ما الشكوكية؟
مقدمة عن الشكوكية
باختصار، تتعلق الشكوكية ﺑ «الارتياب»، حيث إن تَشَكُّكك في شيءٍ ما معناه أن يساورك الارتياب بشأنه. من الممكن أن تسري الشكوكية على فيض من الأشياء المختلفة؛ فيجوز أن يكون المرء متشككًا في شخص (مثل بائعي السيارات المستعملة الذين يُضرَب بهم المثل في عدم مصداقيتهم)، أو موضوع (مثل تنبؤات الأبراج)، أو حتى أشياء (مثل أن يكون المرء متشككًا في أن مكيف الهواء المستهلَك لديه سيظل يعمل لنهاية الصيف). الشيء المشترك بين هذه الأشكال المختلفة من التشكك هو قلق المرء من إمكانية اعتماده على الشيء المعني، سواء كان نصيحة بائع السيارات المستعملة، أو تنبؤات الأبراج، أو كفاءة مكيف الهواء. باختصار، ينال التشكك من الإيمان (الإيمان بأن ما يقوله بائع السيارات صحيح، والإيمان بأن المكيف سيظل يعمل لنهاية الصيف، وهكذا)، ولذلك سيكون هذا هو ما سنركز عليه هنا.
إن التشكك بقدرٍ ما أمرٌ حسن في أغلب الأحيان. إننا نتحدث بالتأكيد عن أهمية «الشكوكية الصحية»، أي ألا نصدق بسهولة أي شيء يُقال لنا. إن الشكوكية بهذا المعنى دواء للسذاجة، ومن المؤكد أن لا أحد يريد أن يكون ساذجًا. وعلى كل حال هناك أشياء تستحق التشكك بشأنها. لديكم المثال الذي ذكرته للتو عن الأبراج. هذه التنبؤات معروفة بأنها ملتبسة، فهي إما أن تكون محددة جدًّا، وفي هذه «الحالة» غالبًا ما تكون خاطئة، وإما أن تكون عامة جدًّا، وهو الأغلب، لدرجة أنها تناسب أي احتمال، وفي هذه الحالة لا يوجد دليل واضح على أنها صحيحة على الإطلاق. علاوةً على ذلك، فإننا نعلم أيضًا أنه لا يوجد أساس علمي للتنجيم؛ فقد هجر العلماء منذ زمن بعيد التنجيم مفضلين علم الفلك، وهو على عكس التنجيم تخصصٌ علميٌّ مُسلَّمٌ بصحته. لذلك هناك أسباب وجيهة للتشكك في مصداقية الأبراج.
كذلك يمكن للشكوكية الصحية أن تحول دون وقوعنا في فخ من يريدون خداعنا. على سبيل المثال: بما أننا نعلم أن بائعي السيارات المستعملة لديهم دافع يتمثل في رغبتهم في أن نشتري سيارة بأعلى سعر ممكن، فإننا نعلم أننا يجب أن نقف مما يقولونه موقف شك، فلا نصدقه تمامًا دون تمحيص. وعلى نحو أعم، إذا قال لنا شخص لا نعرفه تمام المعرفة شيئًا يبدو من الوهلة الأولى غير معقول — كالقول، مثلًا، بأن ملكة إنجلترا قد قُبِض عليها بتهمة سرقة أحد المتاجر — هنا يجب أن يتدخل الشك الفطري لدينا لكيلا نصدق هذا القول دون تروٍّ. هذا لا يعني أننا لا ينبغي مطلقًا أن نصدق الأحاديث غير المعقولة من هذا النوع، وإنما علينا دائمًا أن نطلب براهين إضافية في مثل هذه الحالات (مثل أن نطلب تشغيل نشرة الأخبار للتحقق من هذه القصة المدهشة).

إليكم طريقة أخرى لطرح هذه النقطة. يمكن أن يتاح لدينا الكثير من الأسباب الوجيهة لنكون متشككين في مزاعم معينة، مثل ما تخبرنا به الأبراج أو بائعو السيارات المستعملة. غير أن هذا الريب الشكوكي «المتمركز» يستند إلى ما نعرفه، مثل معرفتنا بالطبيعة غير العلمية لتنبؤات الأبراج ودوافع بائعي السيارات المستعملة. ولكن بمجرد أن ننتقل من الريب الشكوكي المتمركز إلى شك أعم بكثير — مثل أن نصبح متشككين في المزاعم العلمية بجملتها — فعندئذٍ يصعب إدراك كيف يمكن أن يكون تشككنا قائمًا على معرفة على الإطلاق. لأنه مهما كانت الأسباب التي قد نذكرها لهذا الشك، أفلن تكون هي أيضًا موضع شك مماثلًا؟ ما يدعو للقلق هنا أن يصير الريب الشكوكي العمومي أو الإجمالي منطلقًا تمامًا بلا رابط، بدلًا من أن يكون قائمًا على شيء يمكننا الاعتماد عليه، كما في حالة الريب الشكوكي المتمركز.

بقول محدد، وبمجرد فقدان الاهتمام بالحقيقة والدقة، تفسح الشكوكية الراديكالية المجال ﻟ «نسبية» عامة حيال الحقيقة. وهي أن نرى أن الحقيقة هي ببساطة ما يقول أي شخص إنه الحقيقة. على سبيل المثال، يؤيد فريقٌ الإجماعَ العلمي على أن التغير المناخي ناجم عن أنشطة بشرية، بينما يجادل فريقٌ آخر بأن هؤلاء العلماء جميعًا جزء من مؤامرة عالمية لخداع العامة. وفقًا للمذهب النسبي، يمكن أن يكون كلا الفريقَين محقًّا، حيث تتوقف الحقيقة على الرأي الذاتي للشخص.
قد يبدو في البداية أنه من قبيل التحرر أن نتخلص من الانشغال بالحقيقة والدقة بهذه الطريقة، وأن نسلم بإمكانية أن تكون كلتا المجموعتَين المتعارضتَين على حق، لكن هذا وهم، فلتنتبه؛ لأن القول بأن كلا الفريقَين المتنازعَين على حق هو قول فارغ كالقول بأن كليهما على خطأ. فبمجرد أن تتخلى عن مبدأ الدقة، لا يعود مهمًّا ما هو حقيقي وما ليس كذلك. غير أنه يجدر بنا أن نهتم بتبيُّن حقيقة الأمور.
لفهم الفكرة، حسبك أن تتصور شيئًا تُولِيه أهمية بالغة. تخيل مثلًا أنك متهم بجريمة خطيرة لم ترتكبها. ألن يهمك كثيرًا أن تنكشف الحقيقة، ومن ثَمَّ أن تُثبَت براءتُك؟ ألن يروعك أن يظل الذين اتهموك يؤكدون، حتى بعد تبرئتك، أنه «حقيقي» أيضًا أنك ارتكبت تلك الجريمة، على الرغم من الأدلة المؤكدة لبراءتك في محاكمتك، متخذين بذلك موقفًا نسبيًّا؟ بالتأكيد ستعتبر هذا ظلمًا، وستكون محقًّا في ذلك. لكن الغرض من هذا المثال أن نبين أن الحقيقة مهمة، أي الحقيقة بمعنى واقع الأمر. لكن بالطبع لا يمكن أن تكون هناك عدة روايات متعارضة لواقع الأمر. إما أنك ارتكبت الجريمة أو لم ترتكبها. وإذا لم تكن قد ارتكبتها، فإن أي شخص يقول خلاف ذلك يقول شيئًا غير صحيح، وليس شيئًا صحيحًا حسب وجهة نظره الذاتية.
إذن كيف نفرق، بطريقة واضحة المعالم، بين الشكوكية الصحية التي تستهدف مزاعم محددة فقط، والشكوكية العامة التي تؤدي إلى العواقب الضارة التي ذكرناها للتو؟ هذا واحد من الأسئلة الرئيسية التي سنستكشفها. لهذا الغرض، سنتناول أولًا حجة فلسفية مشهورة تدعي أنه من المستحيل معرفة أي شيء. إذا نجحت هذه الحجة، فستعطي أساسًا للشكوكية العمومية التي تطرقنا إليها للتو. لكنْ هناك في الواقع عدد من الردود على الشكوكية من هذا النوع، كما سنرى. كذلك سنتناول تصورًا فلسفيًّا مؤثرًا عن ازدهار البشر يضع الفضائل في مركز الصدارة، ومن بينها الفضائل الفكرية، وسننظر كيف يمكن للشكوكية المتمركزة أن تكون راسخة في هذه الفضائل. الفضائل في العموم من الصفات الشخصية التي تساعد على رخاء البشر وازدهارهم، حيث تشكل الفضائل الفكرية مجموعة فرعية من تلك الصفات التي تُعنَى عناية خاصة بالغايات الفكرية مثل الدقة والحقيقة. سوف ننظر في الكيفية التي يمكن بها تضمين موقف شكوكي في تصور للفضائل الفكرية، من أجل العثور على سبيل لتحديد متى تكون الشكوكية صحية ومتى لا تكون كذلك.
الحقيقة، والنسبية، وقابلية الخطأ
في القسم السابق، تطرقنا للموقف النسبي من الحقيقة. إنه يشير إلى الفكرة التي تقول بأن ما هو صحيح يتوقف على الرأي الذاتي لكل شخص، فإذا كان رأيك متعارضًا مع رأي شخص آخر، فلا بأس! من الممكن أن يكون «كلاكما» على حق. ذكرنا أن الموقف النسبي بشأن الحقيقة ليس بالموقف الأنسب كما يظن الناس، لأسباب من أهمها أنه إذا كان الجميع على حق، فإن الجميع مخطئون أيضًا. المقصد هو أنه إذا انصرفنا عن فكرة التحقق مما إذا كانت وجهة نظر ما دقيقة أم لا، فلن يعود من المهم في الواقع ما إذا كانت وجهة النظر تلك صحيحة أم خاطئة. بيد أنه يعنينا بالتأكيد إدراك الأشياء على حقيقتها، خاصةً عندما يتعلق الأمر بشيء يهمنا أهمية شخصية، مثل أن نُدان بالخطأ بجريمة خطيرة. أو لنأخذ مثالًا آخر: إذا كان الطبيب على وشك أن يجري لك جراحة، أعتقد أنك ستحرص كثيرًا على أن تكون الجراحة التي هو على وشك أن يجريها مبنية على ممارسة طبية مقبولة لا مجرد رأي شخصي للطبيب.
لكن إذا كانت النسبية بشأن الحقيقة فكرة سيئة للغاية هكذا، فلماذا ينجذب إليها بعض الناس؟ أظن أن هناك عدة أسباب. قد يكون أحد الأسباب أن بعض الأشياء مجرد مسألة رأي شخصي. من الأمثلة على ذلك الطعام الذي تحبه، وما تراه مضحكًا، وفيلمك المفضل، وما إلى ذلك. كل هذه الأشياء هي مجرد مسائل تتعلق بالرأي الشخصي. إذا أردنا مثالًا محددًا، لا غرابة في أنني لا أحب الحلوى ولكن الغريب أن معظم الناس يحبون الحلوى جدًّا. لكن إذا كانت بعض الأشياء — المتعلقة بالذوق خصوصًا — هي مجرد مسألة رأي شخصي فهذا لا يعني أن كل شيء كذلك.
فلنفترض، على سبيل المثال، أن عالِمًا ادعى أنه قد اكتشف كوكبًا جديدًا. فإما أن يكون ما يقوله صحيحًا، وفي هذه الحالة يكون الكوكب الذي يصفه موجودًا، وإما أنه غير صحيح، وفي هذه الحالة يكون الكوكب الذي يصفه غير موجود. لا شأن للآراء بهذه المسألة على الإطلاق. والسبب تحديدًا هو أننا حين نتحدث عما إذا كان شيء ما صحيحًا، فإننا نريد أن نعرف ما إذا كان الأمر كذلك فعلًا، وليس مجرد ما يظنه شخص ما بشأنه.
(بالمناسبة، يظل هناك حقيقة حتى حين نتحدث عن المسائل الذاتية المتعلقة بالأذواق، مثل الطعام الذي يفضله شخص ما. لنأخذ مثلًا ادعائي أنني لا أطيق طعم الحلوى. إنها مسألة رأي ذاتي محض كوني لا أحب الحلوى، على عكس معظم الناس الآخرين. لكنها ليست مسألة رأي ذاتي أنه حقيقي أنني لا أحب الحلوى، تمامًا مثلما هي ليست مسألة رأي ذاتي أنه حقيقي أن الناس الآخرين غالبًا يحبونها. فمثل الحالة التي سردتها للتو بشأن الكوكب، إما أنني أحب الحلوى أو لا أحبها. إذا كنت لا أحب الحلوى، فإن الادعاء بأنني لا أحبها صحيح؛ وإذا كان العكس فهو غير صحيح. وليس هناك شيء نسبي أو ذاتي في هذا الأمر.)
ثمة سبب آخر ربما يجذب البعض إلى النسبية، وهو أنها تبدو في الظاهر مريحة، بل ووسيلة لاحترام آراء من لا نتفق معهم. فبدلًا من الاضطرار إلى الانحياز إلى طرف في نقاش، يمكن هكذا للشخص أن يقول ببساطة إن كلا الطرفين على حق. أليست هذه وسيلة لاحترام آراء جميع الأطراف؟ لكن لاحظ أن هذا ليس احترامًا لآراء الطرف الآخر على الإطلاق. فإنهم على كل حال لم يقولوا إنه رأيهم الذاتي، بل إنه الحقيقة؛ أي أنهم كانوا على حق والطرف الآخر كان مخطئًا. لكن عندما نقول إنهم إنما ادعَوا حقيقة نسبية، فإننا نقول في الواقع إن ما ادعوه ليس حقيقيًّا على الإطلاق، على الأقل ليس بالمعنى الذي قصدوه. فهم على كل حال لم يقولوا إنه رأيهم الذاتي فحسب، بل إنه حقيقي فعلًا (أي بموضوعية). كانوا على وجه التحديد يدعون أنهم على حق وأن آراء الطرف الآخر خطأ، وليس أن كليهما يقول شيئًا صحيحًا (لكن بطريقة نسبية).
إن ما ينطبق على آراء الآخرين ينطبق أكثر على آرائك. فكر في معتقداتك المتأصلة لديك، مثل قناعاتك الأخلاقية، أو السياسية، أو الدينية. الآن قارن بين هذه المعتقدات المتأصلة وبين الادعاءات التي لا تعدو كونها رأيًا ذاتيًّا محضًا. أنت بالطبع تعتقد أن معتقداتك صحيحة، ولذلك قناعتك بها قوية. لكن أي عزاء ستجد عند اكتشاف أن «الحقيقة» هنا تعني فحسب رأيك الذاتي لا أكثر؟ فأنت، رغم كل شيء، لا تعتقد أن أشد قناعاتك مجرد مسائل متعلقة بذوقك، مثلما إذا كنت تحب (أو تكره) الحلوى.
فلنفترض، على سبيل المثال، أنك صادفت شخصًا لديه آراء سياسية مختلفة تمامًا عن آرائك. قد تكون أنت مؤيدًا للديمقراطية الليبرالية الغربية، بينما يفضل هو الدولة الشمولية التي يحكمها زعيم قوي. إذا كان هذا الخلاف مسألة ذوق فحسب، فليس هناك ما يدعو للخلاف، مثلما لا يوجد معنًى «للخلاف» مع شخص حول ما إذا كانت الحلوى من طيبات الطعام (فإنني ببساطة لا أستسيغها، لكن الآخرين يستسيغونها). غير أنه من الواضح أن ثمة شيئًا مهمًّا يستحق الخلاف بشأنه، حيث إن التنظيم السياسي للمجتمع له الكثير من التبعات العملية على الحياة التي نعيشها. هذه ببساطة ليست من المسائل التي يمكن للإنسان أن يتجاهلها، كما قد تفعل إذا قلت لك إنني لا أحب الحلوى!

علينا أن نبرز عدة نقاط في هذا الصدد. أول شيء يجب الإشارة إليه هو أن هذا الأسلوب من الاستدلال يبعث في الأساس على الشكوكية لا النسبية. ولذلك فهذه فرصة جيدة لتذكير أنفسنا بالفرق. لنتذكر أن الشكوكية تتعلق بالارتياب، والارتياب في المقام الأول بشأن ما هو حقيقي. بناءً على هذا المفهوم، فإن المتشكك لا يدعي أن الحقيقة مجرد رأي ذاتي كما يقترح صاحب الموقف النسبي. في الواقع، إن ما يحمل المتشكك على موقفه هو الخوف من احتمال ألا تكون معتقداتنا حقيقية من ناحية موضوعية. لكن كما ذكرنا من قبل، من الممكن أن تتحول الشكوكية إلى نسبية إذا زاد الشك وفاضَ. إذا كنا ميالين إلى الشك في كل شيء، فقد ننساق للاعتقاد بأنه لا توجد حقيقة موضوعية، ومن ثَمَّ يكون كل شيء رأيًا ذاتيًّا محضًا.
القلق العام من كوننا غير معصومين يبعث بالأساس على الشكوكية لا النسبية؛ لأنه يعطينا سببًا للشك حتى في أكثر ما نثق به من الأمور. وعلى كل حال، فقد كان الناس على يقين شديد من بعض الأشياء في الماضي (مثل أن الشمس تدور حول الأرض) ثم اتضح أنهم كانوا مخطئين. وبناءً على ذلك، يبدو أن لدينا سببًا للشك في كل ما نعتقده. ولا تأتي عَلاقة الشكوكية بالنسبية إلا بشكل غير مباشر، في المرحلة التي ذكرناها للتو حين أشرنا إلى أن الشكوكية تتحول إلى نسبية حين يزيد الشك ويفيض.
لكن من المهم أن ندرك أنه رغم ما لدينا من حجج وجيهة لنكون متشككين — في الواقع، سنناقش حجةً مؤثرةً في هذا الصدد بعد قليل — فإن الاحتكام إلى كوننا غير معصومين ليس أساسًا متينًا للتشكك عمومًا في صحة معتقداتنا. صحيح أنه من المحتمل دائمًا أن تكون مخطئًا. لكن ذلك في حد ذاته ليس سببًا قويًّا للتشكك في كل ما تعتقده (أو حتى معظمه). ما تحتاج إليه في واقع الأمر هو سبب محدد يجعلك تظن أنك مخطئ في هذه الحالة تحديدًا.
لإدراك ذلك، لنتأمل بعض السيناريوهات اليومية. لنأخذ، على سبيل المثال، مسألة ما إذا كانت شجرة معينة شجرة بلوط. إذا كنت أنا الشخص الذي سيبتُّ في الأمر، فهناك بعض الأسباب التي تدعو للتشكك في حكمي، فأنا لست خبيرًا في أنواع الأشجار. لكن قارن بين هذه الحالة وحالة شخص يصدر نفس الحكم وهو خبير مؤهل في الأشجار لديه خبرة طويلة في العمل مع مختلف أنواعها. من المؤكد أنه من الممكن أن يكون رغم ذلك مخطئًا، لكن على عكس حكمي بأن الشجرة شجرة بلوط، هذا ليس احتمالًا جديًّا على الإطلاق، حيث لا يُعقل حقًّا أن يخطئ شخص بهذا المستوى من الخبرة في التعرف على شيء شائع مثل شجرة البلوط. المغزى هنا أن القابلية للخطأ وحدها ليست أساسًا كافيًا للشك؛ بل لا بد من سبب محدد للاعتقاد أن شخصًا ما ربما يكون مخطئًا في هذه الحالة بعينها.
يمكننا أيضًا أن ندرك هذا المغزى عمليًّا عندما ننظر إلى الممارسات العلمية. يقر العلماء صراحةً بأن مشروعاتهم عرضة للخطأ. في الواقع، هذه القابلية للخطأ جزء لا يتجزأ من بنية العلم. وحقيقة أنه حتى أفضل النظريات العلمية المؤكدة قد تكون خطأً رغم كل شيء هو ما يدفع العلماء لاختبار نظرياتهم باستمرار. يكرر علماء آخرون النتائج التجريبية للتحقق من الاختلالات، وتُجرى التجارِب «المُعَمَّاة» لاستبعاد أي تحيز ممكن في تفسير النتائج، وتُستخلص التوقعات من النظريات العلمية ثم تُختبر، وهلم جرًّا. الهدف من كل هذا تناول التنظير العلمي بأكبر قدر ممكن من الفحص لضمان دقته قدر الإمكان. ولكنْ جديرٌ بالانتباه أنه رغم احتمال أن تكون النظرية خطأً بعد اختبارها عمليًّا على هذا النحو، فإنه لا يوجد سبب محدد للشك فيها. وهكذا نجد مرة أخرى أن قابلية الخطأ وحدها ليست أساسًا قويًّا للشك.
ما المعرفة؟
حتى الآن كان محور تركيزنا هو ما نعتقده بشأن الحقيقة. لكننا لا نريد أن نصدق الحقيقة فحسب، بل نريد أن «نعرفها». في المقابل، إذا تمكن المتشكك من جعلنا نشك فيما نعتقد، فسيؤكد بذلك أننا بلا معرفة، فلا يمكن أن نعرف شيئًا إذا كنا حتى لا نؤمن به. وهذا هو الهدف الأساسي للمتشكك: إقناعنا بأننا، إن كنا نعرف شيئًا أصلًا، لا نعرف الكثير مما نعتبر أننا نعرفه، ومن ثَمَّ يجعلنا نشك في كل شيء كنا نعتبره حتى الآن صحيحًا.
لا تنطوي المعرفة على ما نعتقده فحسب؛ وذلك لأن من الممكن للفرد أن يشكل معتقداته بشتى الطرق غير المناسبة. على سبيل المثال، صواب التخمين ليس معرفةً. أو، لنأخذ مثالًا من نوع آخر، تخيل شخصًا ساذجًا تمامًا، أي أنه يصدق كل شيء يُقال له، مهما كان غير منطقي. لنقل إن معظم ما يُقال له كذب، لكن من حين لآخر يُقال له شيء صحيح. وحيث إنه يصدق كل ما يُقال له، فهناك أيضًا بين الأكاذيب العديدة التي يصدقها حقائق استثنائية. لكن من الواضح أن هذه المعتقدات الصحيحة لا ترقى إلى مستوى المعرفة. لا يمكن لشخص أن يكتسب المعرفة بأن يصدق كل ما يُقال له، حتى لو تصادف وصدق شيئًا صحيحًا نتيجة لذلك. السذاجة ليست طريقًا للمعرفة، حتى لو صادفت الحقيقة.
إذن المعرفة تتطلب أكثر من مجرد صحة ما نعتقده. قبل أن نسأل أنفسنا ما يلزم للوصول إلى المعرفة فضلًا عن صحة ما نعتقده، لنتوقف للحظة ونتأمل ما المقصود بأن المعرفة تتطلب «على الأقل» صحة ما نعتقده.
أول شيء يجب أن نلاحظه هو أننا نتحدث هنا عن نوع معين من المعرفة، وهو ما يعرف بالمعرفة «الخبرية». كما يوحي الاسم، إنها المعرفة بالخبر، حيث الخبر هو عبارة تصف شيئًا بطريقة معينة. مثال ذلك: القول بأن باريس عاصمة فرنسا، أو أن تربيع ٢ يساوي ٤. حين نعتقد أن هذا هو حال الشيء (مثل أن باريس هي عاصمة فرنسا)، يكون ما نعتقده خبرًا. ومن ثَمَّ، عندما نعرف ما نعتقده، يكون ما نعتقده خبرًا صحيحًا.
ليست كل أشكال المعرفة خبرية. هناك مثلًا المعرفة القائمة على القدرة، أو المعرفة العملية. إنني أعرف كيف أقود الدراجة، وكيف أسبح، وكيف أوصل أسلاك القابس، وأشياء أخرى كثيرة. من الواضح أن المعرفة القائمة على القدرة مختلفة جدًّا عن المعرفة الخبرية. على سبيل المثال، رغم أنني أعرف كيف أقود الدراجات، فإنني لا أستطيع أن أشرح ما أفعله بالضبط وأنا أقود دراجتي. وإذا تأملت الأمر، فستجد أن الكثير من المعرفة القائمة على القدرة كذلك. معرفة كيفية فعل شيء ما غالبًا ما تكون مختلفة جدًّا عن معرفة مجموعة من الأخبار عن ذلك النشاط. وعلى أي حال، حين نقول إن المعرفة لا تقتصر على صحة ما نعتقد، فإننا بالطبع نقصد المعرفة الخبرية، تمامًا كما يكون الاعتقاد خبريًّا.
أما الآن، فلننظر في الادعاء بأن المعرفة تستلزم «صحة» ما نعتقده. ألا يمكن أن يكون هناك معرفة خاطئة (أي معرفة بأخبار خاطئة)؟ بالطبع قد يحدث أن يفترض شخص بتفكير منطقي تمامًا أن معرفته صحيحة، ومع ذلك يتبين خطأ ما ظن أنه يعرفه. هكذا كان وضع كثير من الناس قبل عدة قرون حين كانوا يظنون حسب منطقهم أن الشمس تدور حول الأرض. لكن الظن بأنك تعرف شيئًا، حتى إن كان ظنًّا منطقيًّا بأنك تعرفه، ليس نفسه المعرفة الفعلية. بما أن الشمس لا تدور حول الأرض، فلا أحد من الناس الذين عاشوا قبل قرون واعتقدوا هذا كان يعرف فعلًا ما كان يعتقده؛ إنما كان يظن أنه يعرف.
لاحظ أنه على الرغم من أن المعرفة تتطلب الحقيقة (أيْ صحة الاعتقاد)، فإنها لا تتطلب بالضرورة العصمة من الخطأ أو حتى اليقين. على سبيل المثال، الكثير من معرفتنا بالعالم من حولنا نكتسبه من خلال حواسنا، مثل الرؤية، والسمع، واللمس، وما إلى ذلك؛ وهذا ما يُعرَف بالمعرفة الإدراكية. لكن حواسنا بالتأكيد عُرضة للخطأ حيث قد تخدعنا أحيانًا. قد تخدعنا الأوهام البصرية فنرى شيئًا غير موجود (مثل أن تبدو العصا المستقيمة منحنية عند وضعها تحت الماء). بالمثل، قد يصاب المرء بالهلاوس تحت تأثير المخدرات. لكن قابلية حواسنا للخطأ لا تحول بيننا وبين المعرفة الإدراكية، أي المعرفة التي تأتينا عن طريق حواسنا. لأنه على الرغم من أنك لا يمكن أن تعرف إدراكيًّا إذا كانت توجد واحة أمامك في حال تخيلت ذلك من إصابتك بهلوسة، فهذا لا يعني أن حواسك الإدراكية (القابلة للخطأ) لا يمكنها أن تنقل لك المعرفة في الظروف العادية عندما تؤدي وظائفها بشكل صحيح. وكما أشرنا أعلاه حين ناقشنا القابلية للخطأ في سياق النسبية، ارتكابنا الأخطاء أحيانًا ليس أساسًا قويًّا للشك في كل ما نعتقد. ولنفس السبب، لا يشكل أيضًا أساسًا قويًّا للشك فيما إذا كنا نعلم أي شيء. إن عدم عصمة معرفتنا من الخطأ لا يعني مع ذلك أنها ليست معرفة حقيقية.
الأمر نفسه ينطبق على اليقين. قد أكون متأكدًا تمامًا من الأشياء التي أعرفها، لكن هذا ليس لازمًا، وغالبًا ما لا يكون الأمر كذلك على أي حال. إنني الآن، على سبيل المثال، أعتقد أن سيارتي واقفة خارج منزلي. هذا هو المكان الذي تركتها فيه سابقًا (أتذكر ذلك بوضوح)، وإنني أعيش في منطقة ليس من المعتاد فيها سرقة السيارات. بالإضافة إلى ذلك، أنا الوحيد الذي لديه مفاتيح قيادتها (وهي معي في جيبي). ولذلك فإن احتمالية ألا تكون السيارة موجودة الآن خارج منزلي منخفضة جدًّا. إذا كان اعتقادي صحيحًا، وكانت سيارتي موجودة الآن خارج منزلي، فأظن أننا سنسلم بأن هذا شيء أعرفه. لكن هل أنا متأكد تمامًا من هذا الادعاء؟ حسنًا، رغم أنني واثق إلى حدٍّ ما به، فلا أظن أنني سأقول إنني متأكد تمامًا. فعلى كل حال، لقد مرت بضع ساعات منذ رأيت سيارتي آخر مرة حيث تركتها، وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال مستبعد فهناك سيناريوهات عدة ليست بعيدة الاحتمال تمامًا بأن يكون شيء قد حدث لها في تلك الأثناء (لا سيما أن تكون قد سُرِقَت). كون ما نعتقده ليس متيقنًا تمامًا لا يعني أنه لا يرقى إلى مستوى المعرفة.
إذن، رغم أن المعرفة تتطلب الحقيقة، فإنها لا تتطلب العصمة من الخطأ أو اليقين. هذا معناه أن الشكوكيين الذين يسعون لأن ينكروا علينا معرفتنا لا بد أن يفعلوا ما هو أكثر بكثير من إثبات أننا نكتسب معتقداتنا بطرق محتملة الخطأ، أو أننا غالبًا ما لا نكون متيقنين تمامًا مما نعتقد. إذن، كيف يحفزون ريبهم الشكوكي؟
ذكرنا قبل برهة أن المعرفة تتطلب أكثر من مجرد صحة الاعتقاد. هذه فرصة مناسبة لإعادة النظر في ذلك الادعاء؛ لأن الشكوكية قادرة على اكتساب بعض النفوذ من الفجوة بين المعرفة والاعتقاد الصحيح المحض. ذكرنا أعلاه أن الاعتقاد الصحيح المحض يمكن اكتسابه بطرق عشوائية وغير مناسبة شتى؛ منها على سبيل المثال، أن يكون المرء ساذجًا فحسب. وفي مثل هذه الحالات، لن يرقى الاعتقاد الصحيح إلى مستوى المعرفة. فماذا نحتاج لتحويل اعتقاد صحيح إلى معرفة؟ هناك العديد من المقترحات المتنافسة في هذا الشأن يقدمها علماء إبستمولوجيا معاصرون، لكن الفكرة العامة هي أن المعرفة يلزمها على الأقل اعتقاد صحيح «قائم على أسباب وجيهة».
بعبارة أدق، تتطلب المعرفة أسبابًا وجيهة لافتراض أن الاعتقاد المعني صحيح. السبب في هذا التحفظ هو أنه قد تكون هناك أسباب وجيهة للاعتقاد في افتراض ما، لكنها ليست بالضرورة أسبابًا وجيهة لنظن أن ما نعتقده صحيح. تخيل أن شخصًا وجه مسدسًا نحو رأسك وأخبرك أنه سيطلق عليك النار ما لم تعتقد بوجود حياة خارج الأرض. في مثل هذا السيناريو، سيكون لديك بالتأكيد سبب وجيه للاعتقاد بوجود حياة خارج الأرض، حيث إنها الطريقة الوحيدة لتجنب إطلاق النار عليك وقتلك. لكن تهديد شخص بإطلاق النار عليك إذا لم تصدق أن هناك حياة خارج الأرض ليس سببًا وجيهًا للاعتقاد بأنه صحيح أن هناك حياة خارج الأرض. بل هو مجرد «سبب احترازي» لتعتقد ذلك؛ أي أنه أنسب لك أن تعتقد ذلك، ما دمت تريد البقاء على قيد الحياة.
على النقيض من ذلك، إذا اكتشف العلماء أن هناك حياة خارج الأرض وأعلنوا عن اكتشافهم ذلك، فعندئذٍ سيكون لديك سبب وجيه للاعتقاد بأنه صحيح أن هناك حياة خارج الأرض. فالعلماء، في نهاية المطاف، أدرى بما يقولونه في هذا الصدد، وسيكونون قد أجروا عمليات الرصد المناسبة، وجمعوا الأدلة الداعمة لهذا الادعاء وتحققوا منها، وما إلى ذلك. الأسباب التي تدعو لأن نظن أن اعتقادًا ما صحيح تُعرف بالأسباب «الإبستمولوجية». (هذا لأن مجال الفلسفة المعني بالحقيقة والمعرفة وما شابه ذلك يُسمى «الإبستمولوجيا»، ويُعرف ممارسوه باسم علماء الإبستمولوجيا.) حين نتحدث عن المعرفة من ناحية كونها اعتقادًا صحيحًا قائمًا على أسباب وجيهة، فإننا نقصد بذلك تحديدًا الأسباب الإبستمولوجية؛ أي أسباب افتراض أن الاعتقاد المعني صحيح.
إن الأسباب الوجيهة من هذا النوع تحديدًا هي ما يفتقر إليه الشخص عندما يكوِّن معتقداته من خلال التخمين أو تصديق كل ما يقال له بسذاجة محضة. إذا كان ما يعتقد المرء أنه صحيح مبنيًّا على التخمين فقط، فهو لا يملك أسبابًا وجيهة على الإطلاق ليعتقد ما يعتقده، سواء كانت أسبابًا إبستمولوجية أو غير ذلك. قد «يظن» الشخص الساذج أن لديه أسبابًا جيدة لاعتقاد ما يعتقده. فهذا ما أخبره به أحد الأشخاص في نهاية المطاف، وهو يظن أن على الإنسان أن يصدق كل ما يُقال له، مهما كان غير واقعي. غير أن أسبابه لاعتقاد ما يعتقده ليست أسبابًا إبستمولوجية وجيهة، لأن الاستعداد لتصديق كل ما يُقال ليس طريقةً مناسبةً لتكوين معتقدات صحيحة.
يمكننا توضيح هذه النقطة غاية التوضيح بالمقارنة بين هذه الطريقة في تكوين القناعات وبين شخص ليس ساذجًا على الإطلاق، ولذلك يقتنع بالخبر وفقًا لطريقة إبستمولوجية مناسبة؛ مثلًا عن طريق الاحتراز من الشخص الذي ينبغي أن يصدق شهادته، والتروي فيما إذا كان ما أُخبر به منطقيًّا، وهكذا. تصور، على سبيل المثال، شخصًا يعتقد أن هناك حياة خارج الأرض لأنه استمع إلى الشهادة من العلماء، التي أُذيعت على نطاق واسع في جميع القنوات الإخبارية الرئيسية ذات المصداقية. إذا سألنا مثل هذا الشخص لماذا يعتقد ما يعتقده، فسيكون قادرًا على تقديم شتى الأسباب الإبستمولوجية القوية لدعم اعتقاده. فقد يقول مثلًا إنه يعرف أن الشخص الذي أخبره بالمعلومة جدير بالثقة في الموضوع المعني (وهذا صحيح، حيث يدرك العلماء الذين يعملون في هذا المجال أن سمعتهم متوقفة على تأكيد ما يدعمه الدليل العلمي فقط). يمكنه أيضًا أن يشير إلى أن القصة متداولة على مِنصات إخبارية ذات سمعة طيبة، مِنصات معروفة بالتحقق من مصادرها، وهكذا.
إذن، رغم أن السذاجة ليست السبيل للمعرفة، حتى حين ينتج عنها اعتقاد صحيح، فبإمكان المرء أن يكتسب المعرفة من شهادة شخص آخر، ما دام سيتوصل إلى اعتقاد صحيح بأسلوب حذر. إن الحذر، على وجه التحديد، عند تكوين المرء لقناعاته هو ما سيولد الأسباب الإبستمولوجية القوية التي تميز هذا الاعتقاد عن الاعتقاد الذي لا أساس له الذي يتشكل عن طريق تصديق أي شيء. وما دام الاعتقاد الصحيح قائمًا على أسباب إبستمولوجية مناسبة، فمن الممكن أن يرتقي إلى مستوى المعرفة.
يمكننا الآن أن نرى كيف يمكن للمرء أن يحفِّز الريب الشكوكي. الفكرة هي أن يبين للآخر أنه ليس لديه أسباب إبستمولوجية وجيهة تدعم معتقداته، ومن ثَمَّ فهو يفتقر للمعرفة. إذا كان هذا صحيحًا، فإن معتقداته، حتى لو كانت صحيحة، ليست بأفضل من معتقدات الشخص الذي كونها بسذاجة بتصديق كل ما يُقال له (أو بتخمين محض مثلًا).
ثمة نقطة حاسمة يجب الانتباه لها هنا وهي أنه عند تحفيز الريب الشكوكي بهذه الطريقة، فهذا ليس ادعاءً بأن معتقداتك خاطئة. في الواقع، على الرغم من كل ما ادعاه المتشكك، قد تكون معتقداتك صحيحة تمامًا. الواقع أن النقطة الأساسية هنا هي أن تلك المعتقدات لا تتمتع بأسس إبستمولوجية قوية؛ ولذلك لا ترتقي لمستوى المعرفة. وهذه النقطة مهمة لأنها توضح أن الشكوكية لا يلزم أن تستهدف صحة معتقداتنا على الإطلاق. بالمثل، وبالعودة إلى مناقشتنا السابقة للنسبية، فإن تقديم رواية نسبية للحقيقة، بحيث تكون الحقيقة نسبية حسب الرأي الذاتي للمرء، لن يكون له أي تأثير على المشكلة الشكوكية حسب هذا التفسير (حتى لو تمكنا من العثور على طريقة لجعل النسبية متسقة). فصاحب الموقف الشكوكي الراديكالي يقول إننا نفتقر لمعرفة حقيقة موضوعية، وهو ما يتوافق مع أن يكون للمرء آراء صحيحة موضوعيًّا لا ترتقي إلى مستوى المعرفة، وكذلك أن يكون لديه آراء صحيحة ذاتيًّا لا ترتقي إلى مستوى المعرفة. وهكذا تكون النسبية بعيدة تمامًا عن الريب الشكوكي الذي يستهدف تحديدًا المعرفة بالحقائق الموضوعية بهذه الطريقة.
لنستحضر كذلك نقاطًا أخرى أثرناها سابقًا. لنتذكر تحديدًا أننا ذكرنا أن الريب الشكوكي لن يكون مدعاة لاهتمام بالغ إذا كان الباعث عليه الادعاء بأننا يجب أن نكون معصومين أو على يقين تام، حيث إن المعرفة لا تستلزم أيًّا من الأمرين. ينطبق الأمر نفسه على الشكوكية التي تركز تحديدًا على أسبابنا الإبستمولوجية. من الممكن أن يكون لدى المرء أسباب إبستمولوجية وجيهة للاعتقاد بصحة شيءٍ ما، وبذلك يكون لديه معرفة، حتى لو كانت هذه الأسباب قابلة للخطأ، وحتى لو لم تكن هذه الأسباب كافية لجعله على يقين تام. في الواقع، في الحالة التي ذكرناها للتو عن شخص يشكل بطريقة سليمة اعتقاده بوجود حياة خارج الأرض وذلك بالاستماع إلى شهادة العلماء، فإن الأسباب الإبستمولوجية ليست معصومة من الخطأ، وليس من المرجح أن يكون ذلك الشخص على يقين تام مما يعتقده على هذا الأساس. ومع ذلك، فإن بإمكانه بلوغ المعرفة من خلال تشكيل اعتقاده الصحيح على هذا النحو.
تذكر أيضًا أننا ذكرنا أعلاه أن الادعاء بأن ثمة احتمالًا بسيطًا أن يكون المرء مخطئًا ليس كافيًا لإثارة الريب الشكوكي. ومثلما يمكن اكتساب المعرفة بطريقة قابلة للخطأ، يمكن أن يكتسب المرء معرفة حقيقية حتى مع وجود احتمال ضئيل للخطأ. فإن ما يقوض المعرفة هو احتمالات الخطأ «الكبيرة» وليس احتمالات الخطأ «الضئيلة». إن تكوين المرء لاعتقاداته وآرائه بتصديق أي شيء بسذاجة يترتب عليه احتمالات كبيرة للخطأ، فإذا كان المرء يصدق كل ما يقال له، مهما كانت سخافته، فلا بد أن يؤدي به هذا في النهاية إلى تصديق أكاذيب. لكن تشكيل المعتقدات العلمية بالاستماع إلى شهادة الخبراء العلميين، حتى وإن كان قابلًا للخطأ بالضرورة، لا ينطوي على احتمال كبير للخطأ؛ ولذلك يمكن أن يكون طريقًا للمعرفة.
سنتناول نوعًا من الريب الشكوكي يستهدف به المتشككون الأسس الإبستمولوجية التي نستند إليها في معتقداتنا. تدعي الشكوكية من هذا النوع أننا لا نملك أسسًا كافية لمعتقداتنا، ولذلك نفتقر إلى المعرفة. هذا الادعاء متوافق تمامًا مع كون معتقداتنا صحيحة، ولذلك فالمتشكك ليس بحاجة إلى أن يزعم أنها ليست صحيحة. لكن يلزم المتشكك أن يبين أن شكوكيته لا تفترض أن المعرفة معصومة من الخطأ أو أنه على يقين تام مما يعتقد. بالمثل، يلزمه إثبات أنه يستند إلى احتمال خطأ كبير، وليس مجرد الإشارة إلى أن هناك احتمالًا، مهما كان بعيدًا، أنه قد يكون مخطئًا. كما سنرى، حتى مع هذه القيود، هناك طريقة لإثارة الريب الشكوكي تلبي كل هذه الشروط.
الشكوكية والعبث
لكن قبل أن ننتقل لتناول هذا الشكل من الريب الشكوكي، سنختم هذا الفصل بتأمل لماذا قد يكون من المهم لنا أن تكون لدينا المعرفة الواسعة التي نعتبر أننا نمتلكها. هل يمكننا أن نقبل، دون أن يسبب لنا ذلك إزعاجًا كبيرًا أو تناقضات منطقية في حياتنا، الادعاء الشكوكي الراديكالي بأننا لا نعرف الكثير؟ لا أظن ذلك. سنستكشف هذا الموضوع على نحو أشمل في الفصل الرابع، أما الآن فسأكتفي بتقديم بعض الملاحظات الأولية في هذا الشأن.
تصور أن يكون المتشكك على حق وأنك لا تعرف الكثير. قد يبدو الادعاء مبهمًا جدًّا بهذه الصياغة، لكنه من السهل نسبيًّا أن نتبين التبعات العملية الهائلة المترتبة على ما يدعيه المتشكك. فكر في الأمر. أنت لا تعرف إن كان والداك هما والدَيك فعلًا. ولا تعرف إن كان أصدقاؤك هم أصدقاءك. ولا تعرف شيئًا عن ماضيك، ولا تلك الأحداث العزيزة التي يبدو أنك تتذكرها، أو تلك الإنجازات التي تعتز بها غاية الاعتزاز. وهكذا دَوالَيْكَ. ومع معرفتك المحدودة، لا أحد من هؤلاء الأشخاص له وجود ولا أي من هذه الأحداث حدث قط.
في الواقع، كما سنرى في الفصل الثاني، لا يدعي صاحب الشكوك الراديكالية أنك تفتقر للمعرفة فحسب، بل إنك تحديدًا تفتقر لأي سبب إبستمولوجي وجيه لتعتقد ما تعتقده. ومن ثم، فليس بإمكانك أن تواجه صاحب الشكوك الراديكالية بالتأكيد على أنك إن كنت تفتقر للمعرفة فلديك أسباب (إبستمولوجية) وجيهة لاعتقاد ما تعتقد؛ لأنه إذا كان المتشكك على حق فإنك حتى لا تملك تلك الأسباب. أي أن الأمر لا يقتصر على أنك لا تعرف (مثلًا) إذا كان والداك هما والدَيك، ولكنك لا تملك سببًا (إبستمولوجيًّا) وجيهًا لكي تحسبهما والدَيك؛ أي ليس هناك أي سبب على الإطلاق لتعتقد أنه صحيح أن الشخصين اللذين تعتقد أنهما والداك هما في الواقع والداك. وما ينطبق هنا على اعتقادك بشأن والدَيك سينطبق على أي اعتقاد لديك بخصوص أي شيء تهتم به.

سنعود إلى هذه النقطة في وقت لاحق، أما الآن فأريد فقط الإشارة إلى حقيقة أن الشكوكية الراديكالية لها على ما يبدو عواقب مدمرة على المعنى من حياتنا. وهي من هذا المنطلق مشكلة وجودية. إذا كان هذا صحيحًا، فحتى لو تجاهلنا العواقب الاجتماعية الوخيمة التي ذكرناها فيما سبق للشكوكية الراديكالية، فستظل مشكلةً يجب التعامل معها بجدية نظرًا لتهديدها بجعل وجودنا عبثيًّا.