تقديره ونقده
كان غاندي يناوئ الحكومة البريطانية في إبان الحرب العالمية الثانية، فحنق عليه بعض الإنجليز واتهموه بأنه من أعوان هتلر، أو أنه من أولئك الذين عرفوا في إبان الحرب باسم «الطابور الخامس»، وهم الذي يساعدون النازيين بإزعاج خصومهم في إبان القتال. فتصدى للدفاع عنه رجل من أكبر رجالات الإمبراطورية: وهو المارشال سمطس القائد السياسي الفيلسوف، وقال: إن غاندي أرفع من أن تلصق به تهمة؛ لأنه رجل من أعظم رجال العالم، وهيهات أن يسخر لخدمة غرض من الأغراض.
وكان برنارد شو يقول: إن غاندي من العظماء الذين لا يجود التاريخ بأمثالهم إلا مرة في كل ألف سنة.
وكان رومان رولان — وهو من أكبر كتاب الغرب وأشرفهم في العصر الحديث — يضع غاندي في طليعة أقطاب الإنسانية، ويبشر الغرب بأمثلته العليا، وله في سيرته كتاب يشف عن إجلال بالغ وحب عميق.
ولما نعي غاندي إلى أمم الغرب أسف البابا لمنعاه وهو رأس الكنيسة المسيحية الكبرى، وقال أسقف من رجال الكنيسة الأمريكية: إن غاندي مسيح، ثم عطف فقال: إنه لا يعني بذلك أنه كالمسيح أو أنه يتشبه بالمسيح، ولكنه يعني أنه السيد المسيح بعينه قد عاد إلى عالم الجسد لإتمام رسالة الحب والصلاح.
وتلقى نواب فرنسا منعاه وقوفًا خاشعين.
ورثاه رئيس الوزارة الإنجليزية — أكبر خصومه في ميدان السياسة — فأطنب في تعظيمه والأسف لفجيعة الشرق وبني الإنسان فيه.
وليس في هؤلاء جميعًا أحد يؤمن بديانة غاندي، بل ليس فيهم أحد يرى في صلاح الحياة البشرية مثل رأيه، فهم لا يعظمونه لأنهم يوافقونه ويتبعون عقيدته ورأيه؛ ولكنهم يعظمونه لأنه عظيم.
وإذا لم يكن تعظيم الرجل مقصورًا على شيعته وأهل وطنه وعقيدته، فتلك آية العظمة الإنسانية لا مراء.
فليس العظيم من لا يخالفه أحد، فقد يبلغ العظيم غايته من العظمة ومخالفوه أكثر من موافقيه.
وليس العظيم من خلا من ناحية نقص، فقد يكون حسبه أنه امتلأ بناحية عظمة، وكان فيه موضع للنقص كما كان فيه موضع للكمال.
وإذا ظهر نقص العظيم فليس تعليل ذلك أنه غير عظيم، وإنما تعليله أن الإنسانية تتسع لأنواع شتى من العظمات، وأنواع شتى من الدعوات، وإنها لن تكون في جملتها إنسانية كاملة إن كانت لا تعرف إلا نوعًا واحدًا من العظمة وناحية واحدة من نواحيها.
وتعدد العظمات معناه الوحيد أن كل عظمة منها لازمة، وأن كلَّ عظمة منها متممة للأخرى، وأنها تتم من ناحية النقص فيها. فلا غرابة في استهداف عظيم للنقد والتعقيب، بل لعله لا يستهدف للنقد والتعقيب إلا لأنه عظيم.
وهكذا كان غاندي في دعوته، وهكذا كان في تفكيره على الخصوص، كان فيه متسع للإعجاب الكبير، ومتسع للنقد الكبير.
وأحق ناحية فيه بالنقد هي الناحية التي استحق بها الإعجاب، وهي ناحية الكفاح في سبيل الروح، أو هي ناحية الكفاح بين الأشرف والأخس من طبيعتي الإنسان.
وأول ما ينقد من هذه الناحية أنه حصر ميدان الكفاح.
فالرجل الذي كان يؤمن بأن الأبد كله هو معركة بين الروح والجسد، قد أخرج كفاح الحضارة من هذا الميدان، وحصر الكفاح كله في روح الإنسان وأعضاء الإنسان.
لكن كفاح الحضارة في الواقع هو الميدان الأكبر لغلبة الفكر وغلبة الروح، أو لتقوية النفس صعدًا في معارج البأس والانتصار.
فالهرب من الحضارة هرب من ميدان هذا الكفاح، أو هو على الأقل انتصار في غير ملحمة، وبأس لم يتعرض لتجربة تدله على نفسه، أو تدل غيره عليه.
إن سيئات الحضارة هي سيئات الجسد في مجال أوسع وأبقى … وفرصة الروح، أو فرصة العقل في ترويض هذه السيئات — هي فرصة الأمم مجتمعات متعاقبات، فهي ألزم من معركة الصومعة المنعزلة بين روح إنسان وجسد إنسان.
وإذا كان الإنسان الفرد يجد روحه في كفاح مطالب الجسد وشهواته، فالأمم التي لا عداد لها تجد روحها في كفاح مطالب الحضارة وشهواتها، أو في هذا الصراع الذي يتلاقى فيه الخير بالشر، والقوة بالضعف، والمعرفة والعلم بالجهل والغباء.
فكل حرب يأتي بعدها للإنسانية تاريخ جديد.
فتحت الحروب الصليبية أبوابًا كانت مغلقة بين المغرب والمشرق، وفتحت الحروب العثمانية أبوابًا كانت مغلقة بين العالم الحديث والعالم القديم، فظهرت القارات الخمس بعضها لبعض، بعد أن كان شطر منها مطويًّا وراء الحجاب.
وجاءت الحروب الحديثة فتقدمت معها المخترعات، وأصبحت هذه المخترعات شغلًا شاغلًا للأمم في سبيل الدفاع عن الحياة، ولم تكن قبل ذلك تشغل أحدًا غير الخاصة من العلماء والمخترعين.
وقد يستطيع العالم الواحد أن يعرف أسرار القنبلة الذرية، ولكن الأمر يحتاج إلى اهتمام أمة كبيرة ليحصل ذلك العالم على الملايين من الذهب؛ ليبني بها المصانع ويتخير بها الآلات، ويترقى بها في مراتب التدقيق والإحكام.
وهكذا تساق الإنسانية إلى المعرفة بعصا من الضرورة، وتندفع مع الشر فتنتهي إلى الخير، وتنقاد للشهوات ونوازعها ثم تقبض على زمامها بعد طول الجماح.
ومن طريق العقل يترقى العالم والحكيم.
ولكن الأمم لا تندفع معه إلا إذا اندفعت بغريزة قاهرة، دفاعًا عن الحياة أو طلبًا للمجد والسيادة.
والطبيعة تعلِّمنا ذلك كل يوم وتعلِّمنا إياه في ولادة كل مولود.
فكل أب وكل أم يسهران الليل ويشقيان بالنهار لحفظ النوع وتربية الأطفال، ولكن قل أن يعيش طفل في هذه الدنيا لو قيل للآباء والأمهات: إنكم تحفظون النوع وتعملون لغير أنفسكم، ولم تعطهم الغريزةُ سرورًا وغبطة تختلج بها الأجساد، إذ يحتملون هذه التضحية من أجل بقاء الحياة لأحفاد لا يرونهم بعد مئات السنين، وألوف السنين.
وهكذا تساق الإنسانية إلى التعاون بين أبنائها والتضامن بين أقويائها وضعفائها، يطمع هذا في السيادة على الدنيا، وينبري هذا للدفاع عن حياته، فلا يسود هذا ولا يدافع هذا عن حياته وكفى، بل يعملان معًا للوحدة الإنسانية في أوانها المقدور …
ومن طريق الحروب ومخترعات الحضارة تقاربت الأمم واشتركت في هذه الوحدة الإنسانية فاشتبكت بينها المواصلات والمعاملات، وبلغ من تقارب الكرة الأرضية ما لم يبلغه في عصر من العصور: ينطق القائل بالكلمة فإذا هي مسموعة بعد هنيهة على مسافة الألوف من الفراسخ، كأنما القائل والسامع يجلسان في حجرة واحدة، ويقع الحادث في الصباح فلا يعود صباح بعده حتى يملأ خبره ما تملأه الشمس من الأرضين والبحار، وتهم الدولة القوية بعمل من الأعمال فتنظر إلى أصغر دولة في أقصى الأرض لعلها تأبى ما تريده، ولعلها تقلب ميزان النصر في أزمة من أزمات النضال، فيتحول النصر من فريق إلى فريق.
من أين كنا نبلغ هذا لو أحجمنا عن الحضارة من مرحلتها الأولى؟
إننا أطعنا المادة غاية ما تطاع، حتى كشفنا عنها الستار فإذا هي نور.
وعلم الناس من خبر «القنبلة الذرية» أن المادة شعاع، وأن الشعاع «حسبة رياضية» تدركها العقول ولا تتوقف على كثافة الأجساد.
فعادت بنا المادة إلى عالم العقل المجرد، ولكن من طريق الإيغال فيها لا من طريق الإحجام عنها، أو من طريق الكفاح لا من طريق التسليم.
ذلك كله حق نلمسه الآن.
وذلك ما لم يدخله غاندي في حسابه، وهو يبشر بدعوته.
ولكن هل كان في وسعه أن يدخله في حسابه، وتبقى له دعوة تدعى؟
إن المثل هنا أعون على الجواب من إطالة الشرح والبيان.
فالطب قد تعلم ولا ريب من الأوبئة والطواعين، ولولا الوباء بعد الوباء لما عرف الأطباء أسرار الجراثيم، ولا حقائق الأمراض.
ولكن الطبيب مع هذا يوصي بالدواء، ولا يوصي بالطاعون.
وغاندي هو الطبيب وشرور الحضارة هي الطاعون!
فإن كانت له في هذا العالم دعوة فلن تكون هذه الدعوة إلا كما دعاها، وإن لم تكن قط فتلك هي الخسارة على الناس في هذا الميدان الفسيح الذي يتسع لجميع الدعوات.
ومثله بين المصلحين كمثل العازف الماهر الذي لا يسمع وحده، ولكنه إذا سكت كانت كل فرقة موسيقية ناقصة بغيره.
ومكانه من العظمة أنه يتمم هذا النقص.
وليس مكانه من العظمة أنه خلا من كل نقص يعاب عليه.
وحسبه ذلك من مراتب الكمال التي تتاح للإنسان.