«معمل» … كانت هذه كل الرسائل!
أخرج «أحمد» خريطة للولايات المتحدة الأمريكية … ليحدد مكان مدينة «هيوستن». إن المدينة تقع في ولاية «تكساس»، يحدُّ الولاية من الشرق ولاية «لويزيانا»، ومن الشمال «أوكلاهوما»، ومن الغرب «نيومكسيكو»، ومن الجنوب «المكسيك»، وهي تقع قريبة من خليج «المكسيك»، كما أنها قريبة جدًّا من نهر «برازوس».
ظل يرصد الأماكن التي يمكن أن يختفيَ فيها «برجسكي»؛ فهو يمكن أن يختفيَ عن طريق خليج «المكسيك»، ويمكن أن ينقل من ولاية إلى ولاية أخرى. وهذه كلها تحتاج إلى احتياطات أمن. ظل يتأمل الخريطة قليلًا، وكأنه يطبعها في ذاكرته. بعد لحظة فكر ألَم تعرف أمريكا أن فوق أرضها يعيش أهم رجل في العالم؟!
لكنه لم يستمرَّ في طرح الأسئلة؛ فقد تذكَّر أن عنصر الوقت في منتهى الأهمية؛ ولذلك أعدَّ حقيبته السرية بسرعة، ثم أخذ طريقه إلى الخارج. كان الشياطين ينتظرونه في جراج السيارات. أسرع إليهم، وألقى نفسه بسرعة داخل السيارة المجهزة. في دقائق، كانت تقطع الطريق خارج المقر السري. كان «أحمد» قد فكر، هل الأصلح أن يصلوا «هيوستن» نهارًا، أم ليلًا؟ …
إن الخطة التي يجب تنفيذها هي الوصول إلى «جولد ميكر» أو «صانع الذهب»، أو «برجسكي». إنهم فقط الذين يعرفون الحقيقة، وإن كان انفجار المعمل يشير إلى أن هناك أطرافًا أخرى تعرف أيضًا. قال «أحمد» في نفسه: إن الوصول نهارًا سوف يكون في صالح الشياطين؛ فهم يستطيعون أن يتبيَّنوا مكان «برجسكي» ويستطيعون أن يضعوا خطتهم على أرض الواقع. ولذلك قال فجأة: إننا نستطيع أن ننزل أولًا في «نيو أورليانز» على شاطئ خليج «المكسيك»، ثم نأخذ الطيران الداخلي إلى «هيوستن». إن ذلك يجعلنا نبدو في حالة سفر عادية.
قالت: «إلهام»: ولماذا نضيع الوقت؟
رد «أحمد»: إننا نريد أن نَصِل إلى المكان في وقت ملائم، والنهار أكثر ملاءمة لنا …
اتفق الشياطين على ذلك، وعندما كانت السيارة تقف أمام المطار، كانت تذاكر السفر مع أحد عملاء رقم «صفر»، ولم تمضِ ساعة حتى كانت الطائرة المتجهة إلى أمريكا تشقُّ الفضاءَ في الطريق إلى حيث يعيش «صانع الذهب».
لم يكن الشياطين في حاجة إلى تنفيذ قاعدتهم الدائمة: «السفر خير طريق لجمع المعلومات»؛ فهم يعرفون جيدًا أن ما سوف يعرفونه لن يُفيد كثيرًا في هذه الحالة، فهم يقصدون مكانًا محددًا، وشخصًا معينًا، وعلاوة على ذلك لن يكون لهم حاجة عند أحد.
عندما انقضت نصفُ ساعة بعد غروب الشمس، كان صوت مذيعة الطائرة يطلب من الركاب أن يربطوا الأحزمة؛ لأن الطائرة سوف تنزل في مطار «نيويورك». وعندما نزلوا، كان عليهم أن يستقلوا طائرة أخرى إلى «نيو أورليانز». وعندما وصلوا إلى المدينة، كانت ساعات أخرى قد انقضت. غادروا الطائرة في مطار «نيو أورليانز». كانت رائحة الخليج تملأ أنوفهم، حتى إن «رشيد» قال: إن هذه الرائحة تذكِّرني برائحة مدينة الإسكندرية …
رد «أحمد»: إن كل مدن الساحل لها رائحة البحر. عندما خرجوا من المطار، كانت سيارتهم في انتظارهم. وما إن أغلق آخرُهم بابَها حتى جاء صوت عميل رقم «صفر» يرحِّب بهم، ثم قال: إنكم تنزلون في فندق الشاطئ.
سكت لحظة، ثم قال: هل هناك تعليمات أخرى؟ قال «أحمد»: سوف نرحل في الصباح الباكر إلى «هيوستن»!
قال «العميل»: سوف تكون التذاكر في انتظاركم. إن أول طائرة تطير إلى هناك تقوم في الساعة الثامنة …
كان «عثمان» يقود السيارة تبعًا للبوصلة التي كانت موجهةً إلى فندق «الشاطئ»، وعندما وصلوا إلى هناك كانت رائحة الخليج النفاذة تملأ أنوفهم. وقفوا قليلًا يتشمَّمون رائحة الخليج الممزوجة باليود والملح، ثم أخذوا طريقهم إلى الداخل. كانت ردهة الفندق الضخم هادئة تمامًا. أسرع «قيس» فأحضر المفاتيح، ثم أخذوا طريقهم إلى حجراتهم التي كانت تقع في الطابق العشرين. تبادلوا التحية، ثم انصرفوا إلى حجراتهم ليستغرقوا في النوم.
ألقى «أحمد» نفسه على السرير يفكر، لكنه قال في نفسه: ينبغي أن أنام فورًا حتى أصحوَ مبكرًا، وحتى أنال قسطًا وافرًا من النوم. ورغم أنه لم يكن في حالة نوم كعادته مع كل مغامرة، إلا أنه ظل يُجري بعضَ التمارين النفسية حتى استغرق في النوم.
في الخامسة صباحًا قفز «أحمد» من السرير في نشاط، ورفع سماعة التليفون، وأدار رقم ٨١٤. كان الرقم يعني حجرة «إلهام».
قال «أحمد»: ينبغي أن نجتمع في حجرتي.
في دقائق كان الشياطين يجتمعون في حجرة «أحمد». قامت «إلهام» بإعداد الإفطار؛ حيث كانت الثلاجة في حجرة «أحمد» عامرة بالمربى والجبن والخبز.
أخذوا يتناولون الساندويتشات التي جهَّزَتها «إلهام». في الساعة السادسة والنصف بدأت حركتهم. غادروا الفندق إلى السيارة ثم استقلوها في اتجاه المطار، وخلال نصف ساعة كانوا هناك. كان المطار نشيطًا؛ فقد كان المسافرون إلى شتى الاتجاهات يجرُّون حقائبهم، أو يشترون بعض ما يحتاجونه. اشترى «خالد» صُحُف الصباح، ثم أعطى الشياطين بعضها، وأخذ يقرأ. كانت لا تزال هناك ساعة حتى يحين موعد إقلاع الطائرة.
قال «رشيد»: سوف أتجول قليلًا داخل المطار.
ألقى «أحمد» نظرةً في نفس الاتجاه الذي اتجه إليه «رشيد». كان الزحام شديدًا عند الصالة «ج» حيث اتجه «رشيد»، إلا أن بعض الركاب كانوا يقفون في جانب منعزل. تفحص «أحمد» هؤلاء الركاب، كانوا ثلاثة يلبسون جميعًا نظارات سوداء، وتبدو عليهم الأهمية والغموض أيضًا. قال في نفسه: هل يمكن أن يكون هؤلاء على صلةٍ بالمغامرة؟
إلا أنه لم يقطع بشيء. ظلت عيناه تراقب حركة «رشيد» الذي اقترب منهم بطريقة عادية، وكأنه كان يفكر في نفس الشيء. قال في نفسه: لعل «رشيد» يعثر على معلومات معينة؛ فنحن سوف نتعامل مع جهات لا نعرفها. ومَن يدري قد يكون هؤلاء منهم.
كان الشياطين مستغرقين في قراءة الصحف، فألقى عليهم نظرَه، ثم ابتسم، وهو يقول لنفسه: إنهم جميعًا يعرفون الاتجاه الصحيح، ولا يشغلون أنفسهم بشيء إضافي … مرَّ الوقت ثم قطع ضجيجَ الصالة الواسعة صوتُ المذيعة يقول: على الركاب المسافرين إلى «هيوستن»، أن يتوجهوا إلى الصالة «ن»!
كان هذا يعني أن عليهم أن يتوجهوا فورًا إلى هناك … إلا أن «رشيد»، كان لا يزال يقف قريبًا من الرجال الثلاثة، وقد وضع جهازًا صغيرًا يُشبه الراديو على أُذُنه. ابتسم «أحمد» وقال: إنه يحاول أن يستمع إليهم دون أن يلفت نظرهم!
فجأة تحرك الرجال الثلاثة في نفس الوقت الذي تحرك فيه الشياطين. كان الجميع يتجهون إلى الصالة «ن»، وكان «رشيد» يمشي ببطء حتى يظل قريبًا من الرجال؛ فهذه المسافة نفسها هي المجال الذي يعمل فيه الجهاز. تجمَّع الركاب المتجهون إلى «هيوستن» في الصالة «ن». ظل «رشيد» في حالة المراقبة، في نفس الوقت الذي كان فيه الشياطين يرقبونه في هدوء. جاء صوت المذيعة يطلب من الركاب التوجُّهَ للطائرة.
تحرَّك الشياطين دون أن ينتظروا «رشيد»؛ فقد تركوه في مهمة المراقبة للرجال الثلاثة، لكنهم عندما صعدوا السلَّم، ألقى «أحمد» نظرةً سريعة ليرى الرجال، وليرى «رشيد» أيضًا. كان الرجال يصعدون السلَّم وراءَ بعضهم، وخلفهم كان «رشيد» مباشرة، إلا أنه كان قد أخفى الجهاز.
في الطائرة جاء مقعد «رشيد» أيضًا قريبًا من الرجال. نظر إلى الشياطين وابتسم؛ فقد لعبت الصدفة لعبة طيبة في صالحه. بعد قليل كانت الطائرة تشقُّ الفضاءَ في طريقها إلى «هيوستن». كان «أحمد» يفكر: هل توصَّل «رشيد» إلى شيء حتى إنه لا يزال مستمرًّا في المراقبة؟ بعد لحظة أرسل رسالة شفرية إليه. كانت الرسالة: «٢٧ – ٢٣» وقفة «٢٧ – ٢٥– ١– ٢١» وقفة «٥– ٨ – ٢٩ – ٨» انتهى …
تلقَّى «رشيد» الرسالة، وكانت ترجمتها: هل هناك جديد؟ بعد قليل جاء الرد: «٢٤ – ١٨ – ٢٤ – ٢٣» انتهى! … فَهِم «أحمد» مضمون هذه الرسالة التي كانت من كلمة واحدة هي: «معمل».
فكر «أحمد»: إن معمل تعني أن هؤلاء الرجال لهم علاقة بحادث انفجار معمل «برجسكي» الذي يُجري فيه تجاربه، ويعني أيضًا أنهم ينتمون إلى جهة ما!
كانت رسالة «رشيد» شديدة الأهمية بالنسبة لمغامرة الشياطين. إنها تعني أن الشياطين سوف يعرفون إحدى الجهات التي تعمل للحصول على «برجسكي» أو الخلاص منه، غير أنه فكر في نفس الوقت: إن الكلمة قد تعني شيئًا آخر، فربما لا يكون هؤلاء الرجال على علاقة بأي جهة، وأن المعمل الذي تحدثوا عنه معملٌ آخر غير معمل «برجسكي». توقَّف لحظة عن التفكير. سألته «إلهام»: هل توصَّل «رشيد» إلى شيء؟
نقل لها رسالة «رشيد»، فظهرت الدهشة الممزوجة بالابتسام على وجهها، إلا أنها بسرعة أنهت دهشتها وهي تقول: ربما لا يكون نفس المعمل!
ابتسم «أحمد» وهو يهمس: ربما.
عندما انتهى من كلامه شعر بدفء جهاز الاستقبال الذي يحمله في جيبه الداخلي؛ فعرف أن هناك رسالة. أخذ يستقبلها حتى انتهت، ثم بدأ في ترجمتها. كانت الرسالة: «١٣٢» وقفة «١٣ – ١ – ١٠ – ١٨» وقفة «١٤» وقفة «٨ – ٢٦ – ١٠» وقفة «١ – ٢٦ – ٢٣» انتهى. وكان مضمونها ١٣٢ شارع ١٤ دور أول.
تذكَّر «أحمد» عنوان «برجسكي» كما جاء في تقرير رقم «صفر»، ولم يكن هو نفس العنوان؛ فعنوان «برجسكي» هو: «٩٩ شارع ١٠٠٨ دور ١٢». وهذا يعني أنه ربما يكون عنوان الجهة التي يعملون معها … وربما شيء آخر غير هذا كله. قطع تفكيرَ «أحمد» صوتُ مذيعة الطائرة يُعلن أن الطائرة تقترب من مطار «هيوستن» وأن على الركاب أن يربطوا الأحزمة. نفذ الشياطين التعليمات، إلا أن «أحمد» كان مشغولًا بهؤلاء الرجال. كان يفكر: هل يستمر «رشيد» في مراقبتهم بعد مغادرة الطائرة، وحتى هذا العنوان، أو ينبغي أن يتركهم ليقوموا بعد ذلك بمهمتهم؟
لم يأخذ قرارًا نهائيًّا؛ فقد فكر في نفس الوقت أن يُرسل رسالة بهذا المعنى إلى «رشيد»؛ فهو الذي يستطيع أن يحدد تبعًا للموقف. أرسل رسالة فعلًا، وبعد قليل جاءه الرد يقول: إن الموقف غامض تمامًا، لكنه يرى أن المراقبة ينبغي أن تستمر.
أرسل «أحمد» رسائل سريعة إلى بقية الشياطين الذين كانوا يجلسون في أماكن متباعدة، وانتظر الرد حتى يتخذ قرارًا أخيرًا. في لحظات كانت ردود الشياطين تتوالى، وكانت جميعها تقول: إن المراقبة يجب أن تستمر. وعلى ذلك اتخذ «أحمد» قراره أن يقوم «رشيد» و«إلهام» بمتابعة الرجال الثلاثة.
أرسل رسالة إلى «رشيد» بهذا المعنى، ثم أخبر «إلهام»، وعندما كانت الطائرة تأخذ طريقها إلى أرض المطار، كان الشياطين قد استعدوا لمغادرة أماكنهم، وانضمت «إلهام» إلى «رشيد»، في الوقت الذي انفصل الشياطين عنهم في طريقهم إلى السيارة التي كانت في انتظارهم خارج المطار.