ثقافة غاندي
كتب غاندي في صحيفته مرة عن الطالب والمطالعة، فقال عن الأدب المكشوف: «لقد كان رينولد — أحد الكتاب المشهورين بوصف المناظر المكشوفة — صاحب حظ بين الطلاب في أيام تلمذتي، فلم أنج من قراءته إلا لأنني كنت أبعد شيء عن أن أوصف بالطالب الألمعي، ولم أعن قط بالخروج من نطاق الكتب المدرسية، ولكنني ذهبت إلى إنجلترا فوجدت مع هذا أن أمثال هذه القصص منفية من كل بيئة متحشمة، وأنني لم أخسر شيئًا إذ لم أطلع على واحدة منها …»
ونحن نفهم هذه الكلمة فهمًا صحيحًا إذا فهمنا منها أن «المهاتما» لم يكن متبحرًا في المطالعة، ولم يكن قط من أولئك الذين يوصفون بين الغربيين بأنهم ديدان كتب أو أحلاس مكتبات.
ولكننا نخطئ فهمها إذا خطر لنا أن نصيب الرجل من الثقافة كان نصيبًا نزرًا بين أمثاله، أو أنه عاش في عزلة عن ثقافة الأمم الأخرى، وبخاصة ثقافة عصره، ونعني بها ثقافة القرن التاسع عشر على التخصيص.
فالواقع أن غاندي لم يكن منزور الحظ من الاطلاع، ولم يكن مقصورًا في قراءته — أثناء التلمذة في أوروبة — على الدروس التي كان متخصصًا لها بحكم هذه التلمذة، وهي دروس التشريع والعلوم السياسية.
فقد اطلع على أفلاطون وترجم منه «دفاع سقراط» إلى اللهجة الجوجراتية، وهي لهجته الوطنية.
واطلع على كارل ماركس، وجون ستيوارت ميل.
وأعجب بتولستوى الروسي، وماتسيني الإيطالي.
وكان يقرأ «ماكولي» ويستطيب أسلوبه وبراعته في تعبيره.
وكان يستحسن «ثورو» الأمريكي، ويعجب بمعيشته وآرائه.
ودرس اللاتينية فاستطاع أن يتذوق فيها عيون الأدب القديم في بلاغته الأصيلة.
وقليل من المصلحين الشرقيين في زمانه من أخذ بنصيب من الثقافة العامة أوفى من هذا النصيب.
•••
غير أننا نخطئ مرة أخرى إذا فهمنا من هذا أنه تتلمذ لواحد من هؤلاء وتوجه معه إلى وجهته الفكرية أو الروحية، وإنما كان يتجه إلى الكاتب أول الفيلسوف حين يجده في اتجاهه الذي نشأ عليه بين أبيه وأمه؛ فيختاره لأنه نهج من قبله في طريقه المرسوم.
وخير ما يقال في علة اغتباطه بهؤلاء الكتاب والمفكرين أنه شبيه باغتباط الإنسان حين يحل في بلد غريب، فيعثر فيه على أناس يتكلمون بلسانه، ويعرفون بلده، ويذكِّرونه بوطنه الأصيل.
فلم يعجب بأحد من كتاب أوروبة في زمانه كما أعجب بتولستوي … قرأ قصصه الكبيرة والصغيرة، وكتب إليه، واعتز بجوابه، وأطلق اسمه على مزرعته التي أنشأها في أفريقية الجنوبية للرياضة الجسدية والروحية، وكان يستشهد به في عظاته ومقالاته. فلم يجد مثلًا يذكره عند الكلام على تحريم التدخين غير مَثل السكران الذي قال تولستوي في بعض أقاصيصه: إنه تردد عن الجرم وهو سكران، ثم أقدم عليه بعد تدخين سيجارته، وهو مستريح إليه.
ولكنه أحب تولستوي لتبشيره بالمقاومة السلبية، واجتناب العنف والثورة الدموية، ولم تكن هذه المقاومة إلا شعبة واحدة من شعب العقيدة التي شب عليها غاندي، وهي عقيدة «الاهمسا» التي تقدمت الإشارة إليها.
ولم يستحق «رسكن» إعجابه بما كتبه عن نقد الفنون، وشرح مذاهب التصوير، ولكنه استحق منه هذا الإعجاب بنزعته «النباتية» وإنحائه على الصناعات الكبرى؛ لأنها تمسخ الإنسان وترده إلى عداد الآلات في تفكيره وعمله.
وكانت حقوق الإنسان وحقوق الأمم، هي أهم ما استهواه في ماتسيني زعيم النهضة الإيطالية.
وكان الإنحاء على «رأس المال» شفيع كارل ماركس لديه ولم يوافقه في شيء غير هذا من دعوته إلى الثورة والانقلاب.
وكان يدرس «جون ستيوارت ميل»؛ لأنه كان نبي الحرية بين فلاسفة العصر الحديث، ويقرأ «ماكولي» لأنه عاش في الهند، وتكلم عن تاريخها وعلق بعض التعليق على أدبها القديم.
فالرجل لم «يتكون» بمادة هذا الغذاء الذي أقبل عليه في أوروبة؛ ولكنه أقبل عليه لأنه صاحب «قابلية مكونة» تتغذى بما تشتهيه، وتختار لبنيتها ما يوافقها من الغذاء.
•••
ويبدو لنا أن دروسه التي تخصص فيها لم تعطه من هذا الغذاء غير ما أراد أن يأخذ منها.
فقد تخصص للتشريع والعلوم السياسية، ولكنه أخذ من هذه الدروس ما يوافقه في منحاه ورسالة حياته، ولم يستفد منه شيئًا في أعمال المعيشة أو خطط السياسة.
فقد تعلم ليكون محاميًا في دور القضاء.
ولكنه لم يفلح في المحاماة، وما كان ليستطيع أن يفلح فيها.
لأنه أبى كل الإباء — حين عاد إلى وطنه — أن يستعين بسماسرة القضايا الذين كانوا عمدة المحامين الناشئين في ترويج شهرتهم، ولا يزالون كذلك إلى الآن.
وعز عليه في أول قضية قبل توكيلها أن يرهق المدعى عليه بالأسئلة المحرجة، فكان حرجه هو في المحكمة أشد من حرج المدعى عليه.
وحدث في أفريقية الجنوبية أن صاحب قضية خدعه عن حقيقة دعواه، فأخفى عنه بعض الحقيقة وصور له بعضها على غير صورتها، فلما اتضح له من مناقشة خصمه أمام القضاء أن المدعي مبطل وأن المدعى عليه مظلوم، نهض — في كثير من الخجل — معتذرًا للمحكمة، طالبًا منها رفض القضية؛ لأنه علم من حقيقتها في تلك الساعة ما لم يكن يعلمه حين قبل الوكالة فيها.
ولما سافر إلى أفريقية الجنوبية، كان سفره بدعوة من أبناء إقليمه الذين كانت لهم تجارة واسعة في عدة بلاد منها، وكان عمله أن يساعد كبار المحامين من الإنجليز في بعض قضاياهم الكبرى، فلم يسترح ضميره إلى هذه الخصومة التي ظهر له أنها في غير طائل وفي غير موجب، وأنها قابلة للصلح والتوفيق، وجعل همه الأول أن يسعى في الصلح بين الفريقين، ولو كان في ذلك اقتضاب لطريقه إلى الشهرة والانتفاع.
وأخذ على نفسه عهدًا، لا يطالبن أحدًا بحق له من طريق المحاماة، ولا يستخدمن هذه الصناعة لنفسه، ولا يستخدمنها لغيره إلا دفاعًا عن مظلوم أو حق مهضوم.
وفحوى ذلك أن هذا الرجل الذي لقبوه وصدقوا في تلقيبه: بالروح العظيم، كان صاحب «روح» ناضج التكوين حين قرأ لثقافته، وقرأ لصناعته على السواء، فلم يأخذ من تفكير عصره ولا من دروس صناعته، إلا ما تطلبته «بنيته الروحية» وهي عالمة بما يصلح لها من غذاء، ومن وسيلة قوة ونماء.
•••
وكأنما ختم غاندي مطالعاته الأدبية باختتام عهده في المطالعات المدرسية، فلم يرو عنه أنه توفر على قراءة قصة أو كتاب من كتب الأدب بعد عودته من البلاد الإنجليزية، وصرف اهتمامه كله إلى دراسة كتب الأديان والعقائد على اختلافها، فقرأ القرآن والأناجيل في ترجماتها الإنجليزية، وقرأ كتب الديانة الصينية والديانة المجوسية في تلك اللغة، وقرأ طرفًا من علم المقابلة بين الأديان، وانتهى منها على أن الديانات العظمى جميعًا موحاة من عند الله، وأنه لا خير في تحول المؤمن من دين إلى دين، وإنما تصلح البرهمي أو المسيحي أو المسلم بأن تجعله برهميًّا أحسن أو مسيحيًّا أحسن، أو مسلمًا أحسن وذلك ميسور له مع البقاء على دينه، ما دام في دينه ما يوصيه بالحق والخير والصلاح والمودة لجميع الناس.
وقد لوحظ على غاندي أنه أغفل جانب الفن في عمله وفي وصاياه، فلم يشغل باله بالصور والتماثيل والشعر والموسيقى وغيرها من الفنون الجميلة، واتفق مريدوه وناقدوه على هذه الملاحظة، وسأله غير واحد من المريدين عنها فأجابهم بما أقنع بعضهم ولم يقنع الآخرين.
قال الطالب: أليس في الفن تعبير عن قلق النفس وجيشانها بالحس في كلمات وألوان وأشكال؟
قال غاندي: ولكن أصحاب هذه الفنون لا يحفلون كثيرًا بعمل الروح.
وسأله الطالب مثالًا، فمثل له بفن أوسكار وايلد؛ لأن قضيته وكتبه كانت حديث الناس في أيام مقام غاندي بالبلاد الإنجليزية.
قال الطالب: لقد زعموا أنه أعظم فنان بين أدباء زمانه.
قال غاندي: نعم، «إنما كان وايلد يرى الفن الأعلى في الصورة الظاهرة؛ ولهذا نجح في تجميل الرذيلة، وكل فن حق فمن الواجب أن يعين الروح على تحقيق جوهرها الأصيل، وإنني فيما يخصني أرى أنني أستطيع أن أصرف النظر عن جميع المظاهر في تحقيقي لجوهر روحي، وأستطيع أن أدعي أن في حياتي ما يكفي من الفن، وإن كنت لا ترى حولي ما تسميه آيات فنية.»
قال الطالب: إنهم يجدون الحق في الجمال.
قال غاندي: بل أحرى أن نجد الجمال في الحق.
فسأله الطالب: ألا يمكن الفصل بين الاثنين؟
فأجابه غاندي سائلًا: أترى كل امرأة وضاحة الملامح جميلة، ولو كانت تنطوي على نفس خبيثة؟
فقال الطالب: إن الفنان في هذه الحالة يودع بين طيات ملامحها ما ينم على خبث نفسها.
قال غاندي: إذن نرجع إلى الباطن في تحقيق معنى الجمال، أو نرجع إلى أن الملامح الظاهر ليست هي الجمال.
وعاد الطالب يسأله: كيف نفهم إذن أن كثيرًا من الآيات الفنية الجميلة قد خلقها أناس لم يكونوا على خلق جميل.
فقال غاندي: كل ما يفهم من هذا أن الحق ونقيضه قد يتجاوران، وأنهما لا ينفصلان في جميع الأحوال.
وختم هذا الحوار قائلًا: لا يكون شيء من الأشياء جميلًا إلا بمقدار دلالته على خالقه، وإلا فكيف بغير ذلك يوصف بالجمال.
وبدا على الطالب أن المهاتما أقنعه برأيه، فتمنى لو أنه يكتب في نقد الفنون على هذا الأسلوب، فاعتذر «المهاتما» لأنه لا يحسب نفسه من ذوي الاختصاص في نقد أعمال الفنانين …
ومهما يكن من حكم النقد الفني على هذه النظرة، فإن هذا النقد لا ينفي — ولا يستطيع أن ينفي — أن المرء قد ينظر هذه النظرة إلى الفنون ولا يحرم حظ المتعة بجانب من جوانب الجمال، وقد كان غاندي على التحقيق يستمتع من الجمال بكل طيب بسيط، فكان يطرب للأناشيد الروحية، ويبتهج برقص الأطفال، ويهش لرؤية الأزهار والمروج، وكان أسلوبه الكتابي نفسه أسلوبًا رائقًا صافيًا لا يخلو من نغم وجمال وإن خلا من كل تنميق، وقد اعتبر الموسيقى عاملًا من عوامل التربية القومية ولا سيما رياضة الجماهير … لأن الجماهير تحتاج إلى النظام والأنغام نسق ينهي عن الفوضى. وأسف لأن الموسيقى في الهند نعمة مقصورة على الخاصة، وقال غير مرة: إنه يود لو استطاع أن يفرض تعليمها فرضًا وأن يشترط في جميع المؤتمرات الكبرى أن يحضرها كبار الموسيقيين.
ولا خفاء بعد هذا كله في مكان الفنون عند غاندي بالنسبة إلى الصناعات، فإن نصيب الصناعات من عنايته كان أوفر جدًّا من نصيب الفنون.
ولكننا خلقاء أن نفرق هنا بين نوعين من الصناعات على حسب الآلات التي تستخدم فيها.
فالصناعات التي يسخر فيها الإنسان للآلة شر على ملكات الروح.
والصناعات التي تسخر فيها الآلة للإنسان خير لملكات الروح.
تلك تجعل الإنسان عبدًا للآلة، وهذه تجعله سيدًا للآلة وسيدًا لنفسه، وهذه هي تربية الروح وتربية الجسم وسبيل الاستغناء.
وكل شر في العصر الحديث — على رأي غاندي — فهو راجع إلى تلك الآلات التي حولت الإنسان إلى آلة معلقة بها، وزادت حاجاته فزادت أعماله، وزادت — تبعًا لذلك — هذه العبودية للصناعة والمصنوعات.
وكل خلاص من هذا الشر فإنما سبيله وضع الآلة في موضعها، وهي أن تصبح في يد الإنسان، فلا يعمل يومئذ أكثر مما يحتاج إليه.
لهذا قرر في برنامج تعليمه أن تكون الصناعة اليدوية درسًا إلزاميًّا لكل تلميذ في كل مرحلة من مراحل الدراسة، وأخذت حكومة الهند الوطنية برأيه في برامجها الحديثة.
وهذه البرامج — في رأي غاندي — هي في وقت واحد تربية روحية وحل لمشكلة من أعصى مشكلات الاجتماع في الحضارة العصرية.
وليس هذا الرأي بخلو من الصواب.
إلا أن الثقافة التي زاولها غاندي لا تقاس في جوهرها بمقياس الصواب والخطأ، ولا بمقياس العلم والجهل في عرف زمانه، ولكنها تقاس على حقيقتها بمقياس المبدأ الذي يغلبه على جميع المبادئ، والأصل الذي يقدمه على جميع الأصول عند نظره إلى صلاح الإنسان الذي يقاس بمقياس الدوام فوق عوارض الزمن وعوارض الدول والجماعات.
فقد كان هذا الرجل يعلم كل شيء يحتاج إليه في رسالته، ولم يكن يجهل شيئًا يدخل في حسابه.
فإذا قاوم المخترعات الحديثة، أو قاوم العلم الحديث، أو قاوم الطب الذي تشفى به الأجسام، فهو لا يفعل ذلك كما يفعله أصحاب الخرافة والجمود، إذ إنه يعلم ما يجهله الخرافيون الجامدون، ولا يصدر في رأيه عن جهل بما فاتهم أن يعلموه.
ولكنه يقاوم ما يقاومه وهو عارف بقيمته كما يعرفها معارضوه، إنما يعرف هذه القيمة ويعرف ما هو أعلى وأدوم منها في اعتقاده، وهي سلامة الروح، فما سلمت به الروح فهو معرفة كافية.
وما عطبت به الروح فهو جهل منكر، أو علم عارض لا ينكر نفعه ولا ينكر ضرره، وهو أكبر وأبقى، وإن سلمت به الأجسام.