لقاء في مطعم الآن؟
لقد كان «برجسكي» نفسه، كما يظهر في الصورة التي يحملها «أحمد» والتي يعرفها كل الشياطين. نظر لهما الرجل بشك، ثم أسرع إلى مصعد آخر، واختفى داخله، وكاد «أحمد» يتحرك خلفه، إلا أنه لم يفعل. وفي سرعة غادرَا المبنى.
همس «عثمان»: كانت هذه فرصة لنتحدث إليه!
قال «أحمد»: فعلًا لكنها فرصة محفوفة بالمخاطر، فمن يدري، ربما يكون مراقبًا الآن، فنكشف أنفسنا!
وصلَا السيارة، وعندما استقرَّا داخلها، رفع «أحمد» سماعة التليفون، وأدار رقم «برجسكي». انتظر لحظة، فقد كان الجرس يدق في الطرف الآخر. بعد لحظة، جاءه صوتُ السكرتيرة الآلية يقول: لا تضع السماعة، إن «برجسكي» في الخارج، وسوف يتأخر بعض الوقت، إذا كان هناك شيء ما فاترك رسالة شكرًا.
ثم أُغلِق التليفون في الطرف الآخر. وضع «أحمد» السماعة، فسأله «عثمان»: أنت لم تتحدث إليه!
قال «أحمد» بعد قليل: مسألة غريبة. لماذا لم يرد «برجسكي»، مع أنه صَعِد أمامنا؟
سال «عثمان»: لعلها السكرتيرة الآلية هي التي ردَّت؟
قال «أحمد»: نعم. إنها هي!
فكر قليلًا، ثم قال: هل تعرَّض «برجسكي» إلى موقف ما؟
أضاف بعد قليل: أو لعله جانبٌ من الحذر!
قال «عثمان»: هل تعني أن رجل الشقة المقابلة قد اتخذ خطوة في اتجاه «برجسكي»؟
رد «أحمد» شاردًا: مَن يدري؟
مرَّت دقائق، كان الاثنان صامتَين تمامًا. فجأة، مد «أحمد» يده إلى السماعة، وهو يقول: سوف أحاول مرة أخرى.
أدار رقم «برجسكي»، ثم انتظر. مرت لحظات، كان الجرس خلالها يدق هناك. فجأة، رُفِعت السماعة وجاء صوت «برجسكي»: «برجسكي» يتحدث. مَن المتكلم؟
قال «أحمد»: نحن نعرف أنك تتعرض هذه الأيام لمحاولات ما، بسبب الذهب. إننا نعرض عليك خدماتنا!
مرت لحظة، لم يردَّ فيها «برجسكي»، ثم قال في هدوء: مَن المتكلم؟
رد «أحمد»: ليس مهمًّا أن تعرف الآن، فنحن نتبع جهة ما، تحاول المحافظة عليك!
برجسكي: لماذا؟
أحمد: لأنك تحمل سرًّا ثمينًا.
«برجسكي» بعد لحظة: أيُّ سرٍّ؟
أحمد: سرُّ الذهب!
برجسكي: أنا لا أفهم بالضبط ماذا تريد؟
أحمد: أنا فقط أعرض خدماتي، وإذا كنت تريد مزيدًا من التفاصيل، فلنتقابل في مطعم «الآن».
برجسكي: الآن … أنا لا أستطيع أن أخرج الآن!
«أحمد» مبتسمًا: أقصد في المطعم المعروف باسم «الآن»!
صمت «برجسكي» لحظة، ثم قال: أظن أنك أخطأت الشخص أو التليفون، لعله إنسان آخر!
أحمد: سوف نكون في المطعم في الخامسة تمامًا أرجو أن نلقاك، وسوف أعرفك عندما تدخل! وُضِعت السماعة في الطرف الآخر، دون أن يقول «برجسكي» شيئًا. نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: إن «خالد» في الطريق إلى النقطة «س» الآن!
ثم وضع السماعة، نظر إلى «عثمان»، ثم قال: هيَّا بنا، ينبغي أن نتحرك الآن إلى الفندق …
تحرَّك «عثمان» منطلقًا بالسيارة إلى فندق «هوليداي إن هيوستن». قال وهو ينظر أمامه: إن «رشيد» لم يتصل بنا، لعله لم يتوصل إلى شيء هو و«إلهام»!
قال «أحمد» شاردًا: مَن يدري؟
وصلَا الفندق، فغادرَا السيارة إلى القاعة الفسيحة في المدخل. كان بعض النزلاء هناك. ألقى نظرة سريعة على المكان، ثم أخذ جانبًا وجلس، فجلس «عثمان» بجواره. كان «أحمد» يفكر: هل يمكن أن يأتيَ «برجسكي» إلى المطعم «الآن»، أو أنه سوف يتشكك فيما أخبرته به؟
نظر «عثمان» إليه مبتسمًا وقال: أظن أنه سوف يفكر طويلًا قبل أن يتخذ قراره، فهو يعرف أن عيونًا كثيرة حوله، غير أنه لا يعرفها مواجهةً، وربما يظن أننا واحدة من هذه الجهات!
قال «أحمد» ببطء: هذا صحيح. وهذه هي المشكلة.
فجأة، ظهر «خالد» و«بو عمير» و«قيس». نظر «أحمد» في وجوههم، حتى يستشفَّ شيئًا، قبل أن يتسلم الرسالة. وعندما جلسوا، قال «خالد»: إنها معلومات إضافية.
ثم قدَّم الرسالة إلى «أحمد» الذي قرأها بسرعة. كانت الرسالة تقول: إن «برجسكي» لا يملك من الدنيا شيئًا إلا رأسه، التي تحمل سرَّ الذهب، وهو لا يستطيع أن يحقق ما فيها، إلا بعد أن يُنشئَ معملًا، وسوف يتعرض لمساومات كثيرة، لكنه سوف ينكر علاقته بأي شيء، حتى بالذهب، لكنه في نفس الوقت سوف يحاول الحصول على المال من أجل تحقيق هدفه. إن إقناع «برجسكي» بمصاحبتكم سوف يكون خطوة هامة، فإذا لم تستطيعوا ذلك، فإن خطفه مسألة ضرورية!
ابتسم «أحمد»، لقد فكر في ذلك فعلًا؛ ولهذا صعد إلى سطح المبنى. كانت أعين الشياطين تتابع وجه «أحمد» وهو يقرأ الرسالة، وعندما ابتسم سأله «خالد»: هل هناك جديد؟
قال مبتسمًا: لأول مرة يقوم الشياطين بخطف إنسان بدلًا من إنقاذه!
قال «بو عمير»: إننا ننقذه في نفس الوقت!
قال «أحمد»: هذا صحيح. لكنه اختطاف أيضًا؛ فلو أنه استغاث مثلًا، فإننا نكون في حالة ارتكاب جريمة اختطاف!
ضحك الشياطين لهذه المناقشة، وسأل «قيس»: إن «رشيد» قد اختفى، فلا توجد أنباء عنه!
وقبل أن ينطق أحد بكلمة، كان «رشيد» و«إلهام» يدخلان من باب الفندق. ابتسم «عثمان» وقال: لقد أفرجوا عنهما.
انضم «رشيد» و«إلهام» إلى الشياطين، في الوقت الذي كان «أحمد» ينتظر حديثه. مرت لحظات صامتة، ثم قال «رشيد»: إنها مطاردة القرن العشرين!
ظهرت الدهشة على وجوه الشياطين، في الوقت الذي ابتسم فيه «أحمد». قال «رشيد»: لعلك خمنت ما سأقوله!
ابتسم «أحمد» قائلًا: يبدو هذا على وجهك. أي نوع من المعامل توصلت إليه؟
ضحك الشياطين، فقالت «إلهام»: إنه معمل تقطير نوع معين من الروائح.
حكى «رشيد» مطاردته هو و«إلهام» للرجال الثلاثة، وكيف دخلوا من مكان إلى مكان وانتقلوا من سيارة إلى سيارة. وعندما وصلوا إلى هناك، كان قد اتفق هو و«إلهام» على دخول المعمل. قامت «إلهام» بتنفيذ المهمة، واكتشفت أنه ليس معمل الذهب.
قال «أحمد» لا بأس. إننا نقترب من اللحظات الحاسمة.
ثم قدم ﻟ «رشيد» و«إلهام» رسالة رقم «صفر». قرآها بسرعة، وقال «رشيد»: هذه مسألة هامة! حان وقت الغداء، فاتجهوا إلى مطعم الفندق، وعندما جلسوا ابتسم «عثمان» قائلًا: ينبغي ألا نأكل كثيرًا؛ لأننا قد نتناول الغداءَ مرة أخرى.
ظهرت الدهشة على وجه «إلهام» وقالت: مرة أخرى، أين؟
حكى «أحمد» لها ما حدث مع «برجسكي».
قال «رشيد» بسرعة: لقد حققتم خطوة هامة.
جاء الطعام فأكلوا على مهل. كان «أحمد» يريد أن ينقضيَ الوقت، حتى تحين الساعة الخامسة، وعندما انتهوا، انصرفوا مباشرة إلى حجرة «أحمد» حيث عقدوا اجتماعًا. قال «أحمد»: أنتم تعرفون أننا على موعد مع «برجسكي»، فإذا أتى، فإننا سوف نرتب كلَّ الأمور معه. وفي هذه الحالة سوف تنتهي مغامرتنا. فإذا لم يأتِ، فإننا سوف نعود لخطتنا الأصلية. صمت لحظة، ثم قال: سوف أذهب أنا و«عثمان»، وعليكم أن تكونوا على استعداد، فربما حدثت تطورات غير متوقعة، فأنتم تعرفون أننا قد نواجه صراعات متعددة.
مضى الوقت وهم في اجتماعهم يتحاورون، وعندما اقتربت الساعة من الرابعة والنصف، قام «أحمد» وعثمان، وانصرفا.
تحركت السيارة في طريقها إلى مطعم «الآن»، حيث كان محددًا موعد اللقاء مع «برجسكي»، وعندما وصلَا إلى هناك، كانت الساعة تشير إلى الخامسة إلا خمس دقائق، غادرَا السيارة بسرعة، واتجهَا إلى المطعم، عندما دخلاه، كان بعض الرواد يتناولون طعامهم، ولم يكن العدد كبيرًا. اختارَا منضدة في ركن مقابل للباب، حتى يروا الداخلين. نظر «أحمد» في ساعة يده، كانت تُعلن الخامسة بالضبط. قال «عثمان»: هل تظن أنه سوف يأتي؟
فكر «أحمد» لحظة، ثم قال: ربما!
اقترب منهم الجرسون، وقدَّم لهما قائمة الطعام. اختارَا بعض الأطعمة التي تحتاج إلى وقت؛ فمطعم «الآن» يقدم الوجبات التي تُطهَى وقت طلبها؛ ولذلك أُطلِق عليه اسم «الآن» … انصرف الجرسون، وتعلقت أعين الاثنين بالباب، فبين دقيقة وأخرى ربما يدخل «برجسكي». مرَّت خمس دقائق، ثم عشر، دون أن يظهر. ألقى «أحمد» نظرة متمهلة على رواد المطعم. كانت هناك مجموعة تتناول غذاءها، رجل وسيدة، وشابان معًا، ورجل يجلس بمفرده، كان يدخن بينما يوجد الطعام أمامه. عادت عينَا «أحمد» إلى الباب، لحظة، ثم دخل رجلان، وجلسَا في منتصف المطعم. لحظة أخرى، ودخل رجل وسيدة، ثم فتاتان، ولم يظهر «برجسكي». جاء الطعام، أخذَا يأكلان متمهلَين حتى يستغرقَا أطول فترة ممكنة، وإن كان «أحمد» قد بدأ يفقد الأمل في حضور «برجسكي»، فقد أصبحت الساعة الخامسة والنصف.
قال «عثمان»: يبدو أنه لن يأتي.
نظر له «أحمد» لحظة، ثم قال: يبدو هذا!
ولم يكَد ينتهي من كلماته حتى ظهر «برجسكي» في باب المطعم. ارتسمت ابتسامة على وجه «أحمد»، ولفت نظر «عثمان» الذي كان يضع ملعقة شوربة في فمه حتى إنه توقف، ونظر إلى الباب. ابتلع ملعقة الشوربة الساخنة، ثم قال: لا أصدق!
بدأ «أحمد» يقف حتى يستقبله، إلا أن «برجسكي» أخذ طريقًا آخر، فقد اتجه إلى الرجل الجالس بمفرده. علَت الدهشةُ وجهَيهما، وهمس «عثمان»: يبدو أن هناك مزيدًا من التفاصيل!
وقف الرجل الآخر يستقبل «برجسكي» بابتسامة عريضة.
فكر «أحمد» لحظة، ثم أخرج فراشة دقيقة، وضغط زرًّا فيها، وحدَّد اتجاهًا من خلال مؤشر بها، ثم أطلقها على الأرض.
كان الرجل الآخر يتحدث باهتمام إلى «برجسكي» الذي كان يستمع باهتمام أيضًا. مضَت نصف ساعة. ومع نهايتها وقف الرجلان، ثم اتجهَا إلى الخارج، واختفيَا. أخرج «أحمد» من جيبه جهازًا دقيقًا، ثم ضغط عليه، وهو يوجهه إلى نفس المنضدة التي كان يجلس إليها الرجلان. في لحظات كانت الفراشة في يد «أحمد»، أمسك بها، ثم وضعها في جيبه، وأشار للجرسون، فقدَّم له الفاتورة. دفع الحساب، ثم انصرفَا مسرعَين. عندما أصبحَا خارج المطعم، كانت سيارة «فورد» بيضاءَ تنطلق مسرعة. كان الرجل يجلس إلى عجلة القيادة، بينما كان «برجسكي» يجلس بجواره. وفي لمح البصر استطاع «عثمان» أن يلتقط رقم السيارة، وكان ٩٩٣٩٤٦.
اتجه الاثنان إلى السيارة، وانطلق «عثمان» إلى «الهوليداي إن هيوستن». وفي أقل من ربع ساعة كانَا يدخلان إلى حجرة «أحمد». كان الشياطين في الحجرة، أخرج «أحمد» الفراشة بسرعة ثم وضعها أمام الشياطين، الذين التفوا حولها. ضغط زرًّا فيها، ثم بدءوا يسمعون، جاء صوت يقول: إن لدينا صفقة تحتاج إلى البيع. إنها خمسون طنًّا من الذهب، وهي موجودة في الهند، هناك مَن يتصارع عليها، لكنني أريد أن أبيعها لحسابي، سوف أتقاضى خمسة في المائة من ثمنها كعمولة، وأنا على استعداد لأن أعطيَك اثنين في المائة!
مرت لحظة صمت، ثم جاء صوت آخر يقول: اسمع يا سيد «بيرو». دعنا نتحدث بصراحة لماذا اخترتني بالذات، وهناك كثيرون يعملون في بيع الذهب؟
رد «بيرو» بسرعة: إنني أعرف أنك في حاجة إلى مبلغ من المال. أنا أعرف، ولا تحاول أن تُنكر ذلك، وأنت خبير في الذهب، وهذه فرصة لا بأس بها!
مرت لحظة صمت أخرى، ثم قال «برجسكي» وأين يوجد الذهب؟
قال «بيرو»: في «بومباي» في مخازن السيد «جي لال». إنك سوف تصل إلى هناك، سوف تنزل في فندق «بومباي». وبعد وصولك بساعة سوف يأتيك مَن يصحبك إلى السيد «جي لال» وعليك إتمام الصفقة.
صمت «بيرو»، ولم يُجِب «برجسكي». مرَّ وقت طويل، قبل أن يقول «برجسكي»: هذه مسألة تحتاج لبعض الوقت، حتى أتخذَ فيها قرارًا.
ردَّ «بيرو» بسرعة: لا تضيع فرصتنا، وفرصتي وفرصتك. إن أوقية الذهب سعرها الآن ٤٣٢ دولارًا، نحن سوف نشتريها ﺑ ٢٧٤، أي أننا سوف نكسب خمسة دولارات في الأوقية. هذا بجوار نسبة العمولة، إنني على استعداد لأعطيك دولارًا في كل أوقية، ما رأيك؟ إنك سوف تصبح ثريًّا في ضربة واحدة، وبعدها تستطيع أن تحقق أحلامك!
مرت دقائق، لم يردَّ فيها «برجسكي». ظل الشياطين يستمعون في اهتمام شديد، وكان رد «برجسكي» الأخير هو أهم ما يمكن أن يسمعوه. بعد قليل، قال «برجسكي»: موافق ومتي السفر؟
قال «بيرو» بسرعة: غدًا إن أردت. ما رأيك!
قال «برجسكي» بهدوء: إذن، موعدنا غدًا، إنني في انتظار تليفون، تُخبرني فيه بموعد الطائرة.
ارتفعت ضحكة قوية ثم انتهى الشريط، وقال أحمد بسرعة: الآن، قد اتضحت خطوتنا القادمة.