هل المعرفة مستحيلة؟
في هذا الفصل، سنتناول حجةً مؤثرةً تدعي أننا نجهل الكثير مما نعتقد أننا نعرفه. إذا كانت هذه الحجة صحيحة، فإنها تسوغ الشكوكية الراديكالية. تذكر أننا في الفصل الأول ذكرنا الفرق بين الشكوكية المتمركزة، المعنية فقط بالشك في ادعاءات معينة، والشكوكية الأعم، أو الراديكالية، التي تدعو إلى الشك في الكثير من معرفتنا إجمالًا. كما رأينا، يمكن أن تكون هناك أسباب وجيهة كثيرة للتشكك في مسائل محددة، ولذلك فالشكوكية المتمركزة من الممكن أن تكون صحية تمامًا من وجهة نظر فكرية. في الواقع إن ما يخلق معضلة فكرية، على ما يبدو، هو الشكل الراديكالي من الشكوكية. لقد ذكرنا بالفعل أنه بمجرد أن يضرب هذا الشكل بجذوره تصير لديه القدرة على إحداث شتى أنواع الأسقام التي تصيب الحياة العامة، حيث لا يعود لدى الناس اهتمام بما هو حقيقي وما ليس كذلك. والأسوأ من ذلك، كما أشرنا، أن الشكوكية الراديكالية لديها القدرة على جعل حياة المرء بلا معنًى.
ومع ذلك رأينا أيضًا في الفصل الأول أن إثارة الشكوكية الراديكالية من هذا النوع ليست عملية بسيطة. فلا يكفي على سبيل المثال الاحتكام لواقع أننا نخطئ أحيانًا، أو بشكل أعم مجرد الإشارة إلى أننا كائنات غير معصومة من الخطأ. كما أوضحنا، لا تستلزم المعرفة العصمة من الخطأ، ولذلك فإن امتلاكنا لمعرفة حقيقية منسجم تمامًا مع حقيقة أننا نخطئ أحيانًا. بالمثل، لا يكفي الإشارة إلى أننا غالبًا ما لا نكون على يقين تام مما نعتقده، حيث لا تتطلب المعرفة اليقين أيضًا.
إذا لم يكن من الممكن تحفيز الريب الشكوكي الراديكالي بهذه الطرق، فكيف يمكننا تحفيزه؟ هنا يأتي دور الحجة التي سنتناولها. الهدف من هذا النوع من الحجج الشكوكية أن يبين أننا لا نملك أي أسباب وجيهة لافتراض أن معتقداتنا صحيحة.
تذكر أننا أطلقنا على الأسباب من هذا النوع الأسباب الإبستمولوجية، وقارنَّا بينها وبين الأسباب «التحوطية» المحضة. تكون أسبابنا تحوطية عندما نصدق شيئًا لأنه من المفيد لنا أن نصدقه، بغض النظر عما إذا كان صحيحًا أم لا. الأسباب الإبستمولوجية، في المقابل، هي تحديدًا أسباب للظن أن الاعتقاد المطروح صحيح. إن الأسباب الإبستمولوجية التي تدعم معتقداتنا الصحيحة هي ما نحتاج إليه حين نريد أن نعرف ما نعتقده. وبناءً على ذلك، سنجد أن الحجة الشكوكية الراديكالية التي سندرسها ستدعي أننا نفتقر إلى الأسباب من هذا النوع المحدد لدعم معتقداتنا.
تذكر أيضًا أن الحجة الشكوكية التي تركز على الأسباب الإبستمولوجية لمعتقداتنا لا يعنيها ما إذا كانت معتقداتنا صحيحة. أي إن الشكوكية من هذا النوع لا تدعي أن معتقداتنا خطأ عمومًا، وإنما لا ترقى عمومًا إلى مستوى المعرفة (لأنها ليست مدعومة بأسباب إبستمولوجية وجيهة). لكن من الممكن أن تكون معتقداتنا عمومًا صحيحة ومع ذلك لا ترقى إلى مستوى المعرفة (كأن يكون شخص ساذجًا تمامًا، ومن ثَمَّ لا يعرف الكثير، لكن قد يكون لديه الكثير من المعتقدات الصحيحة). كون معتقداتنا صحيحة، وكونها ترقى إلى مستوى المعرفة، حتى إن كانت صحيحة، هما مسألتان مختلفتان.
الشك الديكارتي
مع أخذ كل هذا في الاعتبار، لنبدأ في بناء حجتنا الشكوكية الراديكالية. هذه حجة شكوكية راديكالية معاصرة ترجع جذورها إلى أعمال رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠)، وخاصةً كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى». لذلك فإن هذا النوع من الشكوكية يُوصَف عادةً بأنه ديكارتي، وإن كان يحيد عن الحجة الشكوكية الخاصة التي قدمها ديكارت في بعض النواحي الحاسمة. (وغالبًا ما يُطلق عليها أيضًا شكوكية العالَم الخارجي، لأسباب ستتضح لاحقًا.)
لاحِظ أن ديكارت لم يكن شكوكيًّا راديكاليًّا، وبالطبع لم يكن يحاول إقناع أي شخص بتبني الاستنتاجات الشكوكية الراديكالية. إنما كان اهتمامه بالشكوكية الراديكالية منهجيًّا. لقد أراد تحديدًا أن يجد أسسًا ثابتة للمعرفة من خلال استخدام «منهج الشك»، أي الشك في أكبر عدد ممكن من معتقداته. ولذلك فالهدف من استخدامه للشكوكية الراديكالية هو أن يضع نظام معتقداتنا في نوع من «اختبار الصمود». ظن ديكارت أنه يمكنه بهذه الطريقة العثور على النقاط الثابتة غير القابلة للشك، ومن ثَمَّ المؤكدة، في هذه المعتقدات، والتي يمكن أن نؤسس عليها معرفتنا. بتعبير دقيق، إذا كان باستطاعتنا أن نعزو معرفتنا إلى مثل هذه الأسس الإبستمولوجية الراسخة، فعندئذٍ سيمكننا بذلك أن نطمئن إلى كونها محصنة من التحديات الشكوكية. لذلك يُعرف هذا النوع من المشروع الإبستمولوجي باسم «التأسيسية»، وهكذا لا بد أن يكون واضحًا أن الغرض منه أن يكون مشروعًا معاديًّا للشكوكية بشكل قاطع، على الرغم من أنه يستخدم في ذلك الحجج الشكوكية.
قد تكون على معرفة بالنقطة الثابتة غير القابلة للشك التي ادعى ديكارت أنه اكتشفها باستخدام هذه المنهجية الشكوكية، حيث يأتي هنا تعليقه الشهير باللغة اللاتينية «كوجيتو إرجو سوم» (المعروف اختصارًا باسم الكوجيتو). وعادةً ما يُتَرجَم إلى «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، على الرغم من بعض الخلاف على الترجمة. بإيجاز، كان المبدأ الذي توصل إليه ديكارت هو أنه يمكن للإنسان أن يشك في معظم ما يعتقده — سنناقش بعد قليل لماذا ادعى هذا — ولكن لا يمكنه أن يشك في وجوده. لأنه إذا شك الإنسان في وجوده، فهو بذلك يفكر، وذلك يعني أنه لا بد أن يكون موجودًا لكي يتمكن من التفكير أصلًا. وبذلك يكون وجود المرء أمرًا لا يقبل الشك، ولذلك يكون أساسًا إبستمولوجيًّا آمنًا لمعرفتنا. وبعبارة أكثر تحديدًا، ما كان يبحث عنه ديكارت كأساس للمعرفة هو اليقين، والقصد من أن الكوجيتو لا يقبل الشك هو إثبات أنه شيء نستطيع أن نكون على يقين من صحته.
من المثير للاهتمام أن منهجية التأسيسية الخاصة بديكارت لم تلقَ رواجًا، أما الشكوكية الراديكالية التي طرحها لإنتاج هذا الأسلوب من التأسيسية فما تزال تستحوذ على المُخيِّلة الفلسفية. يعود هذا من ناحية إلى صعوبات كبيرة جدًّا يعاني منها التفسير التأسيسي الذي صاغه ديكارت، ولا سيما فيما يتعلق بكيفية استناده بشكل أساسي إلى وجود الله (وكذلك إلى طبيعة الله المعرفية الخيرة). لكن من ناحية أخرى تعود الجاذبية المستمرة لصيغة ديكارت للشكوكية الراديكالية إلى استخدامه لابتكار نظري مهم يُعرف هذه الأيام بالفرضية الشكوكية الراديكالية.
الفرضية الشكوكية الراديكالية هي احتمالية للخطأ ذات خاصيتين رئيسيتين. الأولى أنها سيناريو لا يمكن على الإطلاق التمييز بينه وبين حياة الإنسان اليومية. الثانية أنها سيناريو فيه معظم ما يعتقده المرء خطأ. هاتان الخاصيتان تجعلان الفرضيات الشكوكية الراديكالية مختلفة جدًّا عن أنواع احتمالات الخطأ التي نلقاها عادةً. لننظر في احتمالات الخطأ العادية المذكورة في الفصل الأول، حيث يعتقد المرء أن سيارته متوقفة خارج بيته، لكنها في الواقع قد سُرقت. لا يوجد شيء ملتبس في هذا السيناريو، فحسب المرء أن يخرج من منزله للتحقق مما إذا كان ذلك صحيحًا. علاوةً على ذلك، فعلى الرغم من أنه يثير الشك فيما يعتقد الشخص — تحديدًا اعتقاده بخصوص الموقع الحالي لسيارته — فإنه لا يشكك على الإطلاق في كل ما يعتقده المرء. هكذا تختلف الفرضيات الشكوكية الراديكالية اختلافًا كبيرًا عن احتمالات الخطأ في الحياة اليومية.
يقدم ديكارت فرضيتين قويتين للشكوكية الراديكالية في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى». الأولى هي احتمال أن يكون المرء في حلم بالغ الواقعية. فمن الممكن أن تكون الأحلام مقنعة جدًّا، لدرجة أن المرء قد يقتنع بأنه مستيقظ تمامًا. من ثَمَّ يبدو أنه من المحتمل على أقل تقدير أن يكون ما يعيشه المرء الآن مجرد حلم؛ أي أحد تلك الأحلام الشديدة الواقعية التي تبدو حقيقية لدرجة ألا يدرك الشخص أنه يحلم. لو كان المرء في حلم كهذا فلن يمكنه تمييزه مطلقًا عن حياة اليقظة العادية. فلن يجدي مثلًا أن يقرص المرء نفسه للتأكد من أنه مستيقظ؛ لأنه إن كان في حلم فسيكون القَرص مجرد جزء من الحالة الشبيهة بالحلم نفسها.
إذا كان المرء خاضعًا لمثل هذا الحلم، فمع أنه سيبدو شاعرًا بالعالم من حوله («العالم الخارجي») بالطريقة المعتادة، فلن تكون تجارِبه الحسية في الواقع متصلة بالعالم الخارجي على الإطلاق. بدلًا من ذلك، إنها ستكون من نسج خياله. ونظرًا لأن تجارِب المرء الحسية الظاهرية في أحلامه هي من نسج خياله وليست نتاج العالم الخارجي، فيمكن للمرء أن يدرك كيف يمكن أن تُوَلِّد في النهاية اعتقادات خاطئة في أغلبها عن العالم الخارجي. من الممكن، على سبيل المثال، ألا يكون أي شيء مما اعتقدت أنك قد عشته في الماضي حدث بالفعل، وأنك فقط اعتقدت أنه حدث بسبب ما شعرت به في الحلم. في هذه الحالة، يجوز أن يكون كل ما تعتقده بخصوص هذه الأحداث خطأً. (ومثلما عبر الفيلسوف الصيني جوانج زو (الذي عاش حوالَي ٣٦٩–٢٨٦ قبل الميلاد) عن هذا الأمر، قبل ديكارت بسنوات عديدة، حين تساءل كيف يمكن للمرء أن يعرف إن كان إنسانًا يحلم بأنه فراشة وليس فراشة تحلم بأنها إنسان؟)
لدينا هنا احتمال للخطأ لا يمكن التمييز بينه وبين الحياة اليومية، ولكن معظم معتقدات الشخص فيه خاطئة (بما أن معتقدات الشخص بشأن العالم الخارجي تشكل جزءًا كبيرًا من معتقداته ككل). لدينا إذن «فرضية شكوكية راديكالية». لاحِظ أيضًا ما تشكك فيه هذه الفرضية الشكوكية الراديكالية، وهو صحة ما يعتقده المرء عن العالم الخارجي. لهذا السبب أحيانًا ما تُسمى الشكوكية الديكارتية بشكوكية العالم الخارجي.
كما ذكرنا للتو، كلنا على دراية بالأحلام، وكيف يمكن أن تخدعنا. أما عند ديكارت، فإن الهدف من الفرضية الشكوكية الراديكالية الخاصة بالأحلام هو تهيئتنا لاحتمال خطأ أكثر تطرفًا وخرقًا للطبيعة. إنه احتمال أن يكون هناك شيطان شرير لديه القدرة والرغبة في خداعنا بشكل ممنهج، لكن بطريقة خفية عنا تمامًا. إننا نعرف أن حواسنا قد تخطئ، فلماذا لا يكون من المحتمل أن يكون هناك كائن قادر على ضمان أن تظل تجارِبنا الحسية دائمًا مُضَلِّلَة، ولكن دون أن يكون ثمة إمكانية لاكتشاف ذلك، ولو حتى نظريًّا؟ فقد يكون بإمكانه، على سبيل المثال، أن يولِّد بداخلنا تجرِبة حسية للمشي في الغابة بينما نحن في الواقع طافون على سطح الماء؛ أو جعلنا نعتقد أننا فوق جبل بينما نحن في الواقع في أعماق كهف مظلم. رغم أن هذا السيناريو مستبعد، فالمغزى أنه لا يبدو مستحيلًا على الإطلاق. لكن مع هذه الدرجة من الخداع، لن يكون ثمة طريقة يمكننا بها تمييز هذه التجارِب المضللة عن الحقيقية. علاوةً على ذلك، فإن معظم معتقداتنا التي تشكلت على أساس هذه التجارِب الخادعة ستكون غالبًا خطأً؛ على سبيل المثال: قد يعتقد المرء أنه على قمة جبل وهو في الواقع في داخل كهف.
إلى هنا، يتشابه احتمال الخطأ الناتج عن «الشيطان الخبيث» كثيرًا مع سيناريو الحلم في أن كليهما يشكك في صحة تجارِبنا الحسية بشكل عام، ومن ثَمَّ يدفعنا للشك في صحة معتقداتنا بشأن العالم الخارجي. غير أن السيناريوهَين الشكوكيَّين يختلفان من حيث نطاق المعتقدات التي يشككان فيها. ففي الفرضية الشكوكية الخاصة بالشيطان الخبيث تحديدًا، يبدو المرء غير قادر على الثقة في تجارِبه الحسية، ليس هذا فحسب ولكن كذلك (تقريبًا) في أي عملية تكوين قناعات له أن يتصورها.
على سبيل المثال: قد يفترض المرء بطبيعة الحال أن ثقته في الحقائق الحسابية البسيطة، مثل أن «٤ + ٤ = ٨»، محصنة من الفرضية الشكوكية الخاصة بالحلم. أليس بإمكان المرء على كل حال أن يؤدي عمليات الجمع حتى في أحلامه، لتؤدي به إلى اعتقاد رياضي صحيح، حتى لو كانت كل معتقداته الحسية خاطئة؟ لكن ثمة نقطة حاسمة هنا، وهي أن الشيطان الخبيث بإمكانه دون شك أن يتدخل في عملياتك العقلية مثلما يتدخل في تجارِبك الحسية. وهو بذلك يستطيع أن يجعلك تشعر وكأنك تُجري عمليات حسابية بسيطة باستنتاجات صحيحة بديهية بينما أنت في الواقع مخطئ خطأً جذريًّا. أليس من الممكن للمرء تحت تأثير شيطان خبيث كهذا أن يعتقد أن «٤ +٤ = ٢» بنفس اليقين الذي قد يعتقد به أن «٤ + ٤ = ٨» في الظروف العادية؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن معظم معتقدات المرء قد تكون خاطئة خطأً لا يمكن اكتشافه، حيث لا يتوقف هذا عند ما يعتقده المرء عن العالم الخارجي الذي تكَوَّن على أساس تجارِب حسية ظاهرية، ولكن يمتد أيضًا لمعتقدات الشخص التي تكونت بطرق غير حسية، حتى تلك الناتجة عن عمليات عقلية بديهية مثل العمليات الحسابية البسيطة.
وبذلك تكون إمكانية الخطأ الناتجة عن الشيطان الخبيث فرضية شكوكية أكثر راديكالية حتى من فرضية الحلم، من ناحية أنها لا تشكك فقط في صحة معتقدات الشخص عن عالم خارجي، ولكن أيضًا في صحة معتقداته التي لا تتطرق لهذا العالم الخارجي. في الواقع، يبدو أن الكوجيتو هو الاعتقاد الوحيد الذي لا تشكك في صحته الفرضية الشكوكية الراديكالية للشيطان الخبيث، وهو ما يُظهِر مدى امتداد نطاق الشك لاحتمال الخطأ هذا.
هل أنت دماغ في وعاء؟
لم يجد جمهور ديكارت في القرن السابع عشر بأسًا في أن يأخذوا فكرة الشيطان المشاغب على محمل الجِد. لكن في وقتنا الحاضر الأكثر علمانية وعلمًا، أتصور أن الكثيرين ربما سيجدون هذه الوسيلة الفكرية خيالية بعض الشيء. لكن هذا لا يهم حقًّا لأننا نستطيع بسهولة أن نبتكر احتمالات خطأ لديها بالضبط نفس الخصائص الباعثة على الشكوكية دون الحاجة إلى اللجوء إلى مثل هذه الكائنات الخارقة للطبيعة. في الواقع، كما سنرى، حسبنا أن نذهب إلى السينما.

لاحظ كيف تتشابه الفرضية الشكوكية الراديكالية للدماغ في وعاء مع سيناريو الشيطان الخبيث لديكارت. بما أن أجهزة الكمبيوتر الفائقة تولِّد تجارِب حسية وهمية، فإنها تعيق اتصالنا الحسي بالعالم الخارجي. لكنها لا تزيف تجارِبنا الحسية فحسب، إذ يمكنها تزييف أيٍّ من تجارِبنا حسبما يتراءى لها. وعليه، فإن بإمكانها، تمامًا مثل الشيطان الخبيث، أن تجعلني أعتقد أنني قد أجريت عملية استدلال لا تشوبها شائبة، مثل المسألة الحسابية البسيطة، حتى عندما لا أكون قد فعلت شيئًا من هذا القبيل. وبذلك يكون لدينا سيناريو شكوكي لا يضاهي فقط شكوكية العالم الخارجي التي تميز الشكوكية الديكارتية، لكنه سيناريو يمكنه أيضًا أن يشكك حتى في صحة معتقداتنا التي لا تتعلق بالعالم الخارجي.
بالطبع كل هذا الحديث عن الأدمغة في الأوعية قد يبدو من قبيل الخيال العلمي. لكن لاحِظ أن لا أحد يقول إن هذا السيناريو حقيقي، أو حتى محتمل (كما لم يكن ديكارت يزعم أن هناك حقًّا شيطانًا خبيثًا يخدعنا). إنما يشير الشكوكي في الوقت الحالي إلى أن هذه الفرضية ممكنة، أي أنها شيء يمكن أن يحدث، بغض النظر عن مدى ضعف احتمال حدوثها. وهذا صحيح بالتأكيد. فلا شيء مما وصفه السيناريو مستحيل الحدوث على أي حال، ولذلك يجب أن نقر بأنه ممكن جدًّا.

أو بما أننا نستعين بالأفلام، فماذا عن السيناريو الشكوكي الراديكالي في فيلم «برنامج ترومان» (ترومان شو)؟ تدور أحداث هذا الفيلم حول شخص يظن أنه يعيش حياة طبيعية، لكنه في الواقع الشخصية الرئيسية في برنامج تلفزيوني. ولذلك فإن كل المحيطين به ممثلون، والبيئة التي يتفاعل فيها مع الآخرين ليست سوى موقع تصوير تلفزيوني. كما في السيناريوهات السابقة، لا تختلف تجارِب بطلنا في موقع التصوير عن التجارِب التي قد يمر بها في الحياة اليومية، حيث يعيش المرء حياة طبيعية حقيقية لا حياة مختلقة معدة بالكامل في استوديو تلفزيوني. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كثيرًا مما يعتقده غير صحيح. فهو لا يعيش في بلدة طبيعية، وأصدقاؤه ليسوا أصدقاءه، بل ممثلون يتظاهرون بأنهم أصدقاؤه، والمتاجر التي يذهب إليها ليست متاجر حقيقية، بل استوديوهات تصوير، وهكذا. وبما أن الكثير مما يعتقده غير صحيح، يترتب على ذلك أيضًا أنه لا يعرف الكثير مما يحسب أنه يعرفه.
(لاحظ أن هذا السيناريو الشكوكي يختلف قليلًا عن فرضية الحلم في فيلم «استهلال»، حيث لا يكون إدراك الشخص متصلًا بالعالم الخارجي على الإطلاق. فمع أن البطل في فيلم «برنامج ترومان» يتفاعل تفاعلًا حقيقيًّا مع عالم خارجي، فإنه أساسًا يسيء فهم طبيعة هذا التفاعل. في كلتا الحالتين، النتيجة واحدة حيث ما يعرفه البطل المخدوع عن العالم الخارجي أقل بكثير مما يتصوره.)
المغزى هو أننا بمجرد أن نفهم كيف تُعد الفرضيات الشكوكية الراديكالية، يصبح من السهل إلى حدٍّ ما أن نأتي بفرضيات جديدة. ولذلك لا جدوى من الاعتراض على ادعاء المتشكك بأن مثل هذه السيناريوهات ممكنة على الأقل. وعلى كلٍّ، فإن الإقرار بذلك على ما يبدو لا ينطوي على تنازل كبير على أي حال. مهما يكن من أمر، فعلى الرغم من أنه من الجلي أن الدماغ في وعاء، وكذلك ضحايا الفرضيات الشكوكية الراديكالية الأخرى لديهم الكثير من المعتقدات الخاطئة، وبالتبعية لا يعرفون الكثير، فلماذا قد يكون لذلك أي صلة بنا؟ تذكر أن المتشكك لم يدَّع أننا أدمغة في أوعية (أو ضحايا أي فرضية شكوكية راديكالية أخرى). بل إنه لم يدَّع حتى أن هذه السيناريوهات مرجحة؛ لذا فإنه رغم كل ما قيل حتى الآن، يمكننا اعتبارها احتماليات خطأ مستبعدة (وهكذا تبدو فعلًا). ونتيجة لهذا، ما دام الدماغ في الوعاء لا يعرف شيئًا فلماذا يمكن أن يكون لذلك أي عَلاقة بما نعرفه؟
هنا يقوم المتشكك بخطوة مهمة، وهي الإشارة إلى أنه من المستحيل استبعاد فرضية شكوكية راديكالية. أي أنه لا يبدو أنه باستطاعة المرء أن يعرف أنه ليس ضحية لفرضية شكوكية راديكالية. فلا يمكن للمرء على سبيل المثال، أن يعرف أنه ليس دماغًا في وعاء. فكيف يمكن للمرء أن يعرف أنه ليس دماغًا في وعاء، إذا كانت التجارِب التي يعيشها الدماغ في الوعاء لا تختلف عن تجارِبه اليومية؟ على سبيل المثال، سيكون من العبث البيِّن أن تشير إلى أنه بإمكانك أن ترى جسدك وتشعر به الآن، ولذلك تستنتج أنك لا يمكن أن تكون دماغًا في وعاء بلا جسد، وذلك لأن الدماغ في الوعاء بالطبع يختبر نفس التجارِب التي تختبرها أنت كما لو كان يملك جسدًا (رغم أن التجارِب في حالة الدماغ في الوعاء مُضَلِّلَة). بالمثل، لن يكون ثمة جدوى من الإمساك بالأشياء في بيئتك — مثل رفع كوب من على مكتبك، على سبيل المثال — واستنتاج أنك لا يمكن أن تكون دماغًا في وعاء لأن الأدمغة في الأوعية لا تتفاعل بدنيًّا مع بيئتها. وهذا لأن الأدمغة في الأوعية، كما قلنا في المثال السابق، ستعيش التجارِب مثلك تمامًا كما لو كانت تتفاعل مع الأشياء في بيئتها، حتى وإن كانت في الواقع لا تفعل شيئًا من هذا القبيل.
من المثير للاهتمام أنه سيكون من العبث كذلك الرد على الفرضية الشكوكية للدماغ في وعاء بزعم أن لديك أساسًا علميًّا للظن أنه لا يوجد أدمغة في أوعية في الزمن الحاليِّ. قد يميل المرء تحديدًا للجدل بأنه بما أن الحالة الراهنة للتكنولوجيا ليست متقدمة بما يكفي للسماح بفرضية الأدمغة في الأوعية، فهناك أساس عقلاني لاستبعاد هذا السيناريو الشكوكي. لكن لحظة تأمل تكشف أن مثل هذه الاعتبارات ليس لها أي عَلاقة بالمسألة المطروحة. فمن الممكن على كل حال «تغذية» هذا النظير المحفوظ في وعاء بمعلومات مماثلة عن الوضع الحالي لتقدم التكنولوجيا وسيتوصل بالتبعية إلى نفس الاستنتاج، غير أن ذلك الاستنتاج سيكون خاطئًا في حالته. ولذلك، فإن اعتقاد المرء أن علومنا حاليًّا لا يمكن أن تدعم وجود الأدمغة في أوعية ليس له أي عَلاقة بتقييم هذا السيناريو الشكوكي.
الخلاصة هي أنه ما دامت فرضيات الشكوكية الراديكالية مثل سيناريو الدماغ في وعاء لا يمكن التمييز بينها وبين تجارِب الحياة اليومية، فإنه يستتبع ذلك أنه لا يمكننا استبعادها. وهذا بدوره يعني أننا ليس باستطاعتنا أن نعرف أننا لسنا ضحايا لمثل هذه السيناريوهات. بعبارة أخرى، على حد علمنا، من الممكن أن نكون أدمغة في أوعية (أو خاضعين لحلم بالغ الواقعية، أو مخدوعين من شيطان خبيث، وما إلى ذلك).
هكذا قام المتشكك بخطوتين. الأولى: كانت شرح الفرضية الشكوكية الراديكالية، وادعاء أن تلك الفرضيات تصور سيناريوهات محتملة. والثانية: ادعاء أننا لا نستطيع استبعاد هذه الفرضيات الشكوكية الراديكالية، ولذلك فإننا لا نعرف إن كانت خاطئة.
هل فعل المتشكك ما يكفي لإثارة استنتاجه الشكوكي بشأن جهلنا لكثير مما نحسب أننا نعرفه (مثل الأمور المتعلقة بالعالم الخارجي)؟ إذا اعتقد المرء أن المعرفة تتطلب أن يكون معصومًا من الخطأ أو على يقين تام، فسيكون هذا الاستنتاج معقولًا. فقد نبهنا المتشكك، على كل حال، إلى فئة من احتمالات الخطأ ليس بإمكاننا استبعادها، حيث إنها تشكك في كثير مما نعتقد. من المؤكد إذن أننا لا نستطيع أن نعتبر أنفسنا واثقين بأن معرفتنا بأمور الحياة اليومية معرفة معصومة، بما أننا قد وصفنا للتو سيناريو شكوكيًّا نعتقد فيه ما نعتقده الآن بالضبط، غير أنه اعتقاد خاطئ (مثال ذلك: حين يكون المرء في الواقع دماغًا في وعاء). بالإضافة إلى ذلك، بما أننا نعلم أننا لا نستطيع استبعاد احتمالات الخطأ الشكوكية الراديكالية هذه، فكيف يمكننا أن نكون متيقنين تمامًا أن معتقداتنا المعتادة صحيحة؟ وبالمثل، إذا كان المرء يُجري عملية إبستمولوجية للبحث عن أساس غير قابل للشك للمعرفة، وبالتبعية مُتَيقَّن تمامًا، كما كان ديكارت يفعل، فلن يدعي أن ما يعتقده من أمور يومية قادرة على أن تفي بهذا الدور على الإطلاق.
لكن، كما رأينا في الفصل الأول، لا يبدو معقولًا على الإطلاق أن نحدد معايير بالغة الارتفاع للمعرفة بحيث تستلزم العصمة من الخطأ أو اليقين التام (أو في هذا السياق عدم جواز الشك فيها). على النقيض من ذلك، يبدو أن تصورنا اليومي للمعرفة يجعلنا قانعين تمامًا بفكرة أن المعرفة يمكن أن تكون قابلة للخطأ وغير أكيدة تمامًا (ولذلك فهي قابلة للشك إلى حدٍّ ما)، ومع ذلك تظل معرفة حقيقية. ما يهم هو أن يكون لدينا أسباب إبستمولوجية وجيهة لاعتقاد ما نعتقده، ومن الجائز أن يكون لدينا مثل هذه الأسباب حتى من دون العصمة من الخطأ واليقين التام. إذا كان هذا صحيحًا، فإن الإصرار على الافتقار للمعرفة سيكون مشابهًا لتغيير الموضوع بأسلوب ملتوٍ. في الواقع، سيكون المتشكك بذلك يجادل بأننا نفتقر للمعرفة حسب وصف محدد وبالغ الدقة «للمعرفة» يختلف جذريًّا عن الطريقة التي نستخدم بها مفهوم المعرفة في أحاديثنا اليومية. لكن لماذا علينا أن نأبه لذلك؟ سأستخدم تشبيهًا قدمه فيلسوف معاصر، وأقول إن الأمر أشبه بأن تصادف شخصًا يدعي أنه لا يوجد أطباء في مدينة نيويورك على أساس أنه يقصد ﺑ «طبيب» شخصًا يمكنه علاج أي مرض في غضون ٢٤ ساعة. لا أحد قد يأبه لشكوكية من هذا النوع بخصوص «الأطباء». فلماذا يُفتَرَض أن يختلف الأمر مع الشكوكية الراديكالية بخصوص المعرفة؟
جوهر المسألة أن مجرد وجود هذه الفرضيات الشكوكية الراديكالية التي تتحدث عن أخطاء كبرى لا يمكننا استبعادها لا يُثبت بحد ذاته أن هناك أي خطأ إبستمولوجي في معرفتنا اليومية. إنه يذكرنا، على أقصى تقدير، بأن هذه المعرفة عرضة للخطأ، ومن ثَمَّ ينبغي ألا نكون متيقنين تمامًا مما نعتقده. لكننا كنا نعرف ذلك بالفعل. كما أشرنا، مجرد احتمال الخطأ لا يكفي لتقويض المعرفة ما دام هذا الاحتمال بعيدًا. وهذه الفرضيات الشكوكية الراديكالية تصور احتمالات بعيدة للخطأ، رغم كل ما قاله الشكوكي الراديكالي خلافًا لذلك. فلتتذكر أن الشكوكي لم يدَّعِ أن الفرضيات الشكوكية الراديكالية التي يطرحها مرجحة الاحتمال، أو حتى أنها صحيحة. إذن، ما الذي يمنعنا من معاملتها كاحتمالات خطأ بعيدة ما دام هذا ما تبدو عليه؟ إذا كان هذا صحيحًا، فلا يبدو ثمة خطأ في افتراض أننا نعرف أغلب ما نعتبر أننا نعرفه. كل ما في الأمر أنه توجد بعض احتمالات الخطأ — التي انتقتها فرضيات شكوكية راديكالية — ولا يمكننا إثبات أنها خاطئة.
ولكن من المؤسف، كما سنرى الآن، أن الشكوكي الراديكالي قد بدأ لتوه فحسب يتأهب. أقصد تحديدًا أن ثمة طريقة لتأييد الفرضيات الشكوكية الراديكالية بمبدأ آخر مقنع جدًّا لخدمة أهداف الشكوكي. على وجه الخصوص، يساعد هذا المبدأ صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي على إثارة استنتاجه الشكوكي دون الحاجة إلى الاستعانة بفكرة أن المعرفة تتطلب العصمة من الخطأ أو اليقين التام.
الشكوكية ومبدأ الإغلاق
ها هو الوضع الراهن. لقد حاجج الشكوكي الراديكالي بأننا لا نستطيع أن نعرف أننا لسنا ضحايا لفرضيات شكوكية راديكالية، مثل سيناريو الدماغ المحفوظ في وعاء. لكن هذه الحجة تبدو في ظاهرها متوافقة تمامًا مع فكرة أننا نعرف الكثير مما نعتبر أننا نعرفه؛ فأنا أعرف أين أعيش، وماذا تناولت في الفطور اليوم، وأي قميص صوفي أرتدي الآن، وهكذا (وكلها، بالمناسبة، أشياء لا يعرفها الدماغ المحفوظ في وعاء). إذن، كيف يمكن لصاحب المذهب الشكوكي الراديكالي استخدام الادعاء بأننا لا نستطيع استبعاد الفرضيات الشكوكية الراديكالية في إثارة ريبه الشكوكي؟
هنا يقدم الشكوكي الراديكالي مبدأً يبدو لأول وهلةٍ عاديًّا تمامًا، لكنه يعزز موقفه للغاية كما سنرى. تمعن في الاستدلال التالي. افترض أنك تعرف أن اسم عاصمة فرنسا يبدأ بحرف الباء. ألا يجعلك هذا بالتبعية على علم أيضًا بأن مدريد ليست عاصمة فرنسا (لأن «مدريد» لا تبدأ بحرف الباء)؟ أو خذ مثالًا آخر. افترض أنك تعرف أن البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم هو الصين. إذن، ألا يجعلك هذا على علم بأن الهند ليس البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم (بما أنه لا يمكن أن يوجد سوى بلد واحد فقط هو الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم)؟
يبدو الاستدلال المطروح هنا مأمونًا، والسبب تحديدًا أن الاستنتاجات المطروحة واضحة للغاية، بناءً على ما تعرفه. ما توضحه هذه الاستنتاجات أنه إذا كنت تعرف افتراضًا واحدًا (مثل أن عاصمة فرنسا تبدأ بحرف الباء؛ أو أن الصين هو البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم)، وتعرف أن هذا الافتراض ينطوي على افتراضٍ ثانٍ (مثل أن مدريد ليست عاصمة فرنسا؛ أو أن الهند ليس البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم)، فإنك تعرف بذلك أن هذا الافتراض الثاني صحيح أيضًا. فماذا يمكن أن يكون مأمونًا أكثر من ذلك؟
المبدأ المطروح هنا هو الفكرة التي تقول إن المعرفة تُحفَظ، أو «تُغلَق»، بموجب استلزام منطقي معروف. هذا هو السبب في أنه غالبًا ما يُطلَق عليه اختصارًا اسم «مبدأ الإغلاق». من الصعب أن نرى كيف يمكن أن يفشل مثل هذا المبدأ. كيف يمكن لشخص يعرف افتراضًا ما، ويعرف أنه يستلزم افتراضًا ثانيًا، أن يعجز عن معرفة هذا الافتراض الثاني؟ فالمقصود، على كل حال، بأن افتراضًا ما يستلزم افتراضًا آخر أنه إذا كان الافتراض المستلزِم صحيحًا، فإن الافتراض المستلزَم يجب أن يكون صحيحًا أيضًا. لذا إذا كان صحيحًا أن الصين هي الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، فإنه يستوجب أن يكون صحيحًا أيضًا أن الهند ليست الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم. لكن إذا كنت تعرف أن شيئًا ما صحيح، وتعرف أنه إذا كان هذا صحيحًا فإن شيئًا آخر يجب أن يكون صحيحًا، فكيف يمكن أن تعجز عن معرفة أن هذا الادعاء الثاني صحيح هو الآخر؟ على سبيل المثال، كيف يمكن لشخص أن يعرف أن الصين هي الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، ويعرف أنه إذا كانت الصين هي الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم فإن الهند ليست الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، ومع ذلك يقصر عن معرفة أن الهند ليست الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم؟
(حقًّا، تصور شخصًا يدعي أنه يعرف أن الصين هي الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم وأن هذا يستلزم ألا تكون الهند الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، لكنه مع ذلك يصر على أنه لا يعرف أن الهند ليست الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم. هل يبدو هذا حتى منطقيًّا؟ ألن نظن أنه لا بد أن يكون مرتبكًا بطريقة ما، مثل ألا يكون مستوعبًا حقًّا لما يدعيه؟)
هكذا يبدو مبدأ الإغلاق مقنعًا للغاية. ومع ذلك فإن المشكلة هي أن باستطاعة الشكوكي الراديكالي استخدام هذا المبدأ الذي يبدو غير ضار لاستثارة شكه الراديكالي. فلتلاحظ أنه لا يكاد يوجد ادعاء عادي تعتبر أنك تعرفه إلا وسيكون متناقضًا مع فرضية أو أخرى من الفرضيات الشكوكية الراديكالية. على سبيل المثال: سأعتبر الآن أنني أعرف أني أرتدي قميصًا. أستطيع أن أرى أنني أرتدي قميصًا، وأستطيع أن أشعر به على جلدي، وأتذكر أنني ارتديته هذا الصباح، ويمكن لأشخاص آخرين أن يخبروني بأنني أرتدي قميصًا، وهكذا. وبناءً على ذلك توجد أدلة وفيرة تثبت أنني أرتدي قميصًا. لكن إذا كان صحيحًا أنني أرتدي قميصًا، فإنه لا بد أن يكون صحيحًا أيضًا أنني لست دماغًا داخل وعاء. فالأدمغة المحفوظة في أوعية ليس لديها أجساد، ولذلك لا يمكنها ارتداء القمصان. ومن ثَمَّ لا يمكن أن يكون صحيحًا أنني أرتدي قميصًا وأنني دماغ داخل وعاء في الوقت نفسه. بعبارة أخرى، كوني أرتدي قميصًا يستلزم ألا أكون دماغًا داخل وعاء.
بيد أن الصعوبات تبدأ عندما نشرع في صياغة هذا الاستلزام في استنتاج على نمط الإغلاق. فلنفترض أنني أعرف أني أرتدي قميصًا. وقد ذكرنا للتو أنني أعرف أيضًا أن ارتداء القميص يعني أنني لست دماغًا محفوظًا في وعاء. ولكننا اتفقنا أيضًا مع المتشكك على أنه لا يمكنني استبعاد الفرضية الشكوكية للدماغ المحفوظ في وعاء، ولذلك فإنني لا أعرف أنني لست دماغًا في وعاء. وبناءً على ذلك، يبدو أنني أعرف أني أرتدي قميصًا، وأعرف أنني ما دمت أرتدي قميصًا فإنني لست دماغًا في وعاء، لكنني لا أعرف أنني لست دماغًا في وعاء. وهذا يبدو خاطئًا تمامًا. كيف يمكنني أن أعرف أنني أرتدي قميصًا، ولكن لا أعرف ما إذا كنت دماغًا في وعاء من دون قميص؟ بناءً على وجاهة مبدأ الإغلاق، يبدو إذن أنني إذا كنت أعرف حقًّا أنني أرتدي قميصًا، فلا بد أن أكون قادرًا على معرفة أنني لست دماغًا في وعاء. وبالعكس، إذا كان مستحيلًا حقًّا أن أعرف أنني لست دماغًا في وعاء، فلا بد أن يكون مستحيلًا أيضًا أن أعرف إذا كنت أرتدي قميصًا. وهكذا يستطيع صاحب المبدأ الشكوكي الراديكالي باستخدام مبدأ الإغلاق أن يستغل عجزنا عن استبعاد الفرضيات الشكوكية الراديكالية ليشكك في معرفتنا بالأمور العادية، مثل معرفتي التي تبدو غير قابلة للجدل بأنني أرتدي قميصًا.
ولاحظ أن ما ينطبق هنا على معرفتك بأنك ترتدي قميصًا ينطبق على معرفتك بطائفة لا حصر لها من الادعاءات البسيطة. على سبيل المثال: معرفة أنك تقود سيارتك أو أنك تعزف على الكمان لا يتفق كلاهما مع كونك دماغًا في وعاء، ومن ثَمَّ يمكنك تطبيق نفس الاستدلال بالضبط لبرهنة أن هذه «المعرفة» وهمية تمامًا. علاوةً على ذلك، كما ذكرنا أعلاه، ليست الفرضية الشكوكية الراديكالية للدماغ المحفوظ في وعاء سوى سيناريو شكوكي واحد، حيث يمكننا بسهولة صياغة فرضيات شكوكية راديكالية أخرى. من ثَمَّ لا يوجد ما يمنع الشكوكي الراديكالي من استخدام مبدأ الإغلاق لإثارة الريب الشكوكي في طائفة واسعة من الادعاءات اليومية التي نظن أننا نعرفها.
لا بد أن تكون قد بدأت تتبين شكل اللغز الآن. قبل النظر في مبدأ الإغلاق، بدا أنه من الجائز التسليم بأنه لا يمكننا معرفة السبيل لدحض الفرضيات الشكوكية الراديكالية دون أن يكون لهذا تداعيات شكوكية. كان السبب وراء ذلك أن معرفة الشخص بما يدعيه عن حياته اليومية بدت غير متأثرة بعجزه عن استبعاد مثل هذه السيناريوهات الخيالية. لكن بمجرد أن ندرك أن أفكارنا اليومية متعارضة مع الفرضيات الشكوكية الراديكالية، حيث تستلزم صحة الأولى خطأ الأخيرة، فإن الوضع لا يعود مستقرًّا. إذا كنا نعرف حقًّا ادعاءاتنا اليومية التي نعتبر أننا نعرفها (مثل أنني أرتدي قميصًا)، فإنه يبدو، ويا للغرابة، أننا لا بد أن نكون قادرين في نهاية المطاف على معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية (مثلًا أنني لست دماغًا في وعاء). في المقابل، إذا، وفقط إذا، كان الشكوكي على حق في أننا غير قادرين على معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية، فيبدو أننا لا بد أن نكون غير قادرين أيضًا على معرفة هذه المزاعم عن حياتنا اليومية. أي أنني إذا كنت لا أعرف حقًّا أنني لست دماغًا في وعاء، فإنه لا سبيل لي لمعرفة ما إن كنت أرتدي قميصًا، أو أي مزاعم أخرى عادية تتعارض مع الفرضيات الشكوكية الراديكالية. هكذا يبدو أن الشكوكي حين يستخدم مبدأ الإغلاق، يصير بإمكانه إثارة ريب شكوكي راديكالي.
في الواقع، إذا تأملنا المسألة، فلن يغدو هذا الاستنتاج الشكوكي مفاجئًا. لقد ذكرنا أن المعرفة هي الاعتقاد الصحيح القائم على أسباب إبستمولوجية وجيهة. معرفتي المفترضة بأنني أرتدي قميصًا تستند، حسبما ظننت، إلى أسباب إبستمولوجية وجيهة مثل أنني أستطيع رؤية القميص، ويمكنني أن أتذكر أنني ارتديته، وأستطيع الشعور به على جسدي، وهكذا. لكن إذا كنت دماغًا داخل وعاء، فسيبدو أن لدي كل الأسباب الإبستمولوجية نفسها، ومع ذلك سيكون اعتقادي أنني أرتدي قميصًا خاطئًا. في الواقع، هذا هو بالضبط سبب عدم قدرتي على معرفة أنني لست دماغًا في وعاء، وهو أنني ليس لدي أي أسباب إبستمولوجية وجيهة لاعتقاد ذلك (بسبب عدم إمكانية التمييز بين التجارِب التي يشعر بها الدماغ في وعاء والتجارِب العادية). إذن كيف يكون لديَّ أسباب إبستمولوجية وجيهة لاعتقاد أنني الآن أرتدي قميصًا، ومع ذلك لا يكون لديَّ أي أسباب إبستمولوجية وجيهة لاعتقاد أنني لست دماغًا في وعاء (دون قميص)؟ إن النقطة الشكوكية واضحة: إذا لم يكن لديك حقًّا أي أسباب إبستمولوجية وجيهة لاعتقاد أنك لست دماغًا في وعاء (دون قميص)، إذن ليس لديك حقًّا أي أسباب إبستمولوجية وجيهة لاعتقاد أنك ترتدي قميصًا. ما لديك هو مجرد أسباب إبستمولوجية وجيهة «ظاهرية» لاعتقاد ادعاءات يومية مثل أنك ترتدي قميصًا، لكن بما أنها ليست أسبابًا تميز بين سيناريو الحياة اليومية (ارتداء قميص) والسيناريو الشكوكي المناقض له (كونك دماغًا في وعاء من دون قميص)، فإنها لا يمكن أن تكون أسبابًا إبستمولوجية وجيهة «بحق» على الإطلاق. باختصار، رغم أنك قد تعتقد أن لديك أسبابًا إبستمولوجية وجيهة لاعتقاد العديد من الأشياء التي تعتقدها، فإنك في الواقع ليس لديك أي أسباب وجيهة لاعتقاد هذه الأمور على الإطلاق. ولهذا السبب، فإنك لا تعرف العديد من ادعاءات الحياة اليومية التي تعتبر أنك تعرفها.
وهذا يسلط الضوء على نقطة مهمة بخصوص هذا النوع من الشكوكية الراديكالية. لا يقتصر الادعاء الشكوكي على القول بعدم معرفة المرء الكثير من الأشياء التي يعتبر نفسه يعرفها. بل إنه فرضية أقوى تقول إن المرء ليس لديه أي سبب إبستمولوجي وجيه لاعتقاد الكثير من الأشياء التي يعتبر أنه يعرفها. يتفق الادعاء الأول مع أن لدى المرء بعض الأسباب الإبستمولوجية الوجيهة لاعتقاد ما يعتقده، بيد أن هذه الأسباب غير كافية للمعرفة. أما الادعاء الشكوكي الراديكالي المطروح هنا فهو أعمق بكثير؛ حيث يدعي أنه ليس لدى المرء أي سبب إبستمولوجي وجيه على الإطلاق لأن يعتقد حتى المزاعم العادية للحياة اليومية، مثل كونه يرتدي قميصًا الآن. وعليه، إذا تصادف أن كانت معتقداتك في هذا الصدد صحيحة، فهي مجرد مسألة حظ من وجهة نظر إبستمولوجية، مثلما هي مجرد مسألة حظ أن يصير لدى الشخص الساذج الذي يصدِّق أي شيء يُقال له في النهاية بعض المعتقدات الصحيحة.
النتيجة المترتبة على ذلك أنه يبدو أننا إذا أردنا أن يكون لدينا أسباب إبستمولوجية قوية للاعتقاد في الأشياء العادية التي نعتبر أننا نعرفها، فإننا بحاجة إلى أن نكون قادرين على استبعاد الفرضيات الشكوكية الراديكالية. وبما أننا لا نستطيع أن نفعل ذلك، فيستتبع هذا أننا لا نملك أسبابًا إبستمولوجية قوية لكثير مما نعتقده، ومن ثَمَّ لا يمكن أن نكون على معرفة بما نعتقده أيضًا. باستخدام مبدأ الإغلاق، يبدو أن الشكوكي الراديكالي قد تمكن من تحويل ادعاء يبدو بريئًا بأننا لا نستطيع استبعاد السيناريوهات الشكوكية الراديكالية إلى شيء له عواقب شكوكية مهمة. وعلى الرغم من أن الشكوكي لم يقدم لنا أي أسباب لاعتقاد أن الفرضيات الشكوكية الراديكالية صحيحة، أو حتى مرجحة، فإنه لا يزال قادرًا على استخدام هذه السيناريوهات لاستخلاص استنتاجات شكوكية راديكالية. لاحظ كذلك أنه لم يحتكم إلى العصمة من الخطأ (أو اليقين التام) هنا. إذا كان الشكوكي الراديكالي محقًّا في أننا لا نملك أي أسباب إبستمولوجية على الإطلاق لدعم أبسط معتقداتنا، يستتبع ذلك أننا نفتقر حتى إلى المعرفة القابلة للخطأ (أو غير المؤكدة بعض الشيء) بخصوص هذه الادعاءات البسيطة.
مفارقة الشكوكية الراديكالية
وصلنا الآن إلى موقف يمكننا فيه وضع جميع عناصر هذه الصيغة من صيغ الشكوكية الراديكالية معًا. في الأساس، يزعم صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي أن الادعاءات الثلاثة التالية غير متسقة، مما يعني أنها لا يمكن أن تكون جميعها صحيحة (أي أنه يجب أن يكون واحد على الأقل منها غير صحيح):
-
(١)
إننا غير قادرين على معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية.
-
(٢)
مبدأ الإغلاق.
-
(٣)
إن لدينا الكثير من المعرفة حول ادعاءات الحياة اليومية.
لقد رأينا أن الادعاء (١) معقول للغاية. هذا لأن للفرضيات الشكوكية الراديكالية سمات محددة تجعلها غير قابلة للتمييز عن الحياة العادية. فالحياة في الوعاء، في حالة الدماغ المحفوظ في وعاء، تشبه تمامًا الحياة العادية خارج الوعاء، على الرغم من أن معظم ما يعتقده الدماغ المحفوظ في وعاء خطأ. الادعاء (٢) أيضًا معقول جدًّا. بالتأكيد، كما يقتضي مبدأ الإغلاق، إذا كان المرء يعرف افتراضًا ما، ويعرف أنه يستلزم افتراضًا ثانيًا، فيجب عليه أن يكون عالمًا بالافتراض الثاني. لكن، كما رأينا، مع وجود الادعاءَين (١) و(٢) يبدو أنه لا يمكن الإبقاء على الادعاء (٣). فإذا كنا نعرف حقًّا هذه الادعاءات العادية عن الحياة اليومية (مثل أن أحدهم يرتدي قميصًا)، فبما أننا نعرف أنها تتعارض مع الفرضيات الشكوكية الراديكالية (مثل كون الشخص دماغًا في وعاء)، فسيبدو أنه يستتبع ذلك، عملًا بمبدأ الإغلاق، أننا لا بد أن نكون قادرين على معرفة السبيل لنفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية. ولكن بما أننا لا نستطيع معرفة السبيل لنفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية، فيستتبع ذلك أننا لسنا على دراية كذلك بما ندعيه عن الحياة اليومية. غير أننا عادةً ما نفترض أن لدينا معرفة وافية عن الحياة اليومية، بما يتماشى مع الادعاء (٣). لكن في الواقع، كما ذكرنا أعلاه، يبدو أن عجزنا عن معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية يعني أنه ليس لدينا أسباب إبستمولوجية وجيهة على الإطلاق لما نعتقده عن الحياة اليومية. ولذلك، لا يمكننا أن نؤيد كلًّا من الادعاءات (١)، و(٢)، و(٣) مجتمعة.
لقد تعمدت التعبير عن التحدي الشكوكي كمجموعة متضاربة من الادعاءات لتسليط الضوء على طريقتين متمايزتين لتوصيف مشكلة الشكوكية الراديكالية. فمن الممكن أن نرى الشكوكية الراديكالية باعتبارها موقفًا، أو مجرد طرح لمفارقة. فعلى سبيل المثال: إذا تناولنا الشكوكية الراديكالية باعتبارها موقفًا، فسنستجيب للمجموعة غير المتسقة من الادعاءات المذكورة أعلاه ونخلص إلى أنه بما أن الادعاءَين (١) و(٢) صحيحان بوضوح، فإنه ينبغي أن نرفض الادعاء (٣). تحديدًا ما ستخلص إليه الشكوكية الراديكالية باعتبارها موقفًا هو أنه بناءً على الادعاءَين (١) و(٢) فإننا لسنا على معرفة واسعة بالأمور اليومية كما ندعي لأنفسنا، ومن ثم فإن الادعاء (٣) غير صحيح.
بيد أنه من المثير للاهتمام أن الشكوكي الراديكالي لا يحتاج إلى التمادي لهذا الحد من أجل إثارة البلبلة الفكرية لدينا. فحسبه على كل حال أن يشير إلى أننا نبدو ملتزمين بالادعاءات (١)، و(٢)، و(٣)، كلٌّ على حدة، ومع ذلك فإنه لا يمكن أن تكون كلها صحيحة. أي أن هذه الادعاءات الثلاثة كلها تبدو متأصلة في طريقتنا العادية عند التفكير في المعرفة، ولهذا السبب نجد كل واحد من هذه الادعاءات مقنعًا جدًّا. ولكن لا بد أن يكون ثمة شيء خطأ في تصورنا العادي للمعرفة إذا كان يؤدي إلى ادعاءات غير متسقة بهذا الشكل.
وهذه الطريقة في توصيف مشكلة الشكوكية الراديكالية تتصورها باعتبارها مفارقة لا موقفًا. في هذا التفسير، لا يخبرنا الشكوكي الراديكالي عن أيِّ الادعاءات الثلاثة يجب أن نتخلى، وإنما يخبرنا بأننا ملتزمون بالثلاثة جميعًا رغم أنه لا يمكن أن تكون كلها صحيحة. تاريخ الفلسفة حافل بطرح مفارقات من هذا القبيل. أي إمعان التفكير في مفاهيمنا اليومية الأساسية — الزمن، والحرية، والسببية، وهلم جرًّا — وإظهار أنها تولِّد فيما يبدو ادعاءات غير متسقة.
هناك مزايا في طرح التحدي الشكوكي الراديكالي كمفارقة بدلًا من طرحه كموقف. إذا اختار المرء الاستراتيجية الأخيرة، فسيكون متاحًا لنا رغم كل شيء الاستفسار عن اتساق هذا الموقف. على سبيل المثال: قد نسأل صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي الذي ينكر الادعاء (٣): كيف يُفترَض أن يعيش حياته؟ كيف يُعقَل أن يستطيع المرء المضي في حياته اليومية دون افتراض أنه على معرفة وافية بها؟ كما أشرنا في نهاية الفصل الأول، من الصعب حتى تصور فكرة أن يعيش المرء حياته محرومًا تمامًا من المعرفة دون أن يصبح وجوده عبثيًّا نتيجةً لذلك. على أقل تقدير، يبدو أن الشكوكي الراديكالي يدين لنا بتوضيح كيف يكون عيش الحياة الشكوكية الراديكالية ممكنًا حتى.
أما إذا طرحنا الشكوكية الراديكالية كمفارقة، فلن يكون على الشخص الشكوكي الراديكالي أي التزام بالتوضيح. فقوام المفارقة ببساطة هو ادعاءات نبدو جميعًا مضطرين لقبولها. منشأ الخلاف إذن هو التزاماتنا وحدها. ولذلك فإن علينا عبء معرفة كيف سنحل هذا التناقض في تفكيرنا حول المعرفة، ويُفضَّل أن يكون على نحو يتجنب الخيار الشكوكي المتمثل في رفض الادعاء (٣).
على أي حال، لاحظ أن هذا التحدي الشكوكي، سواء صيغ في صورة مفارقة أو موقف، يلبي المتطلبات التي وضعناها سابقًا للريب الشكوكي. تحديدًا، لا تعتمد هذه الحجة على العصمة من الخطأ أو اليقين الكامل، وإنما تشير فقط لمفهومنا العادي، القابل للخطأ، عن المعرفة. علاوة على ذلك، ليس مجرد احتمال الخطأ وحده ما يثير الريب الشكوكي، بل الجمع بين احتمال الخطأ هذا ومبدأ الإغلاق. فمبدأ الإغلاق هو الذي يكفل للفرضيات الشكوكية الراديكالية تحديد ما إذا كان لدينا معرفة بالادعاءات اليومية، حتى وإن بدت احتمالات خطأ مستبعدة. وهذا لأن كيفية وعينا بتلك الادعاءات عن حياتنا اليومية غير منسجمة مع فرضيات الشكوكية الراديكالية. يجدر بنا كذلك أن نذكِّر أنفسنا بأن الشكوكي لا يدعي أن هذه الفرضيات الشكوكية الراديكالية صحيحة (فهو لا يدعي مثلًا أننا أدمغة محفوظة في أوعية)، أو حتى أن لدينا أي أساس عقلاني لنظن أن هذه الفرضيات محتملة. بناءً على مبدأ الإغلاق، ما دامت هذه السيناريوهات ممكنة، ونحن غير قادرين على استبعادها (أي معرفة أنها خاطئة)، فإن عدم انسجامها مع اعتقاداتنا عن حياتنا اليومية سيكون كافيًا لإثارة التحدي الشكوكي الراديكالي.
هكذا، يبدو أننا بصدد حجة شكوكية راديكالية حقيقية. إنها حجة تزعم التشكيك في مجمل معرفتنا بالعالم من حولنا. تحديدًا، هذه الحجة ليست موجهة نحو صحة معتقداتنا، وإنما موجهة بالأحرى نحو ما لدينا من أسس إبستمولوجية لتلك المعتقدات، حتى لو كانت صحيحة. وبما أن المعرفة، كما ذكرنا أعلاه، يلزمها أكثر من مجرد صحة الاعتقاد، حيث يلزمها بالإضافة إلى ذلك أسسٌ إبستمولوجية لصحة اعتقاد المرء، فيستتبع ذلك أنه ما دام بإمكان المتشكك أن يقوض هذه الأسس للاعتقاد فمن ثَمَّ بإمكانه أن يقوض معرفتنا. في الواقع، إذا كانت هذه الحجة الشكوكية الراديكالية صحيحة، فلن يقتصر الأمر على افتقارنا للمعرفة بكثير مما نعتقد فحسب، ولكن لن يكون لدينا حتى أي أسباب إبستمولوجية وجيهة لاعتقاد ما نعتقده.
في الفصل الثالث، سنتناول بعض الردود على هذه الصيغة للشكوكية الراديكالية.