مصرعه
في صباح يوم السبت (الثامن والعشرين من شهر فبراير سنة ١٩٤٨)، خرجت من أرض الهند آخر فرقة من الجيش البريطاني كانت معسكرة فيها، بعد أن احتلها هذا الجيش بمئات من الفرق، زهاء مائتي سنة.
خرجت من ميناء بومباي.
ووقفت قبل خروجها تبادل فرقةً من الجيش الهندي تحية السلاح.
وعزفت موسيقاها بنشيد «حفظ الله الملك» ونشيد الهند الوطني «فاندي ماترام».
وهتف قائدها «جاي هند» أي: لتحيا الهند … وكان آخر من صعد إلى السفينة، في عودةٍ كان مقدمها في الواقع قبل مائتي عام.
وبهذه الصفحة طوي السجل الذي كتبت صفحته الأولى في الثالث والعشرين من شهر يونيه سنة ١٧٥٧: وهو يوم المعركة التاريخية في حياة الشعوب الهندية، وحياة الدولة البريطانية: معركة «بلاسي» التي بسطت يد اللورد «كلايف» على العروش في الهند والشعوب.
كنت أقرأ في صباي كتاب «الأبطال» لتوماس كارليل الفيلسوف الأيقوسي الكبير، وكنت أعجب منه بالفصل الذي كتبه فيه عن شكسبير، وكان أعجب ما يعجبني منه خاصة قوله: إن شكسبير أعز على الأمم التي تتكلم الإنجليزية من الهند وكنوزها؛ لأن الهند وكنوزها ستخرج من أيدينا في يوم من الأيام، أما شكسبير فهو الفخر الذي لا يسترد ولا يزول.
ستخرج الهند من الدولة البريطانية في يوم من الأيام؟
نعم، إن يوم الخروج لا بد آت ولكن متى؟ متى يحين ذلك الحين الذي نظر إليه الفيلسوف؟
لم نقدر بأية حال أنه حادث من الحوادث التي نشهدها في هذه الحياة، وأنه سيصبح عما قريب خبرًا من أخبار البرق، التي يوالينا بها في هذه الأيام.
وأكبر الظن أنه لولا رجل واحد ظهر في الهند، لتأجل موعده إلى حياة أبناء، بل حياة أحفاد.
ذلك الرجل الواحد هو «غاندي» بلا مراء.
•••
لقد اشتركت في تهيئة ذلك المنظر الصغير — على ميناء بومباي — عوامل لا تحصى في صفحات.
عوامل بعضها من الهند نفسها، وبعضها من القارة الأسيوية في جملتها، وبعضها من الكرة الأرضية بأسرها.
ولكنها إذا وجب أن تحصر في شخص واحد، لم نجد شخصًا واحدًا نحصرها فيه، غير ذلك الجسد الضئيل: ذلك الروح العظيم.
إنه هو الرجل الواحد الذي يمكن أن يقال: إنه عجل بذلك اليوم حتى دخل في حوادث هذه السنة (سنة ١٩٤٨) للميلاد …
لأنه هو الرجل الواحد الذي أدخل في روع الإنجليز أن بقاءهم في الهند عناء لا جدوى لهم فيه، وأن الجلاء عنها أصلح لهم من البقاء.
•••
فقد كان من الجائز — بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وزوال الخطر الياباني عن الهند — أن توازن بريطانيا العظمى بين البقاء والجلاء فيبدو لها أن البقاء أيسر كلفة من الجلاء، ولكن غاندي هو الذي قلب لها كفتي الميزان فأقنعها بأن الأمر معها على نقيض ذلك، وأن جلاءها أيسر كلفة عليها من بقائها؛ لأنه جعل المقاطعة السياسية والاقتصادية سلاحًا قاطعًا يضاعف مشقة الإنجليز في حكم الهند والاضطلاع بتبعة الدفاع عنها ويقلل من منافع هذا الحكم ومزاياه، وكان مرجع الفضل في نجاحه إلى إخلاصه وتجرده المطلق من المآرب الشخصية، فلم يشق على أحد من خاصة أهل الهند وعامتهم أن يقنع بالكفاف وأن يتحدى المحن والشدائد، وهو يرى أمامه رجلًا عالميًّا موفور الكرامة والوقار يقنع من الكساء والغذاء بكلفة لا تتجاوز بضعة دريهمات.
وأعانه على رسالته أنها رسالة من طبيعة الهند وعنصرها؛ لأنها رياضة روحانية في بلد «الفقراء» والنساك، فصح فيه أنه رد الهند إلى روحها أو رد روح الهند إليها.
وبحق جعل الهنود مغزله شارة الهند على علمها المثلث، ذي اللون «الأخضر، الأبيض، البرتقالي» … وحولوه إلى مغزل «بوذا» الذي يغزل به خيوط الحياة.
وبدأت هذه الحملة والحرب قائمة، والجيوش اليابانية تغير على بورما وسنغافورة، وتجد لها أشياعًا في داخل الهند من أبنائها الذين استجابوا لدعوة (آسيا للآسيويين).
وكانت مسألة الخلافة الإسلامية قد انتهت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فعمل المسلمون في الحركة الوطنية غير مرتبطين بخطة من خطط السياسة البريطانية قبل دولة الخلافة، سواء فيما اختاروه من مقاومة أو وفاق.
وراحت حكومة بريطانيا العظمى تقترح الحل بعد الحل، وتشرع النظام بعد النظام، وتستشير تارة وتنفرد بالرأي تارة أخرى، فانتهت إلى حل موقوت في حكم البلاد الهندية بجملتها ريثما تنجلي عنها وتنفض من تبعاتها كلتا يديها، وهو حل الحكومة الاتحادية التي يقوم عليها مجلس وزراء وهيئة نيابة يشترك فيها الهندوسيون والمسلمون.
فحبط هذا الحل أمام عقبة كأداء تنفرد بها الهند خاصة بين بلاد العالم، وهي عقبة الأقليات.
وليس شأنها في الهند كشأنها في سائر البلاد الأخرى؛ لأنها في الهند أقليات وليست بأقليات.
فالمسلمون في الهند كثرة غالبة في بعض الأقاليم، وقلة صغيرة في بعض الأقاليم، وقلة كبيرة في أقاليم أخرى.
وبينهم وبين الهندوسيين اختلاف شديد في الجنس واللغة والعقيدة، لخصه السيد محمد علي جناح رئيس الرابطة الإسلامية في كلمة واحدة حين قال: كيف يحكم بنظام واحد قوم يعبدون البقرة وقوم يأكلونها؟
وأعضل ما في الأمر أن وطنية الهندوسيين هي في صميمها وطنية عقيدة روحانية، أو عقيدة دينية، وأن زعيمها لم يفلح في دعوته إلا لأنه قاد دعوتها الوطنية من هذه الناحية، وما في كل يوم يجد المسلمون أمامهم زعيمًا كغاندي يعتصم بالسماحة في قوة وصدق طوية، ويستطيع أن يروض أتباعه على العدل والرفق وحسن المعاشرة وفض المشكلات بترضية المخالفين في الرأي والعقيدة.
على أن غاندي نفسه قد غالته يد هندية؛ لأنه استهجن ذبح المسلمين والتشنيع بنسائهم وأطفالهم على مشهد من الشرطة وجنود الحكومة الهندية، فإذا أوجس المسلمون شرًّا من حكومة كهذه فلهم العذر كل العذر في شرعة المنصفين.
•••
ولم يجدوا بدًّا في النهاية من إقامة دولتين منفصلتين: إحداهما هندوسية والأخرى إسلامية تعرف باسم الباكستان، وينتقل من يشاء من أتباع إحدى الدولتين إلى بلاد الدولة الأخرى مع تنظيم الهجرة وتبادل السكان.
ولم يكن تنظيم الهجرة بالأمر الميسور؛ لأنه بمثابة اقتلاع ملايين من الأسر من أماكن قد استقرت فيها وارتبطت فيها بمعاملاتها وأسباب معيشتها، إلى أماكن أخرى لا تتسع لها في كثير من الأحيان، وليس هناك من يعوض أحدًا عن ماله المتروك في البلد الذي يهاجر منه، أو البلد الذي يهاجر إليه.
وما هو إلا أن أعلن قيام الدولتين حتى كانت مشكلة السكان هذه مثار الخصومات والفتن في كل بقعة يعيش فيها المسلمون مع الهندوسيين والسيخ منهم خاصة. وانطلق أناس من غلاة المتعصبين يطاردون المسلمين من مساكنهم ويعملون القتل والسلب فيهم، ويغيرون على المساجد فيلوثونها أو يهدمونها أو يحولونها إلى معابد هندية وينصبون فيها صورهم وأوثانهم، ولا يعترضهم أحد من الشرطة والجنود، بل يشاركونهم في هذه الجرائم ويحرضونهم عليها، ويزودونهم بالسلاح الذي يعلم العارفون بالهند أنه كان محظورًا على جميع الهنود في عهد الدولة البريطانية، واقترف هؤلاء الغلاة من الآثام والمجازر في صيف تلك السنة (١٩٤٧) ما لعله لم يحدث قط في هذا الزمن في بلد من البلدان.
وكان على رأس المجرمين الذين فعلوا هذه الأفاعيل جماعة وطنية متهوسة تعرف باسم «مهاسابها» أو الجماعة الكبرى، تتلخص مبادئها في إقامة حكومة هندوسية واحدة والقضاء على حكومة الباكستان وتجنيد جميع الشبان ومطاردة المسلمين ومعاملتهم معاملة الجواسيس المهددين لأمن الدولة الهندوسية، وتحريم الدخول في الدين الإسلامي على أبناء النحل الدينية الأخرى.
وكانت هذه الجماعة لا تبالي في نشراتها اليومية — وهي تحرض الغوغاء على القتل والسلب — أن تؤكد لهم علانية، معاونة الجيش والشرطة، وحمايتهم من الاعتقال والتحقيق.
وكان غاندي أشد أهل الهند نقمة على هذه الفتنة المخزية وجرت على لسانه كلمات يأس وشكاية لم تسمع منه قط في أحلك أيام جهاده، فكان يقول لمن حوله: هذه أحوال لا تغري بالعيش، ويسأل مع الشاعر: إلى متى أقيم في هذه الدنيا ألعب هذه اللعبة؟ يعني الحياة.
ولما أعرض المهيجون عن نصائحه المتكررة نذر الصيام حتى الموت أو تجاب مطالبه ويتحد المسئولون على العمل بها: وهي كما نشرتها صحيفة نيويورك تيمس (في يناير سنة ١٩٤٨) «السماح للمسلمين بإقامة احتفالهم السنوي في معبد مهرولي القريب من دلهي، وإعادة المساجد المغتصبة إليهم، وصيانة حياتهم وأموالهم، والترحيب بعودتهم إلى مساكنهم وتأمينهم في السفر، والكف عن مقاطعتهم في الحياة الاجتماعية.»
ومضى في صومه خمسة أيام، ثم جاءه الزعماء وقادة الجماعات مستغفرين، وقطعوا له العهد على قبول وصاياه جميعًا والعمل بها توًّا، فعدل عن صيامه، واستطاع أن يتوجه إلى مهرولي؛ ليشهد مع المسلمين مولد قطب الدين بختيار، الذي احتفلوا به في السابع والعشرين من شهر يناير، وعاوده الرضى بعد ما انتابه في الفترة الأخيرة من يأس قاتم، وحزن أليم.
إلا أنها الفتنة قد جن جنونها وانقطع عنانها، ونظرت إلى غاندي وهو يكبح شهوتها، كما ينظر الوحش المهتاج إلى الحارس الذي يدفعه عن فريسته، إنه قد يدع فريسته إلى حين لينشب أظافره في الحارس الذي حماها.
ففي العشرين من شهر يناير ألقى طالب اسمه «مادان لال» قذيفة على غاندي لم تصبه، فلم يجفل ولم يرتجف منه عصب، ومضى إلى الصلاة وهو يوصي الشرطة ألا يعنفوا على «الصبي المسكين!»
واتجهت الشبهة في هذا الحادث إلى جماعة رياضية على النظم الفاشية، تسمى جماعة المتطوعين لإنقاذ الوطن، ولكن التهمة لم تثبت عليها وظهر أن الجريمة من عمل متآمرين ينتمون إلى «المهاسابها» أو الجماعة الكبرى.
ولم يردعها إخفاق هذه المحاولة عن جريمتها التي بيتت النية عليها، فعادت إلى الاقتراع بين أعضائها على من يتولاها وينجح فيها، فكانت القرعة من نصيب فتى من محرري الصحيفة المتطرفة «هندوراشترا» يسمى: «ناثورام فيناياك جودس»، فتقبل القرعة متهللًا؛ لأنه كان من أشد المبغضين لغاندي ودعوته الإنسانية، وكان كثيرًا ما يقول: «إن لي رسالة لا بد من أدائها».
ولكنها لم تجمع كل ما في طويته من ضراوة إبليسية. فقد تعمده بالقتل وهو في موقف يثني يد الشر ويخلق الضمير النادم لمن مات فيه الضمير، تعمده بالقتل وهو يسعى إلى الصلاة بين حفيدتين بريئتين، وينظر إليه نظرة العطف الوديع التي يغمر بها كل من حياه.
ولم يعش بعدها غير ثمان وعشرين دقيقة، ولم يفه بعدها بغير هذه الكلمات: «إذا كنتم لا تريدون أن أعيش … فلا أرب لي في العيش.»
وظل القاتل كلما سئل بعد ذلك يضحك ويقول: لست بنادم … ولست أجهل ما ينتظرني … ولكنني لا أبالي … إنني أقحمت اسمي على التاريخ بأحرف من نار …»
صدق! فما في وسع التاريخ أن ينساه؛ لأنه في تاريخ بني الإنسان كله اسم وحيد.
وتم العجب من سيرة غاندي حيًّا وميتًا.
رجل رفع أبصار الناس إلى أوج السماء، فهبط بها قاتله إلى قراره الجحيم.
رجل وهب للهند حريتها، فسلبته الهند حياته.
رجل أراد أن يمسح العدوان من ظهر الأرض، فمات معتدى عليه.