسلمة يعتمد على الرؤية الفقهية للعالم، أكثر مما يعتمد على تطوير الفكر اللاهوتي، ولا تطوير للفكر الفلسفي، وتغيير للرؤية وتطوير أحيانًا للرؤية الفقهية للعالم.
أهم مؤسس فكري للفكر الإسلاموي الحقيقي هو أبو الأعلى المودودي، الهندي أيضًا، وأبو الأعلى المودودي أثر في واحد مصري اسمه سيد قطب، عادة التأثير يخرج من العالم العربي على العالم الإسلامي، هنا عقلية الأقلية، وتحليل خطاب سيد قطب هو تحليل لخطاب أقلية، المسلمون صاروا أقلية، صاروا أغرابًا، «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء». هذا حاضر المسلمين أصبحوا أقلية، هم المسلمون الحقيقيون من نظر سيد قطب، وبالتالي عليهم أن يهجروا هذا المجتمع، هذا مفهوم الهجرة، وأن يخرجوا خارج المجتمع، ليتقووا ويبنوا أنفسهم، كما فعل النبي حينما خرج من مكة إلى المدينة. النموذج هو نموذج الماضي، ثم يعودون إلى هذا المجتمع بقوتهم، كما عاد محمد بجيشه، إلى مكة ففتحها، هذه أفكار سيد قطب ببساطة شديدة؛ لأن الأفكار بعد ذلك التكفير والهجرة أخذوها، تكفير المجتمع وتكفير العالم كله، مسبوق فيه سيد قطب بأبي الأعلى المودودي، العالم كله يعيش في جاهلية، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية، لماذا؟ لأنها لا تُقيم حكم الله.
التصور الفلسفي عند المودودي أن العالم هو عبارة عن دولة، يحكمها الله، الكون، وبالتالي الدولة التي على الأرض يجب أن تكون انعكاسًا لهذه الدولة الكونية، لكن لأن الله لا يستطيع أن يحكم على الأرض، فقد زوَّد الله العالم بالكتاب، حتى يحكموا به، ومن هنا قراءة أبو الأعلى المودودي، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ هي نفس القراءة التي يرددها سيد قطب، تلميذ مخلص للمودودي.
من سيد قطب خرج ما يسمى الجماعات المتطرفة، القطبيون، التكفير والهجرة وبعدين الجهاد … إلخ، بتشجيع من الدولة، الدولة لم تفقد إسلامها أبدًا، ولا رئيس في العالم العربي، غير بورقيبة ربما، تجرأ أن يقول إن فيه حاجات في الدين تنتسب إلى الماضي. بورقيبة هبِّل شويه، وهذا الهبل وأنا أقول لأنه أحيانًا المجتمعات محتاجة إلى هذا الهبل، هذا الهبل أقام مجلة المرأة، التي الإسلاميون أنفسهم يدافعون عنها، المرأة المسلمة المنقبة تدافع عنها؛ لأنها تعطيها حقوقًا متساوية، هذه المجتمعات محتاجة إلى مغامرة، أحيانًا.
المشكل الذي هو أصبح تحديث الفكر الإسلامي، انقلب، أصبح: أسلمة الحداثة، أسلمة الفكر الحداثي، وهذا نجده على مستويات فلسفية عند واحد الله يرحمه عبد الوهاب المسيري، وعند واحد ربنا يعطيه طول العمر، أقل فلسفية وأكثر ديماجوجية اسمه محمد عمارة، أنا لا يمكن أن أضع محمد عمارة على المستوى المعرفي والعقلي بجانب المرحوم عبد الوهاب المسيري. إنما كلاهما ينطلق من منطلق واحد، ما يسمى بمرض الحداثة، التي تحتاج إلى مقوٍّ إسلاميٍّ، وهو ما يسمى بأسلمة الحداثة. طبعًا أسلمة الحداثة تأخذ أشكالًا فجة كثيرة جدًّا، أسلمة المعرفة: هناك مؤسسات في أمريكا، وماليزيا، اسمها أسلمة المعرفة، أية معرفة يصدرها العقل الإنساني لها أصل في القرآن. طبعًا الإعجاز العلمي للقرآن، قضية ثانية، كل نظرية تخرج لها أساس في القرآن، طبعًا السؤال المضحك، أو يجب أن يكون مضحكًا، إذا كان كل حاجة لها أساس في القرآن لماذا لم يكتشف المسلمون هذه الحاجات؟ وليه من ليس عنده أي فكرة عن القرآن ولا عمرهم قرءُوه هم الذين اكتشفوا هذه النظريات. هي أسلمة الحداثة. أنت لا تستطيع أن تنكر الحداثة، الحداثة واقع، واقع نعيشه في أزيائنا، نعيشه في تطور لغتنا، نعيشه في كل مكان. إنما نريد أن نعيش الحداثة بوجهنا ونفكر بالنظر إلى الخلف، هذه هي المشكلة.
أنا شرحت الأساس؛ كيف وصل الفكر إلى هذه الحالة التي نحن فيها، محاولًا أن أجد الجذور لما يسمى أعراض المرض، الجذور التاريخية والجذور الاجتماعية، إننا لا يمكن أن ندرس فكرًا إلا من خلال وضعه في سياق، تاريخي وتطوري.
ما هي المقولات الرائجة في الخطاب الديني، والتي أريد أن أركز عليها، طبعًا هنا لن أدخل في قضايا، ولن أدخل في تحليل ماذا يقول، عن المرأة، إنما في أي كلام ضد المسيحيين، في أي كلام ضد الشيعة والسنة، في أي كلام ضد الآخر في الرأي، في أي اتهام بالردة، في أي اتهام بالكفر ستجدون هذه المقولات الأساسية.
(١) لا اجتهاد فيما فيه نص: ساعة ما يلقيها في وجهك لا تستطيع ردها، لكن سأقول لك كيف تردها؛ لأنها قائمة على أكذوبة تخلط بين كلمة نص في الفقه الإسلامي وكلمة نص كما نفهمها في اللغة الحديثة، خلط بشع، كلمة نص في اللغة الحديثة يعني بنية لغوية كاملة، حينما نقول القرآن نصٌّ لغويٌّ، نصِف القرآن كله، ببنيته بتقسيمه إلى سور بتقسيم السور إلى آيات، بترتيب السور. حينما نقول على مسرحية أو على رواية أو على كتاب إنه نص، فنحن نقصد بنية كاملة.
لكن كلمة نص في نظرية الفقه الإسلامي وفي التاريخ الإسلامي لها معنى ثانٍ: قسموا القرآن إلى مستويات، مستوى من مستويات المعنى في القرآن، مستوى اسمه النص، وهذا هو الواضح وضوحًا بيِّنًا يفهمه الحمار، أي أحد يعرف لغة عربية، يفهم هذا النص، لا تحتاج إلى علم ولا معرفة ولا حاجة. قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ مفهوم لأي أحد، أن الله واحد، لكن ليس مطلوبًا من هذا الحد أن يفهم الفرق بين (أحد) وبين (الله إلهكم إله واحد)، هذا موضوع تاني، سندخل في التصوف وسندخل في اللاهوت، سندخل في قصص تانية. لكن أي واحد يستمع إلى عبارة قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ يعرف أن القرآن يعلمه أن الله واحد.
من هنا في هذه العبارة نص، أي إنها واضحة وضوحًا بينًا. مثلًا إن القرآن يعمل نوعًا من الكفارة لارتكاب خطأ في الحج، مثلًا، فيقول: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ (سورة ٢ البقرة: ١٩٦) هذا نص، لأنه لم يتركك تجمع ثلاثة وسبعة حتى لا تغلط، وهذا الإمام الشافعي يعطي هذا المثال للنص، أي الواضح وضوحًا بينًا. هذا مستوى ويقول الفقهاء، «والنصوص عزيزة»، يعني قليلة، قليلة جدًّا، لم يكن يجرؤ فقيه في العصر الكلاسيكي أن يقول إن هذا نص في كذا إلا بحذر شديد جدًّا، لأن كلمة نص معناها شيء لا خلاف عليه، والخلافات كانت كثيرة حتى في التفاصيل.
بعد النص يقولون، المحتمل: مستوى ثانٍ من المعنى، محتمل، فيه احتمال، فيه احتمال أن يكون مجازًا أو أن يكون حقيقة، لكن عليك أن ترى هل هو مجاز أم حقيقة. بعد ذلك المُجمل، مثل «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة».
مُجمل، لم يزودك القرآن كيف تقيم الصلاة، ولا مقادير الزكاة … إلخ، وقالوا إن السنة تُفصِّل المجمل في القرآن، وإن القرآن أحيانًا يفصل ما أجمله في مكان، يفصله في مكان آخر، لكن المحتمل قد يتضمن دليلًا يرده إلى الظاهر، مثلًا (القُروء) هل القُروء يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ للمرأة التي يموت عنها زوجها، هل القرء هو الطهارة أم الحيض، يعني ثلاثة قروء ثلاث حيضات أم الطهارة، وهذا خلاف بينهم؛ لأن هذا مُحتمل؛ لأن اللغة تتضمن هذا الاحتمال، اللغة مليئة بعبارت تحتمل معاني وأنقاضها، كما يقال البصير تُقال للأعمى. وكما يُقال للصحراء مفازة، وهي مَهلَكة؛ لأن اللغة مليئة بما يسمى تحويل الدال إلى شيء أجمل، حين تقول عن الصحراء مفازة، إنك ترجو من تحدثه أنه إن شاء الله سيمر من الصحراء ولن يحدث له شيء، حين تقول عن الكفيف بصير؛ لأن هذه للغة مؤدبة، لا يصح أن تقول لضعيف النظر، أنت أعمى مثلًا. عملوا هذا في طه حسين في امتحان بالأزهر، قال له يا أعمى، شيخه في اللجنة، اللغة مليئة بهذه الاحتمالات اللغوية، هناك الغامض: وهو المتشابه مستوى تالٍ.
كلمة نص في التراث الإسلامي ليس معناها القرآن كله، وأي نصاب، وأي كذاب، لأنه إما عن جهل، وإما عن تزييف، وكلاهما سيئ. لا اجتهاد لما فيه نص، يمكن أن نبدله لا اجتهاد إلا في النصوص، لماذا؟ لأن النصوص مُعطًى لغوي، وهنا الفلسفة وعلم الكلام يعلمنا. ابن رشد عامل مستويات المعنى في القرآن خمسة، وأنا أحيانًا أعملها نوعًا من الترميز بالألوان: الأبيض، اللون الأبيض، الذي لم يتكلم عنه القرآن، فهو خارج إطار سلطة النص، العقل، ابن رشد وهو يناقش العلاقة بين العقل وبين الشريعة يقول، ما سكت عنه الشرع ما هو؟ يكون في العقل، وهذه مدرسة الأندلس مدرسة ابن حزم.
وهناك اللون الأخضر: ما يتفق فيه القرآن مع العقل، وهنا هو يصرُّ أن هذا في أصول العقائد، يعني في النصوص مثل قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. وبعد ذلك الأصفر: وهو الذي يتعارض فيه القرآن مع العقل، وهنا يجب على العقل أن يؤوِّل، طبقًا لرؤية العقل؛ لأنه غامض، لكن غامض يمكن تأويله، وقد قام علماء الكلام بذلك. وهناك الأحمر: الذي من الخطر جدًّا أن تؤوِّله، ليس خطرًا؛ لأنه خطأ، إنما خطر على العامة، مثل تأويل الحساب والعقاب في الآخرة، هل البعث بالجسد أم بالجسد والروح. يقول ابن رشد: الفلاسفة يتكلمون فيها، لكن بالنسبة للذي لا يتعاطى الفلسفة، والذي لا يدرك الفلسفة، هذا كلام يكون ضارًّا به، طبعًا ابن رشد يتحدث يا إخوان في سياق القرن الثاني عشر. حيث المعرفة في ذلك القرن هي معرفة الأنتلجنسيا، الأقلية، المحظوظة. ونحن الآن في عصر آخر، نحن في عصر الإنترنت، عصر ديمقراطية المعرفة … إلخ.
إذن لا اجتهاد إلا في النص، القرآن لا يمكن أن نقرأه باعتباره واضحًا كاملًا، الفقهاء، وأنا هنا آخذ مقولة من محمد مجتهدي شبستري، وهو أحد الباحثين الشيعة في القرآن، وهو باحث ممتاز، يقول: لا يوجد شيء واضح في القرآن، من يزعم أن القرآن واضح، فليذهب يشكك في عقله. طبعًا المشكلة عند العرب فاهمين أن القرآن يتحدث عربيتهم التي يتكلمون بها، ونحن نتكلم لغة لا علاقة لها بلغة القرآن، أولًا نتكلم لغات في مجتمعات مختلفة. هذه فكرة لا اجتهاد فيما فيه نص، أكذوبة إما نابعة من جهل، وإما نابعة من تزييف.
الأمر الثاني حين يقال إن هذا معلوم من الدين بالضرورة: الحجاب معلوم من الدين بالضرورة، فيه نص لا اجتهاد فيه، وإن عدم التمييز بين المعرفة الضرورية وبين المعرفة النظرية، وهو تمييز موجود في الفكر الإسلامي، من بداية القرن الثاني الهجري، المعرفة الضرورية: هي المعرفة التي يصل إليها كل البشر، بدون نظر. هي البديهيات، حتى تنتقل من البديهيات، وهو العلم الضروري، إلى معلومات أعلى نظريًّا لا بد من أن يكون هناك عقل يعمل. يرتب هذه البديهيات في مقدمات، يبني المقدمة الصغرى على المقدمة الكبرى، ثم يستنبط منها على حسب المنطق الأرسطي الذي كان رائجًا في ذلك الوقت. الضروريات هي ما يتشارك فيه البشر جميعًا، بصرف النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، العلم الضروري هو العلم البديهي، وليست كل أشياء الدين بديهية، وبالتالي فيه مساحة واسعة لما يسمى المعرفة النظرية، كل ما يعتقده الخطاب الديني أنه بديهيات يقول إنه معلوم من الدين بالضرورة.
إن آدم نبي. كان فيه واحد اسمه محمد أبو زيد وليس نصر أبو زيد. وقال أنا لست متأكدًا أن آدم كان نبيًّا، نبي على مين بالضبط؟ قال على الأقل إن مسألة آدم نبي مبني على أدلة ظنية، وليس أدلة قطعية. لا توجد أدلة قطعية على أن آدم نبي، مبني على أدلة ظنية، ما هي الأدلة الظنية؟ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ (سورة ٢ البقرة: ٣٧). فالفكر القديم قال تلقَّى كلمات، يعني تلقَّى وحيًا، فإذا كان تلقى وحيًا، يكون نبيًّا، لكن بناءً قياسًا على هذا إذن مريم نبي أيضًا، تصبح أم موسى نبيًّا، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ، ويكون النحل أنبياء، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ … إلخ. فقال فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فقال: هذا دليل ظني، خذوا بالكم أن محمد أبو زيد في سنة ١٩٣٠م يقول على نص في القرآن إنه ظني الدلالة. وليس قطعي الدلالة، يعني ليس نصًّا بالمعنى الكلاسيكي، حينما نحب أن نحلل قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، أولًا قطعية يعني ضرورية، ضروري بمعنى أي أحد لا يؤمن بهذا يكون كافرًا. الضروريات قليلة جدًّا مثل النصوص.
الفلاسفة المسلمون فرقوا بين النظريات والعمليات، وقالوا لا إجماع في النظر، يعني ليس هناك إجماع في الفكر، وإنما يكون الإجماع في العمليات. إن الناس تتفق على شيء عملي أو لا. إن هناك قطعي الثبوت: يعني وصلنا بطريق محدد نحن متأكدون أن النبي عليه السلام قال هذا النص، هذا قطعي الثبوت، لكن ليس قطعي الدلالة، قطعي الثبوت معناها أن هذه الرواية فعلًا حقيقة، أثبتنا بالبحث أن النبي قالها، إن الناس الذين حملوا هذه الرواية ورووها ليسوا كذابين، لكن المعنى هل هو معنى قطعي أم ظني، طبعًا القطعي الثبوت قليل جدًّا جدًّا، يعني الأحاديث النبوية معروف أن المتواترات، أي قطعية الثبوت، قليلة جدًّا، المتواترات يعني التي رواها عدد كبير جدًّا من الصحابة، يقول لك رواه الجمع الغفير الذين يُؤمَن تواطؤهم على الكذب، ليس معقولًا أن يكذب كل هؤلاء الناس. قليل جدًّا.
فالحديث كله والسنة كلها ظنية الثبوت كلها، القرآن فقط هو قطعي الثبوت، نحن نتكلم في الثبوت الآن وليس في الدلالة. عمرو يهز رأسه؛ لأنه ليس كله فعلًا، لكني أقول كله طبقًا للقرار السياسي الذي أتخذ مبكرًا. لكن حين ندخل في التفاصيل فيه مشاكل. لكن هنا ليس أوانها. إذن قطعي الثبوت هو نص واحد، وليس قطعي الدلالة بما شرحته من قبل. إنه فيه النص وفيه المحتمل وفيه المتشابه وفيه المجمل … إلخ.
إذن يصبح ما هو معلوم من الدين بالضرورة، قليلًا جدًّا، لكن في الخطاب الإسلامي المعاصر كل شيء معلوم من الدين بالضرورة، تغطية وجه المرأة معلوم من الدين بالضرورة. أصبحت كلمة سهلة، هذا يؤدي إلى التكفير، إذا أنكرت معلومًا من الدين بالضرورة، فأنت كافر، أنت خارج عن الملة، وبالتالي أصبح التكفير سلاحًا، لحسن الحظ أنه انتشر حتى فقد معناه، أصبح مضحكًا، أن أحدًا يقول على آخر إنه كافر.
المرجعية أصبحت كاملة لهذه الشريعة، كما تم اختصارها، أنا تكلمت عن بنية تشريعية شامخة، في تاريخ الفكر الإسلامي، إذا قُرنت بالبنية التشريعية الراهنة، فسنجد فقرًا شديدًا جدًّا، سواء مثلًا، مثال واضح، الفقهاء المسلمون تقريبًا ألغوا إقامة الحدود، تقريبًا، بالشروط المستحيلة التي وضعوها، لتطبيق حد السرقة، أو تطبيق حد الزنا، جعلوها مستحيلة، لا يمكن أن تأتي في الزنا بأربعة شهود رأوا لا أعرف ماذا، داخل إيه مثل المكحلة، وبشرط ألا يتلعثم شاهد فيهم، إذا تلعثم شاهد يُجلدون الأربعة. أنا هنا إزاء فقيه، عاش عصر دخول المجتمع العربي والإسلامي سلم الحضارة، وفي سلم الحضارة مستحيل تطبيق هذه الأحكام، مستحيل أنك ترى ناسًا ماشية في الشارع أيديها مقطعة؛ لأنه سرق رغيفًا.
هكذا صنع الفقهاء، لم يقولوا إن هذه الأحكام منسوخة، وإنما تقريبًا نسخوها، هذه الأحكام تقام الآن فورًا، في السعودية وأحيانًا في إيران وفي باكستان، على الظن، يعني واحد يذهب يشهد أنه زنى مع هذه الست، فيأخذونها هي يقيمون عليها الحد، وليس عليه هو أيضًا، يعني الزنا أيضًا أصبح فعل شخص واحد، يعني عند الفقهاء في الفقه الكلاسيكي، الزنا يحتاج إلى اثنين، والاثنين لازم يعاقبوا، لكن في الفقه الحديث الرجل، الذكر، يكون شاهدًا، هذا مقارنة بين الفقه في عصر شموخه، لأن الفقه كان يستمد قوة من الرؤى الأخرى، المحيطة به، الرؤية اللاهوتية والرؤية الفلسفية والرؤية الصوفية؛ لأن الفقهاء كان من ضمنهم متصوفة، الفقهاء كان من ضمنهم متكلمون. غنًى. الفقيه لا يعرف شيئًا اليوم عن علم الكلام، ولا عن الفلسفة ويكره التصوف، التصوف في السعودية طبعًا ملعون.
هذا هو الحال الذي نحن فيه، وهذه الأعراض، وتلك أسبابها، أعراض المرض وأسبابها التاريخية، وبنيتها، وإيه جوهر المشكلة؟ جوهر المشكلة، أن في كل هذه المحاولات، التي أسميتها تحديث الفكر الإسلامي، ظل هذا التحديث كله خارج القرآن، ظل التحديث كله في معنى القرآن، محاولات مشكورة، في معنى القرآن، لكن في تعريف القرآن نفسه، ما هو؟ هذه كانت منطقة خارج الموضوع، كل من اقترب من هذه المنطقة، دفع الثمن، ولا يزال. الباكستاني فضل الرحمن قال: يا إخوان صحيح القرآن كلام الله، لكنه أيضًا كلام محمد، في نفس الوقت الله أوحى لمحمد بالقرآن فالقرآن كلام الله، لكن وضع في اللغة العربية، يكون كلام محمد، لا يمكن أن أتخيل — هذا كلام فضل الرحمن — أن محمد عليه السلام كان بوسطجي، يعني أخذ رسالة وسلم الرسالة.
بدليل أنك تقرأ القرآن نفسه فتجد حضورًا لأحداث، محمد حتى حبه لزينب بنت جحش، موجود في القرآن، ده من الأسماء القليلة المذكورة في القرآن، زيد، القرآن عادة لا يذكر أسماء، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ أو أبو جهل، إنما زيد باسم الله ما شاء الله، بسبب هذه القصة. الخلاف بين محمد وبين زوجاته مذكور في القرآن، القرآن عامل حملة على زوجات النبي، ويقول لهن ما معناه «حلُّوا عنه» وإلا أجعله يطلقكن. إذا قرأنا القرآن بهذه الروح، وهي روح حقيقية، إذًا لا يمكن أن نعتبر أن محمدًا خارج الموضوع، لن نصل إلى ما ذهبت إليه السيدة عائشة، حينما نزل القرآن يقول له زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ (سورة ٣٣ الأحزاب: ٣٧).
عائشة طبعًا غيرانة، هذا شيء إنساني جدًّا، زوجة زوجها يتزوج عليها واحدة ربما أجمل أو شيء، فقالت له: «أرى إلهك يسارع في هواك»، ربك يسير على مزاجك يا محمد، نحن نتقبل هذه الرواية ليس من أجل أن نسخر منها، لكن لنقول إن هذه الروايات كونها تروى على خطرها معناها أنها روايات حقيقية.
القرآن المقدس، المتعالي على التاريخ، ما معنى الوحي؟ ما معنى المقدس؟ ما معنى التاريخ؟ ما علاقة الوعي بالتاريخ؟ كل هذه أسئلة هي الأسئلة؛ لأنها لم تناقش، تجعل من السهل جدًّا، جدًّا، تحويل مشروع تحديث الفكر الإسلامي، إلى أسلمة الفكر الحداثي. تجعل من السهل جدًّا الانقلاب، كل داخل في سياق، أنا ذكرت سياق رشيد رضا، وانقلاب رشيد رضا، هذا سياق تاريخي، ولا يمكن أن نتجاهل السياق المعاصر أيضًا، الذي يجعل إثارة هذه الأسئلة صعبة، ويطرح مهام على المفكرين، وعلى المثقفين، كيف يمكن إثارة هذه الأسئلة في هذا السياق الصعب؟ وخلق حوار حولها، وإلى أي حد تمثل هذه الأسئلة خطرًا على الإيمان، وتمثل دعمًا للإيمان، ولا بد للباحث هنا أن يكون عنده نوع من المسئولية، على الأقل أن الناس لازم تفهم أنه ليس المقصود من هذا هدم الدين، ولا هدم العقيدة … إلخ. ما لم يحدث حوار حول هذه القضية الجوهرية، سيظل الخطاب الديني المعاصر، يأخذ الماضي الذي أُعيد تكييفه، حتى ليس الماضي المزدهر، إنما الماضي الذي أعيد تكييفه، الماضي الذي أفقره الخطاب المعاصر، لكي يجد في الماضي نموذجًا، يحل على أساسه كل مشكلات العصر.
سأختم بمسألة النقاش الذي دار حول مسألة الخُلع، في مصر، يعني المشروع المصري، وأنا أعرف الناس التي كانت وراء هذا المشروع، أعرفهم شخصيًّا، ناس يسعون إلى خلق مجتمع مصري حديث، وإلى خلق بنية قانونية تعطي مساواة بين الرجل والمرأة، خاصة مع تعليم المرأة، مع أن المرأة أصبحت وزيرة … إلخ. لكن لا يريدون أن يفعلوا ذلك بدون موافقة المؤسسة الدينية، وأنا أعرف المعاناة التي عانوها، القصص الشخصية هنا لا تُحكى. ومع ذلك كان النقاش كله يدور حول، أن واحدة اشتكت للرسول، قالت له يعني الرجل هذا رجل كويس ورجل حلو، لكن أنا لا أحبه وأن الرسول قال لها طيب أرجعي له الحديقة التي أهداها لك، وخلاص طلقها.
نعم، هذه سابقة يُقام عليها قياس، لكن كيف تفهم السابقة؟ هل حين طلب محمد عليه السلام منه أن يُطلقها كان ينصحه، أم يأمره؟ بعض الفقهاء قال: لا، كان ينصحه، هذا لم يكن أمرًا، لأن هذا سيترتب عليه أن القاضي من حقه أن يُصدر حكمًا بالتطليق، أم ينصح الزوج بالتطليق، فلما ترى العبقرية، دون أن يقولوا إن هذا النص ظني الدلالة، لأنهم اختلفوا في تفسيره.
لكن السؤال الأهم طبعًا، الأصدقاء الذين أتكلم عنهم طوال الوقت يتناقشون معي، والسؤال الأهم في نقاشي معهم، وأنا أقول لهم، إنك تعطي المرأة حقها في الطلاق طبقًا للخلع هذا ليس حقًّا، لأن ما تدفع ثمنه لا يكون حقًّا، الحق هو ما تأخذه بقوة القانون، إنما لكي تُطلق الست لازم تتنازل عن كذا وكذا وكذا، هذا لا يسمى حتى باللغة القانونية، لا يسمى حقًّا، قانونًا الحق هو ما يجعله القانون حقًّا لك، دون أن يكون عليك دفع ثمن هذا الحق.
أنا أطلت عليكم لكن أرجو أن أكون وضحت الأزمة، ووضحت جوهرها.
شكرًا جزيلًا.
الأسئلة وإجاباتها
بنفس هذا السياق، وللخروج من أزمة النص، وأزمة رجال الدين بالحقيقة؛ لأنهم أعتقد استنفدوا كل ممكنات التفسير والتأويل للنص الديني، ووصلوا إلى طريق مسدود، في بعض النصوص التي أصبحت لا تتحمل التفسيرات الجديدة، فأقترح على رجال الدين، وعلى المهتمين بالشأن الديني، ولكي نخلص (احنا) العلمانيين من بعض النصوص ومن تأثيراتها على المجتمع، أقترح أن قسمًا من النصوص، يوجدون تخريجًا لها من رجال الدين، إن هذه النصوص الموجودة في القرآن، ليست جميعها منزلة، وإنما قسم منها، من وضع النبي محمد، ولكن أعطاها صفة القدسية، لإكسابها صفة الإلزام، والقوة في التطبيق، من هذه النصوص أصبح منها كثير لا يتلاءم والعصر نهائيًّا، وبالتالي لإنقاذ الدين ولإنقاذنا احنا من بعض النصوص، يعني مثلًا الزواج من أربع، يعني أي عقل معاصر، أن يقبل أربعًا، لا يوجد، وما ملكت أيمانكم، بعد أن حصلت المرأة على تعليم وعلى فرص تقريبًا متكافئة في التعليم.
السؤال هو: هل ممكن الخروج وأستمر بالبحث لأطلع النصوص؟ شكرًا جزيلًا … آسف على الإطالة.
السؤال الثاني عندي، هل نستطيع أن نحدد شكل الدولة الإسلامية من خلال النصوص؟ يعني شكل دولة محددة، تاريخ المنظومة، تاريخ الدولة، وزمن الخليفة، وزمن الرئيس وزمن الديمقراطية.
السؤال الثالث، نعتمد على عنصر الزمان، وليس عنصر المكان، أنت ذكرت بحيث إن الحضارة العربية الإسلامية. وإنما النصوص كلها انعكاس لقوانينها الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، ومن ضمنها المنظومة اللغوية الموجودة، فأنا أعتبره حسب كتاباتك قريبًا من طه حسين وطيب الزيني، من حيث انعدام عنصر المكان وإبراز عنصر الزمان، وعنصر الزمان يدخل ضمنه الوحي، واللغة وغيرهما، شكرًا.
وهذه القضية تقودني إلى مسألة أخرى. حتى في الاجتهاد وسط المراجع الشيعية، هناك تعارض وأحيانًا تقاطع، قضية، يعني نجد مجتهدًا شيعيًّا يقول لك: هذا حلال، وثانٍ يقول لك: لا، حرام. يعني على سبيل المثال محمد صادق الصدر، الذي اغتاله صدام بسنة الستة وتسعين، أبو مقتدى الصدر اغتاله صدام وولديه الاثنين، حلل في رمضان التدخين، أنا ما كنت بالعراق، هذا على سبيل المثال فقط. هذا أيضًا يقود إلى تقاطع وأحيانًا يقود حتى إلى نوع من العداء. وشكرًا.
أحمد صبحي منصور زميل عزيز، لكن مسكون بشيء ليس مريحًا، لأنك أنت تقول إن الوهابية أخطر من إسرائيل، هذا كلام ليس مريحًا، هذا كلام وراءه ما وراءه، لا أعرف بالضبط ما وراءه لأني لست مغرمًا أن أعمل هذه الحكاية؛ لأنه في خطر من الفكر الوهابي؟ نعم، فيه خطر من الفكر الوهابي. لكن فيه خطر من إسرائيل على الفكر الإسلامي؛ لأن هذه دولة، في نفس الوقت سنة ١٩٤٧م أقاموا الدولتين بمساعدة أوروبا العلمانية، دولة لليهود في فلسطين، ودولة للمسلمين في باكستان.
مجرد هذا المفهوم قوى بشكل حادٍّ جدًّا جدًّا مسألة الاحتياج إلى دولة إسلامية، وهزيمة سبعة وستين تم تفسيرها باعتبارها هزيمة الكفار على يد المؤمنين، المؤمنون هنا اليهود، والمسلمون الكفار؛ لأن الله ينصر من آمن، بصرف النظر عن بما آمن، وهذا كلام الشيخ الشعراوي، أنا لا أتحدث عن الخطورة أن هذا احتلال و… و… إلخ هذه كلها قضايا سياسية. مفهوم دولة خاصة بفئة معينة، هذا المفهوم يتناقض مع القرن العشرين، ناهيك عن القرن الواحد وعشرين. وأي مفكر أو أحد يشتغل في الفكر ويرى أن إسرائيل ليست هي عدونا الأساسي، وأن عدونا الأساسي هو السعودية والوهابية، هذا ليس كلام فكر، إلى حد كبير كلام مُلقى على عواهنه.
لماذا لم ينجح مشروع محمد عبده؟ لأسباب كثيرة جدًّا جدًّا، تحتاج إلى محاضرة وحدها، أولًا أن هذا كان مشروع جزء من مشروع الدولة، التحديث كله، تحديث الفكر الإسلامي كله، كان جزءًا من مشروع الدولة الذي بدأه محمد علي، وأخذت شكلها العام جدًّا في عصر الخديوي إسماعيل، الذي أراد أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا. حينما يكون هناك مشروع فكري يرتبط ببنية الدولة، أو بأيديولوجيا الدولة، حين تسقط أيديولوجيا الدولة، الدعم الذي كان يمنح لهذا الفكر يسقط؛ لأنه حدث انقلاب مثلما حدث في السبعينيات، لو نظرنا ما حدث في مصر في السبعينيات، إن خطاب الفترة الناصرية لم يكن خطابًا علمانيًّا بمعنى أنه مضاد للدين ولا مناقض للدين، هو حصل تناقض مع الإخوان المسلمين لأسباب سياسية، معروف هذا، إنما مع انقلاب السبعينيات الذي عمله الرئيس السادات، كان انقلابًا على أكثر من مستوى، على مستوى اقتصادي، مثلًا الانفتاح الاقتصادي، الذي أسماه الله يرحمه أحمد بهاء الدين «انفتاح السداح مداح»، وبعدين الانقلاب ببوصلة اتجاه مصر من علاقتها بالاتحاد السوفيتي وعلاقتها بالمعسكر الشرقي، إلى علاقة بأمريكا، وهذا كان انقلابًا داخل المجتمع المصري.
وأنا لا أدخل في التحليلات الاقتصادية، ليس لأني ضدها أو لا أعرفها، لا، لأني أتعمق في تحليل الفكر مع عدم إهدار القوانين الاجتماعية والاقتصادية. حدث تحالف بين السلطة السياسية وبين رجال الأعمال، ورجال الأعمال يريدون تحررًا اقتصاديًّا، فالسلطة السياسية تفتح لهم الحرية الاقتصادية، لكن الحرية الاقتصادية التي لم تقم في أوروبا إلا على أساس حرية الفرد أصلًا — دعه يعمل، دعه يمر — يتم تحرير الدولار، تحرير سعر الدولار، في نفس اليوم الذي يقوم فيه الطلبة بمظاهرات في الجامعة يضربون بالنار.
وأنا كتبت مقالة في ذلك الوقت، تحرير سعر الدولار ولا تحرير للطلاب، المعادلة كلها لا تستطيع أن تنفي منها هذا البُعد السياسي، لاتستطيع أن تنفي البُعد السياسي من فشل المشروع النهضوي؛ لأنه مرتبط بالدولة. ما تزال المشروعات الحديثة مرتبطة بالدولة، ودائمًا نجد كل المثقفين والمفكرين، يجب أن نتعلم من مسألة هذا الزواج الكاثوليكي بين المثقف والدولة. المثقف لازم يكون مستقلًّا عن الدولة، حتى لو الدولة تبنت شعاراته، يعني الدولة لو تبنت كل شعارات الحزب الشيوعي العراقي، لو نفترض، يجب على المفكرين الشيوعيين ألا يتحولوا إلى جزء من سلطة الدولة، يظل المفكر يراقب الدولة، ينقد الدولة، ينقد النظام؛ لأن الأفكار الهائلة حينما تتحقق على الواقع، تكتسب من الواقع تُرابًا، تكتسب من الواقع عفرة، عفار، دائمًا صرختي طوال الوقت على المثقف أن يكون حارسًا قيمًا لا كلب حراسة.
هذا لم يحدث، ولا أقدر أن ألوم محمد عبده، ولا أستطيع أن ألوم الطهطاوي، الطهطاوي أول ما محمد علي غضب عليه نفاه للسودان، وهو من عمل مشروع مدرسة الألسن والترجمة، هذا الشيخ الأزهري الذي رجع من باريس عمل كل هذا، أول ما محمد علي غضب عليه نفاه للسودان. محمد عبده كان مفتي مصر؛ لأن مصر كانت محتاجة إلى تغيير مشروعات القوانين … إلخ. لكن عمر الأزهر ما حبه، وهو ابن الأزهر، محمد عبده عمر الأزهر ما حبه، ولا يكاد يُذكر اسم محمد عبده إلا على سبيل التباهي (قاعة محمد عبده مثلًا).
فكلام أحمد صبحي منصور، أنا عندي طالب عمل ماجستير عن شغله، وهو طالب هولندي، يعني ليس مسلمًا ولا يحزنون، ولا أعرف ما جذبه للموضوع، وعمل الماجستير كويسة جدًّا جدًّا، عن القرآنيين بشكل عام، وأثار فزعه مسألة أن واحدًا مسلمًا مصريًّا عايش في أمريكا، وأن خطابه كله يدور على أن الوهابية هي المشكلة، وأن إسرائيل ليست مشكلة. هذا الشاب نقديًّا قال: «هذا أمريكا تدفع له.» أنا طبعًا لا أريد أن أصل إلى هذه المسائل.
تحليل الفكر يجب أن يعتمد لا على إدانة المفكرين، ولا على تصور أنهم عملاء، محمد عبده قالوا عنه عميلًا، ويقال عنه إنه كان عميلًا لا أعرف مع أيه ومع أيه. هذا لا يفسر شيئًا في الفكر، رشيد رضا عاش تجربة المجتمعات الإسلامية؛ لأن المنار كانت جريدة للمجتمعات الإسلامية كلها، وعاش أزمة العالم الإسلامي مع الغرب، التي تعقدت بعد عصر محمد عبده، فأنا أسميه تحولًا في التفكير، وهذا تحول؛ لأنه عمل اتجاهًا لا أستطيع أن أنسبه لرشيد رضا، الأفكار لا يعملها أشخاص، تعملها اتجاهات، صحيح ممكن شخص يكون مؤثرًا في هذا الاتجاه أو ذلك الاتجاه. لذلك أنا أعرف مثقفين علمانيين كثيرين جدًّا يكرهون رشيد رضا، وصديق لنا عزيز العظمة يقولك هذا ابن كلب. هو الذي أفسد كل حاجة. هذا كلام ليس فكرًا، هذا كلام نقوله في القعدات — السلفيون الآن يهاجمونه — طبعًا لأنه مجتهد زيادة عن اللزوم في نظرهم.
السؤال عن جمال البنا، وسؤالك يحتاج إلى محاضرة؛ لأني أعمل في هذه المنطقة، في منطقة الوحي والتاريخ، ليس الوحي والتاريخ كإطار خارجي، نزل فيه الوحي، إنما كإطار فاعل في بنية الوحي وفي تفصيل الوحي، وأنا لا أقول فتاوى؛ لأن الفتاوى والمحاولات هذه كلها، وأنا قلت في النهاية إن كل هذه المحاولات التحديثية كانت خارج القرآن، تكلمت عن فضل الرحمن دفع الثمن، فضل الرحمن كان سيعدم في باكستان، والرجل رحل إلى أمريكا ومات بأمريكا. محمود طه، في السودان، نفس المسألة. محمد شحرور لم يقترب من مسألة التاريخ هذه أبدًا، محمد شحرور، إطلاقًا، هذه منطقة عنده. اجتهاداته كلها أغضبت الأصوليين، لكن طبعًا كان النظام السوري ممسكًا بالناس من رقبتها، وأنا حينما كنت في سوريا قيل لي من وزير: «والله لو كنت عندنا ما كان جرى لك ما جرى لك في مصر.» قلت له: أفضِّل ما جرى لي في مصر. وضرب هو مثالًا بمحمد شحرور، قلت له لا أحب الحماية بالنظام، قلت له مصر مجتمع صحي، «ناس زعلانة من فكر مش قادرين يردوا عليه راحوا المحكمة»، هذه حيوية أريدها، نحتاج هذه الحيوية في المجتمعات — يا دكتور ما هددوك بالقتل — التهديد بالقتل هذا من جماعات متطرفة، لكن الناس الذين لم تعجبهم الأفكار لم يسعوا للقتل، ولم يستطيعوا أن يردوا، فذهب للقاضي. ما أريد أن أقوله إيه، إن في مجتمعاتنا، لا يجب أن نطلب نُصرة السلطة؛ لأن السلطة ممكن تنصرك الآن، وبعد شهر تذبحك هي، وهذا درس يجب أن نتعلمه، ما عمله المأمون مع ابن حنبل، وما عمله المتوكل مع المعتزلة بعد ذلك.
مفهوم التاريخ مفهوم مهمٌّ جدًّا، وهذا ما نسميه كعب أخيل، في الفكر الإسلامي، إن قرارات إنسانية نتيجة لصراع في الواقع، وُصفت في القرآن، وُصفت، تحولت إلى تشريعات، طبعًا مفهوم التاريخ أنا عايز أراكم تاني فيكون هذا مشروع محاضرة وحده مستقلة. وهنا مشروع مرتبط بما قاله الفلاسفة المسلمون، وليس خارج منظومة الفكر الإسلامي، إنما يتجاوز منظومة الفكر الإسلامي، آخر مقالة نشرها محمد مجتهدي شبستري، القرآن الرؤية النبوية للعالم، نُشرت بالفارسي، وهناك ترجمة للإنجليزية والرجل أكثر الله خيره أرسلها لي بالعربي، أقصد إن فيه عمل في هذا، عمل لا يرقى له جمال البنا، يعني صعب جدًّا على جمال البنا، لأن جمال البنا يُهاجم هذا المفهوم جامد. في مقدمته كتاب تجديد الفقه، عمل حوالي عشر صفحات تقريبًا كي يهاجمني؛ لأن هذا مفهوم غريب عليه، صعب على أُفقه الفكري أن يتقبله، وهو صعب على ناس كثير.
التحليل السياسي والعولمة والتطور الهائل في المعرفة، وهذا العالم الذي يموج بالتطورات أين نحن منه؟ نحن لسنا فيه، ببساطة شديدة، نحن لسنا فيه، نحن نشاهده، نحن نتمتع بمنجزه، لكننا لسنا جزءًا منتجًا فيه، وحينما تتحول الحداثة ويتحول الفكر والتقدم العلمي إلى موضوع للمتعة، ممكن أن يجعل البعض يقول إن الله سخر لنا الغرب حتى نتفرغ للعبادة. هذه صورة. الاستبداد طبعًا سبب، الاستبداد عامل مهمٌّ جدًّا لا يُستبعد، لكن اجعلني أضع الاستبداد أيضًا في سياق، يعني ليه ليس ممكنًا أن يأتي القذافي يحكم هولندا مثلًا، لأن الشعب الهولندي لن يقبل، يعني الاستبداد ليس صناعة فرد، إنه صناعة ثقافة، وعليك أن تناضل في تغيير هذه الثقافة، وتغيير هذا الفكر، لكي تحارب الاستبداد، وأصبح الاستبداد الآن محاطًا بهالة من سحب هائلة تغطيه من الفساد.
يعني الدكتاتور العادل، المستبد العادل، هذا انتهى، أصبح المستبد اللص. اللص علنًا. والذي يحتمي بمجموعة من اللصوص، فدخلنا في منطقة أخرى أبشع من أن أتكلم عن الاستبداد بمعناه السياسي، الخطر من هذا الفساد حينما يكون جزءًا منه المثقفين، فتتلوث الثقافة، وطبعًا تتلوث المؤسسة التعليمية؛ لأن المؤسسات التعليمية بالكامل يكاد يكون أصابها الفساد، ونخرها. وأي فرد داخل المؤسسة التعليمية، يحاول أن يكون نظيفًا، ليس له مكان.
فجامعتنا خرجت من العالم، وداخل هذه البنية، الاستبداد عنصر مهم، لكن داخل الاستبداد هو إلى أي حد تسرب الخطاب الديني الذي تكلمت عنه، إلى الجذور داخل المجتمع. الأسلمة نجحت، في أنها تحول ليس الدولة فقط، تحول الناس نفسها أن تكون ضد الفكر. وهذا يتطلب ليس فقط نضالًا سياسيًّا، اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا … إلخ. طبعًا في أولويات مهمة جدًّا، ضرورة فصل الدين عن الدولة، هذه الأولى، ضرورة إصلاح الدساتير من مسألة الدين والشريعة، خاصة في الدول التي أغلبيتها مسلمون، لكن فيها أقليات غير مسلمة، زي مصر أو العراق. العراق مزايكو ديني، فكيف تقول الإسلام دين الدولة، أي دولة هذه، التي الإسلام دينها، هذه الدولة لا يصح أن يكون لها دين؛ لأن الدولة على الطريقة المصرية، الدولة لا تذهب إلى الجامع كي تصلي، ولا تذهب إلى الحج، ولا تدفع زكاة، إسلامية بأي معنًى؟ ولا يهودية ولا مسيحية، ولا أي شيء أبدًا، الدولة هي مسئولة عن تنظيم العلاقات بين الجماعات الاجتماعية، داخل المجتمع، الدولة عسكري مرور فقط، أي لا يجعل السيارت تصطدم ببعضها، ويضع قوانين تضمن هذا الأمر.
المنظومة الإسلامية، هل الفكر الإسلامي قابل للتحديث؟ طبعًا أنا فاهم الألم والجرح الغائر داخل السؤال، إذا تكلمنا عن فكر، لا يوجد فكر غير قابل للتحديث، الفكر هو صناعة بشرية، ولا يستثنى من ذلك الفكر الإسلامي، ليس لأنه حامل صفة إسلامي، إن هو نفسه ليس فكرًا، هو فكر، كما قلت في البداية، إنه يتقدم حينما يكون المجتمع ناهضًا، رأينا هذا في بداية القرن العشرين، ولما المجتمع يصاب بحالة ردة، الفكر نفسه يتقهقر، بمعنى أن الفكر تابع للمجتمع، وليس العكس، قد يبدو أن الفكر يحاول أن يصنع المجتمع الآن، لكن هو، الفكر الإسلامي ما كان في تاريخه في صراع بين الدولة على السلطة، لا. كان فيه حداثة في عصر الدولة العباسية، حداثة طبعًا بالمعنى التاريخي، وليست حداثة بمعنى حداثة العصور الحديثة، كان فيه حداثة على جميع المستويات، التي خلقت على مستوى النقد الأدبي الصراع بين المحدثين والقدماء في الشعر، التي جعلت شاعرًا يقول:
سخرية من التراث الشعري، التي خلقت الخمريات، التي خلقت الغزل بالغلمان، داخل منظومة الشعر، هذا شعر لا ينتمي إلى الشعر الكلاسيكي، بالمعنى الإسلامي، الحياة في بلاط الخلفاء، عمر الخمر ما توقفوا عن شربها، طبعًا الفقهاء قالوا حرام، لكن الأحناف وجدوا حلًّا، الحداثة أتت من أين؟ من الترجمة، العرب الذين خرجوا من الجزيرة العربية، من أجل أن يعملوا إمبراطورية، كان معهم من الإسلام بذرة، بذور، لم يكن معهم شجرة إسلامية، كان معهم بذور. هذه البذور، زُرعت واستنبتت في أراضٍ حضارية، وبالتالي كل الذين انغمسوا، المتكلمون مثلًا معظمهم كانوا من الموالي، وليسوا من العرب. أريد أن أقول، الفكر قابل للتطور، وقابل للتجديد، قابل للحداثة.
إنما أنت سؤالك عن الإسلام نفسه، لم يقل أحد إن للإسلام قدسية إلهية أبدًا، قالوا إن القرآن لكن لم يقولوا الإسلام، فيه فرق بين القرآن وبين الإسلام، وأي باحث يعرفه، بين الإسلام وهو ظاهرة، صحيح نابعة من القرآن لكن ظاهرة أخذت شكل مؤسسات، كل هذا النقاش نقاش يدور، إذا أنت وضعت الإسلام كحالة شاذة، في تاريخ الأديان، وإن لم تدرك أن الإسلام نفسه ليس إسلامًا واحدًا، لا في التاريخ ولا في الواقع الحالي، لأنك لا بد أن تفكك الخطاب الذي يقول هذا؛ لأنه خطاب يستبعد التاريخ من فهمه، لكن إذا أنت أخذت ما يقال عن الإسلام، باعتباره أن هذا هو الحقيقة، فأنت في مأزق في هذه الحالة، لكن إذا كان هذا في حد ذاته خطابًا، هذا في حد ذاته فكر قابل للتفكيك، والنماذج الإسلامية المختلفة، في إندونيسيا في أفريقيا، في الهند في الشرق الأوسط، في أمريكا، في أوروبا، لا نستطيع أن نتكلم عن إسلام واحد، لا في الواقع الراهن ولا في التاريخ، وأنا طرحت فقط ما يسمى أربع رؤى في الفكر الإسلامي، طبعًا المسألة أوسع من هذا.
ليس هناك شكل للدولة، لا في القرآن ولا في الحديث، شكل الدولة الذي عمله العرب، كان شكل الدولة الموجود في هذا العصر، وهو الإمبراطورية، لا يزعل أحد من العرب إنهم أحبوا أن يعملوا إمبراطورية، إلى أي حد كانت هذه الإمبراطورية محكومة بما يتصوره البعض بالإسلام، دائمًا هناك صراع بين الفقهاء وبين الخلفاء، وكثير من الفقهاء الأوائل على الأقل، رفضوا يعملوا عند السلطان، ولما الخليفة العباسي أراد أن يأخذ كتاب الإمام مالك، ويجعله هو الكتاب، قال له لا تفعل ذلك يا أمير المؤمنين، الناس وصلتهم أقوال أخرى. لما تلميذ مالك المصري عاد إلى مصر، تعلم على مالك، قال عمل أهل المدينة باعتباره أحد المراجع، قال له يا مولانا لا ينفع في مصر، عمل أهل المدينة لا ينفع في مصر، والشافعي عدل في مذهبه … إلخ. كل شيء يخضع للتطور في التاريخ، سواء نتكلم عن الفكر الكلاسيكي أو عن الفكر الحديث، الخطاب الديني يزعم تثبيت الفكر، ويربط هذا الفكر بالإسلام بشكل يجب تفكيكه، ولا يجب الاستسلام لهذه المقولة. إسلام المصريين ليس هو إسلام السعوديين، طبعًا السعوديون أصبح لهم تأثير بحكم الهجرة … إلخ. أنا عندما عدت أظن من اليابان، فوجدت الناس تقول في التليفون السلام عليكم، كنت «أُخض» طبعًا السلام عليكم كلمة جميلة وليست شتيمة، إنما أنت متعود «ألو، إزي الحال» إنما السلام عليكم، واحد أتى لك من البادية، حتى تعودت طبعًا، أي إن هذا التغيير هو تغير له منشؤه، في متغيرات كثيرة جدًّا في المجتمع، وفي الواقع.
اهتم بعنصر الزمان وليس المكان، قد يكون هذا صحيحًا، اهتم بعنصر الزمان وليس بعنصر التاريخ، فارق كبير بين الزمان والتاريخ، القدماء اهتموا بعنصر الزمان مثلًا في مسألة أسباب النزول، إن هذه الآية نزلت بمناسبة كذا، إدراك لأبعاد زمانية، وليس إدراكًا لتاريخ؛ لأن لما يقول إن أسباب الآية نزلت في كذا وسببها كذا ومعناها كذا، يحول السبب إلى حالة عامة، ومن هنا يجاوب على السؤال، هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب، فيعتبر أن المعنى عام. في الدراسات القرآنية هناك إدراك للزمان وليس إدراكًا للتاريخ إلا في جوانب نادرة جدًّا، التاريخ ليس كخلفية للواقع، إنما عنصر في بنية الواقع، جزء حي من نسيج الواقع، هو كما قلت كعب أخيل في الفكر الإسلامي الحديث، وإدخاله في الدراسات القرآنية مسألة مهمة جدًّا جدًّا، وممكن جدًّا أنها تساعد، في حل كثير من المشكلات.
آفاق الحل: عند ربنا سبحانه وتعالى، هذه هي الإجابة السهلة، لا يعلم الغيب إلا الله، آفاق الحل أعتقد أنني قلت في الكلام، هناك قضايا فكرية أصبح تجاهلها أو الحومان حولها لا يصح، هناك قضايا لا بد أن الفكر يدخل فيها، من ضمن هذه القضايا وليست قضايا الفكر الديني فقط، قضايا الفكر الاجتماعي، قضايا الفكر السياسي، قضايا الفكر الاقتصادي، يعني بنية الاقتصاد، وهنا سأتكلم عن مصر: بنية الاقتصاد في مصر، هي بنية اقتصاد استثماري غير منتج، لا يُقدم فرص عمل، شوكولاتة، سياحة، قرى سياحية، تعطي الدولة لرجال الأعمال مزايا وراءها فساد جم، وفي المقابل ليست هناك ضرائب، يعني إعفاء من الضرائب عشر سنوات، تعمل مشروعك وبعد عشر سنوات تعمل مشروعًا آخر … إلخ. ما هي البنية الاقتصادية أين الاقتصاد المنتج؟ في المناقشات في مجلس الشعب المصري حماه الله، أخذ شهرين مشغولًا بالحجاب والنقاب، والناس تموت في المراكب، والناس تحدث لها كوارث. محتاج أنك تكافح ضد هذه السلطة، محتاج للنضال السياسي المسلح بوعي، الناس تخرج في مظاهرات، وعلى الفيس بوك، الناس رشحوا شخصًا لرياسة الجمهورية على الفيس بوك، الفيس بوك هينتخب واحد رئيس جمهورية؟ وحسني مبارك وراءه حزب كامل، ووراءه الإخوان المسلمون، الإخوان المسلمون لا يستطيعون تقديم مرشح، ولن يؤيدوا مرشحًا من أي حزب، طبعًا سيتظاهرون بالصمت، وحين تصمت قيادات الإخوان، فالشعب الإخواني انتخب. لا بد أن يكون هناك آفاق للحل، اجتماعية اقتصادية وسياسية، وجزء من آفاق الحل ما يعمله كثير من الناس.
البورجوازية وطبيعة السلطة، في الحقيقة أرى أن البرجوازية على الأقل في مصر، حتى لا أعمل تعميمًا، البرجوازية حاملة للفكر، كطبقة منتجة، حاملة للفكر الحداثي ومدافعة عن الليبرالية، لم تُوجد، وجدت طبقة وسطى، كانت عايشة عدة معارك، معركة ضد الإقطاع، ومن أجل أن تكسب معركتها ضد الإقطاع، كان لازم تتحالف مع الاستعمار، وهذا يسحب من مصداقية هذه الطبقة في نظر حتى مثقفيها، محمد عبده وطه حسين ورشيد رضا، وعلي عبد الرازق، هم أبناء هذه الطبقة الوسطى، لكن تظل هذه الطبقة الوسطى مع سياسة الانفتاح الاقتصادي ضاعت تمامًا.
مصر الآن، إما مدقعون، وهؤلاء تسعون في المائة من الشعب المصري، بمن فيهم أساتذة الجامعة غير الفاسدين. لأن جزءًا من انتشار الفساد، إمكانية الإنسان أن يجد حلولًا أخرى. وعشرة في المائة، طبقة فاجرة، وليست فاخرة، فاجرة، ويصل الفُجر بهذه الطبقة تعرف عدد الجوائز في العالم العربي التي تُمنح للرواية والشعر، كثيرة جدًّا، لا توجد جائزة واحدة للفكر، ملايين تُنفق، لايوجد غير مؤسسة اسمها ابن رشد في برلين، تعمل جوائز وغلبانة ليس عندها مال، حينما أعطوني الجائزة أعطوني ألفين وخمسمائة يورو، فقمت بالتبرع لهم بها في نفس الجلسة؛ لأنهم فعلًا محتاجون، ما أريد أن أقوله، إن البرجوازية كطبقة، البرجوازية هي التي عملت الحداثة في أوروبا. وما تزال هي الطبقة التي تعمل التغيير. لم توجد بشكلها، لأن مشكلة الحداثة، مشكلة الاضطراب في صورة أوروبا، لاحظوا أن صورة أوروبا حينما نقرأ روايات الفترة هذه، المرأة اللعوب، الجميلة جدًّا، جدًّا، التي يريد الفرد أن يقيم معها علاقة جنسية، اقرءُوا روايات الطيب صالح، ويريد أن يقتلها في نفس الوقت، هذه هي صورة أوروبا، وهذه هي صورة الحداثة، ورواية توفيق الحكيم عصفور من الشرق، هذه هي صورة أوروبا وهذه هي صورة الحداثة.
لأن الطبقة الوسطى على بعضها، كانت واقعة بين هذين الأمرين، تحرير المجتمع من سيطرة الإقطاع، لكن في نفس الوقت لم تندمج في تحرير المجتمع، من سيطرة الاستعمار، والملك … إلخ. وبالتالي ظلت البرجوازية المصرية إلى درجة كبيرة برجوازية ذات جذور إقطاعية، ولذلك لم يكن غريبًا أن حزب الوفد حينما يُعاد إنشاؤه، في عصر السادات، حزب الوفد الليبرالي، المعروف، لما يُعاد إنشاؤه يكون على زعامته أكبر إقطاعي في مصر، في هذا الوقت كان نائب رئيس الحزب، فؤاد سراج الدين، عليه رحمة الله. التحليل الاجتماعي هذا مهمٌّ جدًّا حتى نفهم ما هو دور الطبقة الوسطى، ما هو الفشل والإخفاق الذي أحدثته الطبقة الوسطى، لا توجد طبقة وسطى الآن، وبالتالي أصبح النضال يأخذ أشكالًا أخرى، أشكال المجتمع المدني؛ لأن هذا بديل فكرة الطبقات.
تحليل التدخين في رمضان هذا ليس اجتهادًا، البنا لم يقل فقط التدخين، بل القُبلة أيضًا لا تُفطر، طبعًا القُبلة بين الرجل وزوجته، فتفكر ما هو الدافع وراء هذه الفتاوى، يدخل في ذلك فتاوى مثل زواج المسيار، الزواج فريند، هذه الفتاوى تؤكد أن هناك أزمة في المجتمع، أزمات في المجتمع، التدخين مثلًا، أي أحد يقول إن التدخين حلال ولا حرام، هو نفسه يحتاج أن يُعاقب، التدخين مرض، يجب أن نجعل الناس كلها تُشفى منه، إدخاله في الحلال والحرام، مسألة مزعجة.
لكن الاجتهاد عند الشيعة مرتبط بمفهوم لاهوتي، في الفكر الشيعي، ومفهوم لاهوتي يكاد يكون وحيًا هو أيضًا؛ لأنه حسب اللاهوت الشيعي، طبعًا تمت صياغته في عصور متأخرة، إن محمدًا عليه السلام أُوحي إليه علمان، نوعان من العلم يعني، علم بثه في الناس، وهو السنة، وعلم لم يبثه في الناس؛ لأن الناس لم تكن مستعدة لهذا العلم، هذا العلم ورثه الأئمة، ورثة العلم، لاحظ أن السنة حينما يقولون إن العلماء ورثة الأنبياء، يعملون نوعًا من رد فعل على وراثة العلم عند الشيعة، وهذا أيضًا لا يمكن أن ندرس ما حدث في التاريخ من صياغات لاهوتية، دون أن ننظر إلى صراعات الواقع، الذي كان موجودًا فيه، وبالتالي فالأئمة لهم حق الاجتهاد.
لكن واقع الأمر أن الأئمة المتأخرين، هم يجتهدون في حدود آراء الأئمة السابقين، الكلاسيكيين، ويجتهدون ويتقبلون الاختلاف باعتباره شيئًا طبيعيًّا، ما دمت تقبل بمنطق الاجتهاد، لازم تتقبل منطق الاختلاف، إذا قلت الاجتهاد بشرط عدم الاختلاف، إذن أنت تلغيه، هذا الشرط نفسه يلغيه، وبالتالي اختلاف المرجعيات، في المنظومة الشيعية، أنت ممكن تتبع مرجعية، مرجعًا، فكرة المرجع في الفكر الشيعي، لكن ممكن تغير المرجع، هذه الحيوية في الفكر الشيعي، التي تتعرض الآن لمحاولات تجميد، من خلال النظام الإيراني، هذه الحيوية لا توجد في الفكر السني، أنا أعتقد أنها حيوية، وأعتقد أنها حينما تصل إلى أن واحدًا يحلل التدخين وواحدًا يحرمه، الاثنان يحتاجان إلى الأدب حقيقة، في رأيي؛ لأن هذا خارج منطق الحلال والحرام، هذا خارج منطق الصحة، مختلف جدًّا عن مسألة الحلال والحرام.
وهذه ليست نكتة، إن الشيخ ابن باز، كانوا في اجتماع في القصر الملكي، وكان حاضرًا الاجتماع الشيخ محمود شاكر، ومحمود شاكر مدخن شره، فالشيخ ابن باز شم رائحة الدخان، فقال: من الكافر الذي يدخن؟ فالشيخ شاكر قال له: أنا يامولانا. فسقط صمتًا؛ لأنه لا يستطيع تكفير الشيخ شاكر؛ لأن شاكر هذا من أساطين العلماء والفقهاء المحدثين، أنا أحيانًا طبعًا لأن زوجتي تدخن، وصحتها طبعًا تعبانة، وأنا كنت أدخن أيضًا وتوقفت من زمان، فأمزح معها وأقول، إن المدخنين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورًا، هي طبعًا تعرف أن هذه ليست آية قرآنية، هي تعرف أن المبذرين، لكن أمام كثير من الناس يقولون: الله هل هذه في القرآن؟ ناس مثقفون متعلمون.
فيه قضايا كثيرة جدًّا جدًّا، أن ندخلها منطقة الحلال والحرام هذا في ذاته تخلف فكري، فيه قضايا كثيرة جدًّا ليس لها علاقة بالحلال والحرام، وقضايا على الناس أنها تفكر فيها، وأنتم تذكرون حكاية الذبابة مثلًا، حتى نختم بنكتة، حكاية الذبابة، «إذا وقعت الذبابة في إناء أحدكم» يغمسها فيه؛ لأن في جناحها الداء وفي جناحها الثاني الدواء، كشباب أشقياء، أنا وزملاء لي، كنا نسأل الداء في اليمن أم في الشمال، أحد الطلبة في السودان سألني هذا السؤال، الطلبة للأسف يعتقدون أني مفتٍ ما دمت أدرس الدراسات الإسلامية، فقلت له: يا بني إن لم يكن عندك غير هذا الطبق اغمسها وكل. إذا كنت تقدر أن ترميه وتأتي بطبق ثانٍ، من الأحسن ترميه. دخلت في الفقر، الفقر الذي يحلل أكل الحرام، لازم تأخذ القضايا أبعد من إما حلال وإما حرام. وتحرر الناس.
والله أعلم.