ماذا حدث؟

ظلَّ «عاطف» جالسًا لا يدري ماذا يفعل … ثم مرَّ «حسن» بجواره ودون أن ينظر إليه قال: «اخلع»!

كانت مصيبةً جديدةً بالنسبة ﻟ «عاطف»؛ فماذا يقصد «حسن» بكلمة «اخلع»؟!

هل يخلع ثيابه مثلًا؟ … لماذا؟ هل يشكون في جهاز اللاسلكي؟! وحتى لو كانوا يشكون … فهل معنى هذا أن يخلع ثيابه هكذا أمام الناس؟! غير معقول! لا بد أن «اخلع» هذه لها معنًى آخر، ولكن ما هو معناها؟!

أحسَّ «عاطف» بالدنيا تدور به … فقد وقع في مأزق كبير … ولن ينفعه جهاز اللاسلكي ولا أي شيء آخر … والحل الوحيد أن يخرج فورًا من هذا المكان ويذهب إلى الضابط «زكي» … ويعطيه الجهاز ثم يعود سريعًا إلى المعادي ويكف عن التدخُّل في هذه المغامرة المتعبة!

مرةً أخرى مرَّ «حسن» بجواره وقال بصوت خافت: اخلع. ومرةً أخرى دخل «عاطف» في دُوامة التفكير، وقرَّر في النهاية أن يمشي فورًا، وفعلًا قام واقفًا، ثم اندفع من المقهى، وسار في طريقه وقد أحسَّ بالارتياح لأنه تخلَّص من المأزق السخيف … ولكنه لم يكد يبتعد خطوات من المقهى حتى شعر بيد توضع على كتفه فارتجف … ونظر إلى صاحب اليد فوجد ولدًا أكبر منه قليلًا … متشردًا مثله ينظر إليه مبتسمًا وهو يقول: لماذا تأخرت في الخروج؟ ألم يقل لك «حسن» «اخلع» منذ فترة؟

فكَّر «عاطف» بسرعة وعرف كل شيء … فكلمة «اخلع» معناها «اخرج» … وقد خرج ليس لأنه فهمها، ولكن ليكف عن الاشتراك في المغامرة كلها … لقد نفَّذ تعليمات العصابة دون أن يدري!

ومضى الولد يقول: اسمي «لعبة». فما اسمك؟

ردَّ «عاطف» بسرعة: «زنجر».

إنه أول اسم خطر على باله، اسم كلبهم العزيز … الذي يجلس الآن في ظل أشجار الحديقة لا يدري أن أحد المغامرين الخمسة يلعب دورًا خطيرًا.

قال «لعبة»: من الذي أرسلك؟

عاطف: «طرزان» … لقد قُبض علينا معًا في باب الحديد، ووُضعنا في تخشيبة قسم الأزبكية.

لعبة: ولماذا أفرج عنك؟

عاطف: ليس لي سوابق.

لعبة: أنت إذن في الكار جديد؟

عاطف: نعم.

لعبة: وماذا تريد بالضبط؟

عاطف: أريد أن أنضم إلى «حمكشة».

مضى بعض الوقت، وهما يسيران في صمت ثم قال فجأة: هل هناك «بزرجي» يتبعك؟ … إنني أُحس أن هناك «بزرجيًّا» خلفنا.

تذكَّر «عاطف» كلمة «بزرجي» التي كانت في الرسالة ومعناها مخبر … فقال: لا أعرف … ولكن لماذا يتبعني «بزرجي»؟

لعبة: إنني أعرف «البزرجية» من بعيد … بل أشم رائحتهم، ونحن متبوعان من «بزرجي»، ولا بد أن نتصرَّف سريعًا.

أدرك «عاطف» أن «لعبة» على حق … فلا بد أن رجال الشرطة يتبعونهما بواسطة جهاز اللاسلكي … فماذا يفعل الآن؟

قال «عاطف» وكأنه نشَّال قديم: تعالَ نقفز إلى الترام سريعًا. إنهم لن يلحقا بنا، وأنا أسمع صوت الترام قادمًا.

قال «لعبة»: هيا بنا!

واقترب الترام … وأسرع الولدان يقفزان فيه، وبهذا تخلَّصا من المطاردة كما ظن «لعبة»، ولكن «عاطف» كان يعلم أن اللاسلكي يستطيع الإرسال إلى مسافة ٣ كيلومترات، فهما على كل حال تحت رقابة الشرطة.

قال «لعبة» والترام يقترب من باب الحديد: إن «حمكشة» قد ذهب إلى «حلوان» في زيارة … وسوف أذهب إليه، فهل تأتي معي أم تنتظر؟

ردَّ «عاطف» سريعًا: بل آتي معك.

وهكذا انطلق الولدان إلى محطة «باب اللوق» ليركبا القطار إلى «حلوان»، وبعد دقائق يركبان معًا القطار، فقال «لعبة»: بدلًا من إضاعة وقتنا في الجلوس حتى «حلوان» … تعالَ نسرح سرحةً داخل القطار لعلنا نستطيع نشل محفظة فإنني مفلس وجوعان …

لم يكن أمام «عاطف» إلا الموافقة ولكنه قال: من الأفضل أن نفترق ويُجرِّب كلٌّ منا مهاراته.

لعبة: هل تتحداني؟

عاطف: أبدًا … مجرد تجرِبة.

لعبة: إذا حدث وتهنا عن بعضنا فسوف أنتظرك عند المقهى التي أمام محطة «حلوان» … فقد نُضطر أو يُضطر أحدنا إلى القفز من القطار في إحدى المحطات.

عاطف: هذا معقول جدًّا.

وهكذا افترقا … فترك «لعبة» العربة التي كانا بها، وانطلق يُجرِّب حظه في العربة التالية … أمَّا «عاطف» فحتى لا يُثير شك «لعبة»؛ فقد مضى يمشي في طرقات القطار … وإذا به أمام المخبر الذي رآه عند الضابط «زكي» ومعه رجل آخر، كان من الواضح أنه أحد الضباط ولكن في ملابس عادية.

تأكَّد «عاطف» أنهما ما زالا متبوعَين من رجال الشرطة … وكان القطار ساعتها يقترب من المعادي … وأحسَّ «عاطف» أنه يُريد أن ينزل فورًا ويعود إلى الأصدقاء، ولكنه اكتفى بأن اقترب من نافذة القطار وهو يتوقَّف في المحطة … وكم كانت مفاجأةً مثيرةً أن يرى «محب» … عند بائع الجرائد يشتري بعض المجلات، فلم يتمالك نفسه وصاح: «محب» … «محب».

التفت «محب» ناحية النداء، وعرف «عاطف» على الفور، فأسرع إليه، وفي كلمات سريعة شرح «عاطف» ﻟ «محب» الأحداث التي مضت، وقال له إنه ذاهب إلى «حلوان» … ثم انطلق القطار.

وقف «محب» لحظات، ثم أسرع يركب دراجته إلى منزل «تختخ» حيث كان الأصدقاء مجتمعين، وشرح لهم وهو يلهث مقابلته المفاجئة مع «عاطف»، وما دار بينهما من حديث، فقال «تختخ»: إذا كان «حمكشة» … في «حلوان» … فقد ذهب لمقابلة «أبو شنب».

نوسة: ولكن «أبو شنب» كما فهمنا من رسالته يعيش في «المقطم».

تختخ: هذا صحيح … ولكن جبل «المقطم» يُحيط بالقاهرة، ويمتد إلى «حلوان» وما بعد «حلوان» … على كل حال لن نخسر شيئًا إذا تدخَّلنا … ﻓ «عاطف» مقبل على مغامرة مخيفة.

محب: ما رأيكم أن نتصل بالمفتش «سامي»؟

لوزة: هذه فكرة ممتازة.

وأسرع «تختخ» إلى التليفون واتصل بالمفتش «سامي»، وشرح له ما حدث، فقال المفتش: إن هناك سيارة لا سلكي تتبع القطار وبها قوة من رجالنا … وسأتصل بهم لا سلكيًّا ليُساعدوكم إذا لزم الأمر … وسأصل أنا أيضًا … إن الوصول إلى «أبو شنب» وإعادة الذهب عمل هام جدًّا بالنسبة لي ولرجالي … اذهبوا أنتم إلى «حلوان» وستنتظركم السيارة قرب المحطة.

أسرع الأصدقاء إلى دراجاتهم … كان «تختخ» ما زال متعبًا من أثر المرض، ولكنه أصر على أن يشترك في المغامرة … وهكذا انطلق الأصدقاء الأربعة على دراجاتهم ومعهم «زنجر» … الذي قبع في سلته خلف «تختخ» سعيدًا بهذه النزهة غير المتوقعة.

وصل الأصدقاء إلى «حلوان» ووجدوا سيارة اللاسلكي تنتظرهم. كان بها عدد من أمناء الشرطة … وهم رجال الشرطة الجدد ذوو الملابس الزرقاء الأنيقة، الذين يحملون أجهزة اللاسلكي اليدوية.

تقدَّم «تختخ» من السيارة وقدَّم نفسه والأصدقاء إلى رجالها، فقال أحدهم: إن صديقكم على بُعد أقل من نصف كيلومتر … وجهاز اللاسلكي يُبيِّن هذا … لقد مضت فترة طويلة وهو يقف في نفس مكانه لم يغادره.

وفي تلك الأثناء كان «عاطف» … يجلس وحيدًا على المقهى القريب من ميدان المحطة في انتظار ظهور «لعبة» الذي غاب … ولكن غياب «لعبة» لم يطُل، لقد ظهر فجأةً أمام «عاطف» وقال: لقد قابلت «حمكشة» وهو لا يستطيع مقابلتك اليوم؛ فمعه تاجر سيشتري منه بضاعةً ذات قيمة كبيرة.

قال «عاطف» ببساطة: اجلس نشرب الشاي معًا … هل وُفِّقت في القطار؟

لعبة: طبعًا … ولكن الرجل الذي نشلته كان فقيرًا، فلم أجد في حافظته سوى نصف ذاهوب فقط.

قال «عاطف» في نفسه: نصف ذاهوب … ما معنى ذاهوب؟ … إنها كلمة أخرى من تلك اللغة الغريبة.

جاء الشاي فقال «عاطف»: لا بد أن «حمكشة» سيبيع «الشليه» الذي عند «أبو شنب».

لقد تذكَّر «عاطف» كلمة «شليه» بمعنى ذهب التي قرأها في الرسالة … وكان سعيدًا لأنه تذكَّرها فهو كثير النسيان.

لم يكد «لعبة» يسمع كلمة «شليه» وكلمة «أبو شنب» حتى هبَّ واقفًا كأنما لسعة عقرب وقال: هل تعرف حكاية «الشليه» و«أبو شنب»؟!

ردَّ «عاطف» بهدوء وإن كان قلبه يدق بسرعة: طبعًا … إنني جئت لمقابلة «حمكشة» من أجل «الشليه».

فكَّر «لعبة» بسرعة ثم قال: تعالَ معي حالًا … فسيهتم «حمكشة» بهذه الحكاية جدًّا … تعالَ بسرعة!

وتركا الشاي دون أن يشرباه، ولكن «عاطف» لم ينسَ أن يدفع الحساب. وانطلق الولدان … فتحرَّك مؤشر اللاسلكي في السيارة، فقال أمين الشرطة: لقد تحرَّك صاحبكم الآن.

وبدأت السيارة تتحرَّك … ومن بعيد سار الأولاد وهم يركبون دراجاتهم وقد استهوتهم هذه المغامرة التي يُستخدم فيها جهاز اللاسلكي … فهذه أول مرة يعرفون هذه الحكاية.

سار «عاطف» … و«لعبة» في شوارع «حلوان» الساكنة بسرعة ولم يُحسَّا أنهما متبوعان … وظل جهاز اللاسلكي الصغير يُرسل الإشارات … وجهاز اللاسلكي الكبير يتلقَّى … والمطاردة مستمرة.

أخيرًا وبعد مسيرة طويلة، وصلا إلى منزلٍ على طرف الجبل مختفٍ خلف الصخور … فقال «لعبة»: انتظر هنا قليلًا حتى أدخل وأخبر «حمكشة» وأري ما سيقول.

جلس «عاطف» وحيدًا … وأخذ ينظر هنا وهناك يرى من يتبعه، ولكن سيارة اللاسلكي كانت تقف بعيدًا حتى لا يراها أحد …

وبعد فترة خرج «لعبة» وقال: تعالَ … إن «حمكشة» سيراك فورًا. اتجه الولدان إلى المنزل، ودقَّ «لعبة» الباب دقَّات مُعيَّنة … ففتح ودخلا في هدوء إلى صالة مظلمة، لم يكن يرى فيها «عاطف» شيئًا فقد فاجأه الظلام.

فجأةً أُضيء مصباح كهربائي قوي وسُلِّط على «عاطف»؛ فأعشى عينَيه، ومضت لحظات ثم سمع صوتًا يقول: أنت؟!

ثم أُضيء نور الغرفة ورأى «عاطف» «حمكشة» ومعه رجل آخر يحمل حقيبة … وقبل أن يدري «عاطف» ماذا حدث انقض عليه «حمكشة» صائحًا: إذن فهو أنت … لقد استطعت معرفة ما في الرسالة … ولا بد أن الشرطة تتبعنا الآن … هل تظن أنك تخدعني بهذا التنكُّر … إنني أتذكرك جيدًا.

أمسك «حمكشة» برقبة «عاطف» فمسَّت يده جهاز اللاسلكي الصغير، فلم يتردَّد ومزَّق القميص، ثم نزع الجهاز صائحًا: إن الشرطة تُحيط بنا … سوف أقتلك أيها الجاسوس.

ولكن الرجل الذي كان يحمل الحقيبة تقدَّم بهدوء قائلًا: فكِّر قليلًا يا «حمكشة» وأرني هذا الجهاز.

مسك الرجل بجهاز اللاسلكي ثم قال: هذا جهاز إرسال صغير … لقد رأيت مثله وأنا في أوروبا … إن رجال الشرطة يستخدمونه هناك كثيرًا.

كان الرجل الذي يحمل الحقيبة أنيقًا … وكان من الواضح أنه مُهرِّب كبير جاء لشراء كنز الذهب الأثري.

قال «حمكشة» هائجًا: ماذا نفعل الآن؟ إن «أبو شنب» في انتظارنا، والشرطة تتبعنا!

قال الرجل: المسألة سهلة … سنُضلِّل رجال الشرطة ونمضي في طريقنا … هل تثق في هذا الولد؟ وأشار إلى «لعبة»، فردَّ «حمكشة»: «لعبة»؟ طبعًا … إنه من أخلص أعواني …

الرجل: سنترك الشرطة تقبض على «لعبة» هذا، ونتجه نحن إلى «أبو شنب» فليس عندي وقت أُضيِّعه … وقد حجزت مكانًا على الطائرة المسافرة إلى «روما» الليلة.

حمكشة: ما هي خطتك؟

الرجل: إن رجال الشرطة يسيرون خلف هذا الجهاز … وسيحمله «لعبة» ويمضي به سريعًا … وليأخذ أي اتجاه عدا اتجاهنا طبعًا، وسوف يتعقَّبه رجال الشرطة، وقد يقبضون عليه أو لا يقبضون … وفي إمكانه بعد أن يهبط الليل وأسافر أن يُحطِّم الجهاز ويختفي … المهم أن يمشي به بعيدًا — نحو القاهرة مثلًا — حتى تتبعه الشرطة.

أخذ «حمكشة» الجهاز فسلَّمه إلى «لعبة» وأعطاه بضعة جنيهات ثم قال له: لقد سمعت التعليمات وعليك أن تُنفِّذها بدقة … وفي إمكانك أن تسافر إلى بنها مثلًا حتى تُبعد عنا رجال الشرطة بمسافة بعيدة. أخذ «لعبة» الجهاز وبدأ ينصرف، ولكنه التفت إلى «حمكشة» قائلًا: وماذا ستفعل في هذا الولد؟

نظر «حمكشة» إلى «عاطف» نظرةً مرعبةً ثم قال: سآخذه معي إلى «أبو شنب» ونتخلَّص منه في المغارة هناك.

خرج «لعبة» واتجه سريعا إلى قلب «حلوان» مرةً أخرى، وفي تلك الأثناء كان الأصدقاء قد تقدَّموا ناحية الجبل وقد أصابهم القلق … واستطاعوا من بعيد أن يُشاهدوا «لعبة» وهو يُغادر المنزل … أمَّا سيارة اللاسلكي فقد تحرَّكت مسرعةً حسب إشارات الجهاز.

وقف «تختخ» والأصدقاء يتناقشون، فقال «محب»: ما معنى أن يخرج «لعبة» وحده ولا يخرج «عاطف»؟ إنها مسألة مقلقة.

تختخ: فعلًا … وعلينا أن ننتظر هنا … فلن نتحرَّك ما دام «عاطف» في الداخل.

ظن الأصدقاء أن سيارة اللاسلكي ما زالت في مكانها … ولم يتصوَّروا أنها تحرَّكت خلف «لعبة». ومضى الوقت … وكان «حمكشة» والتاجر ينتظران مُضِي أطول مدة ممكنة حتى يبتعد «لعبة» ويبتعد خلفه رجال الشرطة … وبعد نحو ساعة خرج الثلاثة «حمكشة» والتاجر و«عاطف»، فأسرع الأصدقاء لإبلاغ رجال الشرطة … ولكنهم لم يجدوا السيارة، فقد اختفت تمامًا.

قال «تختخ»: هناك شيء غير مفهوم في هذه العملية … ولكن الأفضل أن نتتبَّع «عاطف»؛ فإنني أُحس أنه في خطر … وعلى كل حال فإن معنا جهاز اللاسلكي الخاص بنا.

التفت الأصدقاء إليه في دهشة فأشار إلى «زنجر» قائلًا: لا تنسَوا أن «زنجر» هو أحسن جهاز استقبال لا سلكي … إنه يعرف رائحة «عاطف» وسيجعلنا نتبعه ولا نفقد أثره.

انطلق الأصدقاء يتبعون الثلاثة من بعيد … وبعد فترة بدا واضحًا لهم أن الدراجات لن تنفع؛ فقد كان الجبل يزداد وعورةً كلما تقدَّموا … والمطبات تتزايد والصخور تعترض طريقهم … وهكذا أوقفوا الدراجات جانبًا بعد أن أغلقوا أقفالها … ثم استأنفوا سيرهم على الأقدام …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤