هذا هو الإنسان
وجمت حين سمعت النبأ.
وما أظن النبأ إذا قيل على إطلاقه محتاجًا إلى تفسير. فما كان للكرة الأرضية من شاغل غيره في زاوية من أقصى زواياها. لقد أوشك أن يكون حادثًا من حوادث الكون بما رحب، بل كان حقًّا حادثًا من حوادث الكون؛ لأنه على أوثق اتصال برسالة الروح.
وجمت وطال بي الوجوم، بل ذهلت وطال بي الذهول؛ لأن الخبر إنما يمهد له خبر مثله؛ ولأن الحادث إنما يقاس على نظيره، ولا نعرف نظيرًا لمصرع غاندي في كل ما سمعنا به من أنباء العالم، وفي كل ما عرفناه من حوادث التاريخ.
لقد قتل من قبل مصلحون وقديسون.
ولكنهم قتلوا بيد السلطة التي تخاف منهم على نفسهم، أو قتلوا بأيدي الطغام المهتاجين وهم يسفهون أحلامهم، ويحطمون أصنامهم، ويبدلون شعائرهم، وينكسون منابرهم، فيثور الشر في نفوسهم، ويهجمون على القتلى وهم لا يفقهون ولا يفيقون.
ولكن مصرعًا كمصرع غاندي لم يحدث قط فيما علمناه من حوادث التاريخ.
لم يحدث قط أن ترتفع يد بالشر إلى رجل لا يسفه الأحلام ولا يبشر بغير السلام: رجل في الثامنة والسبعين يسعى إلى الصلاة يتوكأ على حفيدتين بريئتين، ويكف الشر في النفوس بوقار سنه وضعف شيخوخته وطيبة سكينته واستسلامه، رجل يدين بما يدين به قاتله المتعصب لعقيدته. وقصارى ما تنتهي إليه تلك العقيدة — عند ذلك القاتل التعس — أن قتل البقرة حرام، وأن قتل القديس العظيم مباح.
خارقة من خوارق الإثم تشده العقل وتشل الخيال، فلا تدري الأذن كيف تسمعها، ولا يدري الحس كيف يحملها إلى رأس أو ضمير.
لقد خرج غاندي إلى البحر يتحدى «قانون الملح» المشهور، وخرج وراءه ألوف من الرجال والنساء، وأمرهم أن يصبروا للضرب ولا يضربوا، وأن يتعرضوا للأذى ولا يردوه بمثله، ثم لاح ذلك الشبح الهزيل للجند القائمين في طريق البحر وهم صفوف من وراء صفوف، فانفرجت صفوفهم له وتركوه يمضي في سبيله، ثم انطبقت من بعده على الجموع التي تبعته لتعمل فيها الضرب واللكم وتهوي عليها بالعصي والهراوات. فإذا بقزم الجسد مارد الروح، قد وقف عند البحر خاشع الرأس دامع العينين، يبكي وحيدًا لأنه سلم وحده، وأصيبت من ورائه تلك الرءوس والأجسام.
لقد مثل بين يدي القضاء فسأله قاضيه: أمذنب أنت بحكم القانون؟ فقال: نعم مذنب، وأعود إلى الذنب متى قدرت عليه … فأحس القاضي إحساس المذنبين أمام هذا المتهم الذي لا يحس إلا إحساس الشهداء. وقال قولته التي سيخلد بها في سجل القضاة: إنني أحكم عليك مكرهًا، وسأكون أول من يهنئك مبتهجًا، إذا استخدم حاكم الهند حقه في العفو عنك، وهو حق لا يملكه القضاء.
مستعمرو بلاده هابوه ويجلوه.
غاصبو وطنه أحجموا عن المساس به والقسوة عليه.
ويشاء النحس لذلك الوطن المنكوب أن يشتمل على مخلوق من أبنائه: مخلوق من أبناء البشر، تتحرك يمينه بالقذيفة القاتلة إلى صدر لم يبق فيه مع الحب الشامل لبني الإنسان — ولكل بني الإنسان — غير جلود وعظام.
قيل منذ أيام: إن قذيفة ألقيت على غاندي فنجا منها.
فوقع في الأنفس أن نجاته من تلك القذيفة حدثٌ من أحداث الطبيعة لا غرابة فيه … كأن المادة نفسها تهاب أن تمضي بالأذى إلى هيكل ذلك الروح … كأن القذيفة ترتد — ولا تستطيع إلا أن ترتد وحدها — عن القداسة التي أخضعتها، ولم تخضع لها قط في تجارب الحياة.
فلما قيل: إنه قتل بيد إنسان، قد والله سألت: كيف تحركت عضلة في جسد بشري بضربة قاتلة لذلك الشهيد؟
قد والله سألت عن اليد التي لا تعقل؛ لأنها كانت خليقة أن تعجز عن الحراك إذا سيمت مثل هذا الحراك الذي يشذ عن كل قانون … ولم أسأل كيف سولت نفس، ولا كيف هجس ضمير … لأن من الهول الهائل أن يدخل مثل هذا الجرم في حساب نفس أو ضمير.
وباسم الوطن وخدمته يقتل القاتل ويصاب الشهيد!
باسم الوطن وخدمته، يعتدي أكبر مسيء إلى وطنه على أكبر محسن إلى ذلك الوطن المنكوب.
فليس في العالم صديق للهند ولا عدو من أعدائها، تخامره ذرة من الشك في فظيعة من الفظائع يقدم عليها المتعصبون هناك، إذا كان النهي عن التعصب ذنبًا يستحق عليه مثل غاندي أن يحرم نصيبه من الحياة.
ومن غاندي الذي يحرم هذا النصيب الضئيل؟
غاندي الذي تدين له الهند بأعظم الديون …
غاندي الذي وهب الحرية للهند، وصنع للهند ما لم يصنعه هندي قط منذ خلقها الله.
غاندي الذي تفدى حياته بحياة الملايين؛ لأن الإنسانية لا تزال مفتقرة إلى أمثاله، ولو كان فيها من أمثاله ألوف … فكيف بافتقارها إليه وهو واحد مفرد في هذا الزمان.
كبر على الهند أن يظهر من أبنائها أشرف إنسان في زمانه، فأبى عليها النحس إلا أن يظهر فيها أشأم إنسان في كل زمان.
ومن يقتل شرف الإنسانية كلها إلا مخلوق يخجل من إنسانيته كل إنسان، بل كل حي من الأحياء، وكل ضارية من ناهشات الأبدان، وكل ساعية من نافثات السموم.
ويسألون: ألا جزاء يجزى به وراء الإعدام؟
فما الإعدام في جانب الوصمة الأبدية يحملها المسكين وحده في تاريخ البشرية بأسرها، فيذكر وحده إذا ذكر الخزي الذي لا خزي مثله في طوايا التاريخ.
هذا هو الإنسان في بؤرته السفلى.
وذاك هو الإنسان في ذروته العليا.
وفي خشوع لا ينتهي، نحيي الإنسان المشرف للإنسانية.
وفي حياء لا ينتهي نزوي البصر عن خزي الإنسانية في جميع تواريخها.
أعانها الله على كفارة تمهد بها العذر لنفسها، بين يدي ضميرها وبين يدي كل حي من خلائق الحياة تحمله هذه الغبراء …