روح الهند
ونعني بروح الهند ما يقابل «السيكولوجية القومية» التي تميز أمة من أمة في الخصائص النفسية.
وليس من اليسير أن نتكلم عن سكان الهند كأنهم أبناء قومية واحدة؛ لأنهم لم تتفق لهم قومية في العنصر، ولا في اللغة، ولا في العقيدة، ولا في الدولة، ولا في المعالم الجغرافية.
فلم يشعروا قط في تاريخهم القديم بشعور أبناء الدولة الواحدة، ولم يجمعهم قط فخار وطني واحد، أو عصبية قومية واحدة.
فليس من اليسير أن نتكلم عن روح الأمة حين لا تكون هناك أمة، ولكن هذه الخاصة السلبية هي في الوقت نفسه جامعة الهند الكبرى؛ لأن خلو النفس الهندية من دواعي العصبية القومية قد فسح الطريق لشعور آخر يشغل تلك النفس ويستغرقها في مكان العصبية القومية، وهو الحاسة الدينية أو الحاسة الروحانية.
فاتجهت النفس الهندية إلى هذا الشعور بقوة واحدة إذ كانت الأمم الأخرى تشغل جانبًا من روحها بالنخوة الوطنية وجانبًا منه بالحياة الروحية، فكانت العقيدة للهندي ملاذ جسد وملاذ روح، وعوضًا من فخر الدول وعصبية الأقوام.
قال «تاجور» في محاضراته التي ألقاها على الأمريكيين عن القومية في العالم: «إنه لما كانت مشكلاتنا في الهند داخلية أصبح تاريخنا تاريخ معالجة أخلاقية دائمة ولم يكن تاريخ قوة منظمة للدفاع أو الهجوم. وما كانت العالمية الغامضة التي لا لون لها، ولا الوثنية العارمة التي تتراءى في عبادة الأمة لنفسها لتكون هي الغاية القصوى التي يسعى إليها تاريخ بني الإنسان».
وكأنما أراد الشاعر الكبير بكلامه هذا أن الهند بدأت حيث تنتهي أمم أخرى؛ لأن كفاح القوميات سينتهي لا محالة إلى تعميم الآداب الإنسانية، أو إلى حل المشكلات الأخلاقية، وهي المشكلات التي فُرضت على الهند بحكم حالتها الخاصة منذ بداية تاريخها.
أما الأمة — كما عرفها الغرب — وعرفتها أقوام أخرى، فهي كما يقول تاجور: «وحدة سياسية اقتصادية ليس لها غرض خارجي — أو غرض إنساني عام — لأنها هي غرض لنفسها إنها تعبير لدني للإنسان باعتباره كائنًا اجتماعيًّا ولها غاية سياسية، ولكنها تتجه إلى غرض اجتماعي هو حفظ الذات … إنه جانب القوة وليس بجانب المثل الإنسانية العليا.»
ولا بد في رأي الشاعر من تقارب الرأي بين الوجهتين؛ لأن الغرب ضروري للشرق ضرورة الشرق للغرب، وإنما هذا الاختلاف في وجهات النظر إلى الحياة هو الكفيل بأن يعطي الإنسان صورًا مختلفة للحق والأخلاق.
وكلام الشاعر عن الفارق بين الوجهتين صحيح في جملة حدوده، فإذا عمل صاحب القومية للجماعة التي هو واحد منها، فصاحب العقيدة الروحانية يعمل «لروح الإنسان» أو يعمل لغاية إنسانية تتجاوز الفرد كما تتجاوز الجماعة، إذ هي ليست غاية إنسان بعينه، وإنما هي غاية «الإنسان» حيث كان.
وقد يكون الهندي مسلمًا لا يدين بالبرهمية ولا بالنحل التي تفرعت عليها، ولكنه يظل هنديًّا في هذه الخاصة الهندية: وهي أنه ينوط وجوده باعتقاده ولا ينوطه بموضع ميلاده، ومن هنا كانت دولة الخلافة أهم في نظر المسلم الهندي من القضية الوطنية في داخل بلاده. وكان موقف الدولة البريطانية من الخلافة العثمانية هو الذي يعين موقف الهنود المسلمين من تلك الدولة، ويجنح بهم تارة إلى موالاتها وتارة إلى الثورة عليها.
ولا نحسب أن الخلو من الدولة وحده هو الذي نزع بالنفس الهندية هذا المنزع الذي تفردت به أو كادت بين النفسيات القومية، فإن الهند قد اجتمع لها من مظاهر الطبيعة وأنواع الأحياء ما لم يجتمع لإقليم آخر، فكانت خليقة أن تنظر إلى هذه المظاهر وهذه الأحياء نظرة شاملة لكل ما في الحياة، وأن تجعل حقيقة الوجود ماثلة في كل صورة من صورها، وكل نموذج من نماذجها، ولا تفصل بين بعضٍ منها وبعض في معالم الوجود، كما يحدث أحيانًا في كل وطن يستأثر به نوع من المظاهر أو نوع من الأحياء.
هذه الروحانية هي سمة الهند الكبرى، وهي التي تفسر لنا كثيرًا من غوامضها، وغوامض أبطالها، ومنهم — بل في طليعتهم — غاندي، موضوع هذا الكتاب.
وقد يحسن بنا أن نقول: إن الحاسة الروحية تراد هنا بمعناها الذي تقابله الحاسة الوطنية أو الحاسة القومية، وليس من الضروري أن تقابل الحاسة الجسدية، فقد يكون الهندي منغمسًا في شهوات الجسد ومطامع المال والسطوة كما يكون أبناء الأمم الأخرى، ولكنه يخالفهم في إحساسه بمعنى الوطن ومعنى الدين، ويخالفهم في إيمانه بالغاية القصوى من الحياة الوطنية.
وهذا هو الفارق المهم في هذا الموضوع.