ما هي «الاهمسا»؟
ما هي هذه «الاهمسا» التي صيرت غاندي قديسًا، وطوعت له تلك القوة التي صنع بها ما لم يصنعه زعيم من زعماء بلاده؟
إننا إذا فهمنا منها مجرد حب السلامة من طريق المسالمة كانت أسهل مذهب من مذاهب الحياة يدعى إليه ويستجاب.
لأن حب السلامة غريزة في جميع الأحياء.
ولكننا إذا فهمنا «الاهمسا» هذا الفهم كان أخطأ الخطأ في عرفانها على حقيقتها؛ لأنها ليست أسهل مذهب يدعى إليه ويجاب، بل هي في الواقع أصعب المذاهب في الدعوة، وأصعبها في الاستجابة، وأعسرها على التنفيذ والمراعاة.
فهي أصعب من الدعوة إلى القتال؛ لأن الدعوة إلى القتال لم تعدم مجيبًا في وقت من الأوقات. وهي أصعب من الدعوة إلى الشجاعة؛ لأن الشجاعة قد تكون مطاوعة لدواعي الفطرة، أو دواعي الحماسة الاجتماعية، فلا تعدم الدعوة إليها مجيبين في كل حين.
هي أصعب من هذه الدعوات وأمثالها؛ لأنها تتطلب مغالبة للنفس لا تتطلبها دعوة أخرى، وقد تتطلب هذه المغالبة بغير فخر لصاحبها وبغير صدى من الإعجاب في نفوس أبناء قومه، ولعلها على نقيض ذلك تعرضه للخزي والازدراء.
وقد تنحصر الشجاعة في ضبط النفس واستجماع قوتها في وجه الخطر، ولكن «الاهمسا» تكلف العامل بها أن يضبط نفسه، ويستجمع قوته في وجه الخطر، وفي وجه الإغراء وفي وجه السمعة السيئة فلا يهمه أن يوصف بالجبن إذا كان هو على يقين أنه ليس بجبان وأنه لا يخاف.
وإذا قلت: «لا خوف» فقد حصرت الشجاعة من جميع أطرافها، سواء أردت الشجاعة في المسائل الجسدية أو أردت الشجاعة في المسائل الأدبية.
ولكنك لا تحصر «الاهمسا» بهاتين الكلمتين؛ لأنها تنفي الخوف وتنفي معه الكراهية، فلا خوف ولا كراهية، بل شجاعة ومحبة، وهاتان الخصلتان هما «الاهمسا» في اللباب.
وقد قال غاندي غير مرة: إنه يفضل العنف على الجبن والفرار من الخطر، قال ذلك في إبان الفتنة الهندية سنة ١٩٢٠. وقال يومئذ: إنه يفضل العنف ألف مرة على مسخ النوع برذيلة الجبن والفرار، ومن كان لا يبالي أن يقتل ويقتل فهو خير ممن يفر من النزال؛ لأنه يخاف القتل في مشتجر القتال. وقد كان يعلم الآثمين أنفسهم أن الفرار من الرذيلة أحجى بهم من الفرار من الموت: جاءه متهم مرة في جريمة سرقة واعترف له بالجريمة، فقال: عجبًا! إنك كنت تعلم أنك تسرق وكنت تعلم العقاب على السرقة فلماذا فعلتها؟ قال الرجل مقتنعًا: لأنني لا بد أن أعيش … فأعاد غاندي كلمته مقتنعًا أيضًا: لا بد أن تعيش! لماذا؟ يريد أن يقول: إن العيش مع الرذيلة خير منه الموت.
ﻓ «الاهمسا» هي ترك العنف شعورًا بالقوة والقدرة النفسية، وليست هي ترك العنف شعورًا بالضعف وعجزًا عن المقاومة.
وقد كانت دعوة «الاهمسا» أصعب الدعوات في الهند خاصة، حين تصدى غاندي للتبشير بها وإحيائها في الآداب الهندية؛ لأن دعوته قد صادفت الثورة الوطنية في إبانها، وصادفت كفرانًا من أبناء الهند بعقيدتهم القديمة في السماحة والمسالمة، إذ كانت فيهم من يعلل سطوة الإنجليز وخنوع الهنود بأن الإنجليز يأكلون اللحوم، وأن الهنود يحرمون أكلها ويعيشون على غذاء النبات، وشاعت بينهم أغنية بهذا المعنى يرددونها في المدارس والمحافل، فكانت دعوة غاندي يومئذ تقاوم تيار الشعور في الهند نفسها، وإن كانت من أعرق الدعوات في البلاد.
ولم يكن غاندي نفسه يجهل ما في غذاء اللحوم من الفائدة الجسدية. فقد كان يرى من علاج الجرحى أن آكلي اللحوم يقاومون النزف، وتندمل جراحهم قبل اندمال الجراح في آكلي النبات، وكان يرى أن القوة البدنية أعم وأظهر في آكلي اللحوم، ولكنه كان يقول: إن القوة الإنسانية لا تأتي من قوة العضلات بل من قوة الإرادة، وإن غلبة الروح على البنية أليق بالإنسانية من غلبة البنية على الروح.
وكل دين عرضة لأسئلة التعجيز أو التنطع من طلاب الفتاوى المتمحلين، فلم يعدم غاندي عشرات الأسئلة من هذا القبيل، إما تعجيزًا له أو رغبة في استيفاء العمل بنصيحته، فمنهم من كان يسأله: هل يجوز لي أن أقتل الثعبان، أو يجب عليَّ أن أتركه يمضي لسبيله؟ ومنهم من كان يسأله: هل تنفق الهند على جيش مسلح أو لا تنفق عليه؟
فكان يجيب على كل سؤال من هذه الأسئلة بما يناسبه ويحصره في حدوده. كان يقول لسائله عن الثعابين: إنك لا تقتل ثعابين الغضب والجشع التي في صدرك، ثم تبحث عن الثعابين التي قد تصادفها في طريقك. إن هذه الثعابين ليست بمشكلة خلقية، وإنما المشكلة الخلقية أن تقتلع جذور الكراهية والاندفاع مع الشهوة والهوى من صميم نفسك، وأنت في حل بعد ذلك من كل صنيع تدفع به الأذى في غير عداوة ولا انتقام.
وكان يقول لسائليه عن الجيش: إن مسألة الجيش مسألة سياسية يحلها السياسيون، ولكن «الاهمسا» مسألة خلقية يحلها كل إنسان لنفسه ليضبط عنانه في يمينه، وهو المرجع في كل فتوى تعرض له متى اطمأن من وسواس الجبن والكراهية والكبرياء.
هذه هي خلاصة «الاهمسا» كما كان غاندي يبشر بها أبناء أمته، وأبناء كل أمة تصل إليهم دعوته.
وهي ولا شك دعوة لا تقبل كلها ولا ترفض كلها، ولكنها خليقة ألا تبخس حقها بسوء التصور أو سوء التطبيق.
وقد تتوقف كلها على فهم المراد بالعدوان أو سبب العدوان، فربما كان العدوان الأكبر في ترك المعتدي يفعل ما يشاء، وهو في أمان من سوء عقباه.
وقد صدق غاندي حين قال: إن العقل الذي كشف عن «الاهمسا» عبقرية أعظم من نيوتن وأشجع من ولنجتون، ولكنه قد يكون كذلك، ولا يلزم ضرورة أن تكون هذه العبقرية في عصمة من الخطأ والإسراف.