اللاسلكي زنجر

كان جبل «المقطم» يبدو بلا نهاية … والشمس الحارقة تصب نيرانها عليه، وكان الأصدقاء يسيرون على مبعدة حتى لا يفطن أحد إليهم … فقد كان صوت أقدامهم مسموعًا في الصمت المُخيِّم على الجبل.

بعد فترة من السير … وفجأة، اختفى الثلاثة «حمكشة» و«عاطف» والرجل الثالث … اختفوا كأن الأرض انشقت وابتلعتهم … وقف الأصدقاء حَيارى لا يعرفون ماذا يفعلون … ولكن «زنجر» تقدَّم في الوقت المناسب لإنقاذهم؛ فقد أشار إليه «تختخ» وأخذ يُحدِّثه … وكأنما فهم «زنجر» المطلوب منه فانطلق يجري وخلفه الأصدقاء … وكان «تختخ» يُمسك بالمقود الجلدي المربوط في رقبة «زنجر» حتى لا يسبقهم كثيرًا … أو يهجم على الرجلَين فيكشف وجودهم.

لم يطل السير بالأصدقاء … حتى وجدوا أمامهم مغارةً مظلمةً كان يتجه إليها «زنجر» سريعًا.

أدرك «تختخ» أن «حمكشة» و«عاطف» والرجل الثالث قد دخلوا المغارة، فأوقف تقدُّم «زنجر»، ووقف هو والأصدقاء يتأمَّلون المغارة، وقال «تختخ»: في الأغلب إن الثلاثة دخلوا هنا … ولا بد أن «أبو شنب» يسكن في هذا المكان المخيف!

قالت «لوزة» وهي تستند إلى إحدى الصخور بعد أن أتعبها السير: وماذا سنفعل الآن؟

ردَّ «تختخ»: لا أدري بالضبط … فلْننتظر ونرى.

وفي داخل المغارة كان هناك حديث من نوع آخر … وقف «عاطف» جانبًا يسمع ويرى أغرب ما مر به في حياته! كان «أبو شنب» يجلس في مقعد كبير كالفراش.. طويل الشعر واللحية … له عينان تلمعان في ظلام الكهف الذي تُضيئه مشاعل زيتية مقبضة … وكان عاجزًا … لا يتحرَّك فيه سوى عينَيه وذراعه.

وكان «حمكشة» يتحدَّث إليه: لقد أحضرت لك الرجل حسب اتفاقنا، ومعه النقود … وعليك أن تُسلِّمه الذهب حتى تنتهي من هذه العملية.

أبو شنب: كم سيدفع؟

التاجر: عشرة آلاف جنيه.

أبو شنب: ولكن الذهب يساوي خمسين ألف جنيه!

التاجر: صحيح … ولكن إلى من ستبيعه؟

إنني سآخذه معي في هذه الحقيبة إلى الخارج … إن بها جيوبًا سريةً لا يكتشفها أحد، وسوف أهرب إلى الخارج حيث أستطيع بيعه هناك.

أبو شنب: ولكنك ستكسب كثيرًا جدًّا … إنني رجل عاجز لا أستطيع الحركة، ولم يعد في إمكاني أن أكسب شيئًا … إن هذه أكبر وآخر صفقة في حياتي.

التاجر: إنني لا أستطيع أن أدفع أكثر من هذا … إنني أُعرِّض نفسي للخطر … وقد يُقبض عليَّ … أمَّا أنت ففي أمان في هذا المكان!

حمكشة: أعطِه الذهب ودعنا نتخلَّص منه … لقد بقي معنا أكثر من سنة، وكل يوم نتعرَّض للخطر … واليوم بالذات كدنا نذهب في مصيبة … فهذا الولد مرشد لرجال الشرطة!

التفت «أبو شنب» إلى «عاطف» بعينَين يخرج منها الشرر وقال: أنت … توقع بي أنا؟ ثم ضحك ضحكةً مخيفةً ردد صداها الكهف المظلم.

قال «حمكشة» في نفاد صبر: أين الذهب؟

أبو شنب: لماذا أنت مستعجل هكذا؟

حمكشة: إن كل دقيقة لها قيمتها … ونريد أن ننتهي من هذه الصفقة.

أبو شنب: وكم ستأخذ أنت؟

حمكشة: ما تدفعه سآخذه.

أبو شنب: ليس هذا طبعك؛ إنك في العادة طمَّاع.

حمكشة: دعنا من هذا الكلام … وأعطني ما تشاء.

أبو شنب: بعد أن تأخذ نصيبك لن تسأل عني … ولو أرسلت لك كل الحمام الذي عندي.

حمكشة: إنك زعيمي … وأنت الذي علَّمتني الصنعة ولن أتخلَّى عنك.

أخذ «أبو شنب» يُفكِّر وينظر إليهما، فقال التاجر: إذا لم تكن موافقًا فدعني أذهب، فليس هناك وقت …

أخيرًا قال «أبو شنب»: تعالَ يا «حمكشة» … ارفعني من هذا الكرسي … إن الذهب موضوع تحته في حفرة بالأرض.

اقترب «حمكشة» ورفع «أبو شنب» ثم وضعه على الأرض ورفع الكرسي، وأخذ يحفر كالمجنون في الأرض دون أن يلتفت إلى «أبو شنب» الذي أخذ يصيح ليضعه على الكرسي مرةً أخرى.

استمر «حمكشة» يحفر لحظات، ثم مد يده وأخرج كيسًا من الجلد فتحه ثم صاح في فرح موجِّهًا حديثه للتاجر: هذا هو الكنز … هيا بنا …

وأسرع «حمكشة» إلى «عاطف» وقيَّده، ولم تُجدِ مقاومة «عاطف»، فقد كان «حمكشة» قويًّا وساعده التاجر … وكان «أبو شنب» يصيح دون أن يلتفت إليه أحد … ثم حمل «حمكشة» الكيس وقال للرجل: هيا بنا سريعًا … سأسلِّمك الذهب وتعطيني النقود!

قال «أبو شنب» متجهِّمًا: هل تتركني يا «حمكشة»؟ … إنني سأموت في هذا المكان!

حمكشة: لقد آن الأوان لكي تموت … فلم تعد هناك فائدة منك … وسيكون هذا الولد معك ليؤنس وحدتك في الساعات الأخيرة …

وبلا تردُّد أمسك «حمكشة» بالمشاعل وأخذ يُشعل النار في المكان … قائلًا: إذا لم تموتا بالنار … ستموتان جوعًا … الوداع أيها الزعيم!

لم تُجدِ توسُّلات «أبو شنب»، وانطلق الرجلان …

وفي الخارج شاهد الأصدقاء الرجلَين يخرجان، فقالت «نوسة»: ماذا نفعل؟ إن «عاطف» ليس معهما!

تختخ: لا يُهمنا الرجلان الآن … المهم إنقاذ «عاطف». دعوهما يسيران، واختفوا خلف الصخور.

اختفى الأصدقاء خلف الصخور … حتى مرَّ الرجلان … وما كادا يبتعدان قليلًا حتى انطلق الأصدقاء إلى داخل الكهف … وكانت النيران قد بدأت تشتعل ولكنها لم تكن قوية … وهكذا فوجئ «عاطف» بالأصدقاء يدخلون جميعًا … ولم تمضِ لحظات حتى كانوا قد خلَّصوه من القيود …

أخذ «عاطف» يُقبِّل الأصدقاء واحدًا واحدًا … وهو لا يُصدِّق أنه نجا … وكانت دموع شقيقته «لوزة» تسيل على خدَّيها وهي تحتضنه في حب …

استطاع الأصدقاء إطفاء النيران بالرمال … ثم وضعوا «أبو شنب» على كرسيه مرةً أخرى، فقال «عاطف»: ماذا نفعل به؟

تختخ: لن نفعل شيئًا … إنه لن يستطيع الحركة، وسيبقى في مكانه حتى يحضر له رجال الشرطة.

محب: وأين الكنز الذهبي؟

عاطف: لقد أخذه «حمكشة» … وخرج ومعه مهرِّب كبير سيشتريه منه … ولكنه لن يستطيع السفر كما يتصوَّر … فقد عرفت الطائرة التي سيسافر بها … إنه مسافر إلى روما ليلًا.

وانطلق الأصدقاء مسرعين إلى حيث كانت تنتظرهم دراجاتهم، وفي الطريق قال «تختخ»: لا أدري لماذا ابتعدت سيارة الشرطة، أليس جهاز اللاسلكي معك؟

عاطف: لا … لا … استطاع «حمكشة» خداع رجال الشرطة وأعطى الجهاز ﻟ «لعبة» الذي انطلق به بعيدًا.

نوسة: هذا يُفسِّر لماذا تحرَّكت السيارة!

وصل الأصدقاء إلى «حلوان» … وبالتليفون اتصلوا بالمفتش «سامي» وقصوا عليه القصة كلها …

قال المفتش: هذه جولة أخرى تكسبونها وهي جولة هامة حقًّا … إنني أشكركم ولكن أريد أن يأتي «عاطف» إلى المطار هذا المساء، فإننا لا نعرف اسم ولا شكل المهرِّب الذي اشترى الكنز الذهبي، وبدلًا من تفتيش كل الركاب فمن الأفضل أن يحضر «عاطف» للتعرُّف عليه.

تختخ: هل تسمح لنا بالحضور معه؟

المفتش: طبعًا … وسأرسل لكم سيارةً تحملكم إلى المطار فكونوا على استعداد في السادسة.

وضع «تختخ» السمَّاعة ثم حدَّث الأصدقاء بالاتفاق الذي تم بينه وبين المفتش … وفي السادسة تمامًا كانوا جميعًا في منزل «تختخ»، حيث جاءت السيارة فحملتهم وانطلقت بهم مسرعةً إلى المطار.

كانت الرحلة طويلة … ولكن السيارة كانت مريحة … وهواء المساء يميل إلى برودة منعشة … فاستمتع الأصدقاء جميعًا بالرحلة … وعندما وصلوا إلى المطار وجدوا المفتش في انتظارهم واستقبلهم بترحاب شديد ثم قال: لقد قبضنا على «أبو شنب» في المغارة … والمدهش أنه كان سعيدًا بالقبض عليه … حتى يعترف على «حمكشة» ويدلنا على الأماكن التي يختبئ فيها، وقد وضعنا عددًا من الكمائن في كل مكان يتردَّد عليه … وسوف يسقط في أيدينا حتمًا هذه الليلة … أمَّا «لعبة» فقد قبض عليه رجال الشرطة في الوقت المناسب بواسطة جهاز اللاسلكي قرب بنها … بقي المهرِّب … ونحن في انتظاره الآن.

وزَّع المفتش رجاله حول مدخل صالة المسافرين … وجلس الأصدقاء وأنظارهم مثبتة على مدخل الصالة … وانصرف المفتش … وقال «تختخ» للأصدقاء: إننا لم نرَ المهرِّب … تعالَوا نُجرِّب فراستنا … لعلنا نستطيع التعرُّف عليه قبل «عاطف».

وفعلا بدأ الأصدقاء يركزون أنظارهم على القادمين … وبين لحظة وأخرى كان أحدهم يقف قائلًا: ها هو! ولكن «عاطف» لم يكن يرفع يده.

ومرَّت ساعة، واقترب موعد قيام الطائرة المسافرة إلى «روما» دون أن يتحرَّك «عاطف»، وأحس المفتش بالقلق خوفًا من أن يكون المهرِّب قد مر دون أن يعرفه «عاطف»، فأخذ يُشير إليه، ولكن «عاطف» أشار بأن المهرِّب لم يظهر بعد … ولم يبقَ سوى دقائق على إقلاع الطائرة … وفجأةً أقبلت سيدة عجوز وأسرعت إلى ضابط الجوازات … وفي هذه اللحظة رفع «عاطف» يده بالإشارة المتفق عليها … وحدث ارتباك … فلم يكن رجال الشرطة يتوقَّعون أن يرفع «عاطف» يده أمام هذه السيدة العجوز … ولكن المفتش «سامي» لم يتردَّد، وأسرع إلى السيدة يطلب منها الوقوف …

قالت السيدة في ضيق: ماذا تريد مني؟ … قال المفتش «سامي» بأدب: آسف جدًّا يا سيدتي، إنني المفتش «سامي» مدير المباحث الجنائية … فأرجو أن تسمحي لنا بتفتيشك وتفتيش حقيبتك.

قالت السيدة: غير معقول! … من هذا الذي يفتشني؟ إنني سيدة محترمة … و…

ولكن المفتش لم يدعها تُكمل كلامها وقال بحزم: هناك سيدة مخصَّصة لهذه العملية ستقوم بتفتيشك.

وهنا تدخَّل «عاطف» قائلًا: بل تستطيع أنت تفتيشه يا سيادة المفتش … إن هذه ليست سيدة … إنها رجل.

في هذه اللحظة حدث شيء أثار دهشة الناس الذين تجمَّعوا حول المتناقشَين … فقد قذفت السيدة بالحقيبة في وجه المفتش «سامي» الذي استطاع ببراعة أن يتفاداها، وأطلقت السيدة العجوز ساقَيها جاريةً بنشاط أذهل كل من كان في المطار …

قال المفتش بثقة: لن يستطيع أن يخرج من المطار؛ فكل الأبواب محاصرة.

لم يكد المفتش «سامي» ينهي جملته حتى كانت المطاردة قد انتهت عند باب المطار الرئيسي، حيث أطبق عدد من رجال الشرطة الأقوياء على المهرِّب بعد أن تعب جريًا دون جدوى … وتقدَّم الرجال وهم يُمسكون بالسيدة التي طار شعرها المستعار … فبدا وجه رجل على جسم سيدة، ممَّا أثار ضحك الذين تجمَّعوا يتفرَّجون على المطاردة التي انتهت سريعًا.

جلس الأصدقاء والمفتش «سامي» في البوفيه، وكان هناك سؤال هام وجَّهته «نوسة» إلى «عاطف»: كيف عرفت المهرب برغم تنكُّره؟

عاطف: عرفته من شيئين؛ الأول هناك خاتم في إصبعه كنت قد رأيته في الكهف … والثاني الحقيبة … فهي نفس الحقيبة التي كانت معه هناك.

نوسة: ولكن لماذا نظرت إليها أصلًا؟ … ألم تكن تتوقَّع أن يكون رجلًا؟

عاطف: لقد فكَّرت أني شخصيًّا تنكَّرت في شكل نشَّال … فلماذا لا يتنكَّر المهرِّب في أي شكل؟ … وهكذا نظرت في كل من دخل من الباب.

ودقَّ جرس التليفون يطلب المفتش الذي أخذ يستمع قليلًا ثم قال للأصدقاء: إن كل شيء على ما يرام أيها المغامرون الخمسة؛ لقد قبض رجالي على «حمكشة» ومعه النقود … وهكذا وقعت العصابة كلها في أيدينا.

لوزة: وكان ذلك بسبب حمامة جريحة.

المفتش: هناك أشياء صغيرة كثيرة تكون بدايةً لأشياء كبيرة … وفي عمل الشرطة فقد يكون أصغر شيء هو أهم شيء … ومثلًا لولا الخاتم لما عرف «عاطف» المهرِّب.

•••

كانت الساعة تقترب من العاشرة عندما وصلت السيارة تُقل المغامرين الخمسة إلى المعادي، وذهب كلٌّ منهم إلى منزله … «عاطف» و«لوزة» معًا … «نوسة» و«محب» معًا … أمَّا «تختخ» فقد عاد وحيدًا … ولكن «زنجر» كان في انتظاره أمام الباب … وانتهى لغز الرسالة الطائرة.

ولكن هناك ألغازًا أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤