مقدمة
إلى أي حدٍّ تؤثِّر النظم الاقتصادية المُختلفة في تكوين عقلية الإنسان؟ وما نوع التفكير السائد الذي يتولَّد عن كلِّ نظامٍ من هذه النظم؟ وما طبيعة الإطار الفكري والثقافي الأكثر مُلاءمَةً لنظام الرِّق، وللنظام الإقطاعي والرأسمالي والاشتراكي؟
هذه هي الأسئلة التي سنُحاوِل الإجابة عنها في هذا الفصل. على أنَّ طرح هذه الأسئلة يُثير منذ البداية مشكلات مُعقَّدة، ويقتضي مِنَّا أن ننتبِهَ إلى مجموعةٍ من الحقائق التي ربما غابت عَنَّا لو بدأنا في خَوض الموضوع مُباشرة، ولو لم نقُم بتحليلٍ للمشكلات الرئيسية الكامِنة من وراء هذا الموضوع.
-
(١)
أُولى هذه المُشكلات: هي أن القول بوجود تفكيرٍ سائد يتلاءم مع كلِّ نظامٍ من النُّظم الاقتصادية، ربما فُهم على أنه يعني صبْغ التفكير في كلِّ مرحلةٍ من مراحل التطوُّر الاقتصادي بصِبغةٍ نَمَطية مُوحدة، أي إنه يعني أن المُفكرين في العصر الإقطاعي مثلًا يتميَّزون بسِماتٍ عقلية واحدة يُمكن الاهتداء إليها عند كلٍّ منهم على حِدة.
على أن هذا الفهم بعيد كلَّ البُعد عن الصواب، فضلًا عن أنه فَهْم يُكذِّبه الواقع نفسه؛ ذلك لأن كلَّ عصرٍ يتميَّز بتبايُنٍ فكري شديد، سواء على مستوى المُثقفين الكبار أم على مستوى الأشخاص العاديِّين أنفسهم. وعلى ذلك فنحن حينما نتحدَّث عن الإطار الفكري لعصرٍ من العصور، أو عن نوع الثقافة الذي يتلاءم مع نظامٍ من النظم، نعني في الواقع أعمَّ السِّمات الفكرية المُشتركة، التي تلفِتُ أنظارنا أكثر من غيرها حينما ندرُس ذلك العصر، ولكن لا يتعيَّن أن تكون هذه الأسئلة تُثير، منذ البداية، مشكلاتٍ معقدة، ويقتضي مِنَّا أن نتنبَّه إلى أن تكون عقول الناس كلها في ظلِّ ذلك النظام مَصبوبةً في قالَبٍ فكري واحد.
-
(٢)
والمشكلة الثانية: هي أن الربط بين النُّظم الاقتصادية وبين الجوانب الفكرية لحياة الناس في ظلِّ هذه النظم، قد يُوحي بأن هناك تأثيرًا مُباشرًا للنُّظم الاقتصادية في الحياة الفكرية. ولمَّا كان الاقتصاد يهتمُّ بالأسُس المادية لحياة الناس، فقد يُفسَّر هذا الربط بأنه يعني الأخذ بالتفسير المادي المُباشر، والآلي، للفكر الإنساني، بحيث يُعدُّ هذا الفكر نتيجةً مباشرة للعلاقات الاقتصادية السائدة في مرحلةٍ مُعيَّنة، وتؤدِّي هذه العلاقات الاقتصادية إلى إنتاج أفكار الناس ومُثُلهم العُليا وقِيَمهم، مِثلما تؤدي الآلات إلى إنتاج السِّلع.
هذه المشكلة تُثير موضوعًا مُعقَّدًا غاية التعقيد، هو العلاقة بين الجانِبَين المادي والمعنوي في حياة الإنسان. ودون مُحاولة للدخول في الجوانب المعقَّدة لهذه المشكلة، يكفينا أن نقول إنَّ هناك ما يُشبِه الإجماع على أنه إذا كان للجوانب المادية — ومن أهمِّها الاقتصاد — تأثيرها في أفكار الناس وقِيَمهم ومُثُلهم العُليا، أي في الجوانب المعنوية للحياة البشرية، فإن هذا التأثير لا يُمكن أن يكون مباشرًا. وبعبارة أخرى فإن أيَّ نظامٍ اقتصادي لا «يُفرِز» فكرًا من نوع مُعين، يكون هو وحدَه المُلائم له، والناتج عنه، بل إن للفكر قدْرًا مُعيَّنًا من الاستقلال، بل لدَيه قُدرة خاصَّة على أن يؤثر في الجوانب المادية لحياة الإنسان بقدْر ما يتأثَّر بها.
وعلى ذلك، فمن الضروري أن نَتنبَّه، حين نتحدَّثُ عن تأثير النُّظم الاقتصادية في أفكار الناس، إلى أن هذا التأثير ليس آليًّا مباشرًا، بل هو يسير في عملية مُعقَّدة غاية التعقيد، ولا يعمل في اتجاهٍ واحد، من الاقتصاد إلى الفكر، بل يُمكن أن يعمل في الاتجاه المُضاد، من الفكر إلى الاقتصاد، أو من العقل إلى المادة.
ومع أخذ هاتَين النُّقطتَين بعَين الاعتبار، يُمكننا أن نبدأ في دراسة الاتجاهات الفكرية العامة المُرتبِطة بالنُّظم الاقتصادية، واضِعين نُصبَ أعيننا أن هذه النُّظم لا تستطيع أن تصُبَّ عقول الناس كلَّها في قوالِب واحدة، وأنها لا تملِك أن تؤثِّر في هذه العقول تأثيرًا آليًّا مباشرًا. ومع ذلك فسوف يتبيَّن لنا أنه من المُمكن الاهتداء إلى ارتِباطات مُفيدة وعميقة بين الإطار الذِّهني لحياة الناس في عصرٍ من العصور، وبين النُّظم الاقتصادية السارية على هذا العصر، وأننا نستطيع من خلال هذه الارتِباطات أن نُعمِّق فَهمنا للاقتصاد والفكر معًا؛ إذ نكتشِف في النُّظم الاقتصادية جوانبَ وأبعادًا أعمقَ مِمَّا تُوحي به جوانبها المادية وحدها، ونهتدي إلى أسُسٍ للبناءات العقلية والمعنوية تكمُن جُذورها في الحياة الواقعية للمجتمع الذي ظهرت فيه.