«أحمد» يَخدع … «كوزان»
لقد مرقت بجوار أذنه رصاصة جعلته يرتمي على الأرض، ثم صمت كل شيء … زحف في حذر حتى السرير، ثم بدأ يرقب الباب جيدًا … كان الباب مفتوحًا قليلًا. فكَّر بسرعة: هل يكون أحد خلفه؟!
أطلق صفير الشياطين، ولم تمضِ دقيقة حتى كان «قيس» يدخل من الباب مسرعًا، وملأت الدهشة وجه «قيس»؛ فهو لم يرَ «أحمد» في البداية. ظهر رأس «أحمد» من خلف السرير، فسأله «قيس»: ما الحكاية؟!
قال «أحمد» في هدوء: ابتعد عن الباب! ثم أخبره بكل ما حدث بسرعة. كانت الدهشة ترتسم على وجه «قيس»، وقال في النهاية: إذن، هي لحظة الصدام!
قال «أحمد» بعد لحظة: ليس الآن، لا بد أن نؤجِّلها للغد، نحن في حاجة لكشف كل شيء.
كان من الضروري أن يغادرا الفندق الآن؛ فقد وضح أن «أحمد» قد أصبح في خطر، وهكذا تصرَّفا. نزلا إلى حجرة الحارس الذي ابتسم عندما رآهما، وقال «أحمد»: قد أتأخَّر قليلًا، هل آخذ المفتاح؟
قال الحارس وهو يبتسم نفس ابتسامته التي لم يُحبَّها «أحمد»: سوف أظل متيقظًا. إنني أظل هكذا … حتى الصباح.
خرجا إلى الشارع فقال «قيس»: يبدو أن «جاكومو» واحد منهم!
كان «أحمد» يراقب كل الاتجاهات حولهما وهما يسيران فوق الرصيف، فقال بعد فترة: لا أظن! وصمت قليلًا، ثم أكمل: سوف نرى.
ظلَّا سائرَين حتى وجدا كشك تليفون عمومي فهمس «أحمد»: راقب المكان جيدًا حتى أتحدَّث في التليفون؛ فالمؤكَّد أننا مراقبان الآن، وإلى أي وقت آخر!
اختفى داخل كشك التليفون، وأخرج الكارت الذي أعطاه له «جاكومو»، وأدار القرص يطلب تليفون المكتب المثبت في الكارت، فجاءه صوت بعد قليل: من المتحدِّث؟ …
سأل «أحمد» عن «جاكومو»، وجاءه الرد: إنه لم يصِل حتى الآن، بالرغم من أنه كان يجب أن يكون موجودًا!
أنهى «أحمد» المكالمة، ثم ضرب الرقم الآخر وهو بيته، فظلَّ جرس التليفون يتردَّد فترة، ثم جاءه صوت نسائي، وعرف أنه لم يَعُد منذ خرج، فوضع السمَّاعة مباشرة. فكَّر بسرعة: لا بد أن «جاكومو» قد وقع في أيديهم!
خرج إلى حيث كان «قيس» يقف وهو يراقب المكان جيدًا، فقال له «أحمد»: أعتقد أنني مُحق فيما فكرت فيه.
نقل أفكاره إلى «قيس» الذي قال: قد تكون هذه حقيقة، لكنها تحتاج إلى الدليل!
فقال «أحمد»: إن الدليل سوف يصل إلينا غدًا … على المطعم. ثم أخبره بحكاية السيارة كاملة.
كان عليهما أن يتصرَّفا الآن؛ فمن المؤكَّد أن أكثر من عين ترقبهما، وهمس «أحمد»: سوف نفترق الآن، وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا في الشارع، علينا أن نُغيِّر أماكننا، سوف أنزل في فندق «بلانش»، وأنت تعرف مكانه، وسوف أتصل بالشياطين لينتقلوا إليه. نحتاج إلى اجتماع الليلة!
افترق الاثنان، وأخذ كلٌّ منهما اتجاهًا مختلفًا، كان «أحمد» يفكِّر: هل تكون «باريس» في خدمة العصابة؟
وصل إلى سُلم «الأندرجراوند»، أو «مترو الأنفاق»، فنزل بسرعة، وكانت محطة المترو مزدحمة، فقال في نفسه: هذا شيءٌ طيب. واشترى تذكرة، ثم اندسَّ بين الناس. لحظة، ثم وصل المترو فقفز فيه، غير أنه لم يبتعد عن الباب؛ فبعد محطتَين نزل بينما كان يفكِّر: من الضروري أن أُغيِّر طريقي أكثر من مرة؛ حتى لا يستطيع أحدهم اقتفاء أثري.
انتقل إلى الرصيف الآخر، وركب المترو في الاتجاه المضاد ونزل بعد خمس محطات. إن عليه أن يصعد الآن، ثم يأخذ طريقه إلى فندق «بلانش» الذي لا يبعُد كثيرًا. وعندما أصبح في الشارع، كان يبدو هادئًا تمامًا، وأخذ طريقه بالقرب من البيوت، حتى لمح لافتةً مضاءةً مكتوب عليها: «فندق بلانش»، فاتجه إليه بنفس خطواته الهادئة، بعكس فندق «باريس»!
شعر بدفء جهاز الاستقبال، فتوقَّف ووضع يده يستقبل ذبذباته، ويترجمها إلى كلمات، كانت الرسالة تقول: «نحن في فندق «بلانش» … «الحجرة ١٦»».
عندما دخل من باب الفندق الهادئ بألوانه الخضراء شعر بالراحة، وتذكَّر أول مرة نزل فيها في هذا الفندق، وكان معه «عثمان» و«إلهام». سأله الحارس، فذكر له رقم الحجرة، فابتسم الرجل، ثم أشار إلى طرقة طويلة قائلًا: في نهايتها، جهة اليسار. شكره «أحمد» واتجه إلى الحجرة. كانت الطرقة طويلةً رطبة، وفي نهايتها كانت تنحني جهة اليسار، فانحنى معها.
أخذ يقرأ أرقام الحجرات، حتى وقف أمام رقم ١٦.
ودقَّ الباب بِلُغة الشياطين. لحظة، ثم انفتح، كان «خالد» يقف قُرب الباب. عقدوا اجتماعًا سريعًا، وانتهَوا إلى تأجيل كل شيءٍ حتى الغد. وهكذا قبل أن تدق الساعة منتصف الليل، كان الشياطين قد استغرقوا في النوم … إلا «أحمد»، كان لا يزال يقظًا؛ فالآن لم يعُد يأمن لشيء … كانت أُذنه مرهفةً تمامًا لأي حركة أو صوت، لكن الصمت في هذا المكان البعيد كان يفرض نفسه على المكان، ولم يكن ثَمة صوت، وكان الهدوء عاملًا من عوامل الراحة التي جعلت «أحمد» يستغرق في النوم.
وكعادة الشياطين استيقظوا مبكرين ونزلوا إلى مطعم الفندق، فتناولوا إفطارهم، ثم انصرفوا. وحسب اتفاقهم سوف يذهبون إلى فندق «مارسان» لإحضار حقائبهم، ويتجه «أحمد» إلى مطعم «النيل» في انتظار «الستروين».
عندما افترق الشياطين كان «أحمد» يفكِّر في «جاكومو»؛ ولذلك فعندما وجد أول تليفون عمومي، اتجه إليه وألقى الماركات المطلوبة في خزانة التليفون، ثم تحدَّث. كان هو الصوت النسائي الذي سمعه أمس، وكان يبدو عليه الفزع. استمع «أحمد» إليه وهو شارد تمامًا، وعندما انتهت المكالمة، طلب رقم المكتب، ومرةً أخرى قيل له إنه لم يظهر منذ أمس.
وضع «أحمد» السماعة، ثم انصرف. لقد تأكَّد له الآن أن «جاكومو» ضحية من ضحايا «كوزان»، أو عصابة «سادة العالم». كان يفكِّر: إن السيارة «الستروين» سوف تكون هي الدليل الأكيد على إدانة «كوزان».
أخذ طريقه إلى مطعم «النيل»، وكانت الساعة تقترب من العاشرة، فَكَّر لحظة: إن وصوله مُبكِّرًا سوف يكون أكثر أمانًا!
أسرعت خطواته. إنه يعرف عدة ممرات سريعة يمكن أن توصله بسرعة. وعندما وصل إلى المطعم كان عددٌ قليل من الزبائن يأكلون، وما إن رآه «مسعد» حتى اقترب ناحيته بسرعة مبتسمًا، وسأله: أين الأصدقاء.
ابتسم «أحمد» قائلًا: إنهم في الطريق!
قال «مسعد»: هل تحدِّدون شيئًا لغداء اليوم؟
أحمد: لا أظن. تستطيع أن تختار ما تشاء.
وصمت قليلًا، ثم سأل: ألم يسأل عني أحد اليوم؟
نظر له «مسعد» بدهشة وقال: لا أظن!
في نفس الوقت كان أحدهم يظهر على الباب ويذكر اسم «مجدي»، وهو الاسم الذي كتبه «أحمد» في استمارة السيارة، وهو نفس الاسم الذي يعرفه «مسعد»، فابتسم قائلًا: ها هو!
كان «أحمد» يرقب الرجل جيدًا، وتقدَّم في هدوء وهو يقول: أنا!
الرجل: هل تتسلَّم السيارة؟
أحمد: نعم.
الرجل: هل الإيصال معك؟
وضع «أحمد» يده في جيبه، ثم قدَّم له الإيصال. قرأه الرجل، ثم قال: تفضَّل.
خرج «أحمد» خلف الرجل مباشرة حتى لا يعطي لأحد فرصة الاعتداء عليه.
كانت «الستروين» الذهبية تقف أمام المطعم، فوقَّع «أحمد» إيصالًا بالاستلام، ثم أخذ مفاتيح السيارة، فانصرف الرجل، وظلَّ «أحمد» في مكانه أمامها ينظر إليها لبعض الوقت، بينما كان يفكِّر: لعلها ملغومة وقد تنفجر في أي لحظة. وعاد إلى الوراء، ثم أخرج من جيبه جهازًا صغيرًا ضغط زرارًا فيه، ثم وجَّهه إلى السيارة فأضاء الجهاز.
ابتسم «أحمد» وهو يقول في نفسه: لا بأس. لقد تأكَّدت الآن. علينا أن نحدِّد ساعة الصدام، ومكانه.
اقترب من السيارة، ثم أدارها، وظلَّ يستمع إلى صوت الموتور قليلًا. أوقف الموتور، ثم فكَّر: لقد تأخَّر الشياطين! أرسل رسالةً سريعةً إليهم، فجاءه الرد بسرعة: «نحن في الطريق».
لم تمضِ دقائق حتى ظهر الشياطين، وظلَّ «أحمد» يرقبهم يقتربون من المطعم. كانوا قد اقتربوا تمامًا، فنزل من السيارة، وما إن رأوه حتى اتجهوا إليه، وقال «خالد»: ممتازة!
ابتسم «أحمد» وقال: بالتأكيد؛ لأنها الدليل الحقيقي على إدانة «كوزان»!
نظر له الشياطين بدهشة، فقال: في المطعم سوف أشرح لكم الأمر، فاتجهوا إلى المطعم.
وعندما استقرُّوا حول المنضدة قال «أحمد»: إن السيارة بها جهاز يُعطي إشارةً للعصابة ليعرفوا أين نحن. وطبعًا ليس من المعقول أن تُباع سيارة عادية بمثل هذا الجهاز.
ثم أخذ يشرح لهم وجهة نظره أن «جاكومو» أوصلهم دون أن يدري إلى يد العصابة؛ فهي التي تملك معرض السيارات. والحارس في فندق «باريس» أكَّد وجودنا، بدليل محاولة القتل المتكرِّرة التي تعرَّضتُ لها أمس، ولا أحد يعرفنا في «باريس» إلا عملاء رقم «صفر»، والمفروض أن «كوزان» منهم، ولأنه شكَّ فينا لأننا لم نتصل به، فيصبح المنطقي أن يتخلَّص منا، وهو يفعل ذلك الآن دون أن يظهر. الذي يُحيِّرني هو: أيهما الأسبق، الحارس الذي أبلغ عنا، أو معرض السيارات؟!
قال «فهد»: وكيف يكون المعرض وهو لا يعرفك؟!
ابتسم «أحمد» وقال: هذه هي الخدعة التي لعبتها حتى أعرف. لقد وضعت على استمارة المعرض علامة الشياطين، وهذه لا يعرفها إلا عملاء رقم «صفر»، ولا بد أنها عُرضت على «كوزان».
فنظروا إلى بعضهم، ثم قال «قيس»: إذن علينا أن ننهي الموقف!
قال «أحمد»: الذي أفكِّر فيه هو هل ننقل المعركة إلى بيت «كوزان» الذي يقع على مشارف «باريس»، أو ننقلها إلى أرض أخرى؟
سأل «خالد»: ماذا تقصد بأرض أخرى؟
«أحمد»: ملهى «النجمة»!
صمتوا قليلًا يفكِّرون، ثم قال «قيس»: بيت «كوزان».
نظر «أحمد» إلى «خالد» فقال: أوافق. إننا نُنهي المسألة كلها دفعةً واحدة.
فقال «فهد»: نعم، ولكن قد لا تتحكَّم في ملهى «النجمة» جيدًا.
قال «أحمد» في النهاية: إذن، بيت «كوزان».
كان موعد الغداء قد أوشك فاقترب «مسعد» وقال: هل أنتم مستعدون؟ ابتسموا جميعًا، فقال: إنها مفاجأة!
غير أن المفاجأة انكشفت بسرعة؛ فقد ملأت الرائحة جو المطعم، كباب مصري. ضحك «مسعد» وقال: ما رأيكم؟ أليست مفاجأة؟!
قال «خالد»: إنها مفاجأة الموسم!
وعندما انصرف «مسعد» وهو يرد على بعض الزبائن، أضاف «خالد»: ما رأيكم في أن نسمِّيها مغامرة الكباب!
ضحكوا جميعًا، وقال «قيس»: إذن سوف نُطلق عليها مغامرة الكباب. إننا نأكل في صحة الجاسوس «كوزان»، أول خائن من عملاء رقم «صفر».
وانهمكوا في الطعام بسرعة، حتى إذا انتهوا قال «أحمد»: أدعوكم الآن إلى جولة بين معالم «باريس»، قبل أن نضرب ضربتنا الأخيرة.
شكروا «مسعد» وانصرفوا. ركبوا السيارة، وعن طريق الجهاز الصغير الذي يملكه «أحمد» أبطل مفعول الجهاز الذي وضعته العصابة في السيارة، وقال ضاحكًا: عندما نريد، سوف نعطيهم الفرصة!
وانطلقت السيارة في شوارع «باريس»، غير أن رسالةً وصلتهم فجأةً من رقم «صفر»: كانت الرسالة تقول: «سوف تكون المعركة ساخنة، غير أنكم أكَّدتم ما كنت أفكِّر فيه!»
نظروا إلى بعضٍ في دهشة. وقال «فهد»: إن التقارير التي وصلت رقم «صفر» أسرع من تقاريرنا.
وهكذا بقي شيء واحد؛ المعركة التي تَحدَّد موعدها بعد الغروب مباشرة …