غاندي والجيل الجديد
كثيرًا ما تكون موازين الشعوب أصدق من موازين المؤرخين في تقرير مكان العظيم بين أبناء قومه، ولا سيما حين تطيع تلك البداهة في تعبيراتها الفطرية التي تجمع الكثير من المعاني في القليل من الكلمات.
وقد عرفت بداهة الهند أين تضع غاندي من أمته، فلم تضعه موضع الزعامة السياسية، ولا موضع القيادة الاجتماعية ولكنها وضعته موضع الأبوة المحبوبة الموقرة، التي يحق لها أن تطاع وينتظر منها أن تغتفر بعض العصيان، بدالَّة الأبناء على الآباء.
لم تنظر إليه نظرتها إلى الزعيم السياسي؛ لأن السياسة لم تكن له غاية ولم يكن لها المقام الأول في سعيه ورأيه.
ولم تنظر إليه نظرتها إلى القائد الاجتماعي؛ لأن القيادة الاجتماعية في أكثر الأحيان قيادة حركة أو إرشاد في مرحلة من مراحل التطور، ولم يكن غاندي قائد حركة، أو دليل مرحلة تنتهي إلى غرض محدود.
بل هي لم تنظر إليه كأنه داعية نهضة؛ لأن النهضة كثيرًا ما تتعلق بجيل واحد هو الجيل الناشئ أو الجيل الناهض، وترمي إلى تبديل لا يلبث أن يتلوه تبديل.
إنما نظرت إليه كأنه «أبوها» المرموق بعين البر والإجلال، وكانت تدعوه بهذه الدعوة المستحبة: بابوجي، أي: يا أبتاه.
ولم تكن له من ثمة رسالة خاصة إلى الجيل الجديد؛ لأن أقدم الأجيال وأحدث الأجيال في رسالته الروحانية يستويان.
فكانت ناشئة الهند تحبه وتجله وتثق به وتستحيي من إغضابه، وكانت لقداسته مكانة خاصة بينهم؛ لأنه قديس صنع نفسه ولم تصنعه المسوح والمحاريب: تعلم كما تعلموا، وكان في وسعه أن يطمح إلى مظاهر الدنيا كما يطمحون إليها، فبينه وبينهم قرابة لا يشعرون بها فيما بينهم وبين أحبار الدين الذين سيقوا إلى القداسة بحكم الصناعة، وله عندهم مكانة العقيدة التي يعتقدونها ومزية النشأة العصرية التي نشأوا عليها وكرامة «الهندي» الذي جعلهم يفخرون بالهند بين الأمم، وجعل للروحانية محلًّا مرعيًّا بين مذاهب العصر الحديث، ولكنهم — على ما نظن — كانوا يحارون في أمره كما كان يحار فيه كل من سمعوا بدعوته، ولا يرون أنه يدعوهم إلى خطة يمكن العمل بها في مجال السياسة أو مجال العيش أو مجال الأخلاق.
ومنهم من كان يصارحه القول في هذا، ولا يمنعه الحب والتوقير أن يكتب إليه «أنه لا يحسبه يفهم ما يجول في خواطر الشباب».
وكانت وصاياه في مسألة النزعات الجنسية أعسر شيء على الشباب أن يستجيبوا إليه بطبيعة الحال، فلما أكثر من الكتابة في ضبط هذه النزعات وأوصى الأزواج من الشبان والشابات مرة بعد مرة أن يمتنعوا عن العلاقة الجنسية لغير النسل، كتب إليه أحدهم يقول: «إنني أقرأ ما تكتب فيخامرني الشك في فهمك للعقل الناشئ، فإن ما استطعته أنت ليس من الضروري أن يستطيعه جميع الشبان، وإنني لمتزوج وقادر على ضبط نفسي، ولكن زوجتي ليست مثلي، وهي كذلك لا تريد الآن أطفالًا، وتريد أن تعطي نفسها حظها، فماذا ترى أن أصنع … أليس من واجبي أن أرضيها؟»
والواقع أن العظماء من أبناء جيل قد يفوتهم أن يفهموا الجيل الذي ينشأ بعد زمانهم، ولكن المسألة هنا ليست مسألة جيل قديم وجيل جديد؛ لأن النزعات الجنسية غير مجهولة في جيل من الأجيال أو أمة من الأمم. ولو أن غاندي قال ما قاله عن النزعات الجنسية قبل ألف سنة لكان موقفه من أبناء ذلك الزمان كموقفه من أبناء زمانه، وهو يعلم ذلك ولا يجهله، وقد أجاب الطالب الذي وجه إليه ذلك الخطاب بما في هذا المعنى، ثم قال له: إن ضبط النفس لا يعني أن تكف عن العمل الجنسي وحده، وإنما يعني الكف عن الإغراء وعن التغذية المثيرة وعن الملامسات الذهنية والحسية، كما يعني القدرة على تحويل الغريزة إلى جهة غير وجهتها الجسدية بما يشغل النفس من شواغل العطف والفكر والمحاسن الروحانية. ولكنه إقناع لا يخفق مع سامعيه لضعف في الحجة أو نقص في البيان، بل لقوة في الغريزة ورغبة عن الاقتناع.
كذلك كانت وصايا غاندي بالمسالمة في وجه كل عدوان تجاوز طاقة الاحتمال. فإن الجيل الجديد كان يصغي إليها، وكان لا يكفر «بالاهمسا» التي تلقاها مع موروثاته من مئات السنين، بل ألوف السنين، ولكنه كان يتكلف عنتًا حين يتكلف كظم الفتوة التي تغلي في دمه، وكان يستحيي أن يغضب «المهاتما» إذا نوى الصيام احتجاجًا على أعمال العنف والمقاومة الدموية، فيمسك عن المقاومة إلى حين، وهو يعلم أن المهاتما يكلفه ما لا يطيق.
إلا أن غاندي مع هذا لم يهبط في نظرهم، بل ارتفع إلى مقام الآلهة والأنبياء، فجعلوا وصاياه من قبيل وصاياهم، وجعلوا عصيانهم لها مكرهين من قبيل عصيانهم للوصايا الإلهية حتى تقصر عنها طاقة البشر، وإن كانت عندهم أهلًا للإيمان، وأهلًا للاتباع.
ومن الأمور التي لها دلالتها في هذا الصدد أن غاندي مات بيد شاب جاوز الثلاثين، فكان هذا أعنف اصطدام بينه وبين مخالفيه، ولكنه لم يكن اصطدامًا بينه وبين شاب من أنصار التقدم أو أعداء القديم، بل كان اصطدامًا بينه وبين شاب يتعصب للقديم ولا يقبل التسامح فيه.
ومن هنا يبدو لنا محور المشكلة في دعوة غاندي أو محور الصعوبة في مجاراة هذه الدعوة، فليست هي مشكلة الصراع بين عقل قديم وعقل حديث، ولكنها هي المشكلة الأبدية التي لا تزال قائمة مع كل إصلاح، ونعني بها مشكلة التغلب على الطبيعة البشرية، أيًّا كان تفكير المصلح أو تفكير المخالف … وهي معركة باقية لا تتغير في العسر أو اليسر بين جيل وجيل.