مفاجآت متوالية
كان موعد اللقاء في مطعم «النيل». مطعم صغير، يعرفه الشياطين جيدًا؛ ففيه رئيس الطباخين المصري الذي تعرَّف عليه الشياطين في مرات سابقة، وكلما جاءوا إلى «باريس» فلا بد أن يأكلوا فيه أكثر من مرة؛ فهو المطعم الوحيد الذي يقدِّم الوجبات التي يحبُّونها. كان رئيس الطباخين «مسعد» يمر بين الموائد، عندما لمحهم، فأسرع إليهم مُرحِّبًا وهو يتحدَّث بالعربية، ثم حيَّا ضيفهم الفرنسي بالفرنسية، وقال «أحمد» مبتسمًا: نريد طعامًا مصريًّا … أيها العزيز «مسعد»!
ودارت الأحاديث، كان «جاكومو» يبدو هادئ الملامح، رقيقًا، وحدَّثهم عن وحدته في «باريس» فهو ليس باريسيًّا في الأصل، إنه من جزيرة «كورسيكا»، حيث وُلِد «نابليون». كان يعمل بحَّارًا، لكنه تَعِب من كثرة الرحيل، فقرَّر أن يستقر في العاصمة. ولأنه يُجيد لغات كثيرةً نتيجة عمله كبحَّار، فقد اختار مهنة «السمسرة»؛ لأنها تُدر ربحًا طيبًا، ثم هي لا تحتاج إلى رأس مال. إن رأس مالها الوحيد هو ذكاء صاحبها. وتحدَّث «جاكومو» عن الصفقات التي عقدها، والناس الذين يعمل معهم، وينال منهم أجورًا طيبة. وعندما كان «مسعد» يضع «طاجن اللحم»، كان الشياطين قد سمعوا ما لم يخطر لهم ببال …
تشمَّم «جاكومو» «طاجن اللحم»، ثم علت وجهه ابتسامة عريضة وهو يقول: إنه طعام شرقي!
استعاد الشياطين هدوءهم سريعًا، وبدأ «قيس» يتحدَّث إليه عن «طاجن اللحم»، وعندما انهمك في الطعام الساخن جدًّا … كانت أعين الشياطين تلتقي بأحاديث لا يعرفها سواهم. إن ما سمعوه وما لم يخطر لهم ببالٍ … هو اسم «كوزان»!
أخذوا يأكلون على مهل، وهم يتحدَّثون إلى «جاكومو» أحاديث مختلفة. فجأةً سأله «أحمد»: هل تعرف أحدًا باسم «لوكاتس»؟
توقَّف «جاكومو» عن مضغ قطعة اللحم التي كانت في فمه، وظلَّ ينظر إلى «أحمد» بعض الوقت، ثم بدأ يمضغ من جديد، حتى إذا ابتلع اللقمة قال: كنت أعرف واحدًا بهذا الاسم. كان يعمل في تجارة الكتب القديمة، ولا أدري أين هو الآن. وانهمك في الطعام لحظة، ثم رفع رأسه وقال: لماذا تسأل عن «لوكاتس»؟
ابتسم «أحمد» وهو يقول: لقد كنت أسأل عنه للسبب نفسه. إنني أُجري بحثًا تاريخيًّا يحتاج إلى بعض المراجع التي تَعِبتُ في البحث عنها. وقد ذكر لي أحدهم اسم «لوكاتس» كتاجر كتب قديمة.
هزَّ «جاكومو» رأسه وهو يقول: لا بأس، نستطيع أن نجده … إنني أعرف مقهًى كنا نلتقي فيه كثيرًا، لعلني أعرف عنه شيئًا من هناك. وتوقَّف عن الكلام، ورجع إلى الطعام. كان الشياطين يرقبونه في هدوء. وعندما انتهى الطعام شكروا «مسعد»، ثم انصرفوا. وقال «جاكومو»: هل ترَون السيارة الآن؟ فأسرع «أحمد» يقول: سوف أصحبك، أمَّا الزملاء فلديهم مهمَّة أخرى.
صحب «أحمد» «جاكومو» بعض الخطوات، ثم استقلَّا تاكسيًا، وأخبره «جاكومو» بوجهتهما. كان «جاكومو» يتحدَّث كثيرًا وكأنه كان قد صمت لفترة طويلة. ومضت نصف ساعة و«أحمد» يستمع منه إلى أحاديث شتى، عن الصفقات، والبحر، والمغامرات.
كانت أحاديثه شائقةً فعلًا، غير أن «أحمد» كان يبحث فيها عن طرف الخيط في العلاقة بين «جاكومو» و«كوزان». توقَّف التاكسي في النهاية، ونزل «جاكومو» فتبعه «أحمد»، وسارا بعض الخطوات، ثم دخلا مبنًى ضخمًا فنزلا عدة درجات، ثم توقَّفا أمام باب مصعد. قال «جاكومو»: هذا المبنى كله للسيارات المستعملة، وسوف ترى أشكالًا منها.
وصل المصعد، فدخلا فيه. ضغط «جاكومو» أحد الأزرار، فانطلق المصعد في لمح البصر، ثم توقَّف فجأة، فقال مبتسمًا: هذه الاختراعات تعذِّبني!
خرجا إلى صالة صغيرة، تقدَّم «جاكومو» من باب صغير فدخل فيه، وتبعه «أحمد» الذي وجد نفسه أمام صالة واسعة جدًّا، وقد امتلأت بالسيارات، فقال «جاكومو» الذي لمح دهشة «أحمد»: كثير منها جديد. فقط انتهى الموديل!
وكان على «أحمد» أن يتصرَّف بسرعة، فأخذ يمر بين السيارات، حتى توقَّف أمام سيارة «سِتروين» جديدة، وقال: هذه.
هزَّ «جاكومو» رأسه وقال: اتبعني.
تبعه «أحمد» إلى أحد المكاتب، فدخلا فيه، وتحدَّث «جاكومو» إلى الموظَّف المسئول، فقدَّم له «كتالوجًا» لكل السيارات الموجودة. ظلَّ «جاكومو» يقلب صفحاته حتى توقَّف عند رقم معيَّن، وقال: ألفا فرنك! وهزَّ أحمد رأسه مبتسمًا وقال: لا بأس.
ابتسم «جاكومو»، ثم قال: يُضاف إليها عشرون في المائة! وصمت لحظة، ثم قال: لقد كنتم كرماء معي، سوف أتنازل عن خمسة في المائة.
ابتسم «أحمد» وهو يشكره، فقال الموظَّف: ادفع في الخزينة، واترك العنوان، وسوف تصلك غدًا! وسكت لحظة، ثم قال: يمكن أن تردَّها في أي وقت تشاء، فقط سوف يتغيَّر ثمنها! …
هزَّ «أحمد» رأسه علامة الفهم، ثم تبع «جاكومو» إلى الخزينة، فقدَّم له «جاكومو» استمارةً ليملأها، ففكَّر «أحمد» بسرعة، ثم كتب البيانات التي ينزل بها في مغامراته، وكتب أمام العنوان مطعم «النيل»!
نظر له «جاكومو» بتساؤل وقال: عنوانك الدائم!
قال «أحمد»: نعم؛ فإنني أسافر كثيرًا، وتتغيَّر الفنادق تبعًا لذلك. ودفع المبلغ، ثم انصرفا معًا.
عندما أصبحا في الشارع، قال «جاكومو»: هل أدعوك إلى فنجان قهوة؟ وافق «أحمد» فدخلا أقرب مقهًى إليهما. فجأةً شعر «أحمد» بدفء جهاز الاستقبال في جيبه الداخلي، وعرف أن هناك رسالةً من الشياطين. وضع يده في جيبه وبدأ يتلقَّى ذبذبات الجهاز، ثم علت الدهشة وجهه، لكنه بسرعة عاد كما كان. لقد كانت الرسالة: «خذ حذرك!»
فكَّر «أحمد» بسرعة: هل يمكن أن يكون «جاكومو» أحد أفراد العصابة؟ وظلَّ ينظر إلى «جاكومو» الذي كان مستمرًّا في الحديث. كان يتحدَّث هذه اللحظة عن «كوزان»، قال إنه يعمل في السياحة؛ ولذلك فهو يلتقي بأناس كثيرين، ويحتاج إلى سيارات متعدِّدة، وهذا ما يجعله يعمل معه. وقال إنه رجل طيب؛ لأنه يدفع كثيرًا.
برغم أن «أحمد» كان يستمع إلى «جاكومو»، إلا أن ذهنه كان يفكِّر في تلك الرسالة الغريبة التي تلقَّاها من الشياطين. كان قد شرب القهوة، فقال له: هل ننصرف الآن؟ ينبغي أن ألتقي الزملاء. وقبل أن يفترقا، أعطاه «جاكومو» كارتًا يحمل اسمه وعنوانه وأرقام تليفوناته.
أسرع «أحمد» بالانصراف إلى أوتيل «باريس»، وعندما وصله استقبلته «مدام ماريان» قائلة: لقد انصرف أصدقاؤك وتركوا لك هذه الرسالة.
أخذ منها المظروف المغلق وفتحه بسرعة، كان مكتوبًا بالشفرة السرية التي لا يعرفها إلا الشياطين. كانت الرسالة تقول: «ينبغي أن تكون وحدك في «أوتيل» «باريس» الليلة فقط. لقد غيَّرنا المكان، وسوف نتصل بك. يبدو أن الحارس واحد منهم!»
لم يفكِّر «أحمد» كثيرًا؛ فقد أخذ طريقه إلى حجرته مباشرة. كانت حقيبته في مكانها، وقد رُتبت الحجرة. ألقى نفسه على السرير؛ فقد قرَّر أن ينام قليلًا؛ لأنه لم ينَم أمس كما ينبغي، وحتى يمكن أن يكون عمله الليلة هو كشف الحارس. يستطيع «أحمد» أن ينام عندما يريد أن ينام؛ فهو يعرف كثيرًا من التمرينات النفسية التي تساعد على النوم، ورغم أن ذهنه كان يقظًا جدًّا؛ إلا أنه بدأ يُجْري هذه التمرينات حتى استغرق في النوم.
عندما فتح عينَيه كان صوت ساعته يدق، يتردَّد في الصمت. كانت الحجرة قليلة الضوء، فاكتشف أنه ضوء الشارع فقط. ظلَّ يتتبَّع دقات الساعة، فعرف أنها التاسعة مساءً. ابتسم في ارتياح؛ فقد نام طويلًا، وتمطَّى في سريره، ثم قفز في نشاط ولعب بعض التمرينات السويدية، ثم غسل وجهه، وأبدل ثيابه، ثم وقف في النافذة المفتوحة يرقب الشارع. كانت حركته هادئةً تمامًا، ولم يكن هناك كثير من المارة. فكَّر: هل يمكن أن يكون «كوزان» قد اكتشف وجودهم في «باريس»؟ وكيف استطاع ذلك؟ ظلَّ في مكانه عند النافدة، مستغرقًا في أفكاره … إلا أن دقةً خافتةً على الباب جعلته يلتفت بسرعة، وقال في هدوء: ادخل!
فُتح الباب، وظهر أحد الخدم. كان يبتسم ابتسامةً لم يطمئن إليها «أحمد»، وقال: هل تطلب شيئًا؟ فكَّر «أحمد» بسرعة، ثم قال: نعم أريد شايًا. هزَّ الخادم رأسه، ثم انصرف وأغلق الباب خلفه. فكَّر «أحمد»: هي فرصة ليعطيه وقتًا حتى يرى الحجرة جيدًا، في الوقت الذي يستطيع أن يراقبه. وأحسَّ دفء الجهاز، فبدأ يتلقَّى رسالة عرف أنها من الشياطين. كانت الرسالة تقول: «نحن في فندق «مارسان» بشارع ٢٤. إننا مراقبون، وهناك من يتبعنا. يبدو أننا لا بد أن نصطدم».
انتهت الرسالة، فاستغرق في التفكير فيها: هل يمكن أن تكون الأماكن التي يرتادونها تضم عملاء ﮐ «سادة العالم»، أو أن «كوزان» قد اكتشف وجودهم في «باريس»؟ إذا كان ذلك صحيحًا، فلا بد أن «كوزان» قد عاد إلى سيرته القديمة، واتصل بالعصابة، وبذلك يتأكَّد شك رقم «صفر» في أنه الذي جعل «جان فال» يختفي إلى الأبد.
وفُتح الباب فجأة، ودخل الخادم. كان يحمل صينيةً متوسطة الحجم، فوقها فنجان من الشاي، غير أن شيئًا لفت نظر «أحمد» أنه يمسك الصينية بيدَيه الاثنتَين، وهي ليست ثقيلةً إلى هذا الحد، بجوار أنه يضع إحدى يدَيه تحتها في منتصفها تمامًا. أيقن «أحمد» أنه سوف يتعرَّض لشيء ما، غير أنه لم يترك الفرصة تمر؛ فقبل أن يصل الخادم إلى منتصف الحجرة كان «أحمد» قد طارَ في الهواء وضربه ضربةً مزدوجة، جعلته يطير في الهواء.
لم يكن الخادم مستعدًّا، فطارت كل الأشياء من يده، ورأى «أحمد» مسدَّسًا يقع في نهاية الحجرة، وقبل أن يستطيع الخادم أي حركة، كان «أحمد» قد وصل إلى المسدس في قفزة واحدة. كان كاتم الصوت مُثبتًا في فُوَّهة المسدس، فعرف ماذا كان الخادم يريد، إلا أنه في نفس الوقت كان قد أعطى الخادم فرصة الهرب وأسرع قفزًا إلى الباب، إلا أن أحدًا لم يكن في صالة الطابق، ولا على السُّلم، فوقف لحظةً يراقب المكان، وفَّكر بسرعة، ربما يكون قد دخل إحدى هذه الحجرات، وربما يكون مختفيًا في مكان ما، المهم أن يكون حذرًا، وما دامت المسألة قد انكشفت، فلا بأس أن ينضم إليه أحد الشياطين.
عاد بسرعة إلى الحجرة، ثم أرسل رسالةً لهم، ووقف بجوار النافذة وهو يرقب باب الحجرة، بينما يده قريبة من مسدسه، وسمع طرقًا على الباب، فقال: ادخل! ثم تحرَّك من مكانه بسرعة حتى لا يُعطي فرصةً لأحد كي يخدعه.
وفُتح الباب في هدوء، ثم ظهر الحارس قائلًا: آسف، كنت أظن أن الحجرة خالية. ولم يردَّ «أحمد» …
تجوَّلت عينا الحارس في أرضية الحجرة، ثم رسم ابتسامة دهشة، وقال: هل وقع الشاي؟! ثم قال بعد لحظة وهو ينسحب: سوف أُرسل لك الخادم حالًا! واختفى الحارس، فابتسم «أحمد». ومرَّت بضع دقائق سريعة، ثم دخل خادم يبتسم وهو يردِّد: هل يأذن لي سيدي؟ يبدو أن هناك شيئًا في الحجرة! ونظر حوله، ثم قال: هل حدث شيء؟
قال «أحمد» بعد لحظة: هل أنت المسئول عن هذا الدور؟
قال الخادم: لا يا سيدي، إنه مايكل.
سأل «أحمد»: أين هو إذن؟
ابتسم الخادم وهو يقول: لقد انتابه ألم في معدته، فاستأذن وانصرف. إنني المسئول الآن.
هزَّ «أحمد» رأسه، ثم قال: لا بأس. ارفع ما وقع! انحنى الخادم يجمع الأشياء التي كانت متناثرة. في نفس الوقت سمع «أحمد» صفيرًا، عرف أنه صفير الشياطين، لكنه ظلَّ في مكانه، حتى انسحب الخادم، ثم أسرع إلى النافذة يُطل منها، إلا أن صوتًا جعله ينبطح أرضًا …