الدفاع عن المعرفة
دعونا نذكِّر أنفسنا بلغز الشكوكية الراديكالية الذي قدمناه في الفصل الثاني. تذكروا أنه انطوى على إظهار أن كلًّا من الادعاءات الثلاثة التالية معقول على حدة، لكنها لا يمكن أن تكون كلها صحيحة (أي لا بد أن يكون واحد منها على الأقل خاطئًا):
-
(١)
إننا غير قادرين على معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية.
-
(٢)
مبدأ الإغلاق.
-
(٣)
إن لدينا الكثير من المعرفة حول ادعاءات الحياة اليومية.
الادعاء (١) معقول لأن الفرضيات الشكوكية الراديكالية تُعَرَّف تعريفًا دقيقًا بحيث لا يمكن التمييز بينها وبين الحياة العادية. أما الادعاء (٢)، فتذكر أن مبدأ الإغلاق هو الادعاء المقنع الذي ينص على أنه إذا كان المرء يعرف افتراضًا، ويعرف أنه يستلزم افتراضًا ثانيًا، فإنه يعرف أيضًا الافتراض الثاني. لذا يبدو الادعاء (٢) آمنًا أيضًا. ونحن بطبيعة الحال نريد إثبات الادعاء (٣). غير أن المشكلة هي أنه يبدو أنه لا يمكن الحفاظ على الادعاء (٣) مع وجود الادعاءَين (١) و(٢). لأنه إذا كنا نعرف بالفعل هذه الادعاءات اليومية (مثل أن المرء يرتدي قميصًا)، فبما أننا نعرف أنها تتعارض مع الفرضيات الشكوكية الراديكالية (مثل أن يكون الشخص دماغًا في وعاء)، فيبدو أنه سيترتب على ذلك، حسب مبدأ الإغلاق، وجوب أن نكون قادرين على معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية. لكن بما أننا لا نستطيع معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية، فيستتبع ذلك أننا أيضًا لا نعرف ادعاءات الحياة اليومية. في الواقع، كما ذكرنا أعلاه، يبدو أن عجزنا عن معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية يعني أنه ليس لدينا أسباب إبستمولوجية وجيهة على الإطلاق لما نعتقده عن حياتنا اليومية. وبالتبعية، لا يمكننا أن نؤيد كلًّا من الادعاءات (١)، و(٢)، و(٣) في الوقت نفسه.
بالطبع يكمن الخطر في أن الشخص الشكوكي الراديكالي سيقنعنا بأن أفضل سبيل للخروج من هذا المأزق هو تأييد الادعاءَين (١) و(٢)، وبالتبعية رفض الادعاء (٣). وسيترتب على ذلك ريب شكوكي راديكالي بشأن الكثير مما كنا نَعُد أنفسنا على معرفة به. لكن حتى لو لم نستنتج أنه لا بد من رفض الادعاء (٣)، ومن ثَمَّ دعمنا الشكوكية الراديكالية باعتبارها موقفًا، سيظل لدينا لغز. كيف يمكن أن نكون ملتزمين بكل واحد من هذه الادعاءات الثلاثة المتعارضة بعضها مع بعض؟ هذه هي مفارقة الشكوكية الراديكالية (بخلاف الشكوكية الراديكالية باعتبارها موقفًا). وهذا سبب وجيه جدًّا للشك في معرفتنا لكثير مما نعتبر أننا نعرفه.
في هذا الفصل، سنناقش بعض الردود على هذا اللغز.
الشكوكية والفطرة السليمة
دعونا نبدأ برد فعل طبيعي جدًّا على ألغاز فلسفية مثل هذا، وهو التمسك بمبادئ فطرتنا السليمة والتماس سبيلنا منها. باختصار، إذا كانت الشكوكية الراديكالية متعارضة مع الفطرة السليمة — وهي كذلك فعلًا — أفلا يكون هذا أساسًا سليمًا لرفض الشكوكية الراديكالية؟
من المؤكد أن هذه نقطة منطقية جدًّا لنبدأ منها مواجهتنا للشكوكية الراديكالية، فأي شيء عساه يكون منطقيًّا أكثر من الفطرة السليمة؟ في الواقع، إن مبدأ إعطاء الفطرة السليمة الامتيازَ نظريًّا بهذه الطريقة له تاريخ فلسفي عريق، حيث أيده بأشكالٍ شتى على مر السنين فلاسفة بارزون، منهم توماس ريد (١٧١٠–١٧٩٦) وجي إي مور (١٨٧٣–١٩٥٨). غير أن واحدة من الصعوبات التي تواجه هذه المنهجية مع الشكوكية الراديكالية، أن اللغز الشكوكي الذي نحن بصدده لا يبدو معتمدًا على أي شيء سوى الفطرة السليمة. أي أن الادعاءات الثلاثة التي ذكرنا أنها غير متسقة أعلاه تبدو كلها ناشئة عن طرقنا العادية في التفكير بشأن المعرفة. على سبيل المثال، كما أشرنا في الفصل الثاني، لا يفترض أي من هذه الادعاءات على نحو واضح أفكارًا مثيرة للجدل عن المعرفة، مثل أن تكون معصومة من الخطأ أو تتطلب اليقين التام. إذا كان هذا صحيحًا، فإنه يبدو أن الفطرة السليمة نفسها هي التي تولِّد اللغز الشكوكي، استنادًا إلى أن تصورنا للمعرفة المبني على فطرتنا السليمة يؤدي إلى التناقض.
الآن، قد يعارض المرء هذا بالإشارة إلى أن كل واحد من الادعاءات غير المتسقة من (١) إلى (٣)، التي تشكل اللغز، مقنع وحده، لكنها تستند بالرغم من ذلك إلى مفاهيم لا نجدها عادةً في ممارساتنا اليومية. فإننا عادةً، وعلى وجه التحديد، لا نأخذ بالفرضيات الشكوكية الراديكالية في اعتبارنا في حياتنا اليومية. إذا وضعنا ذلك في الاعتبار، فهل يمكننا الاستناد إلى فطرتنا السليمة لادعاء أن الطابع الغامض للسيناريوهات الشكوكية الراديكالية يعني أننا لسنا بحاجة لاستبعادها لادعاء أن لدينا معرفة واسعة بالشئون اليومية؟
يكتنف هذا الاقتراح عدد من الصعوبات. بدايةً، ليس من الواضح على الإطلاق أن الفرضيات الشكوكية الراديكالية بهذا الغموض حقًّا. فكما ذكرنا سابقًا، تمثل هذه السيناريوهات، على كل حال، ركيزةً أساسيةً في أفلام هوليوود، بما في ذلك بعض الأفلام الناجحة، فكيف يُعقل إذن أن تكون متعارضة بطريقة ما مع الفطرة السليمة؟ أليست بالأحرى في واقع الأمر احتمالات خطأ مألوفة؟
لكن حتى إن كانت هذه السيناريوهات غامضة حقًّا كما يفيد هذا الاقتراح، فذلك في حد ذاته ليس دليلًا على أن السيناريوهات الشكوكية الراديكالية متعارضة مع أساليب التفكير بالفطرة السليمة. لتوضيح هذه النقطة، علينا أن نذكِّر أنفسنا بأننا في الحياة اليومية غالبًا ما نصادف قيودًا من شتى الأنواع. فعلى سبيل المثال، حين نُقَيِّم اعتقادًا لنرى ما إذا كان يرقى لمستوى المعرفة، قد لا يتسنى لنا الوقت لتبين ما إذا كانت جميع احتمالات الخطأ المرتبطة به قد استُبعِدَت، أو قد نفتقر حتى للخيال لإعداد القائمة الكاملة على أي حال. علاوةً على ذلك، فإنه لا مفر من أن نعمد عند تقييمنا للمعرفة في حياتنا اليومية لبعض الطرق المختصرة والمعتمدة على الحدس، بينما نتجاوز العقبات العملية التي تواجهنا في الحياة من يوم لآخر.
لكن المهم هو أنه عادةً ما يكون ضروريًّا عند تعاطينا مع الفلسفة أن نتجاهل هذه القيود العملية البحتة؛ لأنها غالبًا ما تكون في غير محلها. ينطبق هذا بالأخص على مجال الفلسفة الذي يعنينا هنا، وهو الإبستمولوجيا (أي المجال الفلسفي المخصص للأسئلة المتعلقة بالحقيقة، والمعرفة، والمفاهيم المرتبطة بهما). فلنفترض، على سبيل المثال، أنه تبين لنا كعلماء إبستمولوجيا حين نظرنا في أساس ادعاء معرفة معين أنه في الواقع متداعٍ جدًّا، نتيجة لاحتمالية خطأ كبيرة ذات صلة لم يدركها معظم الناس في الحياة اليومية، ولذلك لم يضعوها في الاعتبار. (في الواقع، هذه ليست مجرد احتمالية نظرية، حيث أثبت علماء الإدراك أن هناك مجموعة كاملة من التحيزات المعرفية التي تؤثر على تفكيرنا، وغالبًا سلبًا، وأننا في كثير من الأحيان نكون غافلين تمامًا عن ذلك.) هل نستخلص من أننا في واقع الحياة اليومية لا نضع في اعتبارنا هذه الاحتمالية للخطأ أنه بالتبعية لا ينبغي علينا وضعها في الاعتبار، ومن ثَمَّ فإن ادعاء المعرفة المطروح آمن تمامًا؟ بالتأكيد لا. إنما سنجادل بالأحرى بأننا يجدر بنا أن نضع في اعتبارنا احتمالية الخطأ هذه حتى وإن كنا في الواقع لا نفعل ذلك.
المقصود هو أنه حتى لو كنا في الواقع لا نضع في اعتبارنا فرضيات الشكوكية الراديكالية في حياتنا اليومية، فهذا لا يكفي في حد ذاته لإثبات أنه لا ينبغي أن نفعل ذلك. وعلى أي حال، حتى لو سلمنا بأن هناك إشكالًا ما حين ننظر في الفرضيات الشكوكية الراديكالية من منظور الفطرة السليمة، فليس من الواضح على أي حال كيف سيساعدنا هذا في حل مشكلة الشكوكية الراديكالية. في نهاية المطاف، مبدأ الإغلاق متأصل بالتأكيد في تفكيرنا البديهي عن المعرفة. ولكن إذا كان هذا صحيحًا، فسيترتب على ذلك فيما يبدو عدم إمكانية أن نمتلك معرفةً بادعاءات الحياة اليومية إلا في المواضع التي نكون فيها قادرين أيضًا على معرفة ما تستلزمه هذه الادعاءات الخاصة بالحياة اليومية. لأنه إذا تبين أننا لا نستطيع معرفة الأخيرة، فسيترتب على ذلك، وَفقًا لمبدأ الإغلاق، أننا لا نستطيع معرفة الأولى أيضًا. فإذا لم أكن أعرف، على سبيل المثال، أنني لست بدون قميص الآن، إذن لا يمكنني معرفة أنني أرتدي قميصًا الآن، ذلك لأن ارتداء قميص بالطبع يستلزم ألا يكون الشخص بدون قميص. ولذلك فإن معرفة أن المرء يرتدي قميصًا الآن يقتضي، بناءً على مبدأ الإغلاق، أنه يمكنه معرفة أنه ليس بدون قميص الآن.
لقد ذكرنا للتو هذا الاقتضاء لمبدأ الإغلاق دون ذكرٍ لفرضيات شكوكية راديكالية؛ لذا لا يوجد فيما قلناه حتى الآن ما يثير اللبس من منظور الفطرة السليمة. ولكن سواء ذكرنا الفرضيات الشكوكية الراديكالية أم لا، لا بد أن يكون واضحًا أن هذا الاقتضاء لمبدأ الإغلاق سينطبق بنفس الطريقة على هذه السيناريوهات. وعلى كل حال، فإن من الاحتمالات التي قد تجعلني بدون قميص أن أكون دماغًا في وعاء ليس لديه جسم ليلبس قميصًا. لذا إذا كانت معرفة أنني أرتدي قميصًا حاليًّا تستلزم أن أكون قادرًا على استبعاد السيناريوهات التي أكون فيها بدون قميص، فذلك يعني أنني بحاجة إلى استبعاد السيناريو الشكوكي الراديكالي للدماغ المحفوظ في وعاء. ويترتب على ذلك أنه بغض النظر عما إذا كانت الفرضيات الشكوكية الراديكالية مذكورة صراحةً أم لا، فإن حاجة المرء إلى استبعادها ليكون لديه المعرفة بالأمور اليومية تبدو نتيجة لفطرتنا السليمة حين نفكر في المعرفة.

إليكم الخطوط العريضة لاقتراح مور. من منظور الفطرة السليمة، فكرة أن لدينا معرفة واسعة بأمور الحياة اليومية، الملخصة في الادعاء (٣)، هي بالتأكيد فكرة مقدسة، حيث إن تخلِّينا عنها سيكون كارثة. أحد الأسباب أنه سيعني التخلي عن معرفتنا بأننا نمتلك يدَين. أما مبدأ الإغلاق، ومن ثَمَّ الادعاء (٢)، فيبدو مأمونًا جدًّا. إذن، ما دمنا بحاجة إلى رفض واحد على الأقل من الادعاءات (١) و(٢) و(٣)، فماذا لو تبنينا الادعاءَين (٣) و(٢) وخلَصنا بالتبعية إلى أن (١) لا بد أن يكون خاطئًا؟ لنتذكر أن الشكوكية باعتبارها موقفًا تدعو إلى قبول أنه ليس في إمكاننا معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية (١)، وهو ما يترتب عليه، بناءً على مبدأ الإغلاق (٢)، أننا لا نعرف الكثير مما نعتبر أننا اعتياديًّا نعرفه (أي استنتاج أن (٣) خطأ). غير أن اقتراح مور هو استخدام هذا المنطق بطريقة معكوسة. أي أننا ينبغي أن نتبنى فكرة أننا نعرف أمور الحياة اليومية التي نعتبر أننا نعرفها (٣)، ويستتبع ذلك، عملًا بمبدأ الإغلاق (٢)، أننا لا بد أن نخلُص إلى أننا نعرف في نهاية المطاف طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية (أي أننا ينبغي أن نرفض الادعاء (١)).
بهذا الاقتراح، يمنح مور نقطتَين حاسمتَين لصاحب الموقف الشكوكي الراديكالي. الأولى: أن منطق الشخص الشكوكي لا يقل وجاهة عن منطقنا. أي أنه لا يجادل بأن طريقة الشكوكي الراديكالي في إنكار الادعاء (٣) خاطئة. إنما يقول إننا يمكن أن نجادل بالمثل في الاتجاه المعاكس وندعي أن الادعاء (١) خاطئ. في الواقع، الفكرة هي أن ما لدينا هنا هو نوع من المواجهة الجدلية بين الفلسفة والفطرة السليمة، لكن في وجود مثل هذا الجمود يجوز لنا اتباع الفطرة السليمة، ومن ثَمَّ رفض الاستنتاج الفلسفي (أي الشكوكي) الذي يقول إننا نفتقر للمعرفة بأمور الحياة اليومية.
التنازل الثاني الذي يقدمه مور لصاحب الموقف الشكوكي الراديكالي هو الإقرار بعدم قدرته على تقديم تفسير للسبب الذي يجعل الادعاء (١) خاطئًا. لا يزيد مور عن زعم أن الفطرة السليمة تقتضي أنه لا بد أن يكون خاطئًا. وعلى كل حال، فإن جميع الأطراف في هذا النزاع متفقون على أن واحدًا على الأقل من الادعاءات الثلاثة التي تشكل اللغز الشكوكي الراديكالي لا بد أن يكون خاطئًا. ولاحِظ أن إنكار أي واحد من هذه الادعاءات الثلاثة — لا سيما إنكار الادعاء (٣) — يُفضي إلى الغموض، نظرًا لمدى معقولية كل منها عند النظر فيها على حدة. إذن حجة مور هي أنه رغم غموض خطأ الادعاء (١)، فإن هذا في حد ذاته ليس سببًا لرفض الادعاء (١)، بما أن خطأ «أيٍّ» من هذه الادعاءات الثلاثة سيُفضي إلى غموض.
ما مدى معقولية رد مور على اللغز الشكوكي؟ تذكر أننا في الفصل الثاني حددنا التمايز بين الشكوكية الراديكالية كمفارقة والشكوكية الراديكالية كموقف. عندما نفسر الشكوكية الراديكالية بالطريقة الأخيرة، فستنطوي على ادعاء جاد بأننا نفتقر للمعرفة بالأمور اليومية، أي إنكار الادعاء (٣). ومع ذلك عندما نفسرها بالطريقة الأولى، باعتبارها مجرد مفارقة، لا يدافع صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي عن أي ادعاء محدد على الإطلاق، وإنما يؤكد على أننا ملزمون بكل واحد من الادعاءات الثلاثة غير المتسقة. كما ذكرنا في الفصل الثاني، تحمل الشكوكية الراديكالية، عند تفسيرها كمفارقة، أعباءً جدلية أقل من الشكوكية الراديكالية كموقف، لا سيما أنها لا تحتِّم على المرء أن يشرح كيف يمكن أن يتبنى بشكلٍ متسق استنتاجًا شكوكيًّا راديكاليًّا.
هذا التمييز بين الشكوكية الراديكالية كمفارقة والشكوكية الراديكالية كموقف مهم جدًّا عند تقييم مدى إقناع موقف مور المعادي للشكوكية. إذا ركزنا على الشكوكية الراديكالية كموقف، فمن الممكن أن يبدو رد مور معقولًا تمامًا. فكلٌّ من مور والشكوكي يدَّعي شيئًا مخالفًا إلى حد كبير للبديهة: أن بإمكاننا معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية، وأننا لا نعرف سوى القليل جدًّا مما نعتبر أننا نعرفه، على الترتيب. علاوةً على ذلك، يبدو أن هناك مواجهة جدلية متكافئة إلى حد ما عند الاختيار بين هذين الموقفَين. يقر الشكوكي بالادعاءَين (١) و(٢)، ومن ثَمَّ ينكر الادعاء (٣)، بينما يقر مور بالادعاءَين (٣) و(٢)، ومن ثَمَّ يستنتج أنه ينبغي رفض الادعاء (١). إذا كانت الخيارات تنحصر في هذا الصراع بين الفلسفة والفطرة السليمة بهذه الطريقة، فلماذا لا نختار الفطرة السليمة ومن ثَمَّ نرفض الموقف الشكوكي الذي ينطوي على إنكار الادعاء (٣)؟
غير أن المشكلات المترتبة على منهجية مور ستطل برأسها بمجرد أن نحول انتباهنا إلى الشكوكية الراديكالية بتفسيرها كمفارقة وليس كموقف. هذا لأننا الآن لا نقارن بين فضائل وعيوب اقتراحٍ في ضوء اقتراحٍ شكوكي راديكالي منافس. وإنما نواجه خلافًا أساسيًّا منشؤه على ما يبدو تصورنا الخاص للمعرفة فيما نحاول تبين السبيل الأفضل لحل هذا الخلاف. إذا وضعنا في اعتبارنا هذه الطريقة لتفسير الشكوكية الراديكالية، فأي عزاء فلسفي يمكن أن نكتسبه من إخبارنا أن الادعاء (١) لا بد أن يكون غير صحيح، بحيث يكون بإمكاننا معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية، إذا لم نُخبَر كذلك كيف يمكن أن يكون هذا هو الحال من الأساس؟ تذكر، على كل حال، أننا قد رأينا بالفعل أنه بديهيًّا ليس باستطاعتنا معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية، وهو السبب الذي جعلنا نؤيد الادعاء (١) في المقام الأول.
هذا يعني أننا إذا أردنا تحويل احتكام مور إلى الفطرة السليمة إلى اقتراح معقول ضد الشكوكية — اقتراح يمكن مهما يكن من أمر تطبيقه حتى على المفارقة الشكوكية الراديكالية — فإننا بحاجة إلى الجمع بينه وبين تفسير يوضح كيف يمكن أن يكون الادعاء (١) خاطئًا. تحديدًا، كيف عسانا أن نتمكن من معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية؟ التحدي هنا هو شرح كيف يمكن أن تكون هذه المعرفة ممكنة إذا كانت فرضيات الشكوكية الراديكالية بطبيعتها لا يمكن تمييزها عن تجارِبنا الحياتية اليومية. هذا أمر عسير. حقًّا، حتى لو كنا نستطيع تقديم مثل هذا التفسير، فإنه سيشتمل مبدئيًّا على تنقيح بالغ للمعرفة. ما يدعو للقلق عندئذٍ هو أن هذا التنقيح قد يكون أقل إقناعًا من الادعاءات التي أنتجت في المقام الأول اللغز الشكوكي الراديكالي. سيصير مصدر القلق أن نظل أكثر اقتناعًا بادعاء الشكوكي الراديكالي أن هناك خطأً بالغًا في إدراكنا العادي للمعرفة أكثر من اقتناعنا بالاقتراح التنقيحي المقدم المعادي للشكوكية.
الشكوكية والسياق
ثمة نوع مختلف من الرد على مشكلة الشكوكية يقوم على الإشارة لاحتمال وجود نوع من التحول في السياق في المنطق الشكوكي. من المؤكد أننا يمكن أن نشعر بحدوث شيء من هذا القبيل في بادئ التعامل مع المشكلة. كما ذكرنا للتو في تناولنا للشكوكية والفطرة السليمة، نحن عادةً لا ننظر حتى في الفرضيات الشكوكية الراديكالية في حياتنا اليومية. هل يمكن أن يكون هذا واقع الأمر إذن، أن الشكوكي الراديكالي يرفع بطريقة غير مقبولة مستوى معايير المعرفة، وأن هذا هو ما يولد مشكلة الشكوكية؟
إليك طريقة لتوضيح هذه الفكرة. ربما يكون الفعل «يعرف» مصطلحًا متغيرًا حسب السياق. الفكرة هي أنه أحيانًا ما يكون هذا المصطلح مرتبطًا بمعيار إبستمولوجي مرن، ولذلك يسهل تلبيته، وفي أحيان أخرى يكون مرتبطًا بمعيار إبستمولوجي شديد الصرامة، ولذلك يصعب (إن لم يكن يستحيل) تلبيته. قد يُفَسِّر هذا لماذا نعمِد في استخدامنا اليومي لهذا المصطلح إلى أن ينسب بعضنا لبعض قدرًا كبيرًا من المعرفة، حيث المغزى أننا في سياقات الحياة اليومية نستخدم «يعرف» بطريقة مرنة. لكن ربما ما يحدث عندما نتعامل مع الشكوكية الراديكالية أننا ننتقل من استخدام «يعرف» بهذه الطريقة المرنة إلى استخدامه بمعنًى أكثر جدية. لذا لن يكون من المستغرب إذا وجدنا أننا لم نعد نصف المعرفة على نطاق واسع، حيث «يعرف» الآن يعني شيئًا أدق بكثير مما كان سابقًا. هل يمكن أن تكون مشكلة الشكوكية الراديكالية قائمة حقًّا على تحول في السياق من هذا النوع؟
من المؤكد أن بعض الكلمات التي نستخدمها بطبيعتها تعتمد على السياق، بمعنى أنه يتعين على المرء معرفة معلومات محددة عن الموقف المستخدمة فيه ليتبين المقصود. قد يكون أوضح الأمثلة على تلك المؤشرات، كلمات مثل «أنا»، و«هنا»، و«الآن». عندما أقول «أنا جائع»، أقصد بذلك أن دانكن بريتشارد جائع، لكن إذا كنت أنت من قال نفس الادعاء، فسيكون الادعاء عنك وليس عني. من ثم فإن فهم العبارات التي تتضمن كلمة «أنا» يتطلب من المرء معرفة مَن المتحدث. بالمثل، لنفهم المقصود بادعاء يتضمن «هنا» أو «الآن»، سيكون من المهم معرفة أين ومتى، على الترتيب، جاء الادعاء. إن هذه الخاصية في التعبيرات التي تتضمن مؤشرات تفسر لماذا لا يرى أحد أن هناك تناقضًا إذا قال شخص: «أنا جائع»، وقال آخر: «أنا لست جائعًا». إذا ادعى نفس الشخص كلا الادعاءَين واحدًا تلو الآخر، فستصيبنا الحيرة؛ لأنهما سيبدوان متناقضَين معًا. ولكن إذا ادعى شخصان هذين الادعاءَين، فليس هناك تناقض؛ لأن «أنا» في كل حالة تشير إلى شخص مختلف.
لذا من الواضح أن هناك سابقة لوجود مصطلحات في لغتنا يعتمد معناها على السياق بطريقة تكاد تكون مشابهة لما اقترحناه بشأن ما قد يكون عليه مصطلح «يعرف». غير أن المؤشرات قد لا تكون أفضل الأمثلة لنركز عليها في هذا الصدد، إذ لا تحتاج هنا لمعايير للاحتكام إليها. في حالة المؤشر «أنا»، على سبيل المثال، كل ما يهم هو مَن المتحدث. لكن ثمة مصطلحات أخرى يعتمد معناها على السياق ولا بد لها من الاحتكام لمعايير. مثال على ذلك: مصطلح «طويل». أنا شخص يزيد طولي عن ست أقدام ببضع بوصات، ولذلك في معظم السياقات سأُعتبر طويل القامة. أما في سياق اختيار فريق لكرة السلة، على سبيل المثال، فربما لن أُعتبَر طويلًا على الإطلاق. لا يوجد تناقض هنا؛ فليس المقصود أنني طويل وغير طويل في نفس الوقت. بل إن تقييماتنا للطول تتحدد وَفقًا لمعيار معين. فبقامتي التي تتجاوز الست أقدام ببضع بوصات، أُعتبَر طويلًا بالنسبة لمعيار طول الشخص المتوسط، ولكنني لست طويلًا بالنسبة لمعيار طول لاعب كرة السلة المتوسط. ما ينطبق هنا على «طويل» ينطبق أيضًا على طائفة من المصطلحات الأخرى المعتمدة على السياق، مثل «كبير»، و«ثقيل»، و«واسع»، و«فارغ»، و«مسطح»، وهكذا.
هل يجوز أن يكون ما انطبق هنا على مصطلح مثل «طويل» مشابهًا لما يحدث عندما نتعامل مع الشكوكية الراديكالية؟ فمثلما يكون صحيحًا عادةً أن أقول إنني «طويل»، لأن ذلك يتوقف على معيار غير صارم للطول، يكون صحيحًا عادةً أن نقول إننا «نعرف» الكثير من الأشياء، لأن ذلك مرتبط بمعيار غير صارم للمعرفة. لكن مثلما يكون غير صحيح عادةً أن أقول إنني «طويل» بالمعايير الصارمة للطول التي يستخدمها (مثلًا) مدربٌ لكرة السلة، فإنه ليس صحيحًا أن أقول إنني «أعرف» الكثير من الأشياء بالمعايير الصارمة للمعرفة التي يستخدمها صاحب النزعة الشكوكية الراديكالية.
إحدى مزايا هذا الرد «السياقي» على الشكوكية الراديكالية هو أن هناك زاوية نكون فيها نحن على حق والشكوكي على حق أيضًا. وعلى كلٍّ، فإن نزوعنا المعتاد لأن ينسب بعضنا لبعضٍ المعرفة يبدو عادةً صحيحًا، حيث إننا نختار تلقائيًّا معيارًا غير صارم للمصطلح «يعرف». بيد أن صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي هو الآخر على حق في ادعاء أننا نفتقر للكثير من المعرفة التي نعتقد أننا نملكها، وذلك حسب المعيار الصارم الذي يستخدمه للمصطلح «يعرف». بدا هنا وكأننا يناقض بعضنا بعضًا، ولكن ما دام «يعرف» مصطلحًا يعتمد على السياق، فلا يوجد ثمة تناقض، مثلما لا يوجد تناقض عندما تقول: «أنا لست جائعًا»، بعدما قلت أنا: «أنا جائع».
بالمثل، يمكن أيضًا للمؤيِّد للمنهج السياقي أن يزعم أن الادعاءات الثلاثة التي تشكل المفارقة الشكوكية الراديكالية أعلاه ليست في الواقع متناقضة، عند فهمها فهمًا صحيحًا. خذ مثلًا الادعاء (٣)، القائل بأن لدينا معرفة واسعة بأمور الحياة اليومية. وَفقًا للسياقية، هذا صحيح بالمعايير اليومية ﻟ «يعرف»، ولكنه غير صحيح بالمعايير الصارمة ﻟ «يعرف» التي يستخدمها صاحب النزعة الشكوكية الراديكالية. يمكن كذلك لصاحب المنهج السياقي أن يفسر السبب في أن الادعاء (١) — الادعاء بأنه ليس في إمكاننا معرفة طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية — مقنع جدًّا. فعلى كل حال، ما دام الادعاء (١) يستحضر صراحةً الفرضيات الشكوكية الراديكالية، فإنه يحمل في طياته بالفعل مشكلة الشكوكية الراديكالية، ولذلك يحتكم للمعايير الصارمة للمصطلح «يعرف» التي يستخدمها صاحب النزعة الشكوكية الراديكالية. إذا كان النظر في مشكلة الشكوكية الراديكالية يعني رفع معايير المصطلح «يعرف»، فإن تقييم ما إذا كنا نعرف طرق نفي الفرضيات الشكوكية الراديكالية يجب أن يكون كافيًا ليأخذنا للسياق الشكوكي الأشد صرامةً.
مع ذلك لا يترتب على الإقرار بأن الادعاء (١) صحيح أي تضارب مع الادعاء (٣) ومبدأ الإغلاق الممثل في الادعاء (٢)، ما دمنا نحافظ على السياق المعنِيِّ ثابتًا. في أي سياق ذي معايير صارمة حيث الادعاء (١) هو المطروح، لن يعود الادعاء (٣) صحيحًا، ولذلك لن يكون ثمة خلاف مع مبدأ الإغلاق. أي أنه بمجرد أن نبدأ في التفكير في الفرضيات الشكوكية الراديكالية، وهو ما من شأننا أن نحتاج إليه لتقييم الادعاء (١)، نصبح في سياق شكوكي ينتقي فيه المصطلح «يعرف» معيارًا صارمًا. ولكن في ذلك السياق، لن يعود الادعاء (٣) صحيحًا، حيث سينتقي المصطلح «يعرف» هناك أيضًا معيارًا صارمًا. بعبارة أخرى، لا «نعرف» شيئًا مما ندعيه في الحياة اليومية حسب المعايير الشكوكية الصارمة.
وفي أي سياق يظهر فيه الادعاء (٣) باعتباره صحيحًا — حيث «نعرف» ما ندعيه عن الحياة اليومية، وفقًا للمعايير غير الصارمة المعنية — لن تكون مشكلة الشكوكية الراديكالية وَفقًا لتعريفها قيد النظر، ومن ثَمَّ لن تكون الفرضيات الشكوكية الراديكالية قيد النظر أيضًا. ولذلك، لا يُطرَح السؤال حول ما إذا كان الادعاء (١) صحيحًا، وهكذا لا يوجد خلاف مع مبدأ الإغلاق (ومن ثَمَّ الادعاء (٢)). غير أنه بمجرد طرح السؤال حول ما إذا كان الادعاء (١) صحيحًا، يصبح الادعاء (١) صحيحًا. لكن عندئذٍ يصبح الادعاء (٣) غير صحيح، حيث ترتفع معايير المصطلح «يعرف» ليشير إلى أننا لم نعد «نعرف» ما ندعيه عن حياتنا اليومية أيضًا.
في كلتا الحالتين، لا يوجد سياق يولِّد فيه مبدأ الإغلاق خلافًا بين الادعاءَين (١) و(٣). من ثَمَّ، فإنه على الرغم من أنه بدا أن الادعاءَين (١) و(٣) يتناقضان معًا، فالأمر ليس كذلك وَفقًا للمنهج السياقي. ما قصرنا عن إدراكه أنَّ «يعرف» مصطلح يعتمد على السياق على النحو الذي حدده المنهج السياقي.
قد يُظَن أن السياقية تقدم أسلوبًا كَيِّسًا لمعالجة مشكلة الشكوكية الراديكالية. غير أنها تواجه اعتراضات خطيرة إلى حدٍّ ما. أحد الاعتراضات أنه من الصعب أن نفهم سبب وقوعنا في حيرة بسبب مشكلة الشكوكية الراديكالية إذا كانت السياقية هي الطريقة الصحيحة للرد عليها. لم يحدث قط أن اختلط الأمر على أحد بشأن اعتماد التعبيرات التي تتضمن إشارات على السياق. بالمثل، لم يلتبس على أحد أمر كون كلمات مثل «طويل» يمكن استخدامها بطرق مختلفة جدًّا حسب السياقات المختلفة. بعبارة أخرى، لا يوجد لغز شكوكي موازٍ يشتمل على «أنا» أو «طويل». لا يصاب أحد بالحيرة، على سبيل المثال، إذا كنت أُعتبر طويلًا حسب معايير الطول المستخدمة في السياقات اليومية، فإنني لا أعتبر طويلًا بمعايير مدربي كرة السلة.
لكن ما دمنا لا يختلط علينا الأمر عند استخدامنا للمصطلحات الأخرى المعتمدة على السياق، فلماذا الفعل «يعرف» مختلف جدًّا؟ أيْ لماذا لم ندرك على الفور أن تحولًا في السياق يحدث في الحجة الشكوكية الراديكالية، كما نفعل عندما نستخدم المصطلحات الأخرى المعتمدة على السياق؟ هل من المعقول حقًّا أن يكون اللغز الذي حير الفلاسفة زمنًا طويلًا جدًّا قائمًا فقط على خاصية بسيطة في اللغة من شأننا عادةً أن نتعرف عليها في لمح البصر؟ تذكر أيضًا في هذا الصدد أنَّ «يعرف» مصطلح أساسي إلى حدٍّ ما، ومألوف لدى جميعنا؛ فهو ليس بالكلمة الغامضة، أو ذات المعنى بالغ التخصص.
هناك سبب آخر للظن أن السياقية لا تتعمق إلى صميم مشكلة الشكوكية الراديكالية. وذلك لأنه لكي تستطيع الاستجابة السياقية للشكوكية الراديكالية التغلب على هذه الصعوبة، من الضروري الوفاء بمعيار إبستمولوجي ما للمعرفة، وإن كان مجرد معيار ضعيف. وعلى كل حال فإن ما تزعمه الحجة السياقية تحديدًا هو أننا حين ننسب المعرفة في السياقات اليومية نكون على صواب، لأن المعايير المعمول بها غير صارمة بالمرة. هكذا يمكن أن يكون صحيحًا كوني «أعرف» شيئًا بسيطًا مثل أنني أرتدي قميصًا الآن.
وتكمن المشكلة، مع ذلك، في أنه يبدو أن معضلة الشكوكية الراديكالية التي طرحناها سابقًا تستبعد حتى هذا الاحتمال. تذكر أن اللغز الشكوكي الراديكالي طُرِحَ على مستوى المعرفة. كان الادعاء تحديدًا أنه حتى لو كانت معتقداتنا صحيحة، فإنها لا ترقى إلى مستوى المعرفة لأنه ليس لدينا على الإطلاق أي سبب إبستمولوجي لنظن أن معتقداتنا صحيحة. كما ذكرنا، في الظروف العادية قد أظن أن لدي شتى الأسباب الإبستمولوجية لأظن أنني، مثلًا، أرتدي قميصًا، ولكن بمجرد طرح مبدأ الإغلاق وفرضيات الشكوكية الراديكالية مثل سيناريو الدماغ المحفوظ في وعاء، فستبدو هذه الأسباب المعرفية متوَهَّمة. وعلى كل حال، أعرف أنني لو كنت دماغًا في وعاء، فلن أكون مرتديًا لقميص، ولكنني لا أعرف أنني لست دماغًا في وعاء. إذن كيف يمكن أن يكون لديَّ أي أسباب إبستمولوجية وجيهة لأظن أنني أرتدي قميصًا الآن؟ أليست أسبابي الإبستمولوجية لاعتقاد أنني أرتدي قميصًا الآن هي نفس الأسباب التي سيقدمها سيناريو الدماغ في وعاء ليظن أنه يرتدي قميصًا؟ لكن إذا كان هذا صحيحًا، فعلى أي نحو سيكون لديَّ أي أسباب إبستمولوجية وجيهة على الإطلاق؟
جوهر المسألة أنه ما دامت الشكوكية الراديكالية تؤدي إلى هذه النتيجة، فالسياقية ببساطة غير ذات صلة بالمشكلة المطروحة. وهذا لأن مما من شأنه أن يترتب على ذلك ألا نلبي أي معيار للمعرفة، ولا حتى أضعف معيار يمكن تصوره. وبناءً عليه، فإن الاستناد إلى معايير المصطلح «يعرف» لا يمنحنا أي سيطرة على المشكلة الشكوكية على الإطلاق، حيث لا تزال المعضلة قائمة. باختصار، لا نزال مفتقرين للمعرفة، حتى بالمعايير اليومية المنخفضة التي تصفها المنهجية السياقية. وإذا كنا نفتقر للمعرفة حتى بالنسبة لهذه المعايير الإبستمولوجية غير الصارمة، فإننا ببساطة نفتقر إليها، كما يزعم صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي.
تحويل الشكوكية إلى عكسها
وضع لودفيج فيتجنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١) نهجًا أكثر تطرفًا لمشكلة الشكوكية الراديكالية في دفاتره الأخيرة، التي نُشرت بعد وفاته بعنوان «عن اليقين» (١٩٦٩). كما أشرنا أعلاه، كان مور، المعاصر لفيتجنشتاين، يرى أن يقيننا بالشئون اليومية المبني على الفطرة السليمة له دور خاص في ردنا على الشكوكية الراديكالية. كذلك كان فيتجنشتاين، لكن تصوره للدور الخاص الذي يفترض أن يلعبه يقيننا المبني على الفطرة السليمة كان مختلفًا اختلافًا جذريًّا. فبينما كان مور يرى أن هذا اليقين المبني على الفطرة السليمة يعطينا أساسًا إبستمولوجيًّا سليمًا للتصدي للريب الشكوكي الراديكالي، ادعى فيتجنشتاين بدلًا من ذلك أنه في جوهره «خارج دائرة العقلانية» (أي أننا لا نتبناه بشكل عقلاني أو غير عقلاني). دعونا نحاول تحليل هذه الفكرة، والسبب الذي جعل فيتجنشتاين يرى أنها قدمت لنا شيئًا بنَّاءً لمناقشة الشكوكية الراديكالية. الحقيقة أن قول فيتجنشتاين بأننا نعتمد معتقداتنا الأساسية بعيدًا عن العقلانية يبدو بدرجة كبيرة في ظاهره كأنه اتفاق مع صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي.
لكي نفهم ما كان فيتجنشتاين يقترحه، يلزمنا أولًا أن نتمهل قليلًا ونبدي بعض الملاحظات عن «التقييمات العقلانية». لقد ذكرنا سابقًا أن المعرفة هي الاعتقاد الصحيح المبني بطريقة مناسبة على أسباب إبستمولوجية. إننا حين نقَيِّم الأشياء تقييمًا عقلانيًّا — على سبيل المثال: عندما نحاول تحديد ما إذا كان لاعتقادٍ ما الدعم العقلاني الصحيح بحيث يرقى لمستوى المعرفة — فإننا عادةً ما نفعل ذلك على خلفية من ادعاءات مقبولة ليست هي ذاتها محل شك. لذا لنفترض، على سبيل المثال، أننا نريد معرفة ما إذا كان اعتقاد شخص ما بأن الشجرة التي ينظر إليها شجرة بلوط يرقى لمستوى المعرفة. لنفعلَ ذلك، سننظر في عدة عوامل إبستمولوجية مرتبطة بالأمر. هذه العوامل قد تشمل السبب في اعتقاده ذلك (مثلًا هل هو بسبب شكل الشجرة، أم استنادًا إلى شهادة شخص آخر؟)؛ ومدى ثقته من اعتقاده (مثلًا: هل فحص الشجرة عن كثَب، أم ألقى نظرة سريعة عليها فحسب؟)؛ واحتمالية أن يكون هذا الشخص مخطئًا في هذا الموضوع (مثلًا: هل توجد في المنطقة أنواع من الأشجار تبدو مثل البلوط، لكنها ليست بلوطًا؟)؛ وهكذا. إننا حين نُجري تقييمًا عقلانيًّا بهذه الطريقة، نقيِّم ما إذا كان اعتقادٌ ما (في هذه الحالة، ما إذا كانت هذه الشجرة شجرة بلوط) يرقى إلى مستوى المعرفة بناءً على خلفية من الادعاءات المحسوبة مسبقًا في عِداد المعرفة (مثل أن تبدو الشجرة مثل شجرة بلوط نموذجية؛ وألا توجد في المنطقة أشجار تبدو كالبلوط غير أشجار البلوط؛ وأنه يكون بإمكان الشخص التعرف على البلوط بمجرد النظر إليه دون الحاجة إلى فحوصٍ خاصة؛ وهكذا). هذه هي الحالة التي يكون فيها التقييم العقلاني محددًا دائمًا، بحيث لا نقيِّم جميع معتقداتنا دفعة واحدة تقييمًا عقلانيًّا، وإنما مجموعة فرعية فقط من تلك المعتقدات، قياسًا على مجموعة أوسع من المعتقدات ليست موضع شك (ولذلك تُعامَل معاملة المعرفة).
على النقيض من ذلك، ليست التقييمات العقلانية التي يجريها الشخص الشكوكي الراديكالي محددة بهذه الطريقة، وإنما «عامة». فالشخص الشكوكي الراديكالي على كل حال يحاول تحديد ما إذا كانت معتقداتنا بأكملها ذات أسس إبستمولوجية مناسبة، ولذلك ترقى للمعرفة. في الواقع، هذا هو المغزى من إدخال سيناريوهات الشكوكية الراديكالية، فهي عبارة عن حالات تكون فيها معتقدات الإنسان خاطئة بدرجة كبيرة (ولكن مع ذلك لا يمكن تمييزها عن الحياة العادية، ولهذا السبب لا نكون قادرين على استبعادها).
إننا عادةً ما نستبعد احتمالات الخطأ عن طريق اللجوء إلى أشياء نعرف أنها في حد ذاتها لا تقبل الشك بسبب احتمال الخطأ هذا. على سبيل المثال: قد يستبعد شخص احتمال أن يكون مخطئًا من حيث إن الشجرة التي أمامه ليست شجرة بلوط وإنما دَردار، بالإشارة إلى أنه يعرف الفرق بين مظهرَي هاتَين الشجرتَين، ولذلك يمكنه التفريق بينهما. إننا هنا نستعين بمعرفتنا (بشكل البلوط والدَّردار في هذه الحالة) من أجل استبعاد احتمال الخطأ من حيث أن تكون الشجرة التي نظن أنها شجرة بلوط هي في الواقع دَردار.
ومع ذلك فإننا لا نسلك هذا النهج بتماسكٍ مع سيناريوهات الشكوكية الراديكالية. وذلك لأنها احتمالاتُ خطأ تُشكِّك في كل (أو على الأقل معظم) معتقدات الشخص، وبالتبعية تشكك حتى في معرفته الأساسية. ولهذا السبب فإننا لا نستطيع الاستناد إلى ذكرياتنا أو تجارِبنا (أو حتى ما نعتقده عن آخر تطورات التكنولوجيا) من أجل استبعاد الفرضية الشكوكية الراديكالية عن الدماغ المحفوظ في وعاء، حيث يُلقي هذا السيناريو تحديدًا ظلالًا من الشك على صحتها.
إن تركيز الشكوكية الراديكالية على التقييم العقلاني العام بدلًا من التقييمات المحددة المألوفة لدينا في حياتنا اليومية ليس في حد ذاته عيبًا فيها. كما ذكرنا عندما ناقشنا أهمية الفطرة السليمة في معضلة الشكوكية الراديكالية، من المرجح أن صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي يقدم نسخة «منقحة» من ممارساتنا اليومية. إننا غالبًا ما نقيِّم معتقداتنا، كلٌّ على حدة، وذلك منطقي، نظرًا للقيود العملية التي عادةً ما نجابهها. فليس لدينا الوقت، ناهيك عن الرغبة، للشك في جميع معتقداتنا دفعةً واحدة. لكن هذه القيود لا تقيدنا عندما نتحدث في الفلسفة، ولذلك نستطيع التساؤل عن الوضع الإبستمولوجي لمعتقداتنا ككل. يدعي صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي أننا بمجرد أن نتمهل بعض الشيء لنفعل ذلك سنكتشف أن معتقداتنا ليس لها أساس إبستمولوجي سليم على الإطلاق، ولذلك لا ترقى إلى مستوى المعرفة (أو على الأقل ليس لدينا أي تفسير معقول متاح لنا حول سبب ارتقائها إلى مستوى المعرفة).
من المثير للاهتمام أن صاحب الموقف الشكوكي الراديكالي ليس وحده الذي يحاول تقييم معتقداتنا ككلٍّ تقييمًا عقلانيًّا. لاحِظ أن هذا أيضًا هدف المناهض التقليدي للشكوكية. فبينما يُقَيِّم الشكوكي الراديكالي معتقداتنا ككلٍّ تقييمًا عقلانيًّا على نحو سلبي، ليجدها قاصرة، يُقَيِّم المناهض التقليدي للشكوكية معتقداتنا ككلٍّ تقييمًا عقلانيًّا بهدف إصدار حكم إيجابي (أي إثبات أنها ترقى إلى مستوى المعرفة، على النقيض من الشكوكي الراديكالي). وتَذَكَّر أن ديكارت كان يحاول أن يفعل هذا من خلال نظريته التأسيسية، التي نستطيع من خلالها إثبات أن معتقداتنا ككلٍّ سليمة من الناحية الإبستمولوجية لأنها مدعومة بأسس لا يمكن التشكيك فيها. وحاول مور أن يفعل شيئًا على نفس المنوال عمومًا من خلال الاستناد إلى أوجه اليقين لدينا المبنية على الفطرة السليمة. لقد حاول، تحديدًا، أن يبين أن أوجه اليقين هذه توفر لنا أساسًا عقلانيًّا للتصدي للشكوكية الراديكالية، وبالتبعية الاطمئنان إلى أن معتقداتنا، بجملتها، سليمة تمامًا كما هي من الناحية العقلانية. (أو على الأقل، إذا كان ثمة خطأ في معتقداتنا في هذا الصدد، فإنه ليس شيئًا كشفه الشكوكي الراديكالي).
هنا يأتي دور طرح فيتجنشتاين. كانت فكرته الأساسية أن كلًّا من الشكوكي الراديكالي والمناهض التقليدي للشكوكية يستخدم تصورًا خاطئًا لطبيعة التقييم العقلاني. جادل فيتجنشتاين، تحديدًا، بأن كون تقييماتنا العقلانية اليومية محدودة ليست خاصية «عرَضية». بل إنه جزء من طبيعة التقييم العقلاني نفسه أن يكون محدودًا بهذه الطريقة. وادعى تحديدًا أن مجرد افتراض أنه يمكن لأحد إجراء تقييم عقلاني عام — أي تقييم جميع معتقداته دفعةً واحدة — هو ببساطة افتراض غير متسق. إذا كان هذا صحيحًا، فالشكوكي الراديكالي والمناهض التقليدي للشكوكية يرتكبان نفس الخطأ الجوهري.
[…] إن الأسئلة التي نطرحها و«شكوكنا» ترتكز على حقيقة أن بعض الافتراضات مُعفاة من الشك، فهي، إذا جاز القول، مثل المُفَصَّلات التي تدور عليها تلك الأسئلة والشكوك.
أي أن منطق بحثنا […] يقتضي ألا تكون بعض الأشياء موضع شك في الواقع.
لكن الوضع ليس هكذا، فببساطة ليس بإمكاننا أن نتحرى عن كل شيء، ولهذا السبب نُضطر لأن نَقنَع بالافتراض. إذا أردنا أن يدور الباب، فيجب أن تبقى المُفَصَّلات في مكانها.

تتمثل وجهة نظر فيتجنشتاين في أن ممارسة تقييم معتقداتنا عقلانيًّا ذاتها تفترض وجود محاور اليقين المِفصَلِيَّة هذه التي تتيح إجراء تقييمات عقلانية، ولذلك فهي نفسها ليست موضع تقييم عقلاني. هذا اليقين المِفصَلِي هو في الواقع قناعة ضمنية أساسية بأن الشخص ليس مخطئًا خطأً جذريًّا. ارتأى فيتجنشتاين أن هذا يتجلى في اليقين القاطع الذي نبديه عندما يتعلق الأمر بتلك الادعاءات عن حياتنا اليومية، والتي نعتبرها مُتَيقَّنة لأقصى درجة.
إن التباين بينه وبين مور مفيد في هذا الصدد من حيث إن كليهما مهتم بالدور الخاص الذي تلعبه حالات اليقين في أمورنا اليومية، لكن مع فارق حاسم. بينما كان مور يرى أن حالات اليقين من أمور الحياة اليومية هذه لها وضع عقلاني خاص (يمَكِّننا من التصدي للشكوكية الراديكالية)، كان فيتجنشتاين بدلًا من ذلك يرى أن حالات اليقين هذه محصنة من التقييم العقلاني. ولا يقتصر الأمر على أننا لا نستطيع فهم سبب كونها قائمة على أسس عقلانية، لكنها، بناءً على ذلك، ليست غير عقلانية أيضًا. إنها بالأحرى المحاور المِفصَلِيَّة التي يجب أن تكون موجودة لإجراء التقييمات العقلانية، ولذلك لا يمكن تقييمها هي ذاتها تقييمًا عقلانيًّا. إذا كان هذا صحيحًا، فسيستتبعه أنه لا يمكن أن يكون هناك تقييمات عقلانية شاملة، حيث سيكون هناك حاجة دائمًا إلى محاور يقين مِفصَلِيَّة يقوم عليها أي تقييم عقلاني، وتكون بدورها محصنة من التقييم العقلاني.
دعنا ننظر في المثال الذي يناقشه فيتجنشتاين في هذا الصدد. كما أشرنا أعلاه، قدَّم مور مثاله الشهير الذي استدل فيه باعتقاده أن لديه يدَين، باعتباره واحدًا من الادعاءات القائمة على الفطرة السليمة التي كان يعتبرها مُتَيقَّنة لأقصى درجة. ولذلك، إذا ادعت أي حجة فلسفية، مثل اللغز الشكوكي الراديكالي الذي مررنا به، أنه لا يعرف إذا كان لديه يدان، فإن مور يحاجج بأن رفض ذلك الاستدلال أكثر معقولية من أن يقبل بأنه لا يعرف إذا كان لديه يدان. كما رأينا أعلاه، يبدو أن ما يدعيه مور على وجه الخصوص هو أننا لا بد أن نكون قادرين على معرفة طرق نفي فرضيات الشكوكية الراديكالية (على الرغم من أنه كان سيُقِر بأنه لا يستطيع أن يشرح كيف نفعل ذلك). يقر فيتجنشتاين بأن هذا الادعاء بأن لدينا يدَين يُعتبر عندنا مُتَيقَّنًا لأقصى درجة، على الأقل في الظروف العادية، لكنه لا يرى أن هذا يمنحه أي مكانة عقلانية خاصة كما يرى مور. يجادل فيتجنشتاين بأن يقيننا التام بهذا الأمر في الظروف العادية يعني أنه ليس باستطاعتنا أن نجد أي أسباب منطقية للشك فيه أو أي أسباب منطقية لتصديقه.
قد نظن أن هذه مسألة محيرة؛ أليس اعتقادي بأن لديَّ يدَين أمر مبني على تعاملي بيدَيَّ، ورؤيتي لهما وشعوري بهما وما إلى ذلك؟ يدعي فيتجنشتاين أن هذا خطأ. ويعبر عن ذلك قائلًا:
إذا سألني رجل أعمى: «هل لديك يدان؟» فلا يجب أن أتأكد من ذلك بالنظر. لو كان لدي أي شك في ذلك، فلا أدري لماذا يجب أن أثق في عينيَّ. إذ كيف يمكن أن أستخدم بصري لمعرفة ما إذا كنت أرى يديَّ إذا كانت قدرتي على الثقة فيه محل شك؟ ما الذي يُختَبَر على وجه التحديد وبواسطة ماذا؟
جوهر المسألة هنا أن هذا اليقين لم يُقَيَّم هو نفسه تقييمًا عقلانيًّا، بل هو جزء من الخلفية المُسَلَّم بها التي تُقيَّم الادعاءات الأخرى عقلانيًّا على أساسها. ولذلك فإنه ما يجعل التقييمات العقلانية ممكنة في المقام الأول. (قارن بين قناعتك بأن لديك يدَين وقناعتك بأن مفاتيحك في جيبك. إذا سألك شخص عما إذا كانت مفاتيحك معك، فمن المنطقي تمامًا أن تربت على جانبيك لتعرف من صوت المفاتيح في جيبك أنها موجودة، أو حتى أن تخرجها لتريها للشخص الآخر. لكنه ليس منطقيًّا على الإطلاق إذا سألك شخص عما إذا كان لديك يدان أن تمدهما وتقول: «نعم، بالتأكيد، ها هما!»).
إذا لم يكن لدينا أساس عقلاني لمحاور اليقين المِفصَلِيَّة هذه، فإن ذلك يستتبع أنه لا يمكن معرفتها، على الأقل إذا استمررنا في الإصرار على أن المعرفة تتطلب اعتقادًا صحيحًا مبنيًّا على أسباب إبستمولوجية مناسبة. لكن قد يتساءل المرء عن السبب في أن هذا الادعاء لا ينهار فحسب ويندمج بشكل لا يمكن تمييزه في الشكوكية الراديكالية. إذا كانت تقييماتنا العقلانية تفترض يقينًا مِفصَلِيًّا يفتقر إلى الدعم العقلاني، ألا يعني هذا أن معتقداتنا في النهاية بلا أساس على الإطلاق (أي تفتقر لأي أسباب إبستمولوجية)؟ أليس هذا شبيهًا بالاعتراف بأن معتقداتنا في صميمها قائمة على مجرد «الإيمان»؟ ومع ذلك، فالمشكلة هي أن الإيمان يبدو «معارضًا» للعقل. ولذلك، إذا كانت معتقداتنا في الأساس مختزلة في الإيمان، فمن الصعب أن نفهم لماذا لا يترتب على ذلك منطقيًّا أن يستلزم ببساطة أننا لا نعرف أي شيء، كما يدعي صاحب فرضيات الشكوكية الراديكالية.

ورغم أنه صحيح، حسب رؤية فيتجنشتاين، أننا لا نملك معرفة بمحاور اليقين المِفصَلِيَّة، لكن انتبه إلى أن هناك أيضًا سياقًا لا نفشل معه في معرفتها. أي أن هذا ليس بالشيء الذي نجهله، بمعنى أنه كان بإمكاننا معرفته، ولكننا فشلنا في ذلك. يزعم فيتجنشتاين أنه ليس من المنطقي أن يكون ثمة تقييم عقلاني دون افتراض هذه الخلفية من اليقين المِفصَلِي، ولذلك لا يمكن تقييم المحور المِفصَلِي نفسه عقلانيًّا لأنه لا بد من وجوده ليكون هناك تقييم عقلاني. من ثم فإن اليقين المِفصَلِي نوعًا ما ليس بالشيء الذي يمكننا معرفته ولا بالشيء الذي نفشل في معرفته (أي نجهله)؛ إنه ببساطة ليس من الأشياء المحسوبة في نطاق المعرفة.
يُشَكِّل هذا اختلافًا طفيفًا بين اقتراح فيتجنشتاين والشكوكية الراديكالية. يتفق كلاهما على أن اليقين المِفصَلِي مجهول، ولكن التفسير مختلف في كل حالة. فاليقين المِفصَلِي مجهول من وجهة نظر فيتجنشتاين، لأنه ببساطة ليس من نوعية الأشياء التي يمكن معرفتها، وأنه خطأ فلسفي أن نظن خلاف ذلك. أما صاحب فرضيات الشكوكية الراديكالية فيرى، على النقيض، أن اليقين المِفصَلِي من نوعية الادعاءات التي يمكن معرفتها، وكل ما هنالك أننا فشلنا في معرفته (أي أننا نجهله). هذا الفرق، على الرغم من أنه طفيف، فهو مهم. إذا كنا ببساطة نجهل اليقين المِفصَلِي، فستبدو فكرة أن معتقداتنا عن الحياة اليومية، المدعومة بتقييمات عقلانية محددة تفتقر إلى أسباب إبستمولوجية تعززها، فكرةً معقولةً جدًّا. ولكن إذا كان اليقين المِفصَلِي لا ينتمي حتى لمجال المعرفة، فلماذا قد ينتج عن كونه مجهولًا أي تداعيات سلبية على الأساس الإبستمولوجي لمعتقدات حياتنا اليومية؟ لهذا السبب وَصَفْتُ نهجَ فيتجنشتاين هذا بأنه «يَقْلِب» الشكوكية حيث يأخذ ادعاءً رئيسيًّا يقدمه الشكوكي الراديكالي ويحاول أن يقلبه رأسًا على عقب حتى يمكن استخدامه ضد الشكوكية الراديكالية.
لكن حتى إذا سلَّمنا بحجة فيتجنشتاين، فما زال يبدو غامضًا كيف يمكن تطبيق هذا المنطق المناهض للشكوكية على الصيغة المحددة للُّغز الشكوكي الراديكالي الذي نحن بصدده. في ظاهر الأمر، تبدو الفكرة أن يقيننا الأساسي بأننا لسنا مخطئين خطأً جوهريًّا كامنٌ في قناعتنا بأننا لسنا ضحايا لفرضيات شكوكية راديكالية. بالتأكيد، قد يفكر المرء بلا اهتمام حقيقي في مثل هذه السيناريوهات، كالتفكير في أنه قد يكون دماغًا محفوظًا في وعاء على سبيل المثال، لكن اليقين الذي يتجلى في أفعالنا اليومية يكشف عن أنه في الواقع لا يخامرنا شك على الإطلاق. من ثم فإننا، كما يزعم الشكوكي الراديكالي، لا نعرف طرق نفي فرضيات الشكوكية الراديكالية، بما يتوافق مع الادعاء (١)، وإن كان على أساس أننا أيضًا لسنا جاهلين بمثل هذه الادعاءات. ومع ذلك، يبدو أن التفكير يذهب إلى أن الدعم الإبستمولوجي الذي تتمتع به معتقدات حياتنا اليومية مقبول تمامًا كما هو، على الرغم من أنه نتاج تقييمات عقلانية محددة جرت على خلفية يقين بدائي غير عقلاني. من ثَمَّ فإنه يبدو أن موقف فيتجنشتاين يؤيد الادعاء (٣) أيضًا.
هل يعني ذلك إذن أن منطق فيتجنشتاين ينطوي على نفي الادعاء (٢)، ومن ثَمَّ رَفْض مبدأ الإغلاق؟ قد يبدو بالتأكيد أن هذا لا بد أن يقتضي هذا النهج، وذلك لأنه ما الخيار الآخر المتاح؟ يبدو أن الفكرة هي أن مبدأ الإغلاق يبدو غير معضل لأننا نعتبر ضمنيًّا أنه أمر مُسَلَّم به أنه يمكن أن يكون هناك تقييمات عقلانية شاملة. المعتاد أن يأخذك مبدأ الإغلاق من معرفةٍ قُيِّمَت تقييمًا محددًا إلى معرفةٍ أخرى قُيِّمَت تقييمًا محددًا، كما يحدث حين يستنتج المرء من حقيقة أن شجرةً ما هي شجرة بلوط أنها ليست شجرة دَردار (لأننا نعرف أنه لا يمكن لشجرةٍ أن تكون شجرة بلوط وشجرة دَردار في الوقت نفسه). بَيْدَ أن ما يميز الحالات التي يستخدم فيها الشكوكي الراديكالي مبدأ الإغلاق، هو أنها تأخذنا من ادعاءات المعرفة اليومية ذات التقييمات المحددة إلى طرق نفي فرضيات شكوكية راديكالية، حيث تكون الأخيرة من النوع الذي، إذا كان معروفًا، سيتضمن تقييمًا عقلانيًّا عامًّا. ولذلك يبدو أن منطق فيتجنشتاين بخصوص الإغلاق هو رؤية أن حالات استخدام مبدأ الإغلاق من هذا النوع بعيدة كل البعد عن أن تكون غير معضلة حيث إنها تفترض تصورًا لطبيعة التقييم العقلاني يزعم فيتجنشتاين أنه خاطئ تمامًا.
إذا كان هذا صحيحًا، فإن رد فيتجنشتاين على معضلة الشكوكية العقلانية هو رفض مبدأ الإغلاق، وبالتبعية الادعاء (٢). لكن نظرًا لوجاهة مبدأ الإغلاق بجلاء، فسيكون من الصعب اتخاذ هذا النهج، حيث يقوم بالضرورة على رفض شيء نجده بديهيًّا إلى حدٍّ كبير.
الحالة الراهنة
لم يكن هدفي في هذا الفصل الدفاع عن رد معين على مشكلة الشكوكية الراديكالية، أو حتى تقديم استعراض شامل لجميع الردود المتاحة. إنما قدمت عينة تمثيلية من الاقتراحات المناهضة للشكوكية حتى يتسنى للقارئ التعرف على كيفية التعامل مع هذه المشكلة. كما رأينا، لكل مسار من المسارات المناهضة للشكوكية التي اطلعنا عليها صعوباته الخاصة، فلم يقدم لنا أي مسار «حلًّا حاسمًا» في هذا الصدد. هل يعني ذلك أن الوضع ميئوس منه؟ لا، على الإطلاق. في الواقع، إن توفر مجموعة من الردود، كل منها لديه مزاياه وعيوبه، أمر طبيعي تمامًا مع الألغاز الفلسفية، ولذلك ليس هناك ما يدعو للدهشة. ينبئنا هذا بأنه من المرجح أن يكون اللغز المطروح عويصًا ومهمًّا، بحيث إنه بدلًا من أن يكون قابلًا للحلول المباشرة يدفعنا إلى المزيد من التدقيق في الموضوع المطروح، وتطوير أسلوب تفكيرنا فيه أثناء ذلك. في حالة المفارقة الشكوكية الراديكالية، قد يعني هذا، على سبيل المثال، محاولة فهم كيف يمكن أن يتضمن نظامنا للتقييم العقلاني بالضرورة التزامات مِفصلية غير خاضعة للعقلانية (كما اقترح فيتجنشتاين)، أو تبين كيف يمكن أن تكون «المعرفة» مفهومًا معتمدًا على السياق متخفيًا (كما تزعم المنهجية السياقية). ومن ثَمَّ فإن الهدف من النظر في هذه المناهج المناهضة للشكوكية ليس إقناعك بحل معين، ولا حتى إقناعك بأنه لا يوجد حل، وإنما إثبات أن هناك ردودًا فلسفية مثيرة للاهتمام يمكن تقديمها لمشكلة الشكوكية الراديكالية. مع وضع هذا في الاعتبار، سيكون من السابق لأوانه الاستسلام للشكوكية الراديكالية مثلما سيكون سابقًا لأوانه اختيار أحد هذه الاقتراحات المناهضة للشكوكية وإعلان الانتصار.