… والمرأة
يقول الذين يعتقدون تناسخ الأرواح من الهنود: إن الذي يلد يولد، وإن الإنسان يعود إلى عالم الجسد ما دام يلد الأبناء ويخرجهم في عالم الجسد، وإنما ينفصل من المادة ويتصل بعالم الروح، ويفلت من سلسلة الولادة المتجددة، بعد انقطاعه عن كل صلة جنسية، وقيامه بفروض النسك والتبتل.
فولادة النسل عمل يجزى عليه الإنسان بالعودة إلى الولادة، ويستوي في هذا الجزاء الرجل والمرأة، فليس في الديانة الهندية لعنة خاصة بالمرأة في الإغراء على الخطيئة.
ولهذا يندبون الذكور والإناث إلى ضرب من الزواج تنقطع فيه العلاقة الجسدية بين الزوجين، وتقوم الصلة فيه بينهما على العلاقة الروحية دون غيرها.
فكانت هذه الروحانية أشد على المرأة الهندية من لعنة الخطيئة التي لاحقتها في الديانات الأخرى.
لأنها أنشأت في الهند زواج الأطفال، وأنشأت فيها عادة إحراق الأيامى مع أزواجهن، ثم منعت الحكومة الإنجليزية إحراق الأيامى فاستبدل به التأيم وتحريم زواج المرأة بعد موت زوجها الأول مدى الحياة.
ويتفق أن يموت الزوج وهو في العاشرة أو دون العاشرة؛ لأنهم قد يعقدون الزواج بين الطفل والطفلة في السنة الأولى من عمرهما، ولا يندر ذلك بالنسبة إلى زواج الكبار، فإن نسبة الأطفال الذين عقد زواجهم قبل تمام السنة الأولى من عمرهم قد بلغ ثمانية في المائة خلال سنة ١٩٣١، وبلغ عدد الأيامى في هذه السن أكثر من ألف وخمسمائة، وبلغ عدد الأيامى ممن تجاوزن الثالثة ولم يتجاوزن الرابعة أكثر من تسعة آلاف.
فتولد البنت ثم تتأيم قبل أن تبلغ مبلغ النساء، وتظل أيمًا إلى أن تموت، وهي حرام على غير زوجها الأول؛ لأن لها روحًا واحدًا، وهي بهذا الروح لا تنفك عن روح ذلك الزوج.
وكان غاندي مؤمنًا بتناسخ الأرواح أقوى الإيمان، حتى لقد كتب مرة أن تناسخ الأرواح عنده أكثر من عقيدة؛ لأنه حقيقة واقعة كهذه الشمس الطالعة.
وكان كذلك يؤمن بوجوب الانقطاع عن علاقات الجسد لبلوغ «الموكشا» أو الخلاص.
ولكنه كان ينكر زواج الطفولة كما ينكر تأيم الأطفال، وكان له عمل مشكور في إصلاح الزواج وإبطال عادة التأيم، بل كان يوصي الشبان باختيار زوجاتهم من بين المتأيمات خاصة؛ لأنهن لا يحسبن متزوجات بأي حسبان صحيح.
وقد ثار عليه أنصار القديم أعنف ثورة حين تصدى لإبطال هذه العادة وأعلن نصيحته للشبان بالتزوج من البنات المتأيمات. كان هؤلاء الجامدون يطيقون أن يبطلوا هذه العادة عملًا، ولكنهم لا يطيقون أن يقدح فيها زعيم من زعمائهم علانية وكأنها سخف لا يجوز اعتقاده ولا يجوز اتباعه، إلا أنه لم يحفل بثورتهم عليه؛ لأنه كان على ثقة من أن هذه العادة التي تصدى لإبطالها ليست من الدين وليست من العقل ولا من الخلائق الإنسانية.
كان ينكر أصلًا أن إحراق الأرملة على جثة زوجها قد أمر به الدين البرهمي في كتاب من كتبه المعول عليها. وكان يقول: إنه لو صح أن إحراق الأرملة على جثة زوجها واجب لاتصال روحيهما، لوجب مثله إحراق الزوج على جثة امرأته المتوفاة، وإن إحراق إنسان حي لا يحيي أحدًا بل يزيد في عداد الأموات.
وكان يقول: إن الرهبانية المقصودة هي رهبانية من يغالب غواية الجنس ويقوى على مغالبتها، فلا رهبانية للطفل ولا للطفلة قبل بلوغهما مبلغ الرجال والنساء.
أما الزواج عامة فهو فيه وسط بين المنع والإباحة، فلا ضير من العلاقة الزوجية ولا موجب للخجل منها، ولكن بمسوغ واحد: وهو طلب النسل لا طلب المتعة الجسدية. وقد سأله بعضهم عن المعقمات لمنع النسل في بعض الحالات التي يتقي فيها الوالدان كثرة البنين والبنات، فحرمها كل التحريم، وقال: إن اتصال الزوج بزوجه لمحض اللذة لا حجة له أقوى من حجة الشذوذ الجنسي البغيض، ولا مسوغ له أشرف من مسوغ المتعة الجنسية التي يجدها شواذ النساء وشواذ الرجال.
أما «الموكشا» أو انطلاق الروح من جميع الشهوات الجنسية فهو الكمال الذي يتوخاه من يطيقه، ولكنه لا يفرض على جميع الناس.
سأله الطالب رامشاندران — وهو من تلاميذ صديقه الإنجليزي مستر أندروز — لماذا يبشر بالموكشا؟
فقال: لأن الزواج في غنى عن التبشير، حسبه دافع الغريزة داعيًا إليه.
قال الطالب: أليس في ذلك خطر من انقراض النوع الإنساني؟
قال: كلا، بل في ذلك تصفية النوع الإنساني وتهذيبه.
قال الطالب: أليس من واجب العبقري أن يعقب عبقريًّا مثله؟
قال: إن عبقريته تعقب له أبناء أكثر مما يستطيع أن يلد.
وسئل مرات عن الطلاق كما سئل مرات عن الزواج، فكان يأبى تيسير أسباب الطلاق، ويقول: إنه لا يحل مشكلة الزوجين، فإن المرأة التي لا تجد من زوجها حسن المعاملة لا تنتفع بالطلاق، ولعلها لا تجسر على طلبه، وإنما يأتي حسن المعاملة من معرفة المرأة بحقوقها وتعليمها الواجب لها والواجب عليها، وعندئذ تقل الحاجة إلى الطلاق أو تصبح الحالة في المجتمع خيرًا من إكثار المطلقين والمطلقات فيه لجهل الزوجين بما بينهما من الحقوق والواجبات، وكأنه كان يرى — وكان على حق فيما يرى — أن الهند تنتقل في حياتها الاجتماعية نقلة طافرة لو تحولت من زواج أبدي ينتهي بإحراق الزوجين على كومة واحدة، إلى زواج يباح فيه الطلاق لأهون الأسباب.
ويطَّرد مع هذا الرأي أن يشجع غاندي كل حركة تساعد المرأة على الاستقلال والكرامة. وهكذا كان في مسألة «حق الملكية» … فإنها كانت مثار خلاف بين الهنود عند البحث في تقرير حقوق النساء المدنية والسياسية، فكان الأكثرون منهم يتوجسون من إباحة حق الملكية للمرأة؛ لأنه يغريها بالنشوز وقلة الاكتراث لمرضاة زوجها عنها. وكان غاندي على خلاف هذا الرأي يبيح الملكية للمرأة كما يبيحها للرجل، ويسأل معارضيه: هل أفسد حق الملكية أخلاق الرجال وعلمهم قلة الاكتراث لمرضاة الزوجات؟ إذن ليكن شأن النساء كشأن الرجال، فلا قيمة للأخلاق التي تبنى على عجز إنسان من الناس عن الاستقلال برأيه ورزقه، وليست الأخلاق أخلاقًا إلا إذا جاءت من محض الاختيار ووحي الضمير.
على أنه لم يكن يستحسن للمرأة أن تتعلم لتعمل في كسب المعيشة وتتمرس بأعباء التجارة ومغامرات السوق، ويؤثر لها العمل في البيت على كل عمل في معترك الحياة.
وكان يوجس شرًّا من الحرية التي تبيح العبث واللعب بالعاطفة. وكتب مرة يقول: أخشى أن يكون من هوى البنت العصرية أن تلعب لعبة جولييت مع ستة «روميهات» في وقت واحد، وذاك من فاقة النفس لا من حرية الإرادة واستقلال الشعور.
وقد واجهته مشكلة النسوة الشقيات اللواتي احترفن البغاء بمعضلة مضنية، فإنهن يتجاوزن على حسب تقديره خمسة ملايين امرأة في أرجاء الهند كلها، قياسًا على عددهن في بلدين زارهن فيهما، وهما: كوكونادا وباريسال، فمنهن من أربت على الثلاثين ومنهن من لم تبلغ الثانية عشرة، وكلهن لا يطمعن في الزواج ولا يجدن من يقبلهن زوجات إذا طمعن فيه، فكان يواسي من يلقاهن منهن ويدعوهن بالأخوات، وكان يدبر لهن وسائل الاشتغال بصناعة النسيج، ويوصي القائمين بمقاطعة البضائع الإنجليزية بتفضيل منسوجاتهن لإغنائهن عن التبذل في سبيل كسب العيش، وإحياء كرامتهن بالمساهمة في هذه الحركة القومية، ورحض عار الدنس والمهانة عن نفوسهن.
وكان بوده أن يلقي العبء الأكبر في مهمة إصلاح هؤلاء البائسات على حرائر الهند ينشئن لهن الملاجئ ويهيئن لهن الخدمة الصالحة في البيوت، فحالت التقاليد بين حرائر النساء وبين النجاح في هذه المهمة. ورأى غاندي أن يجندهن لقضية من قضايا الهند الاجتماعية لا تقل عن قضية المرأة المنبوذة: وهي قضية الطائفة الكبيرة التي عرفت في الهند باسم المنبوذين أو الأنجاس، وهم أحق الناس أن ينتفعوا بعطف المرأة عليهم فيما ضرب عليهم من الذلة والشقاء.
قال في خطاب ألقاه على نخبة من السيدات والفتيات: «إنه لمن الفواجع أن الديانة في زماننا هذا أصبحت لا تعني شيئًا غير الامتناع عن بعض الطعام والشراب، أو الترفع عن بعض الطبقات، ولن تكون هناك غباوة أغلظ من هذه الغباوة، فإن الموالد ومراسم التقاليد لن يناط بها رجحان للمرء أو نقصان، وإنما مناط ذلك كله الأخلاق، وما خلق الله الناس وعليهم علامة الرفعة والدناءة، وما من كتاب يدمغ إنسانًا بالخسة أو النجاسة منذ مولده يستحق منا الرعاية والاحترام، إنه ليجحد الله ويجحد الحق الذي هو الله، وما كان الله وهو الحق والصدق والعدل ليرضى عن ديانة تنظر إلى خُمس أبناء هذه البلاد كأنهم أنجاس لا يجوز مسهم … وإني لأريد منكن أن تبرئن أنفسكن من هذه الشناعة البالغة فالنجاسة التي تأتي من العمل النجس موجودة، ولا بد أن تقترن بكل عمل نجس وتلحق بكل أحد منا ينغمس فيها، ثم تفارقنا حين نغسل أنفسنا من الضر والوضر فلا تلزمنا النجاسة، ولكنه ما من عمل أو مسلك يدمغ رجلًا أو امرأة بالنجاسة أبد الآبدين.»
ومن ثقته بذخيرة العطف في نفس المرأة أنه كان يعول عليها في معركته الكبرى، وهي معركة «الاهمسا» أو مقاومة العنف بالصفح والإحسان.
كان يعول على نساء الهند في الهند وعلى نساء العالم كله في العالم كله؛ لأن المرأة في كل مكان هي رمز التضحية ومثال الغفران والاحتمال، وهي في معركة «الاهمسا» تصنع ما يصنعه الرجل وتزيد، ولكنها في معركة العنف لن تزال هي الجنس المغلوب.
فلما عرج على إيطاليا في طريق عودته من إنجلترا سألته السيدات الإيطاليات كلمة لهن فقال لهن — وإيطاليا يومئذ في ظل الحكومة الفاشية: «إنكن تستطعن ما لا يستطيعه الرجال من محاربة العسكرية، قلن لأنفسكن ماذا يصنع قادتكم وجنودكم إذا كان نساؤهم وأمهاتهم وبناتهم يأبين أن يشتركوا في الأعمال العسكرية!»
وقال للسيدات في لوزان حين سألنه أن يدلهن على درس يتعلمنه من المرأة الهندية: تعلمن منها الاهمسا … فإن أوروبة إذا «شربت» هذا الدرس فإنما تتناوله من أيدي بناتها.
•••
وجملة القول: إن علاقة هذا الرجل بالجنس الآخر لم تكن إلا علاقة قائد جيش يوجه فرقة منه إلى الحملة التي تقدر عليها في معركته الكبرى، وهي معركة السلام.
ولم تعرف الدنيا له علاقة بالنساء عامة غير هذه العلاقة.
ولكن الدنيا كانت خليقة ألا تعرفه على الإطلاق من جراء المرأة، أو كانت خليقة أن تعرفه في صورة أخرى أبعد ما تكون عن صورة القداسة: صورة زير نساء، أو فتى من فتيان الأندية والسهرات.
فإن القديس لم يولد قديسًا، وتلك مفخرة من مفاخره؛ لأن قداسته كلفته شيئًا عسيرًا من مغالبة نزعاته، ولم يجدها حين أرادها سهلة ميسرة على طرف الثمام.
كان للمرأة هوى شديد في نفسه.
وكان لا يطيق الابتعاد عن زوجه في السنين الأولى من اقترانه بها، فكان مرض أبيه — على إعزازه لأبيه — لا يحول بينه وبين الإسراع إلى مخدعها كلما سنحت له الفرصة من غفوة المريض أو استغنائه عن ملازمته، وخرج مرة من حجرة المريض على عادته، فجاءه النبأ بعد هنيهة بأن أباه قد مات.
وظل حياته كلها يقرع نفسه على هذا العقوق، أو هذا التهافت على الشهوات.
وهم أربع مرات أو خمسًا بمقاربة نساء غير زوجه، ولكنه لم يسترسل في نزواته هذه لمصادفات عاقته، كما قال في ترجمة حياته، ولعله من تواضعه يحيل الأمر إلى المصادفة ولا يحيله إلى قوة العفة في طبعه.
وغاندي — ولا شك — مثل من أندر الأمثلة على قوة المناعة التي يكسبها الإنسان من التربية الدينية والنشأة المنزلية في مقاومة الشهوات الجنسية وغيرها.
وربما أعانته على ذلك طبيعةٌ فيه عرف بها في جميع أطوار حياته من صباه إلى شيخوخته، فإنه خلق مطبوعًا على الحب الشامل الذي لا يميز أحدًا عن أحد، ولم يخلق لاختصاص أحد بحبه وهواه، من الرجال أو النساء، فلم يكن له صديق واحد منفرد بحبه وتمييزه، وكتب هو في ترجمة حياته فانتقد هذا النوع من الأثرة بالصداقة، وقال عنه: إنه لا يؤدي إلى خير.
ومع هذا كان في هذا الرجل فتنة خاصة لبعض النساء، فكن يهجرن الدنيا ليلتحقن به في صومعته ويعشن إلى جانبه عيشة الفاقة والشظف.
لا جرم أن الرجل القوي يظل فتنة للمرأة ولو كانت قوته في ترك المرأة.
ترى هل كانت امرأة من النساء تظفر بالمعجبات اللاتي يهجرن الحياة من أجلها لو نسكت مثل هذا النسك وتقشفت مثل هذا التقشف؟ إنهن إن أقبلن عليها أقبلن على كل حال مشتركات في مواساة واحدة، ولم يقبلن مقدسات ولا معجبات.
ومن النساء اللواتي كن يلذن به فتيات غير هنديات، منهن إنجليزيات وأمريكيات، جذبهن إليه شعور قلق نحو الحضارة الغربية، وإيمان صادق بأنه معطيهن من سلام الروح ما لا يأخذنه من تلك الحضارة التي أوشكت أن تفلس، فلا تقوى على إعطاء.
وكانت أعظم عبقرية نسائية أخرجتها الهند — وهي الشاعرة: نايدو — تؤمن به، وتخلص له، وتصمد إلى جانبه حين يتخلى عنه المعارضون لسياسته السلمية في أوقات السخط والهياج، ولم تخذله قط في وقت من الأوقات.