مجتمعات ما قبل الإقطاع
(١) المرحلة البُدائية
لم يعرِف الإنسان الملكية الفردِيَّة بمعناها الصحيح في المراحل البسيطة الأولى من حياته، بل كان يَسود هذه الحياة نوع من التضامن والمَشاعِيَّة، ناشئ عن صعوبة الظروف التي لم يكن الفرد قادرًا على مُواجهتها وحده، وعن ضآلة الإنتاج وبساطته، وعدم وجود أيِّ فائضٍ إنتاجيٍّ يسمح باستغلال عمل الآخرين؛ لأن العمل كله كان مُوجَّهًا نحوَ تلبية الحاجات الضرورية المباشرة.
في هذه المرحلة كان الفِكر الإنساني يَتَّسم بنفس البساطة والبُدائية اللَّتَين كان يتَّسم بهما الإنتاج. فكلُّ حوادِث الطبيعة كانت تُفسَّر تفسيرًا أسطوريًّا، يتمشَّى مع العجز عن فَهم الظواهر الكونية وعدَم القُدرة على كشف أيِّ قانونٍ من قوانينها. وكان العالم يحتشِد بالقوى التي تُنسَب إليها صفاتٌ إلهية؛ فهناك آلهة للرَّعد والمطر والزرع والبحر والخِصب والموت … إلخ، بحيث كان الحدُّ الفاصِل بين عالَم الطبيعة وعالَم الإنسان يكاد يكون مُنعدمًا. فالطبيعة تشعُر بنفس الأحاسيس الإنسانية، وتتحكم فيها نفس العوامل التي تتحكم في أفراد البشر. وربما كان من المُمكن تشبيه فكرة التقارُب بين الإنسان والطبيعة وإزالة الحواجز بينهما، بمبدأ المِلكيَّة المَشاعِيَّة السائدة في الاقتصاد البدائي لهذه الفترة. وكان السِّحر هو التعبير الواضِح عن مجتمعٍ يعجز فيه الإنسان عن السيطرة على الطبيعة من خلال فَهم قوانينها، فيلجأ إلى القوى الخَفيَّة والغَيبيَّة التي يتصوَّر أنه يستطيع عن طريقها التحكم في مَجرى الأشياء. ومن المُلاحظ أن السِّحر بِدَوره يفترِض نوعًا من العلاقة المَشاعِيَّة المُشتركة بين الإنسان والطبيعة؛ إذ إن الطبيعة تخضَع لكلمات الإنسان وأوامِره وتَعاويذه، ويزول كلُّ حدٍّ فاصل بين المجال البشري والمجال المادي الخارجي.
(٢) مرحلة الرِّق
لم يحدُث الانتقال من المرحلة البُدائية إلى مرحلة نظام الرِّقِّ مباشرة، بل إن التطوُّر بينهما كان مُتدرِّجًا وبطيئًا إلى أقصى حد. وكانت نُقطة التحوُّل هي تقدُّم القوى الإنتاجية إلى الحدِّ الذي لا يعود الإنسان يُنتج فيه من أجل تلبِيَة حاجاته المُباشِرة، أو الوفاء بضرورات الحياة، بل أصبح إنتاجُه يزيد عمَّا يحتاج إليه لاستِخدامه الخاص. وكان هذا التوسُّع مؤدِّيًا إلى نتيجةٍ ضرورية، هي بداية التقسيم الطبَقي للبشر. فبعد أن كان التجانُس والمُساواة في الفقر هو الطابع المُميِّز للمرحلة البدائية، أصبح هناك اختِلاف وتميُّز بين مُستويات الناس، نتيجةً لبداية ظهور فوائض في الإنتاج تزيد عمَّا يلزَم للاستِخدام المُباشر في المعيشة اليومية، وظهَر الفرْق بين الغَني والفقير، أو القويِّ والضعيف. وكان هذا التميُّز هو ذاته بداية استغلال الإنسان للإنسان، إذ إن تراكُم الثروة — ولو على نِطاقٍ ضيِّق — يُتيح للغنيِّ أن يَستعين بالفُقَراء في استثمار مُمتلكاته، ويستغلُّ ضعْف مركزهم من أجل فرْض شُروطه عليهم.
ولم يَتَّخِذ هذا الاستغلال شكلَ الرِّقِّ في كلِّ الأحوال، بل إن العالم القديم عرَف نُظمًا اقتصاديةً مُتقدِّمة بُنِيت على أساس سُلطةٍ استبدادية مُطلقة، تتميَّز فيها طبَقة الحكام والكَهَنة عن عامَّة الشعب بمَيزات هائلة، ولكنها لا تتَّخِذ من عامَّة الشعب عبيدًا بالمعنى الصحيح. وفي ظلِّ هذه النُّظم ازدَهَرت حضارات هائلة، كانت دِعامتها الأولى هي الاقتصاد الزراعي المُتقدِّم، كما هي الحال في الحضارات المصرية القديمة.
أمَّا نظام الرِّقِّ فكان النموذج الواضِح له هو المجتمع اليوناني القديم. فعندما اتَّسَع نطاق الحروب التي يَخوضها اليونانيون، أصبح الأسرى في هذه الحروب يُجلَبون إلى البلاد لكي يُستَعان بهم في الأعمال المنزلية في بداية الأمر، واكتسبوا بالتدريج صِفة الرَّقيق الذي يتحكم سيِّدُه لا في عمله فحسْب بل في شخْصه أيضًا، وأصبح لهذه الصِّفة أساس قانوني يُنظِّم العلاقة بين السيد والعبد لصالح الأوَّل على طول الخط. وباستمرار التطوُّر أصبح الأرِقَّاء يُستخدَمون في الإنتاج الاقتصادي، لا في الأعمال المنزلية وحدَها، وصاروا يُمثِّلون قوَّة عملٍ رئيسية تتولَّى القيام بالأعمال اليَدَويَّة المُرهِقة، وتُوفِّر على السادة عَناء الاحتِكاك بالعالَم المادي، وتكفُل لهم فُرَص العَيش الرَّغِد على حساب «الآلات البشرية» التي تُنتِج لهم كلَّ ما يحتاجون إليه في مَعيشتهم، وتُضيف إليه فائضًا يُحقِّق لهم ما يشاءون من أرباح.
في ظلِّ هذا النظام الاجتماعي بدَورِه ظهَرَت حضارات قديمة مَجيدة، أعظمُها بلا نِزاعٍ هي الحضارات اليونانية، التي امتدَّت فترتُها المُزدهِرة من حوالي القرن الثامن قبل الميلاد إلى ما يقرُب من ألف عامٍ بعد هذا التاريخ، أي إلى القرن الثاني الميلادي، وإن كان العصر الذهبي فيها يَمتدُّ — باعتِراف المؤرِّخين جميعًا — من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
وعلى الرَّغم من أن الرِّق، من حيث هو نظام اقتصادي، يَنطوي على استغلال فِئةٍ من الناس لفئةٍ أخرى استِغلالًا تامًّا، يصِل إلى حدِّ التحكم في أشخاصِهم معنويًّا وماديًّا، فإنه كان على الأقلِّ يَضمَن قدرًا كبيرًا من الحرِّية (المعنوية والماديَّة أيضًا) للمُواطنين الأحرار، وكان لذلك أثرُه الكبير في ازدِهار الفكر في ذلك العصر.
(٣) مُقارنة بين النُّظم الاستبدادية القديمة ونِظام الرِّق
ولو أجرَيْنا مُقارَنة بين النُّظم الاستبدادية، كما عُرفَت في بلاد الشرق القديم، وبين نظام الرق، من حيث مدى تشجيع كلٍّ منهما للنهضة الفكرية والعلمية، لكانت المقارنة في صالح النظام الثاني؛ ذلك لأن مبدأ الحُكم الاستبدادي المُطلَق كان يُطبَّق على المَيدان العقلي والرُّوحي بدَوره، فالعِلم كلُّه تَحتكِره طبقةٌ من الكهنة، هي وحدَها التي تتداول أسراره وتتوارَثها، وتحرِص على كِتمانها عن بقيَّة الناس. ومن المُستحيل أن تحدُث نهضة فكرية وعلمية شاملة في جَوِّ التكتُّم هذا. وكل ما كان يحتاج إليه الناس هو مجموعة من المعارِف العملية التي تُساعِدهم على تحقيق أغراضِهم المُباشرة في الزراعة والعِمارة والمِلاحة، إلخ. ولذلك أحرَزَت المعارف العملية تقدُّمًا كبيرًا في بلاد الشرق القديم، تُعدُّ الآثار المصرية الباقية نموذجًا رائعًا له. والأرجَح أنه كان هناك من وراء هذا التقدُّم العملي فكر نَظري لا يُستهان به، ولكن هذا الفكر لم ينتشر ولم يُتداوَل، نظرًا إلى حِرص الكهنة عليه كما لو كان أسرارًا مُقدَّسة. وهكذا كانت السلطة المُطلَقة في ميدان المعرفة (وهي انعِكاس للسلطة المُطلَقة في ميدان الحكم) عامِلًا من عوامل تضييق نِطاق التقدُّم الفكري والعلمي، واستِحالة الانتِفاع من ثِماره على مستوًى واسِع.
وهنا يظهَر الفرْق واضِحًا بين النِّطاق المُطلَق وبين نظام الرِّقِّ كما كان مُطبَّقًا عند اليونانيين القُدماء؛ فهؤلاء الأخِيرون كانوا يُقسِّمون المجتمع إلى أحرارٍ وعبيد، ولكنهم لم يُقسِّموه إلى كهنةٍ وأناسٍ عادِيِّين. صحيح أن التقسيم كان حادًّا وقاطعًا في الحالَتَين، ولكنه كان في الحالة الأولى يُتيح فرصة المعرفة لعددٍ من الناس أوسَع بكثير، هم المُواطنون الأحرار. والأهمُّ من ذلك أنَّ نَوع المعرفة الذي يستطيع هؤلاء المُواطِنون الأحرار أن يَصِلوا إليه لم يكن معرفةً مُحاطةً بهالةٍ من القداسة، بل كان معرفةً مُتاحة للجميع، يستطيع أيُّ شخص أن يُساهِم في تقدُّمها، وينتفِع في ثِمارها، إذا ما توافرَت له القُدرة على ذلك.
بل إن طبقة العبيد المُستغَلَّة ذاتها كانت تقوم بدَورٍ غير مُباشر، ولكنه عظيم الأهمية، في التقدُّم الفكري لليونانِيِّين في ظلِّ نظام الرِّق؛ ذلك لأن هذه الطبقة كانت تتولَّى القيام بالأعمال اليدوية المُرهِقة، التي تتطلَّب جهدًا جسميًّا كبيرًا؛ ومِنْ ثَمَّ كانت تُعفي الأحرار من القيام بهذا النوع من الأعمال. وهكذا كان مَيدان العمل المادي مُقفلًا أمام المواطنين الأحرار، على حين أنَّ مَيدان العمل العقلي كان مفتوحًا أمامهم على مِصراعيه، بل كان هو الميدان الوحيد الذي يُمكنهم أن يُمارِسوا فيه نشاطهم.
(٤) الطابع الفكري لمرحلة الرِّق
ويعزو بعض مُؤرِّخي الفكر تقدُّم التفكير العلمي والفلسفي، وتقدُّم الآداب والفنون، عند اليونانيين القُدَماء، إلى هذا العامل بالذات؛ أي إلى عدَم اضطرار قِطاعٍ كبير من الشعب إلى القيام بأعمالٍ جسمية مُرهقة، وتفرُّغهم للجوانب الرُّوحية والعقلية في الحياة. وربما كان هذا تعليلًا مُقتِصرًا على جانبٍ واحد، ولا يشمَل كلَّ نواحي الظاهرة التي نتحدَّث عنها، ولكنه على أية حالٍ تعليلٌ طريف لا يصحُّ تجاهُلُه، لأنه يُلقي بعض الضوء على ذلك التقدُّم الهائل الذي أحرَزَه اليونانيُّون القدماء في ميادين الفكر والأدب والفنِّ خلال العصر الذي ساد حياتهم فيه نظام الرِّق.
والأهمُّ من ذلك أن هذا التعليل يُفسِّر لنا «الطابع الخاص» الذي اتَّخَذه الفكر والعلم اليوناني؛ ففي اليونان وُلدَت الفلسفة، وظهر لأول مرةٍ ذلك النشاط الفكري النظري الخالِص الذي لا يبحث عن الحقيقة كما تتمثَّل في جانبٍ بعَينِه من جوانب الوجود، بل يبحث عن الحقيقة لذاتها، وبأعمِّ معانيها. وفي اليونان أحرَزَت العلوم النظرية، ولا سيَّما الرياضيات، تقدُّمًا كبيرًا. وكلُّنا يعرِف أنَّ هندسة إقليدس، بنظرياتها التي لا تزال تُدرَّس حتى اليوم، هي إنتاج يوناني صِرف. ومن جهةٍ أخرى فإن اليونانيِّين لم يَبرَعوا في مَيدان العلوم التجريبية، بل إنهم نظروا إليها على أنها في مرتبةٍ أقلَّ بكثيرٍ من العلوم النظرية؛ لأن هذه الأخيرة علوم يَستخدِم فيها الإنسان عقلَه فقط، أمَّا الأولى فيَستخدِم فيها يدَه بقدْر ما يَستخدِم عقله. وبذلك يكون احتقار العمل اليدوي والمادي قد انعكس على نظرة اليونانيين إلى العلوم، ويكون التقسيم الطبَقي للمجتمع اليوناني إلى أحرار وأرِقَّاء قد وَلَّد نوعًا آخر من تقسيم العلوم حسب مراتبها، بحيث تكون منها علوم تليق بالأحرار وأُخرى لا تليق بهم. ويكفي لكي نُدرك أهميَّة تأثير هذا العامل على التفكير اليوناني، أن نُقارن نظرَتهم هذه إلى العلم بنظرتنا الحالية. فنحن اليوم لا نعترِف بأيِّ نوعٍ من «الطبقيَّة» بين العلوم، بل نُسوِّي بينها جميعًا. ولو نظرنا إلى عِلم الطبيعة، الذي يقوم اليوم بدورٍ عظيم الأهمية في حياتنا، لوجدْنا أنه كان في نظَر اليونانيين علمًا غير رفيع لأنه يتطلَّب اتِّصالًا بالعالَم المادي. ومن جهة أخرى، فإن العلوم التي تتَّصِل بأحطِّ الموضوعات تحتلُّ في نظرنا مكانةً لا تقلُّ عن مكانة تلك التي تتَّصِل بأرفع الموضوعات؛ فعالِم الحشرات يُمكن أن يؤدي إلى الإنسانية خِدمةً كبرى لو استطاع أن يقضي على آفةٍ مثل دُودة القطن أو قواقع البلهارسيا، وعالِم التُّربة (الطين) يُمكن أن يُحدِث انقلابًا في الاقتصاد القومي لو تمكن من تهيئة ظروفٍ تؤدِّي إلى مُضاعَفة إنتاج محاصيل مُعيَّنة. وكل هذه أمثلة تدلُّ على أنَّ عصرنا، الذي تسوده مُثُل عُليا ديمقراطية، لم يعُد يعترِف بتقسيم العلوم إلى مراتب؛ ومِنْ ثَمَّ فإن الاحتمال كبير في أن يكون ازدِراء العمل اليدوي وإعلاء قِيمة العمل العقلي النظري (وهو ذاته نتيجة مُترتِّبة على التقسيم الطبَقي للمُجتمع إلى أحرارٍ وعبيد) هو الأصل في تقسيم اليونانيين للعلوم إلى علوم رفيعة وأخرى ليست لها إلا مَرتبة دُنيا.
ولا شكَّ أنَّ هناك عوامل أخرى، إلى جانب نظام الرق، تضافَرَت على تحقيق النتائج التي أشرْنا إليها؛ فالازدِهار الاقتصادي، والتبادُل المستمرُّ للسلع، والاختِلاط الدائم بالشعوب الأخرى، ونموُّ النشاط الصناعي والحِرَفي، كلُّ هذه العوامل تُساعِد على تهيئة الجوِّ للبحث الحُرِّ عن الحقيقة في المَيدان الفكري والعلمي. وإذا كان نِظام الرِّقِّ هو أسهَل الطرُق التي توافَرَت في العالم القديم لتحقيق هدَف تحرير فئةٍ من الناس إلى القدْر الذي يكفي لجَعْلها قادِرةً على مُمارسة النشاط العقلي والرُّوحي الخلَّاق، دون سَعيٍ إلى تحقيق مَنفعةٍ عملية مباشرة، أو إلى خِدمة أغراض السِّحر، أو مُساعدة الكهنة على نشر عقائدهم، فإن مُجرَّد تكدُّس الثروات وتحقيق فائضٍ اقتصادي مَعقول، يُمكن أن يكون بدَوره وسيلةً لتحقيق هذا الهدف نفسه. ومعنى ذلك أن النهضة العقلية والرُّوحية في اليونان القديمة كانت مُرتبطةً بالنهوض الاقتصادي الشامل، ولكن الطابع الخاصَّ الذي اتَّخذَتْه هذه النهضة يصعُب تعليلُه إلا إذا ربَطْنا بينه وبين انتشار نظام الرِّقِّ في المجتمع اليوناني.