صلاته
عقيدة غاندي هي أهم شيء في بنيان شخصيته.
وصلاة غاندي هي أهم شيء في بنيان عقيدته.
فنحن لهذا نقترب من فهمه كلما اقتربنا من فهم صلاته؛ لأن الصلاة عنده لا تنبعث عن طلب أو استغاثة أو ابتهال، ولكنها تنبعث إلى حس فوق الحس، وفوق التفكير، وفوق الطلب والابتهال.
وهي عنده — كما هي عند الجينيين عامة — أعلى مراتب الوعي الذي يتاح للكائن الموجود.
فالروح الإلهي في اعتقادهم سارٍ في جميع هذه الموجودات، مبثوث في جميع الأجسام والأجساد، ولا يزال الإنسان محصورًا في أوهاق الجسد أو في أوهاق المادة على العموم، ما دام معتمدًا على الحواس، أو على العواطف أو على التفكير في إدراك ما حوله، ولكنه يرتقي إلى مرتبة من الوعي أعلى من مراتب التفكير، عندما يدرك الروح خالصًا منزهًا من هذه الأوهاق.
فهو لا يصل بالحس إلى شيء أرفع من المادة أو المحسوسات المادية.
وقد يرتقي بالتفكير إلى شيء أرفع مما يدركه الحس، ولكنه لا يتجاوز به حدود المحسوسات.
وهناك مرتبة من التفكير أعلى من مرتبة «التعقل المنطقي» وهي مرتبة «التأمل» والانقطاع بالوجدان عن كل ما يحيط بالإنسان.
ومتى ترقَّى القديس إلى مرتبة الخلاص فهنالك يلتقي بالروح الإلهي خالصًا مجردًا من علاقات كل مادة وكل محسوس، ويلمح الحقيقة المجردة التي تضل عنها الحواس والعقول، وينتقل إلى سماء من السعادة المطلقة لا توصف، ولا تقبل الوصف بالكلمات ولا بالأفكار؛ لأن الكلام مقيد بالفكر، والفكر لا ينطلق من جميع القيود، ويطيب للقديس أن يستعيد هذه اللحظات كلما استطاع، وهو لا يستطيعها في كل حين.
وقد كان غاندي يصلي ليستعيد هذه السعادة، ولا ينتظر شيئًا غيرها من الصلاة، ولم يعنه قط أن يصنع الخوارق أو يسيطر على قوانين الطبيعة؛ لأن الخوارق لا تقصد لذاتها، ولا تراد إلا على سبيل البرهان، ولا حاجة بالمتثبت إلى برهان.
وكان يود لو ينقطع للصلاة مدى حياته، ولكنه كان يعلم أن لقاء الروح الإلهي مدى الحياة أمر يفوق الطاقة الإنسانية، فكان يتزود منها بغاية ما يطيق، ويؤثر هذا الزاد على كل زاد فيه غذاء للجسد، أو غذاء للعقل، أو غذاء للروح.
قال في محاضرة له عن الصلاة: «إن من يختبر سحر الصلاة قد يستغني عن الطعام أيامًا، ولا يستغني عن الصلاة لحظة واحدة، إذ لا سلام في داخل الضمير بغير صلاة.»
وقال لسامعيه من الطلاب في تلك المحاضرة: «إن في صدر الإنسان لصراعًا أبديًّا ثائرًا بين قوى الظلام وقوى النور، ومن لم يكن له مرفأ أمين من الصلاة يلوذ به، فهو خليق أن يقع فريسة لقوى الظلام.»
ثم قال: «إن الصلاة هي صميم قلب الحياة الإنسانية، وهي الجوهر الحيوي في كل ديانة، وقد تكون توسلًا أو اتصالًا من باطن الروح، ولكن الغاية التي تنتهي إليها واحدة، فإنها حين تكون توسلًا ينبغي أن يكون التوسل التماسًا لتطهير الروح وتنظيفها من الأدران، وانتشالها من أطباق الجهل والظلام التي تطبق عليها، فكل من تطلع إلى إيقاظ الجانب الإلهي في نفسه فلا مناص له من اللياذ بالصلاة. إلا أن الصلاة ليست تمرينًا في الكلمات أو التراتيل، وليست مجرد تكرار للصيغ والعبارات، فما من تكرار لتراتيل «الرماناما» إلا وهو عقيم إن لم تصحبه يقظة في الروح، وخير في الصلاة قلب بغير كلمات من كلمات بغير قلب …»
وهذه هي الصلاة كما يصفها للمتعلمين، وقد كان يخاطبهم حين يكلمهم عنها باللغة التي يخاطبونه بها، وهي لغة العلوم التجريبية، فكان يقول لهم: «إن نفع الصلاة قد ثبت للمصلين بالتجربة من قديم الزمن، فلا يجوز لهم إنكارها إلا بعد تجربتها، ولن يجربوها حتى يجدوا في التجربة ولا يتخذوها عبثًا أو سخرية.» وكتب له أحد الطلبة يقول: «إنه لا يصلي لأنه لا يعلم ما جدوى الصلاة.» فقال له: «ألا يتعلم التلاميذ برامجهم إلا بعد أن يعرفوا تلك البرامج ويعلموا جدواها؟» وقال في هذا الصدد: «إن العقل شيء عظيم، ولكنه يصبح غولًا كريهًا إذا ادعى لنفسه أنه قادر على كل شيء محيط بكل شيء، وأن نسبة هذه القدرة إليه لَهي نمط رديء من الوثنية. فالعقل عند هؤلاء العقليين وثن يعبدونه كما يعبد الوثني حجرًا أو نصبًا، ويعتقد فيه أنه إلَه.»
وغاندي يذكر التجربة للذين يناقشونه في الصلاة بأساليب العلوم التجريبية، ولكن الصلاة في حياته ليست تجربة ولا استطلاعًا ولا وسيلة إلى غاية، إنما هي غاية الغايات؛ لأنها هي التقاؤه بالروح الإلهي في أفق أعلى من أفق الحس والتفكير والمراجعة، وليس للإنسان غاية أسمى من هذا اللقاء.
فإذا شعر بأنه قد صلَّى وأن صلاته قد استولت عليه، ونقلته من شواغل ذاته إلى أفق الروح الإلهية، خرج من صلاته ماضيًا فيما آمن به واتجه إليه، ولم يبال ما يعرض له من النقائض والمجادلات عند التطبيق أو المناقشة؛ لأن المناقشات والمجادلات والنقائض من أحابيل الفكر التي يصطاد بها صغائر الأمور، ولكنه لا يبلغ بها أن يحدق بعظائم الأمور.
وإيمان غاندي بالصلاة على هذا المعنى مفتاح من مفاتيح هذا العقل الذي كان يتناقض في وصاياه وأعماله، ولم يكن من الجهل بحيث يخفى عليه هذا التناقض في لغة الفكر والتعبير، ولكنه كان يحتكم بالنقائض والمناقشات إلى مرجع عنده فوق مرجع الفكر ومرجع البرهان، وهو النفاذ إلى مصدر الفكر ومصدر البرهان من الروح الإلهي المحيط بكل هذا الوجود، وبكل ما فيه من الأجزاء والفوارق والمفارقات.
لقد تقدم أن رسول «الاهمسا» قد بلغ من ثقته بسلاحه أنه وصفه لهتلر قبيل الحرب العالمية الثانية، وقد حاول أن يقنعه بمضاء هذا السلاح في كل مشكلة، وأنه لأمضى من كل ما أعد من عدة، وكل ما جند من جنود.
ولكن رسول «الاهمسا» قد عاش حتى شهد التجربة الأولى لأمضى سلاح من أسلحة الحروب عرفه المقاتلون: سلاح أمضى من كل ما أعده هتلر وأعده محاربوه في فاتحة الحرب العالمية الثانية: وهو سلاح القذيفة الذرية.
وظنت الصحيفة الأمريكية «مارجريت بورك هوايت» أنها تفحمه بسؤاله عما أعده لمقاومة القذيفة الذرية، فلم يصف لها عدة للمقاومة غير عدته المعهودة التي تفل عنده كل سلاح: وهي اجتناب العنف والصلاة.
قال: «أقاومها بالصلاة العاملة … أخرج إلى العراء، وأدع ربان الطائرة يرى أنني لا أواجهه بوجه عدو، إنه لا يرى وجهي على ذلك العلو الشاهق، ولكن الصلاة القلبية التي لا تكن له ضررًا ولا تنطوي على بغضاء، تبلغه في سمائه فتفتح عينيه. إن الذين أماتتهم القذيفة الذرية في هيروشيما لو أنهم ماتوا وهم في صلاة عاملة، واستقبلوا الموت والصلاة في قلوبهم دون أن تنفرج شفاههم بأنة ألم أو صيحة خوف، لما انتهت الحرب كما انتهت بتلك النهاية المخزية.»
ونعترف بأنه جواب غير مقنع، ولكننا نعترف أيضًا بأنه ما من جواب يجيب به ناظر إلى خير الإنسانية كلها، هو أدنى من هذا الجواب إلى الإقناع.