شخصية وهمية
كانت «إلهام» تقف في الشُّرفة الواسعة في المقر السري للشياطين، ترقب حركة العصافير وهي تتنقَّل من غصن إلى غصن في الحديقة الواسعة، الخضراء تمامًا في هذا الوقت الربيعي … كان هناك عصفوران يتنازعان على عُود من القش، ابتسمت «إلهام» وهي تشهد ذلك الصراع وفكَّرت: الصراع في كل مكان، حتى بين تلك المخلوقات الصغيرة!
انقسم عود القش بين العصفورَين، فطار كلٌّ منهما في اتجاه، اقتربت «زبيدة» وهي تسألها: هل تراقبين كعادتك؟
قالت «إلهام»: شيء ممتع أن تُراقبي ما يحدث في هذا العالم الغريب علينا، عالم الطيور. لقد شهدت معركةً بديعةً بين عصفورَين حول عود قش.
واستمرَّت «إلهام» تشرح ﻟ «زبيدة» ما شاهدَته. كانت «زبيدة» تُصغي باهتمام أمام انفعال «إلهام» وحركات وجهها ويدَيها في التعبير، غير أن صفيرًا ما جعل «إلهام» تتوقَّف عن الاسترسال في حديثها. لقد كان الصفير آتيًا من الحديقة، ظلَّت تستمع في تركيز، ثم رفعت يدها تشير إلى مكان ما، نظرت «زبيدة» إلى المكان، فرأت عصفورًا بديع الألوان، حتى إن وجهها تَهلَّل بالفرح، وكأنها طفلة صغيرة، قالت «إلهام»: في مثل هذا الوقت، يمر ذلك الطائر من هنا، يقف في نفس المكان، ويرسل نفس الصفير، وكأنه يُرسل رسالةً إلى أحد ما … أو إلى مكان ما.
وما كادت تنتهي من جملتها حتى علا صفير آخر جعل «زبيدة» تبتسم وهي تقول: هذا الصفير ليس في موسمه، إنه صفير مستمر!
كان الصفير إشارةً إلى اجتماع، أسرعت «إلهام» و«زبيدة» في اتجاه الشياطين الذين كانوا يأخذون طريقهم إلى قاعة الاجتماعات.
وعندما أخذ كلٌّ منهم مكانه، تعلَّقت أعينهم بمكان الخريطة؛ فدائمًا تبدأ مغامرتهم فوقها، يعرفون كل شيءٍ عن طريقها، ثم يبدءون التنفيذ، ولم تمرَّ دقائق حتى أُضيئت الخريطة، وظهرت فوقها التفاصيل، كانت تشير إلى مدينة «باريس»، عاصمة فرنسا.
نظر الشياطين بعضهم إلى بعض؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يذهبون فيها إلى «باريس»، فإنهم يعرفونها جيدًا، حتى إنهم يستمتعون كلما كانت مغامرتهم هناك، أو مروا بها؛ ﻓ «أحمد» يُحب تماثيلها الكثيرة التي تُقام في كل مكان، ويُحب الكاتدرائية القديمة، «كاتدرائية نوتردام»، تلك التي ظهرت روايةٌ مشهورة بها، اسمها «أحدب نوتردام». و«عثمان» يُحب مقاهيها الصغيرة الكثيرة المنتشرة على طول الشوارع، و«إلهام» تَعشق المسلَّة المصرية التي تنتصب في قلب «باريس»، و«فهد» يُعجبه نهر السين، بتلك القوارب الكثيرة الطافية على سطحه، و«خالد» يُعجبه شارع «الشانزليزيه» الأنيق العريض، و«عثمان» يقف كثيرًا أمام «قوس النصر» الذي مرَّ «نابليون» من تحته، كل واحد له في «باريس» شيء يحبه؛ ولذلك شعروا بالسعادة عندما أُضيئت الخريطة وظهرت عاصمة النور.
ورغم أن كلًّا منهم قد شرد يفكِّر في الأيام القادمة التي سوف يقضيها هناك، فإن صوت أقدام رقم «صفر» أعادتهم من شرودهم، وعندما توقَّفت تمامًا قال يرحِّب بهم: أهلًا بكم في اجتماعنا اليوم، فمنذ مدة لم نعقد اجتماعات، ولعلكم في شوق لرحلة جديدة … أو مغامرة جديدة … سرت ابتسامة رقيقة فوق وجوه الشياطين، تحوَّلت إلى انتباهٍ شديد، عندما قال رقم «صفر»: هناك شيء ما في «باريس» لا يعجبني! ثم توقَّف عن الكلام، فتلاقت أعين الشياطين، إنهم لم يفهموا بالضبط ماذا قصد رقم «صفر»؛ ولذلك فقد ضحك ضحكةً هادئةً وهو يقول: لقد فهمتم خطأً، إنني أعرف أنكم تحبُّون «باريس» وأنا أيضًا أُحبها، ولي فيها ذكريات كثيرة. إن الذي أقصده هو عميلنا «جان فال»، لقد اختفى «جان» إلى الأبد، والتقرير الذي أرسله إلينا «كوزان» يقول إن خلف اختفائه ذلك المجرم المدعو «لوكاتس»؛ فهو الذي دَبَّر له جريمةً قضت عليه.
صمت رقم «صفر»، وظل الشياطين في انتظار أن يعود للكلام؛ فهذه المعلومات يعلمونها، وقد أسفوا جدًّا عندما علموا؛ لأنه كانت تربطهم ﺑ «جان فال» علاقة طيبة؛ فهو الذي كان يتولَّى أمرهم عندما يصلون إلى هناك.
مرةً أخرى عاد رقم «صفر» إلى الكلام: لقد أرسل «كوزان» يقول إنه يتعقَّب «لوكاتس»، وإنه لا بد أن يثأر منه. وأنتم تعرفون أن اختفاء عميل مثل «جان فال» يُعتبر بالنسبة لنا خسارةً فادحة، بجوار أنه إنسان عزيز علينا. لقد كانت ﻟ «جان» أعمال جيدة كثيرة.
صمت رقم «صفر» مرةً أخرى، كان الشياطين يشعرون بالقلق؛ فحتى هذه اللحظة لم يُقدِّم لهم أي معلومة جديدة، لكنهم يعرفون رقم «صفر» جيدًا، إنه لا يقول ما يُريد في البداية، إنه دائمًا يقوم بتقديم صورة كاملة، ثم يقول المطلوب في النهاية، ولذلك؛ فقد كانوا يجلسون قلقين، كانوا يُريدون أن يصلوا إلى النهاية بسرعة؛ حتى ينطلقوا في مغامرتهم الجديدة، قال رقم «صفر» بعد قليل: إن آخر تقرير وصلنا من «كوزان» … جاء أمس، وفيه يقول إنه ثأر أخيرًا من «لوكاتس»، وإنه اختفى إلى الأبد هو الآخر، ثم أرسل لنا صورةً للمجرم «لوكاتس» مع مجموعة من أوصافه، يقول إنه طويل القامة، أسمر قليلًا، يميل إلى النحافة، يُجيد إطلاق الرصاص إجادةً تامة، ويختم تقريره بقوله إن رجال الشرطة السريين قد أعلنوا عن ارتياحهم للخلاص من «لوكاتس»، وحتى الصحافة الفرنسية لم تُعِر الحدث أي اهتمام.
توقَّف رقم «صفر» عن الكلام. كان الشياطين يتابعون المعلومات الجديدة باهتمام وتركيز؛ فهذه ستكون طريقهم إلى المغامرة، وكأن رقم «صفر» كان يعطيهم الفرصة ليفكِّروا، أو ليُثبِّتوا المعلومات في أذهانهم، فبعد أن صمت فترة قال: سوف أترككم قليلًا. أخذ صوت خطواته يبتعد حتى تلاشى تمامًا، واستغرق الشياطين في تفكيرهم، لكن فجأةً لفت أنظارهم اختفاء الخريطة، ثم ظهرت صورة لشارع نصف مزدحم، كان بعض الرجال يمشون، وسيدات وأطفال، وكلاب، وسيارات أيضًا. تركَّزت الصورة أكثر على وجه رجلٍ بين الزحام، حتى أصبح الوجه فقط هو الموجود على الشاشة، لم تكُن الصورة واضحة التفاصيل بشكل جيد. خرجت دائرة زرقاء ودارت حول الوجه، ثم جاء صوت رقم «صفر»: هذه هي صورة «لوكاتس»، كما يقول «كوزان»، وهي كما ترون غير واضحة تمامًا!
صمت رقم «صفر»، واستغرق الشياطين في مراقبة الصورة، وهم يحاولون أن يجمعوا أي تفاصيل فيها؛ حتى تتركَّز في أذهانهم، غير أنهم كانوا يشعرون بالحيرة؛ فحتى الآن لم يقُل رقم «صفر» ما هو المطلوب. ودارت الأسئلة في أذهانهم بحثًا عن هذا المطلوب الذي لم يقُله رقم «صفر»، وطالت الفترة التي تركهم فيها، وبدءوا ينظرون إلى بعضهم، قالت «ريما»: هل يعني ذلك أن «جان فال» لم يختفِ إلى الأبد؟!
وعلَّقت «زبيدة»: لقد قال رقم «صفر» إنه اختفى فعلًا!
قال «خالد»: قد يكون «لوكاتس» شخصيةً غير حقيقية!
نظروا له جميعًا، فعلَّق «أحمد»: تعني أنها شخصية مختلَقة، ومن الذي اختلقها؟!
قال «خالد»: ربما يكون «كوزان»!
أسرع «عثمان» يسأل: ولماذا يختلق «كوزان» شخصيةً وهمية، ويرسل تقريره إلى رقم «صفر» وهو يعلم أن ذلك لن ينطلي عليه، بجوار أنه لماذا يختلقها أصلًا؟!
صمتوا جميعًا وهم مستغرقون في تلك الأسئلة التي دارت بينهم، ولم يُضِف أحدهم كلمةً أخرى؛ فقد سمعوا صوت أقدام رقم «صفر»، فتركَّزت أبصارهم ناحيته، قال بعد أن توقَّف عن المسير: إنها ملاحظات ذكية تلك التي أثرتموها الآن، وإذا كنتم لم تصلوا إلى قرار مؤكَّد؛ إلا أنني مثلكم لم أصِل إلى هذا القرار، غير أنني أشك كثيرًا في «كوزان»، خصوصًا وأن له سابقة اتصال بعصابة «سادة العالم»، وإن كان قد برَّر اتصاله في تلك المرة، غير أنني ظَلِلت أضعه تحت المراقبة الدقيقة لفترة طويلة، فلم يَثبت ضده شيء، كان المسئول عن المراقبة هو «جان فال»، وعندما يختفي «جان فال»، ولا أحد يعرف أنه عميلنا إلا «كوزان»؛ فلا بد أنه مشترك في جريمة اختفائه، إن لم يكن هو شخصيًّا الذي تَخلَّص منه، ثم اختلق شخصية «لوكاتس» كمجرم خطير وادَّعى أنه هو الذي تَخلَّص من «جان فال»؛ وحتى تنتهي المسألة تمامًا ادَّعى أنه أخذ بثأر «جان فال»، وتخلَّص من «لوكاتس»، فلو أن «لوكاتس» كان موجودًا؛ فإننا سوف نعثر عليه بطريقة أو بأخرى؛ حتى نصل إلى الحقيقة، لكن … إذا كان قد اختفى إلى الأبد فكيف نستطيع الوصول إلى حقيقة ما؟!
صمت رقم «صفر»، وبدأ الشياطين يرَون كل شيء بوضوح، إن العملية هي إثبات ما خلف «كوزان».
لم يصمت رقم «صفر» طويلًا فقد قال: أعتقد أنكم فهمتم المسألة، ولن أؤخِّركم، فقط من لديه سؤال فلْيطرحه.
امتلأت القاعة بالصمت، فقال: إذن، أتمنَّى لكم التوفيق.
وعندما اختفت أقدام رقم «صفر» كان الشياطين يستعدون لمغامرتهم الجديدة، مغامرة ضد العميل الخائن.