الشكوكية بصفتها أسلوب حياة
بدأنا هذا الكتاب بالإشارة إلى الفرق بين الشكوكية المعقولة المعتدلة، والشكوكية الراديكالية وما تنطوي عليها من تداعيات صعبة كثيرة. إن الشكوكية المعتدلة هي الترياق للسذاجة حيث تحثنا على الشك فيما يُقال لنا بدلًا من تصديقه على علاته. لذا لا بد من تشجيع هذه الشكوكية المعتدلة. تصبح الشكوكية مشكلة حين تنحرف نحو النوع الراديكالي. إن الشكوكية المعتدلة تدقق في ادعاءات معينة، أما الشكوكية الراديكالية فتشكك في صحة معتقداتنا إجمالًا. ولهذا عواقب مقلقة، كما رأينا في الفصل الأول. فإذا كانت جميع معتقداتنا قابلة للشك، فلماذا نبقى مؤمنين بحقيقة أي شيء؟ علاوةً على ذلك، فإننا إذا قررنا أننا لا نملك الإحاطة بالحقيقة، فلماذا قد يعود لدينا اهتمام بما هو حقيقي؟ هكذا تدعو الشكوكية الراديكالية إلى النسبية بشأن الحقيقة، حيث لا تعود الحقيقة شيئًا موضوعيًّا، وإنما تصبح أيًّا كان ما يدَّعي شخصٌ ما أنه الحقيقة.
ولكن ما الدوافع وراء الشكوكية الراديكالية؟ إن الذين يتبنون الشكوكية الراديكالية — أو النسبية، نظيرتها القريبة — في الحياة العامة نادرًا ما يقدمون أي أساس نظري لها. تأمل، على سبيل المثال، أولئك الذين يشككون في حجية العلم، والذين يقدمون أعدادًا كبيرة من نظريات المؤامرة، والذين يؤكدون برضًا أن السياسة المعاصرة في مرحلة «ما بعد الحقيقة»، وما إلى ذلك. هذه الادعاءات، التي تفترض الشكوكية الراديكالية/النسبية، لا تأتي معها بأي تبرير لهذا الافتراض.
رأينا في الفصل الأول أن بعض الأسباب التي قد تُبرَّر بها الشكوكية الراديكالية في الواقع واهية للغاية. على سبيل المثال: الحقيقة غير القابلة للإنكار المتمثلة في كوننا كائنات غير معصومة، نخطئ أحيانًا، ليست في حد ذاتها مبررًا للشكوكية الراديكالية. أن نكون مخطئين أحيانًا لا يعني أن نكون مخطئين دائمًا. بالمثل، كوننا نادرًا ما تتيسر لنا أسباب لليقين التام بما نعتقده، إن حدث وتيسرت من الأساس، أيضًا ليس سببًا منطقيًّا للشكوكية الراديكالية. بيت القصيد أن المعرفة البشرية لا تستلزم العصمة من الخطأ أو اليقين التام، ولذلك إذا كانت معتقداتنا تفتقر إلى هذه السمات فهذا لا يدل على أنها قاصرة عن الارتقاء لمستوى المعرفة.
عدم توقف المعرفة على العصمة من الخطأ أو اليقين التام كان أيضًا سببًا وراء عدم نشوء الشكوكية الراديكالية كنتيجة مباشرة لحقيقة مفادها أننا لا نستطيع استبعاد الفرضيات الشكوكية الراديكالية. تذكر أن هذه سيناريوهات، مثل سيناريو الدماغ المحفوظ في وعاء، حيث يكون المرء مخدوعًا تمامًا بشأن العالم من حوله، لكن بطريقة لا يمكن اكتشافها. يبدو أن السمة المميزة لهذه السيناريوهات هي ألا يكون بإمكاننا أن نعرف أننا لسنا في واحد منها. ولكن هذا في حد ذاته لا ينطوي على أي نتائج شكوكية راديكالية. إنه يُذَكِّرنا فقط بأن هناك دائمًا احتمالًا للخطأ، وهذا مجرد تأكيد لمسألة أننا مخلوقات غير معصومة من الخطأ، ومن ثَمَّ بالدرجة المشروعة من عدم اليقين التي تصاحب كوننا كذلك.
ومع ذلك فإنه من المثير للاهتمام أن الاستدلال بالعصمة واليقين التام وإن كانا ليسا دافعين للشكوكية الراديكالية، فإنهما يقدمان أسبابًا منطقية للشكوكية المعتدلة. فإذا كنا نخطئ أحيانًا، وغالبًا لا تتاح لنا فرصة أن نكون واثقين تمامًا مما نعتقد، فبالطبع لا بد أن نكون حذرين إزاء ما نؤيد من معتقدات.
في الواقع، لهذا السبب تحديدًا نجد الشكوكية المعتدلة مستخدمة في المنهجية العلمية، لأن العلماء يدركون أن وسائلنا للتوصل إلى الحقيقة غير مثالية. ولهذا فإنه حتى الادعاءات العلمية الراسخة تُعامَل على أنها مؤقتة، بمعنى أنها تظل خاضعة لإعادة التقييم لحين ظهور أدلة جديدة. وهكذا لا يتخذ العلم موقفًا متصلبًا بشأن العالم من حولنا، حيث «تتضمن» المنهجية العلمية في الواقع تلك الشكوكية المعتدلة.

ومع ذلك، فقد ذكرنا أيضًا في الفصل الثاني أن هناك حجة قوية يمكن تقديمها لدعم الشكوكية الراديكالية. تستخدم هذه الحُجة فرضيات شكوكية راديكالية، لكنها لا تكتفي بالاستعانة بهذه السيناريوهات وحدها (حيث تستخدم أيضًا مبدأ الإغلاق). ورأينا أيضًا في الفصل الثالث، أنه رغم وجود ردود فلسفية على هذه الحُجة، فكلها تكتنفها عيوب خاصة بها.
ومع ذلك، فإنه من الجدير بالملاحظة أنه لم يحدث قط أن قدم هذه الحُجة الشكوكية الراديكالية في الحياة العامة أولئك الذين يجاهرون بمثل هذه التوجهات الشكوكية الراديكالية، وهذه ليست صدفة. ويرجع جزء من السبب وراء هذا، بالطبع، إلى أن أولئك الذين يتبنون الشكوكية الراديكالية في الحياة العامة من المحتمل أنهم ليسوا على دراية بالأفكار الفلسفية وراءها. لكن حتى لو كانوا على علم بالمفارقة الشكوكية الراديكالية، فمع ذلك لن يكون من الحكمة أن يحاولوا استخدامها لدفع موقفهم الشكوكي الخاص. هذا لأنها بدلًا من دعم شكوكيتهم، ستضعفها بالكشف عن مدى تطرف نطاق شكهم.
تصور مثلًا شخصًا يطرح شكوكية عامة بشأن العلم، حيث يظن أن التغير المناخي الناجم عن أنشطة بشرية خدعة، وأن اللقاحات جزء من مؤامرة عالمية لإيذاء أطفالنا، وهكذا. كما أشرنا سابقًا، ما إن تصبح شكوكية الشخص بهذا الشمول، فمن الصعب تبين السبيل للسيطرة عليها؛ إذا كان الشخص متشككًا بشأن العلم، فلماذا لا يكون متشككًا بشأن كل شيء؟ ولذلك، قد نتصور أن الحجة التي تدعي أن المعرفة مستحيلة قد تُعَد مكسبًا لمثل هذا الشخص. غير أن المشكلة هي أنه من المهم في الواقع للمتشكك في العلم ألا يعمم شكه بهذه الطريقة. فإن ما يريده في نهاية المطاف هو ادعاء أنه في موقف إبستمولوجي متميز مقارنةً بالجميع؛ فهو يستطيع أن يدرك المؤامرة التي ينخدع بها الآخرون كلهم. ولكن هذا يعني أنه بحاجة لأن ينسب لنفسه المعرفة التي يفتقر إليها الآخرون، ولذلك فإن الشكوكية الراديكالية الحقة ليست في صالحه. هكذا يسعى المتشكك في العلم إلى إنجاز نوع من التحدي الفكري، حيث يتبنى شكلًا متطرفًا من الشكوكية، لكنه ليس بالغ التطرف بحيث ينال كذلك من المعرفة التي يحتاج إليها لتقديم حجته في المقام الأول.
لكن هذا التحدي الفكري لا يدوم طويلًا، كما أشرنا سابقًا. فما إن يتسع نطاق الشك بما فيه الكفاية، حتى يقوض كذلك أسس شكه، ولذلك يدمر نفسه بنفسه. هذا لا يعني أنه لا توجد مشكلة في الشكوكية الراديكالية، وإنما يعني أنه لا يُحبذ أن نفهمها كموقف — أي كرأي يتبناه شخصٌ ما على نحو متماسك — وإنما على أنها لغز أو مفارقة. على أي حال، هذا هو السبب وراء عدم استفادة المتشككين في العلم (أو أي شخص آخر في الحياة العامة يتبنى شكلًا عامًّا من الشكوكية) من الاستناد إلى المفارقة الشكوكية الراديكالية لدعم موقفه. وذلك لأنه إذا أقدم على ذلك فسيكشف عن مدى تطرف الشكوكية المطروحة، ومن ثَمَّ سيقوضها.
توضح هذه النقطة كيف أن الشكوكية الراديكالية، حين تُطرَح في الحياة العامة (على عكس طرحها في النقاش الفلسفي)، تكون نوعًا ما «زائفة». مما يسَّر للمتشكك في العلم أن يطرح شكوكًا تطال معظم ما نؤمن به، بينما يحاول في الوقت نفسه ادعاء أن الأسباب التي يستند عليها في هذه الشكوك مؤكدة تمامًا ولا مجال للشك فيها. لكن هذا ببساطة لا يُعتَد به. علاوةً على ذلك، يتجلى هذا النوع من «الازدواجية» الفكرية أيضًا في الطريقة التي يعيش بها المتشكك في العلم حياته. فهذا الشخص عادةً ما يكون راضيًا تمامًا بتلقي الرعاية الصحية المتوفرة في العالم الأول، ويسافر على متن الطائرات وهو واثق بأنها لن تسقط من السماء، وهكذا. ولكن إذا كان متشككًا في العلم حقًّا، فكيف يمكن أن يكون هذا هو حاله؟
النقطة الحاسمة هي أنه بمجرد أن نوضح ما تنطوي عليه الشكوكية الراديكالية، يصير من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نفهم حتى كيف يمكن لشخص تبنيها كموقف. كيف يمكن أن نفهم شخصًا يدعي أنه لا يصدق أي شيء؟ كيف نفهم ما يفعله، وما يهتم به — بما في ذلك الادعاءات الشكوكية الراديكالية التي يطرحها — وهكذا إذا اعتبرنا فعلًا أنه يشك حقًّا في كل شيء؟ لهذا السبب لا يُعَبِّر أولئك الذين يتبنون أفكارًا شكوكيةً راديكالية في الحياة العامة عنها بهذه العبارات (وإن كانوا يستغلون الأفكار الشكوكية على نحو مستتر)، حيث إن فعل ذلك سيكون ضد أغراضهم المتمثلة في طرح شكوكيتهم في المقام الأول. فما يريدونه في نهاية المطاف هو أن نصدقهم، حتى لو كانوا يريدون ألا نصدق أشياء شتى أخرى.
من المثير للاهتمام أننا سنجد نقاطًا مماثلة تنطبق على أولئك الذين يروجون لأفكار حول نسبية الحقيقة في الحياة العامة، حيث يشتمل هذا أيضًا على قدر هائل من الزيف. على سبيل المثال: أولئك الذين يحاولون إقناعنا بأن الحقيقة الموضوعية لا تهم في الحياة السياسية، لأنه لا توجد حقيقة موضوعية من الأساس، لا يتخلون في الواقع عن تصور موضوعي للحقيقة على الإطلاق. هل تظن أن عدم اكتراثهم بالحقيقة الموضوعية يشمل الأمور التي تهمهم على المستوى العملي؟ على سبيل المثال، هل تظن أنهم لن يبالوا بالحقيقة الموضوعية إذا كان الأمر يتعلق بإنكار مصلحة الضرائب حقهم في استرداد ضرائب يحق لهم الحصول عليها؟ أو إذا كانوا متهمين زورًا بجريمة خطيرة؟ بذلك يكون التزامهم بالنسبية مزيفًا، لأنه إذا كانوا حقًّا من دعاة النسبية بشأن الحقيقة فإنهم لن يعتبروا أي شيء حقيقيًّا من الناحية الموضوعية. ومثل أولئك الذين يطرحون أفكارًا شكوكية راديكالية في الحياة العامة، يحاول دعاة النسبية هؤلاء تقديم تحدٍّ فكري، حيث يكونون نسبيين إزاء الحقيقة الموضوعية متى يناسبهم ذلك، ولكن ليس عندما لا يناسبهم. لكن هذا الموقف ليس أقدر على الصمود في هذه الحالة مما كان موقف المتشككين في العلم.
إن هذه النقاط المتعلقة بالتناقضات في الأفكار الشكوكية الراديكالية والنسبية في الحياة العامة تسلط الضوء على أمر مهم. فغالبًا ما تُقَدَّم هذه الأفكار على أنها تحديات للسلطة، ومن ثَمَّ باعتبارها سرديات تحررية يمكن للمرء استخدامها لتقويض هياكل السلطة القائمة. في الحقيقة، عادةً ما يكون الواقع على العكس تمامًا حيث تساهم هذه الأفكار في الواقع في دعم هياكل السلطة القائمة وبقائها في مكانها، فالسلطة ليس لديها ما تخشاه منها. على سبيل المثال، إذا فُضِحَ زيف العلم تمامًا، فلماذا إذن سنستمع إلى العلماء الذين يطالبون باتخاذ إجراءات بشأن التغير المناخي الناجم عن أنشطة بشرية؟ أو إذا لم يكن هناك حقيقة موضوعية، فلا يمكن كذلك لوجود الظلم في المجتمع أن يكون أمرًا موضوعيًّا. لكن كيف يمكن لأحد عندئذٍ أن يطرح أي أساس سياسي ثابت لمواجهة هذا الظلم؟
على أي حال، كانت الحجة الداعمة للشكوكية الراديكالية التي تناولناها في الفصل الثاني قوية، وذلك تحديدًا لأنها لم تكن مرتبطة جوهريًّا بموقف شكوكي راديكالي. بل جاء عرضها في المقام الأول على أنها مفارقة، أي أنها تكشف التناقضات العميقة داخل مفهومنا عن المعرفة. كما رأينا، يمكن طرح المفارقات على نحو متماسك دون أن يتطلب هذا من أي أحد الدعوة إلى طريقة معينة لحل تلك المفارقة. ولذلك فإن الشكوكية الراديكالية كمفارقة مختلفة عن الشكوكية الراديكالية كموقف؛ أي كموقف يتخذه المرء ويعيشه. إذا كانت الشكوكية الراديكالية كموقف غالبًا ما تؤدي إلى تشوش، فهذا لا يعني أن الشكوكية الراديكالية كمفارقة بها خطأ أساسي.
لذلك فإن الأشخاص الذين يتبنون الأفكار الشكوكية الراديكالية والنسبية في الحياة العامة لا يمكنهم الاستعانة بالمفارقة الشكوكية الراديكالية بمصداقية لدعم ادعاءاتهم. علاوةً على ذلك، كما رأينا أيضًا في الفصل الثالث، فإنه مثلما يمكن تقديم حجة لدعم هذه المفارقة، هناك أيضًا ردود فلسفية يمكن تقديمها. إذن سيكون من السابق لأوانه أن نستنتج أن معرفتنا مصابة بمشكلة شكوكية مستعصية على الحل.

الفضائل والرذائل الفكرية
غالبًا ما يُتهم الفلاسفة بالتركيز على مسائل مجردة تمامًا، لا عَلاقة لها بالقضايا الملحة التي تواجهنا في الحياة اليومية. لكن هذا بالتأكيد لم يكن ينطبق على أرسطو، الذي كان منشغلًا بأن يقدم لنا نصائح عملية عن السبيل إلى عيش حياة طيبة. عندما نفكر في الأخلاق في الحياة المعاصرة، نميل إلى مساواتها بالمبادئ الأخلاقية، أي ما هو صالح سلوكيًّا تحديدًا. أما عند أرسطو، وكذلك العديد من الفلاسفة القدماء، فقد كانت الأخلاق ذات معنًى أوسع بكثير، من ناحية كونها معنية بسؤال أعم بشأن الطريقة التي ينبغي أن نعيش بها؛ أي ما يشكل الحياة الطيبة. قد تكون المبادئ الأخلاقية جزءًا من هذه الحياة، ولكنها جزء واحد فقط، حيث إن هناك عناصر أخرى ضرورية من أجل عيش حياة طيبة. من شأن حياة تفتقر إلى الإنجازات، أو العَلاقات الشخصية القوية، أو التجارِب الجمالية أن تكون نتيجةً لذلك مجدبة، ولكن لا شيء من هذه الأشياء يتعلق أساسًا بالمبادئ الأخلاقية. وهكذا نرى أن الحياة الطيبة لا تقتصر على أن يعيش الإنسان حياة تنتهج المبادئ الأخلاقية. هذا هو السؤال الأخلاقي الأوسع المتعلق بالسبيل إلى عيش حياة طيبة الذي حاول أرسطو الإجابة عنه.
وقد تناول هذا السؤال بالاحتكام لدور «الفضائل» في الحياة الطيبة. وهي أنواع مميزة من الصفات الشخصية، أي نزعات لدى الشخص للتصرف بطرق معينة، وهي محل استحسان كبير. وتشمل هذه الصفات الشجاعة، والكرم، واللطف. وللفضائل عدد من الخصائص المثيرة للاهتمام، على الأقل حسبما رأى أرسطو. على سبيل المثال: تقف الفضائل في الطرف المقابل للرذائل، وهي صفات شخصية غير مستحبة على الإطلاق (بل وغالبًا ما تكون مستنكَرة). في الواقع، تقع الفضيلة بين رذيلتين، رذيلة الإفراط ورذيلة التفريط. لنأخذ الشجاعة مثالًا. إن الافتقار للشجاعة، أي الجبن، رذيلة، ولكن يمكن أيضًا أن يفرط المرء في الإقدام فينم سلوكه عن رذيلة مختلفة جدًّا وهي أن يكون متهورًا أو أهوج. ومن ثم فإن الشجاعة هي التحلي بالحكمة لاختيار التوسط بين هذين النقيضَين، وهو ما أسماه أرسطو «الوسط الذهبي».
إننا لا نولد بالفضائل، ولكن لا بد لنا من اكتسابها بالتجارِب، لا سيما من خلال محاكاة من يتسمون بهذه الصفات المستحبة ممن حولنا. على المرء اكتساب الشجاعة، بدلًا من أن يكون جبانًا أو متهورًا. وعليه أن ينمي هذه الفضيلة بمجرد اكتسابها، وإلا صارت عرضة للضياع. إن تلك الخصائص هي ما يميز الفضائل عن المهارات المجردة. فهناك مهارات نُولد بها (مثل مهاراتنا الفطرية لإدراك بيئتنا من خلال حواسنا)، وهناك مهارات نتعلمها بطريقة تجعل فقدها غير مرجح، بغض النظر عما إذا كان المرء ينميها بعد ذلك أم لا (مثل ركوب الدراجة). يوجد فرق هام آخر بين المهارات والفضائل وهو أن الفضائل تجلب معها أنواعًا مميزة من المحفزات. على سبيل المثال: الشخص المتمتع بفضيلة الكرم، سيكون لديه حماس حقيقي لمساعدة الآخرين. لكن مجرد تظاهر الشخص بهذه الفضيلة — لإثارة إعجاب أقرانه مثلًا — ليس مثل أن يكون فاضلًا. المهارات، على النقيض من ذلك، غالبًا لا تلزمها محفزات على هذا النحو. في الواقع، قد تكون قدرة المرء على التصرف بطرق تعطي الآخرين الانطباع (الكاذب) بأنه كريم سلوكًا ماهرًا جدًّا.
لكن الفرق الكبير بين المهارات المجردة والفضائل هو أن الفضائل لها قيمة خاصة، وذلك بسبب الدور الحيوي الذي تلعبه في الحياة الطيبة. في الأساس، كان أرسطو يرى أن الحياة الطيبة هي حياة الفضيلة. ولاحِظ أنه لا يشير إلى أن هذه الحياة ستكون طيبة بمعنى أنها ستكون دائمًا مشمولة بالمتعة وليس الألم، أو أنها ستكون حياة من دون صراع ومعاناة. في الواقع، اعتبر أرسطو أنه من المُسَلَّم به أن من المرجح أن تشتمل حياة جميع الناس على ألم وصراع ومعاناة. إنما المقصد هنا أن السبيل لمواجهة هذه المشاكل هو تسليح أنفسنا بالفضائل. إذا كان الشخص لطيفًا وكريمًا وشجاعًا وما إلى ذلك من فضائل، فمن الممكن أن ينعم في حياته كإنسان رغم مواجهة هذه الصعوبات. علاوةً على ذلك، فإن مواجهة المرء لهذه الصعوبات متزودًا بالفضيلة هي في كل الأحوال أفضل بكثير من الانعزال عنها في حياة فارغة مليئة بمتعة تافهة. فالمتعة دون الفضيلة ليست محمودة العاقبة مطلقًا، كما نعرف جميعًا على ما أظن.
لقد ذكرت أن الأخلاق لدى أرسطو لا تقتصر على المبادئ الأخلاقية فقط، وهذا يتجلى في الفضائل نفسها. فبعضها، مثل اللطف والكرم، يبدو مرتبطًا بدرجة كبيرة بالمبادئ الأخلاقية. لكن البعض الآخر، مثل الشجاعة، أقل ارتباطًا بها. في الواقع، كان أرسطو يرى أن الفضيلة لا تقتصر على معرفة الصواب الواجب فعله من وجهة نظر أخلاقية، ولكنها تنطوي أيضًا على التحلي بالفضائل «الفكرية» تحديدًا. فعلى كل حال، كيف يمكن للشخص «معرفة» الصواب الواجب فعله إذا لم يكن لديه معرفة في المقام الأول؟ ومع ذلك، فإنه لا بد من الفضائل الفكرية لضمان أن يكون الشخص على معرفة.
تتضمن الفضائل الفكرية صفات مثل «الاجتهاد» و«الانفتاح الذهني». كما تتضمن أشكالًا فكرية من فضائل أعم، مثل أن يكون شخص ما «شجاعًا فكريًّا» بوجه خاص (مثل العالِم الذي يبتكر فكرةً جديدة ثورية) أو عندما يبدي شخص ما «تواضعًا فكريًّا» في سلوكه (على عكس الغطرسة الفكرية). إذن، لكي يكون المرء، على سبيل المثال، مجتهدًا فكريًّا لا بد أن يكوِّن معتقداته بالاهتمام بجميع الأدلة المعنية وأن يكون قادرًا على تقييم هذه الأدلة تقييمًا مناسبًا عند اتخاذ قرار. إن هذه الصفة بالضبط هي ما نريده في القاضي الذي سيتولى محاكمتنا، على سبيل المثال، أو في الطبيب الذي سيتخذ قرارًا بشأن ما إذا كنا بحاجة إلى جراحة. تقع هذه الفضيلة الفكرية بين رذيلتين فكريتين متقابلتين. من ناحية، هناك رذيلة التفريط بعدم الانتباه للأدلة على الإطلاق عند اتخاذ القرار، والميل بدلًا من ذلك، مثلًا، لأي قرار تناسب نتائجه مصالحك. ومن ناحية أخرى، هناك أيضًا رذيلة الإفراط في الانتباه إلى كل الأدلة، بغض النظر عن صلتها بالقضية المطروحة، إلى الحد الذي يجعل المرء غارقًا في هذه الأدلة ومن ثَمَّ يكون غير قادر على التوصل إلى قرار. أما إدراك الوسط الذهبي فهو أن يكون لديك حكمة التوسط بين طرفي النقيض هذين.
إن استعراض هذه الصورة التي توضح وجود العنصر الفكري في الحياة الطيبة يساعدنا على تبين كيف يمكن أن تكون الشكوكية الراديكالية مضرة لمثل هذه الحياة. كما يساعدنا على رؤية ما قد يكون مستحسنًا في الشكوكية المحددة. دعونا نتناول هذه النقاط بالترتيب. لقد ذكرنا فيما سبق أن ثمة تناقضًا شديدًا في محاولة تبني الشكوكية الراديكالية والمثابرة عليها. فكيف لنا حتى أن نفهم موقف شخص يدعي أنه لا يعرف أي شيء ويشك في كل شيء؟ لقد ذكرنا أيضًا أن الشكوكية الراديكالية تطرح تحديًا وجوديًّا لأن عجزنا عن معرفة أي شيء من شأنه أن يجعل حياتنا عبثية. وتعطينا الصورة الأرسطية وسيلة استكشاف هذه النقطة الأخيرة. إن الفكرة القائلة بأن حياتنا دون معرفة ستكون عبثية هي مجرد ادعاء سلبي حيث يكتفي بالإشارة إلى أنه سيكون هناك نقص في عنصر أساسي ما لحياة ذات معنًى. وتحديدًا، لا يخبرنا كيف يمكن أن تجعل المعرفة حياتنا ذات معنًى (ربما ستظل عبثية، ولكن لأسباب مختلفة). هنا تكمن فائدة الرؤية الأرسطية للفضائل حيث تقدم معلومات إيجابية عما تتضمنه الحياة ذات المعنى، الحياة التي تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على الفضائل الفكرية، ومن ثَمَّ المعرفة الناجمة عن هذه الفضائل. تحديدًا، ما دام الاتصاف بالفضائل تلزمه المعرفة، فكيف يمكن للمرء أن يعيش حياة فاضلة إذا شك في كل شيء؟ على سبيل المثال: كيف يمكن لشخص ما أن يكون لديه حسن التقدير ليكون شجاعًا وكريمًا، ومن ثَمَّ يعرف كيف يتصرف بأفضل طريقة في هذا الصدد، بينما يعيش حياة من الشك الراديكالي؟ هكذا تخبرنا الصورة الأرسطية لماذا، لو كانت الشكوكية الراديكالية صحيحة، ستفتقر حياتنا إلى جانب أساسي حيث لن يمكننا أن ننعم بحياة الرخاء، اليودايمونيا.
مع ذلك فإن مما يستحق الاهتمام أنه رغم التعارض بين الحياة المبنية على الشكوكية الراديكالية والفضائل، فإن الفضائل، وخاصةً الفضائل الفكرية، تسمح على ما يبدو باتخاذ موقف شكوكي معتدل. في الواقع، غالبًا ما تتسم الفضائل الفكرية بأنها تتضمن شكوكية معتدلة. أليس ذلك جزءًا مما يعنيه أن يكون المرء «مجتهدًا» عندما يُقَيِّم الأدلة، بدلًا من التسرع في التوصل إلى استنتاجات؟ أو من كونه «منفتح الذهن» في آرائه، بدلًا من أن يكون متعصبًا؟ بذلك تكون الشكوكية المعتدلة هي ما يمليه الوسط الذهبي في أغلب الأحيان، حيث تمثل الشكوكية الراديكالية رذيلة الإفراط (أي الإفراط في الشك)، في حين يمثل التعصب الرذيلة المقابلة؛ التفريط (أي عدم الشك بالقدر الكافي). ولذلك، فإنه بوسعنا استنادًا للتصور الأرسطي للفضائل، لا سيما الفضائل الفكرية، أن نبرر أهمية الشكوكية المعتدلة باستعراض الكيفية التي تساهم بها في حياة الرخاء. على النحو ذاته، يمكننا أيضًا إيضاح ما يمثل إشكالية في محاولة عيش حياة قائمة على الشكوكية الراديكالية، حيث سيكون ذلك مخالفًا لعيش حياة ننعم فيها بالرخاء. (تأكيدًا لنقطة ذكرناها فيما سبق، تذكر أننا عندما نقول هذا لا ندعي بذلك أن مشكلة الشكوكية الراديكالية كمفارقة قد حُلت هكذا. إن الشكوكية الراديكالية كموقف والشكوكية الراديكالية كمفارقة أمران مختلفان اختلافًا تامًّا.)
الشكوكية البيرونية
إلى أي مدًى يمكن أن يتبنى الشخص موقفًا شكوكيًّا دون أن يتعارض هذا مع حياة الرخاء؟ كما رأينا للتو، في التصور الأخلاقي الأرسطي هناك حدود، حيث لا بد أن يكون الموقف الشكوكي معتدلًا ليكون متسقًا مع الفضائل، وخاصةً الفضائل الفكرية، ومع ذلك فإن الفضيلة ضرورية لنحيا حياة طيبة. هكذا تتجه بنا الشكوكية الراديكالية إلى الرذيلة (أو على الأقل تبعدنا عن الفضيلة)، بدلًا من أن تقودنا إلى الفضيلة. ولكن هناك موقف أخلاقي من نوع آخر، يُعزى أيضًا إلى القدماء، ويبدو أنه يتضمن أفكارًا شكوكية، وفي الوقت ذاته يدمج شكلًا أشمل من الريب الشكوكي (على الرغم من أن «الريب» قد لا يكون الكلمة المناسبة هنا). إنه الشكوكية البيرونية، ومثل التصور الأرسطي الذي تناولناه للتو، كانت هي أيضًا طرحًا أخلاقيًّا بشأن ماهية حياة الرخاء. لكن عوضًا عن الاستعانة بالفضائل، رأى البيرونيون أن تبني موقف شكوكي كان عنصرًا أساسيًّا في عيش حياة طيبة.
من الصعب فهم الموقف البيروني على أفضل نحو، لا سيما أنه من طبيعة الحياة الشكوكية التي من هذا النوع ألا يكتب أتباعها أفكارهم. (فلماذا قد يفعل شكوكي ملتزم ذلك؟) سُمِّيَت الحركة نفسها على اسم الفيلسوف اليوناني القديم بيرو من منطقة إيليا (حوالي ٣٦٠–٢٧٠ قبل الميلاد)، ولكن ما نعرفه عن أفكاره لم نأخذه عنه مباشرةً، حيث استقينا الكثير منها من أعمال سكستوس إمبيريكوس (حوالي ١٦٠–٢١٠ ميلاديًّا) وكتابه «معالم البيرونية». لكن من الجدير بالانتباه أن مما نعرفه عن بيرو أنه شارك في حملة الإسكندر الأكبر إلى الهند، حيث من المرجح أن يكون قد اطلع على الكنز الغني من الأفكار الفلسفية التي كانت مزدهرة في تلك المنطقة آنذاك. ولهذا دلالته، حيث قد يفسر السبب فيما يبدو من ارتباط خاص بين الشكوكية البيرونية والتقاليد الفلسفية الشرقية. على وجه الخصوص، كما أشار العديد من المحللين، هناك بعض أوجه التشابه المثيرة للاهتمام بين الفكر الشكوكي البيروني وبوذية مادياماكا، كما أسسها الفيلسوف الهندي، ناجارجونا (حوالي ١٥٠–٢٥٠ ميلاديًّا).
من الأشياء التي نعرفها عن البيرونيين أنهم لم يحاولوا أن يكونوا شكوكيين راديكاليين يرتابون في كل شيء. لقد أدركوا أن المرء لكي يعيش يجب أن يكون لديه بعض اليقين، وهذا ما خفف من حدة شكوكيتهم. فتحديدًا لم تكن شكوكيتهم تستهدف أحكامنا التلقائية اليومية، وإنما كانت موجهة إلى الادعاءات النظرية المعزولة ولو جزئيًّا عن الحياة اليومية.
وعلى هذا الأساس، لم يطرح البيرونيون أي ادعاءات فلسفية من صنيعهم، ولذلك فإنهم لم يقدموا أي حجج شكوكية بمعناها المحدد. كما رأينا، يكون طرح الحجج الشكوكية بتقديم ادعاءات نظرية خاصة، مثل تلك المتعلقة بمبدأ الإغلاق. بدلًا من ذلك، يقدم البيرونيون ما يُعرَف بالمناهج الشكوكية، وهي في الأساس أدوات مصممة لإثارة الشك (أو تعليق الحكم على أي حال، وستتضح أهمية هذا التحفظ بعد قليل). الفكرة هي أنه بإمكاننا الرد على الشخص الذي يطرح أمامنا ادعاءً نظريًّا، باستخدام هذه المناهج لمعارضته، والنتيجة هي أن ينشأ موقف محايد (وهو ما سماه اليونانيون إبوخيه). وهذا بدوره — على الأقل إذا تكررت العملية بما يكفي على أي حال — سيؤدي في النهاية إلى حالة من الهدوء والصفاء الذهني (وهو ما سماه اليونانيون أتراكسيا). إن السكينة الفكرية من هذا النوع هي ما اعتبره البيرونيون عمادًا للحياة الطيبة، على عكس الحياة الفاضلة التي وصفها أرسطو. الفكرة هي أنه لا بد للمرء من إتقان المناهج الشكوكية، التي هي على غرار مهارات موجهة لإثارة الشك، لنحقق بذلك سكينة الأتراكسيا.
ثلاثة من هذه المناهج الشكوكية أصبحت بالغة التأثير، لدرجة أنها أصبحت معروفة بشكل منفصل عن المناهج الأخرى باسم «معضلة أجريبا» (على اسم الشكوكي البيروني الذي عاش في القرن الأول، أجريبا، الذي تُنسب إليه صياغتها). تقوم الفكرة على إمكانية مواجهة الشخص الذي يتقدم بادعاء نظري بالاستفسار عما لديه من أسباب مؤيدة لهذا الادعاء. يبدو أنه لا يمكن أن يفلح هذا النقاش إلا بثلاث طرق، لن تؤدي أي منها إلى جعل القضية المطروحة مقنعة إلى حدٍّ كبير. لنفترض أولًا أن محاورنا يقدم أسبابًا تدعم ادعاءه. المشكلة أن هذه الأسباب في حد ذاتها ادعاءات نظرية أخرى، ولذلك يمكن إعادة تطبيق المناهج الشكوكية للاستفسار عن الأساس الذي تقوم عليه. قد يرد محاورنا بتقديم أسباب أخرى للشك، لكن عندئذٍ يمكننا بالطبع تفنيد الأسباب الجديدة، وهكذا. وبذلك يصير محاصرًا في فخ التسلسل اللانهائي، حيث يمكن تكرار هذا التحدي مرات لا حصر لها كلما قُدمت حَيثِيَّات جديدة. ولكن كيف يمكن لتسلسل لا نهائي للأسباب أن يدعم ادعاءً؟ بدلًا من ذلك، قد يرد بألا يقدم حَيثِيَّات جديدة على الإطلاق، وإنما بتكرار سبب قدمه من قبل. عندئذٍ ستكون المشكلة هي أن هذا يبدو دالًّا على أن منطقه كان في الواقع دائريًّا. ولكن كيف يمكن للمنطق الدائري أن يدعم ادعاءً؟ في النهاية، قد يصل إلى مرحلة يكتفي فيها بتأكيد أنه لا يستطيع تقديم أي أسباب أخرى لما يدعيه. لكن سيبدو عندئذٍ أن مزاعمه قائمة في النهاية على أسس غير مدعومة. ولكن كيف يمكن أن يكون هذا أساسًا عقلانيًّا كافيًا للاعتقاد؟ ولذلك فإن معضلة أجريبا هي على ما يبدو وسيلة لتبيان أن أي ادعاء نظري مطروح يمكن في النهاية إثبات إما أنه بلا أساس وإما أنه «قائم» على منطق دائري أو ينطوي على تسلسل لا نهائي. والنتيجة هي إثبات أن الادعاء المطروح بلا أي أساس عقلاني على الإطلاق. هكذا تؤدي المناهج الشكوكية إلى فقدان أي قناعة ربما كان يمكن أن تكون لدينا بخصوص الادعاء المستهدف.
لاحظ أن البيرونيين لا يستنتجون على هذا الأساس عدم ارتقاء أي اعتقاد نظري لمستوى المعرفة، لأن هذا في حد ذاته سيكون طرحًا لادعاء نظري. لهذا السبب كثيرًا ما كانت تُجرى مقابلة بين البيرونية والشكل السائد من الشكوكية حينذاك، ألا وهو الشكوكية الأكاديمية. وبالفعل، يصف سكستوس إمبيريكوس البيرونية بأنها تقدم موقفًا وسطًا بين الدوجمائية والشكوكية (الأكاديمية). الفكرة هي أن الدوجمائيين يؤكدون أن لدينا معرفة، والشكوكيون الأكاديميون يدعون أننا نفتقر إلى المعرفة، أما البيرونيون فجل ما ادعوه أننا يجب أن نواصل البحث. يشير هذا إلى أن الفكرة الرئيسية لدى البيرونيين هي البحث المنفتح. ومثلما ينبغي أن نتجنب الاعتقادات الراسخة حيثما نستطيع، ونكون دائمًا مستعدين لاحتمالات الخطأ، ينبغي أن نتجنب الشكوك الراسخة حيثما نستطيع أيضًا، حيث إن كلاهما غالبًا ما يؤدي إلى إغلاق باب البحث. ووَفقًا لهذا التفسير، نجد أن البيرونية لا تتعلق في المقام الأول بإثارة الشك على الإطلاق، وإنما تهدف بالأحرى إلى الدعوة لتعليق الاعتقاد. (من المثير للاهتمام أن رؤية البيرونية بهذه الطريقة أقرب إلى ما كان يعنيه الإغريق الأصليون بكلمة «شكوكي»، التي تشير إلى المستفسر لا إلى المرتاب؛ ففكرة أن «الشكوكية» تقوم في جوهرها على الريب جاءت فيما بعد. علاوةً على ذلك، فإن الكلمة اليونانية، إبوخيه، التي تصف الموقف المحايد الناتج عن المناهج الشكوكية، عادةً ما تُترجَم على أنها تعليق الحكم.)
حسب هذه الرؤية للبيرونية، فإن النشاط المتمثل في الانخراط في بحث منفتح بحق هو محور الحياة الطيبة التي يزدهر فيها الإنسان. وهو تصور مختلف جدًّا عن الحياة الطيبة التي دعا إليها أرسطو. أحد اختلافاته الرئيسية هو أنه يركز بخاصةٍ على الاهتمامات الفكرية باعتبارها السبيل للحياة الطيبة، من خلال العناية بالنوع الصحيح من البحث المنفتح على الدوام. أما أرسطو، على النقيض، فرغم أنه أقر بأهمية التأمل والفضائل الفكرية الأخرى من أجل حياة طيبة لازدهار الإنسان، فقد رأى أنها لا تزيد عن كونها مكونًا واحدًا من هذه الوصفة، حيث توجد عناصر كثيرة مهمة هي الأخرى، منها أمور أخلاقية وعملية وجمالية. لهذا السبب يمكن للبيرونية أن تستوعب الشكوكية بتماسك أشمل من التصور الأرسطي، حيث إن الهدف الأخلاقي في تصورها يقتصر على المسائل الفكرية فقط. ولذلك فإن البيرونيين ليسوا بحاجة للقلق من أن تقوض أنشطتهم الشكوكية جوانب أخرى من حياتهم، حيث إنها ليست مهمة لعيش الحياة الطيبة كما يتصورونها. على النقيض منهم، يرى أتباع فلسفة أرسطو أنه من المهم السيطرة على الشكوكية لأنها تتعارض مع إظهار المرء للفضيلة على نحو أعم، مثل استعداد المرء للتصرف برفق أو بشجاعة. المغزى العام هنا هو أنه كلما كانت رؤية المرء للحياة الطيبة أثرى وأكثر تعددًا للأبعاد، زادت من القيود التي تفرضها على نطاق الشكوكية التي يمكن أن تكون متوافقة معه. ومع ذلك، فإن العبرة من هذا أن هناك حدودًا لمدى قدرة المرء على أن يكون متشككًا ويعيش حياة طيبة في الوقت نفسه.
الشكوكية، والثقة في القناعات، والحياة الطيبة
وصفت سابقًا كيف يمكن أن تكون الفضائل الفكرية جزءًا أساسيًّا من حياة الرخاء، الحياة الطيبة. ووصفت أيضًا كيف يمكن اعتبار الشكوكية المعتدلة من تجليات الفضائل الفكرية، على عكس الشكوكية الراديكالية. لكن لا يزال هناك لغز مهم، وهو كيف يمكن لأي نوع من الشكوكية أن يكون متوافقًا مع حياة الازدهار والرخاء. جوهر المسألة أننا نعامل أيضًا الثقة في القناعات على أنها هي الأخرى عنصر أساسي للحياة الطيبة. فنحن نريد أن يكون لدى الناس، إذا جاز القول، إيمان قوي بقناعاتهم، أن يتمسكوا بمبادئهم ولا يتخلوا ببساطة عن معتقداتهم المتأصلة مع أول بادرة معارضة. ومن الممكن أن نقول على الأقل إن الشخص الذي يفتقر إلى الثقة في قناعاته يفتقر إلى شيء ضروري لحياة الازدهار البشري الطيبة. بالطبع، أليست هذه الثقة جزءًا من مظاهر فضيلة الشجاعة الفكرية؟ ولكن كيف يمكننا التوفيق بين أهمية الثقة في القناعات من أجل الحياة الطيبة والدور الذي يبدو متناقضًا الذي نسبناه للشكوكية المعتدلة؟
بالمثل، إننا حين نقول إننا نريد أن يكون الناس على استعداد للتمسك بقناعاتهم في مواجهة المعارضة، فأظن أن ما نعنيه هو أننا نريد ألا يتخلى الناس بسهولة عن قناعاتهم بسبب ضغط من الآخرين. على سبيل المثال، إذا كان لدى شخص ما آراء معادية للعنصرية ووجد نفسه محاطًا بأشخاص يعبرون عن آراء عنصرية، فسنشعر بخيبة أمل إذا وجدناه «ينساق مع التيار» ويردد وجهات النظر العنصرية لمن هم حوله بحذافيرها. من الأسباب الداعية للشعور بخيبة أمل أنه سيُظهِر استعداد المرء لتغيير رأيه رغم عدم وجود سبب يدفعه لذلك، ولكن لمجرد أنه تصرف مناسب (مناسب اجتماعيًّا في هذه الحالة). على النقيض، أحيانًا ما تطرأ أسباب وجيهة تدفعنا لأن نغير رأينا، وهو ما يجدر بالمرء فعله عندئذٍ. إن استعداد المرء لتغيير رأيه حين تتوفر أسباب وجيهة لأن يفعل ذلك ليس علامة على افتقار الشخص للثقة في قناعاته، بل إنه دليل على عقلانيته. وهذا بالتأكيد ما سيفعله الشخص صاحب الفضائل الفكرية.

ومثلما سنشعر بخيبة أمل إذا تخلى شخص ما عن معتقداته لمجرد الضغط الاجتماعي، كذلك سنشعر بالإحباط إذا غير شخص ما رأيه لمجرد توفر أسباب واهية جدًّا لأن يفعل ذلك. إن المرء إذا كان قد شَكَّلَ معتقداته بالطريقة الصحيحة، ومن ثَمَّ كان لديه أسباب وجيهة تدعمها، فلا يجدر به أن يغير رأيه عند أول إشارة لأي حجة مخالفة لوجهات نظره، مهما كان مدى ضعفها. في الواقع، إذا كان المرء قد تأمل مليًّا في سبب اقتناعه بهذا الموضوع، فلا بد أن يكون قادرًا على دحض الأدلة الضعيفة عند طرحها؛ مثل أن يأتيه أحد الأشخاص بتبرير من الواضح أنه غير معقول لوجهات نظره المعارضة. ولذلك فإنه لا يوجد سبب جوهري يجعل الشخص الواثق في قناعاته مُعرِضًا عن الاستماع إلى الأدلة المعارضة لوجهات نظره.
لذا، بقدر كون ثقة المرء في قناعته أمرًا محمودًا، ومن ثَمَّ تكون في عِداد الأشياء التي يجوز أن تكون جزءًا من الحياة الطيبة التي ينمو فيها الإنسان ويزدهر، فلا بد أن تكون مبنية على أسباب وينبغي أن تتقبل الأدلة المعارضة. دعنا نسميها «الثقة المعقولة في القناعات». يمكننا بذلك استبعاد الأنواع غير المعقولة من الثقة في القناعات القائمة على التعصب وحده، حيث إنها لا تستند إلى أسباب أو تُعرِض عن الأدلة المعارضة (أو كلا الأمرين). تبدو الثقة المعقولة في القناعات جزءًا من الحياة الفاضلة فكريًّا. في الواقع، إنها تبدو منسجمة تمامًا مع تبني الشكوكية المعتدلة التي أشرنا إليها أعلاه. يتطلب ذلك أن يُقَيِّم المرء معتقداته بناءً على أسباب منطقية، لكن هذا بالضبط ما تنطوي عليه الثقة المعقولة في القناعات، كما وصفناها للتو.
حتى مع وضع نطاق محدود جدًّا للثقة في القناعات بهذا الشكل، يبقى لدينا معضلة هنا. إذا كان المرء قد فكر مليًّا في مسألة ما وتوصل إلى استنتاج معين، ألا يعني ذلك أن المسألة قد حُسِمَت؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا ينبغي عليه أن ينظر في الأدلة المعارضة؟ (وإذا لم تكن قد حُسِمَت، ألا يعني ذلك أن الثقة في القناعة غير مبررة؟) إذا كان الشخص يرى حقًّا أن لديه دعمًا عقلانيًّا لا تشوبه شائبة لادعاء معين، أفلا يكون ذلك في حد ذاته سببًا وجيهًا لاعتبار أي دليل مخالف لذلك الادعاء مضللًا؟ وعلى العكس، إذا أخذ الشخص الأدلة المعارضة على محمل الجد، ألا يعني ذلك إذن التقليل من قدر ثقته في قناعاته؟ وعلى كل حال، إذا لم يكن رد المرء على الأدلة المعارضة بجدية معناه التقليل من ثقته في قناعاته، ألا يعني ذلك أنه ببساطة لا يأخذها على محمل الجد، وإنما بالأحرى يتخذ (ربما بتكتمٍ) موقفًا متعصبًا؟
يمكننا توضيح هذه النقطة بتأمل حالات للخلاف. تخيل أن لديك وجهة نظر سياسية معينة، موقفًا كنت قد فكرت فيه زمنًا طويلًا بعقلانية. فلنفترض أنك الآن في مواجهة مع مجموعة أشخاص تبين أنهم أيضًا قد فكروا مليًّا في هذه الأمور، لكنهم توصلوا إلى الاستنتاج المعاكس تمامًا. وبما أنهم أيضًا قد تفكروا في هذه القضايا بعمق، فإنهم قادرون على تقديم حُججهم المضادة، حُجج مضادة لا تشوبها عيوب واضحة. فكيف ينبغي لك أن ترد؟ بمعنًى أدق، ماذا تتطلب منك الثقة المعقولة في قناعتك؟
قد يعتقد البعض أن المقصود بالثقة المعقولة في القناعة هنا عدم الاستعداد لمجرد أخذ هذه الحُجج المضادة في الاعتبار. فقد أنعمتَ النظر في هذه القضايا وتوصلتَ إلى استنتاج، على كل حال. من ثَمَّ فإن المسألة محسومة عندك. لكن كما ذكرنا أعلاه، هذا النوع من الردود يبدو حقًّا متعصبًا.
ألا يمكن، رغم كل شيء، أن يتوصل من يفكرون تفكيرًا منطقيًّا إلى آراء مختلفة جدًّا، خاصة في موضوعات جدلية مثل السياسة؟ إذا كان الأمر كذلك، أفلا يكون هذا سببًا للتحلي بالقليل من التواضع وألا تكون على ثقة كبيرة من آرائك؟ لكن تبدو هذه إشارة إلى أن البديل لتمسك الشخص بآرائه في وجه الخلاف هو التقليل من ثقته فيها. لكن كيف يسمح ذلك بأي مساحة فكرية للثقة المعقولة في القناعات؟
يمكننا أن نوضح هذه المسألة أكثر بأن نصفها بأنها صراع ظاهر بين الفضيلة الفكرية والثقة من القناعات، وكلاهما، كما ذكرنا، يبدو مهمًّا للحياة الطيبة المتسمة بالازدهار الإنساني. هذا لأن «التواضع الفكري» في حد ذاته يبدو فضيلة فكرية مهمة، فضيلة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالشكوكية المعتدلة التي رأينا أعلاه أنها جزء مرجح من الحياة الفاضلة. أليس الافتقار إلى التواضع الفكري غطرسةً فكرية، أو تعصبًا؟ ألن يكون الشخص الذي يتبنى الشكوكية المعتدلة التي أوضحناها ميالًا إلى أن يكون متواضعًا فكريًّا في آرائه لا أن يكون متغطرسًا فكريًّا؟ تحديدًا، إذا واجه هذا الشخص خلافات مع أشخاص يبدو أنهم يفكرون تفكيرًا منطقيًّا، أفلن يكون على استعداد لمناقشتهم عقلانيًّا، بل التقليل كذلك من ثقتهم في آرائهم، على الأقل مؤقتًا؟ في الواقع، قد يظن البعض أن التواضع الفكري لا يعدو أن يكون لدى المرء تقدير منخفض لقدراته وإنجازاته الفكرية، بحيث إنه بدلًا من أن يَعُد نفسه علَّامة، يعامل نفسه على أنه كائن معرَّض للخطأ بشكل كبير ولديه إدراك غير تام للحقيقة، ومن ثَمَّ على استعداد للتعلم من الآخرين الذين حوله. ولكن في هذا التصور للتواضع الفكري، ما المجال الذي قد يتوفر للثقة في القناعات في حياة فاضلة؟
يمكن مقاومة هذا الخلاف الظاهر بين التواضع الفكري كفضيلة فكرية والثقة من القناعات، ولكن لنفعل ذلك علينا أن نفهم بالضبط كيف يبدو التواضع الفكري باعتباره فضيلة فكرية. الخطأ المرتكب في التصور السابق هو معاملة هذه الفضيلة كأن محورها ذاتي تمامًا. ما أقصده بذلك أن التصور المطروح للتواضع الفكري يركز بالكامل على الطريقة التي يقيِّم بها الشخص نفسه، من وجهة نظر فكرية.
الطريقة التي عبرنا بها للتو عن هذه النقطة كانت أن التواضع الفكري ينطوي على أن يكون لدى المرء تصور غير دقيق (أو على الأقل يُحتمل ذلك على أي حال) لقدراته وإنجازاته الفكرية، بحيث يعتبرها أقل روعة مما قد تكون في الواقع. قد يبدو هذا جذابًا في البداية؛ أليس تصور الأشخاص المتواضعين لقدراتهم وإنجازاتهم متدنِّيًا في العموم؟ غير أنه من المفترض عند تأمل الأمر أن يتضح أن هذه لا يمكن أن تكون الطريقة الصحيحة للتفكير في التواضع، سواء كان فكريًّا أو غير ذلك. إذا كان الأمر كذلك، فسيكون معناه أنه من الرذائل أن يكون لدى الشخص تصور دقيق لقدراته وإنجازاته. عند تطبيق هذا على التواضع عمومًا، فسيكون الأمر محيرًا، ولكن إذا طبقناه على التواضع الفكري خاصةً، فسيكون بادي الغرابة. تذكر أن الفضائل الفكرية مكرسة للتميز في المسائل الفكرية. إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن تتطلب عدم دقة المرء في معتقداته؟
إذا وضعنا هذه النقطة في الاعتبار، فقد نميل بدلًا من ذلك لأن نحتج بأن المغزى ليس أن يكون تقييم الشخص لقدراته الفكرية وإنجازاته منخفضًا، ولكن بالأحرى أنه ينبغي عليه أن يتقبل جميع نقائصه الفكرية البشرية للغاية، وقابليته للخطأ، وما إلى ذلك. هذا ما نسميه أحيانًا «إقرار الفرد بحدوده الفكرية». يجنبنا هذا الافتراض مشكلة أن الفضيلة الفكرية تتطلب عدم الدقة، ولكنه يضعنا أمام مشكلات خاصة به، ناتجة مرة أخرى عن طبيعة الطرح الموجهة نحو الذات. تصور شخصًا متفوقًا فكريًّا بوضوح عن المحيطين به، أي أذكى بكثير، وأقل وقوعًا في الأخطاء، وهكذا. وهو بالإضافة لكونه متفوقًا فكريًّا، يعرف جيدًا أنه كذلك. إذا كانت غاية التواضع الفكري إقرار الفرد بحدوده الفكرية، وكانت الحدود الفكرية لشخص ما أعلى بكثير ممن حوله، فما الخطأ في أن يتصرف هذا الشخص بطرق متفوقة فكريًّا على من حوله؟ على سبيل المثال: ما الخطأ إذا تجاهل هذا الشخص وجهات نظر الآخرين والأسباب التي يمكن أن يقدموها لدعم وجهات نظرهم تلك؟ يبدو أن هذا السلوك سيكون متوافقًا تمامًا مع كون الشخص متواضعًا فكريًّا، في هذا التصور للتواضع الفكري.
جوهر المسألة هو أننا بحاجة لأن نرى التواضع الفكري موجهًا للخارج (أو موجهًا نحو الآخرين) بدلًا من أن نراه موجهًا للداخل (أو موجهًا نحو الذات). ما أعنيه بذلك هو أنه بدلًا من أن يكون تركيز هذه الفضيلة على تقدير المرء لقدراته وإنجازاته الفكرية، لا بد بالأحرى أن تكون موجهة نحو الطريقة التي يعامل بها الآخرين. بعبارة محددة، إن ما يجعل الشخص متواضعًا فكريًّا هو الطريقة المحترمة التي يتعاطى بها فكريًّا مع الآخرين، سواء كان بالاستعداد للاستماع إلى وجهات النظر البديلة، أو بشرح ما لديه من أسباب وراء آرائه، أو بمناقشة الموضوعات المطروحة نقاشًا عقلانيًّا، وهكذا. المقصود هو أنه رغم أن تصور الشخص الدقيق لقدراته الفكرية وإنجازاته، وكذلك حدوده الفكرية، قد يكون من صفات الشخص الفاضل فكريًّا، فهو ليس أساس تواضعه الفكري، وإنما أساسه ما يُظهره من احترام فكري للآخرين.
بمجرد أن ندرك أن هذه هي الطريقة الصحيحة لتصور التواضع الفكري، سيختفي الصراع الظاهري بين التصرف حسبما تتطلب هذه الفضيلة الفكرية والثقة المعقولة في القناعات. افترض أنك قد تمعنت بتفصيل كبير في المسائل التي تشكل الخلفية لآرائك، وواجهت شخصًا لديه آراء معارضة، لكن من الواضح أنه لم يبذل نفس القدر من التفكير في موقفه. كونك متواضعًا فكريًّا لا يعني أنه لا يمكنك أن تظل واثقًا من آرائك حتى عند مواجهة هذا الخلاف. لكنه يعني بالفعل أنك لا بد أن تحترم الشخص الآخر وآراءه من الناحية الفكرية. فلا بد أن نكون على استعداد لمناقشة رأينا، وشرح موقفنا، وما إلى ذلك.
قد نكون متشككين إزاء هذا الطرح للسبب التالي. إذا كنا حقًّا غير مقتنعين بهذا الرأي المعارض، أفلا يكون نقاشنا مع صاحبه نوعًا من التظاهر، كما لو كنا نتظاهر بأننا نأخذ موقفه على محمل الجد في حين أننا في الواقع لسنا كذلك؟ لكن لاحظ أننا إذا كنا نتظاهر على هذا النحو، فلن يكون هذا مظهرًا من مظاهر التواضع الفكري مطلقًا. تَذكَّرْ أن الفضائل الفكرية، شأنها شأن الفضائل عمومًا، قائمة على دوافع فاضلة. وتذكر أننا أشرنا أعلاه إلى أن تظاهر الشخص بأنه كريم — لأنه يستمتع بتقدير الآخرين لسلوكه، على سبيل المثال — لا يكفي لأن يكون من دلالات فضيلة الكرم. من الضروري كذلك أن يكون تصرف الشخص بكرم نابعًا من دوافع صحيحة، مثل الاهتمام بالآخرين. يترتب على ذلك أن تصرُّف الشخص كما لو كان متواضعًا فكريًّا لا يكفي لتجلي فضيلة التواضع الفكري. وإنما ينطوي التواضع الفكري على التصرف بأسلوب يعكس بصدق اهتمام الشخص فكريًّا بالآخرين، فلا يمكن أن يكون للتظاهر دور في ذلك.
إن توافق التواضع الفكري مع الثقة المعقولة في القناعات أمر ضروري للعالم المعاصر الذي نعيش فيه. إننا بحاجة إلى الفضائل الفكرية إذا أردنا ازدهار البشر، وكما رأينا فإن تبني الشكوكية المعتدلة جزء من الحياة الفكرية الفاضلة. ولكننا بحاجة أيضًا إلى الثقة المعقولة في القناعات. ليست جميع وجهات النظر على نفس القدر من العقلانية، وهذا معناه أن الشخص الفاضل فكريًّا ينبغي أن يكون مستعدًّا للدفاع عن آرائه عند الضرورة، لا أن يستسلم بسهولة في مواجهة الخلاف. فإننا بحاجة لفضيلة الشجاعة الفكرية، خاصةً فيما يتعلق بحياتنا العامة، للدفاع عن مؤسساتنا السياسية، وعن حجية العلم، وما إلى ذلك. غير أنه من الضروري أيضًا أن نبدي تلك الشجاعة الفكرية بأسلوب يحترم الآخرين، وهذا يتطلب فضيلة التواضع الفكري.
إذا تبين أن الفضيلة الفكرية تتطلب مثل هذه التنازلات، فقد تطرأ هنا مشكلة. في الواقع، من الممكن أن نرى بوضوح أنه بمجرد الشروع في هذه التنازلات، يصير من الجائز أن تتردى الشكوكية المعتدلة إلى نوع من الشكوكية الراديكالية التي رأينا عواقبها الاجتماعية الضارة أعلاه. إذا كنا على استعداد للتقليل من ثقتنا في آرائنا بهذه الطريقة، على الرغم من أن الأدلة لا تبرر هذا، فلماذا نكون واثقين بأي شيء نؤمن به؟ هكذا يُتاح المجال للشكوكية الراديكالية، التي تدعو إلى الرؤية النسبية للحقيقة، بحيث لا يعود لنا اهتمام بما هو حقيقي بالفعل.
لكن الاختيار بين الثقة في القناعات والفضائل الفكرية، فضيلة الشكوكية المعتدلة تحديدًا، هو تصور خاطئ. فبإمكاننا أن نجمع بين الأمرين. وهذا يعني أننا من الممكن أن ندمج هذه الشكوكية المعتدلة في حياتنا بطريقة فاضلة فكريًّا دون أن يترتب على ذلك بالضرورة أن نفقد ثقتنا في آرائنا.