عندما أصبح المجرم … صديقي!
بمجرد أن تلقَّت مجموعة العمل الأولى التقرير الثاني من رقم «صفر» عن السجين المهم، انطلقت إلى القاهرة … وفي الطريق قرأ «أحمد» التقرير: تقريرٌ عن سجين الصحراء، أو السجين رقم ٩٨، اسمه «تومي كواتسو»، بولندي الجنسية، كان يَعمل خبيرًا في رسم الخرائط في بلاده، قبل أن تخطفه المنظمة، ليعمل في تزييف العملات الورقية، ولقد أغرق أسواق إيطاليا منذ سنوات بملايين الدولارات، حتى كاد يؤثر في الاقتصاد الإيطالي … ولم يستطع البوليس الدولي القبض عليه؛ لأنه يختفي خلف وجوه كثيرة، غير أن رجال الأمن المصريين أوقعوا به أخيرًا، حيث نزل ضيفًا على السجن لمدة خمس سنواتٍ، بعد أن ضُبط وهو يخطط لإغراق الأسواق المصرية بملايين الدولارات. ينادونه في السجن باسم «كومي»؛ حيث يفرض زعامته على المساجين. كانت له محاولة للهرب منذ شهور، لكنه فشل.
و«تومي» يعرف الكثير عن المنظَّمة؛ فهو الذي كان يقوم بتنفيذ أعمال منطقة حوض البحر المتوسط.
انتهى التقرير، فقالت «إلهام»: إذن «أحمد» سوف يدخل السجن!
وفي نفس الليلة، كان كل شيءٍ قد تمَّ، وأصبح «أحمد» يقوم ببداية المغامرة وحده.
في اليوم التالي عندما تركت السيارة شارع الأهرام، كانت قد انحرفَت يَمينًا؛ لتدخل في طريق مصر-إسكندرية الصحراوي، وعند أول كشك مرور، رفَع شرطيُّ المرور يده، فتوقفت السيارة التي كانت تحمل رقم «١١٦٢٥ شرطة».
وقال الشرطي: هل معك أحد؟
أجاب السائق: مسجون، في طريقه إلى السجن.
وأخرج السائق مفكرةً صغيرةً، قدَّمها للشرطيِّ فقرأ فيها خط سيره، فوقَّع عليها، ثم أعادها للسائق الذي انطلق في الطريق الصحراوي.
كانت الشمس تأخذ طريقها إلى الغروب، ولم يكن في الطريق الصحراوي في هذه اللحظة أي إنسانٍ، لم تكن هناك سوى سيارة الشرطة التي تحمل السجين «١٢٨» في طريقه إلى السجن.
وبجوار السجين، كان يجلس شرطيان، أمسك كلٌّ منهما بندقيةً، وشرد ببصره دون حديثٍ … بينما كان السجين يراقبهما بطرف عينه؛ ليقرأ تعبير كل منهما، ولم يكن هذا السجين رقم «١٢٨»، سوى «أحمد»، كان هو والشرطيان يَجلسان في الصندوق الخلفي للسيارة، أما في الكابينة، فقد كان يجلس ملازم شابٌّ، بجوار السائق.
كان الملازم يُدخِّن سيجارة، وقال بعد فترة الصمت الطويلة: «هل بقيَ كثير؟» فأجاب السائق دون أن ينظر إليه: «نصف ساعة.» ثم خيَّم الصمت من جديد، بدأ الليل يهبط على المكان، ولمعت في الأفق الرمادي أضواء سياراتٍ بعيدة.
كان «أحمد» مستغرقًا في هذه اللحظة الهادئة، وشردت خواطره إلى السجن حيث يبدأ مغامرة جديدة تمامًا، ثم شعر أن السيارة تنحرف يمينًا، فعرف أنها تقترب من السجن ثم توقفت بعد قليلٍ، وسمع حوارًا سريعًا، تحركت السيارة بعده، ورأى بوابة السجن، وشجر الكافور الذي يَحُوطها، ثم توقفت مرةً أخرى، وفجأةً ظهر الملازم وقال: «هيَّا!»
قفز «أحمد» بسرعةٍ، وكان يلبس ملابس السجن، وقد كُتِب الرقم على صدره، وفوق رأسه الحليق كان يلبس طاقية من نفس لون الملابس الداكن، وتقدَّم في هدوء خلف الملازم، في الوقت الذي سار فيه الشرطيان خلفه يَحرُسانه، ودخلوا جميعًا مبنى السجن الخافت الضوء، الكئيب المظهر، ولم يكن هناك سوى صوت أقدامهم فوق بلاط الأرض، ومن بعيد، ظهر ضابط على باب حجرة قرأ «أحمد» عليها «مدير السجن».
اقتربوا حتى وقف الملازم مُحيِّيًا مدير السجن تحيةً عسكريةً، ثم قدَّم له أوراق السجين الجديدة، فرمقه المدير بنظرةٍ سريعةٍ، ثم نادى: رقيب «مسعد»!
ظهر رجلٌ ضخم الجثة، ضرب الأرض بقدمه مُحيِّيًا، فقال المدير: عنبر ٦.
نظر الرقيب «مسعد» إلى «أحمد» وهو يصرخ في غضبٍ مُصطَنعٍ: هيَّا أمامي!
تقدَّم «أحمد» في هدوءٍ، في نفس الوقت الذي كان فيه الرقيب «مسعد» لا يزال يُثير ضجيجًا لا لزوم له، بوقع حذائه الضخم على البلاط … كانت أمامهما طرقةٌ طويلةٌ، تبدو على جانبيها أبواب متعددة متقابلة، ولمح «أحمد» في النافذة الحديدية لأحد الأبواب، وجوهًا تنظر إليه، فعرف أنهم زملاؤه في السجن، وعند باب في مؤخرة الطرقة، توقف الرقيب «مسعد»، ثم أخرج مفتاحًا ضخمًا، وضعه في ثقب الباب، ثم أداره، فانفتح، وتقدم خطوة، وصرخ: تقدم!
تقدَّم «أحمد» في هدوءٍ إلى داخل العنبر، كان عبارة عن حجرةٍ مستطيلة الشكل، لها رائحةٌ نفَّاذةٌ. ومن خلال الضوء الخافت استطاع أن يلمح عددًا من الرجال، لكنه لم يَتبيَّن ملامحهم جيدًا، كانوا يبدون كالأشباح … وصرخ الرقيب «مسعد»: لا أريد صوتًا، هل تسمع يا «كومي»؟! هذه المرة لن تُفلتَ منِّي لو أحدثت شغبًا!
اختفى الرقيب «مسعد»، وسمع «أحمد» صوت المفتاح يدور في الباب، ثم أخذت خطوات الرقيب «مسعد» تبتعد، حتى اختفت تمامًا، وأصبح الصمت يُغطِّي كل شيءٍ … كانت العيون تلمع حول «أحمد» الذي ظلَّ يَرقبها في صمتٍ، وأخيرًا تحدث واحدٌ بصوتٍ رفيعٍ، كأنه صوت عصفورٍ: كم سنة؟!
فكَّر «أحمد» بسرعةٍ، كان يعرف أنه لا بد أن يكون قويًّا من البداية، حتى يُنفِّذ خطته جيدًا، فقال في حدَّة: عشرة.
ضحك صوتٌ خشنٌ وقال: لا بأس، هيا أخرج ما تُخفيه.
لم يفهم «أحمد» ماذا يقصد؟ فقال: لا أخفي شيئًا!
ضحك الصوت الخشن مرة أخرى، وقال: أخرج ما تُخفيه، حتى لا يصيبك أذى!
عرف أنه لا بدَّ أن يصطدم بأحدهم حتى يعرفوا قوَّته، فقال في حدَّة: لا أخفي شيئًا!
تقدم رجل مفتول العضلات، وقال: دعه يا «عمران» سوف أجعله يندم لأنه وصل هنا.
وقبل أن يخطو الرجل خطوة أخرى، كان «أحمد» قد طار في الهواء، ثم ضرب الرجل بمشط رجله في بطنه، وبالقدم الأخرى في صدره، فتقهقر الرجل حتى اصطدم بالحائط، ووقف «أحمد» متحفزًا، وكان الجميع ينظرون إليه، لكنه لم يستطع أن يتبيَّن المعنى الخفيَّ في نظراتهم.
قال واحد: هيَّا يا «كومي»، هذه فرصتك، وإلَّا فقدتَ زعامة العنبر!
وقف المساجين فيما يشبه الدائرة، ووضَح أمام «أحمد» أنه سوف يدخل معركة، لا يدري نهايتها، وإن كان لا بد أن ينتصر فيها، وأدار عينَيه بسرعةٍ بين الوجوه التي ترقبه كان يبحث عن «تومي» أو «الكومي» كما يُسمُّونه، واستطاع أن يلمحه بوجهه الأحمر، بين الوجوه السمراء. كان «تومي» يضع على شفتيه ابتسامةً هادئةً، وهو يرقب «أحمد»، أما الباقون، فقد كانت ملامح التحفُّز تبدو واضحةً على وجوههم.
… قام الرجل الذي ضربه «أحمد»، وكان يبدو أن اصطدامه بالحائط قد أصابه بشيءٍ؛ فقد أمسك رأسه بين يدَيه الاثنتين.
طالت لحظة الصمت، فقال «تومي» في النهاية: كيف تُقابلون ضيفًا جديدًا بهذه الطريقة؟!
التفتَت الوجوه كلها ناحية «تومي» الذي أخذ يقترب من «أحمد» … بينما كان «أحمد» يقف حذرًا، ومستعدًّا لأيِّ حركة حوله.
قال له «تومي»: لا تفعل شيئًا، لقد انتهى الموقف، أنت الآن في حمايتي! ومد يده إلى «أحمد»، الذي فكَّر بسرعة، ثم مدَّ يده إليه، وقبل أن يُفكِّر «تومي» في أيِّ حركةٍ، كان «أحمد» قد سحب يده بسرعةٍ، فضحك «تومي» وقال: أنت زميلٌ جيدٌ، لقد كنتُ أختبرك! وصمت لحظةً، ثم قال: هل ما زلت خائفًا؟
أجاب «أحمد» بسرعةٍ: أنا لا أعرف الخوف!
تراجع «تومي» واستدار، لكنه فجأة، كان قد طار في الهواء، وهو يضرب «أحمد» ضربةً مزدوجةً، إلا أن «أحمد» كان مُستعدًّا لأيِّ حركةٍ مضادةٍ فقفز مبتعدًا وهو يُفكِّر بسرعة: هل يشتبك مع «تومي»، أو يكسب صداقته … وطاشت ضربة «تومي»، فسقط واقعًا وهو يقول: أنت مساعد طيِّب، هيا ندخل اختبار قوة!
تنفَّس «أحمد» بعمق لقد عرف أنه لا محالة سيَصطدم به، فقال في هدوء: اسمع يا «كومي» أنت سوف تَخسَر الاختبار، أُحذِّرك من الآن!
ضحك «تومي» بعنفٍ وهو يقول: أنت ما زلت صغيرًا! لا تعرف تقاليد السجن، هيَّا تقدم!
قفز «تومي» خطوتين في اتجاه «أحمد» الذي أسرع بخطف «تومي» ودار به دورةً كاملةً، ثم تركه، فاصطدم بحائط العنبر، وسقط في عنفٍ … فتطلَّعت الأعين نحو «أحمد»، وكانوا ينظرون إليه كشيءٍ غريبٍ.
ألقى «أحمد» نظرةً سريعةً على «تومي» الذي لم يتحرَّك، وأسرع إليه، لقد كان يُريد أن ينال صداقته؛ فهذه خطته التي دخل بها السجن. عندما انحنى على «تومي»، أحسَّ كأن سقف العنبر قد سقط فوقه؛ حتى إنه وقع فوق «تومي» … وبسرعةٍ عرف أن معركة قد بدأت، وأنه وحده طرف فيها، في لمح البصر، كان قد قفز كالكرة مبتعدًا، حتى أصبح وحده، فوجد عملاقًا، سمع اسمه منذ قليل عرف أنه «عمران». كان «عمران» يتابعه، إلا أن «أحمد» كان سريع الحركة، فقد تركه يتقدم ناحيته، وفاجأه بحركة جعلت «عمران» طريحًا.
كان «تومي» قد جلس يَرقُب ما حدث، فقال في إجهاد «كفى، كفى!» فوقف «عمران» وعيناه تكاد تُطلق شرار على «أحمد»، وقال «تومي»: لقد فاز «١٢٨»، إنه صديق الجميع الآن، هيا، هيا!
وأخذوا يُسلِّمون الواحد بعد الآخر عليه في قوةٍ، وفي النهاية ذهب إلى «تومي» فمدَّ يده إليه، فضحك «تومي» وهو يقول: لم تَعُد تخاف؟! وسلَّم عليه في قوةٍ، ثم أضاف: اجلس بجواري. وجلس «أحمد» فسأله: ما اسمك؟ قال: حامد.
تومي: ألا تخفي شيئًا؟!
نظر له «أحمد» لحظةً ثم سأل: ماذا تعني؟!
تومي: سجائر، طعام، أي شيءٍ.
ابتسم «أحمد» وقال: لا، لقد أخذوني من سجن «القلعة» إلى هنا مباشرة.
تومي: لا بأس، سوف نكون أصدقاء، إنَّ أمامنا ما يكفي من الوقت.
جلس كلُّ مسجون على سريره، وأخذ الواحد بعد الآخر يَغرق في النوم، حتى «تومي»، غير أن «أحمد» ظل مستيقظًا لقد كان يستعيد ما حدث بسرعة، بجوار أنه كان يُفكِّر في تلك المغامرة الغريبة التي بدأت، وتذكَّر الشياطين وكيف ينامون في فندق «مينا هاوس» الآن، بينما هو يشمُّ هذه الرائحة النفَّاذة داخل العنبر المُكدَّس بالمساجين، لكنه في النهاية، راح في النوم، وعندما فتح عينيه، كان «تومي» يُوقظه بهدوءٍ، وهو يقول: هيَّا بسرعةٍ، يبدو أنك سهرت كثيرًا!
ابتسم «أحمد» ثم قفز من سريره، في الوقت الذي كان كل مسجونٍ يُخرج فراشه للشمس … وبدأت أول أيام السجن في حياة «أحمد». لقد أصبحت تحرُّكاته كلها مرتبطةً «بتومي» الذي وجد فيه شخصيةً مثقَّفة، حتى إنه ربَّت على كتفه وقال: أخيرًا وجدت من أستطيع أن أتحدَّث معه!
كان «أحمد» يُحاول أن يكسب ثقة «تومي» بسرعة، حتى يبدأ في تنفيذ بقية الخطة، ومع كل يوم يمر، كان «تومي» يقترب من «أحمد» أكثر، حتى إنه كان يحدِّثه عن عمله الأول في بولندا، ويُحدِّثه عن ذكرياته القديمة، أيام كان صغيرًا …
لقد قامت علاقة وثيقة بين الاثنين، لكن كلُّ ما حكاه «تومي»، لم يكن هو ما يُريده «أحمد» … أخيرًا قرر أن يضرب ضربته، التي تجعل «تومي» يثقُ فيه بلا حدودٍ …
كان الوقت وقت الغداء، عندما اجتمع المساجين في عنبر الطعام، والحرَّاس يقفون بعيدين، وكل مسجونٍ مشغولٌ بما أمامه من طعامٍ، فنظر «أحمد» إلى «تومي» لحظةً، ثم قال في همسٍ: لقد قررتُ الهروب.
لمعَت عينا «تومي» وهو يَستمِع إلى «أحمد»، ولم يُعلِّق بشيءٍ، وقال «أحمد» بعد قليلٍ: لقد بدأت أفكِّر في الخطة، والمكان هنا يُساعد على ذلك.
قال «تومي» هامسًا: دع حديثنا لفترة العمل. انتهى الطعام، فانصرفوا للعمل، وكان «أحمد» بين مجموعة «تومي» التي تعمل في مزارع السجن، والتي تحوطُها الأسلاك الشائكة، ونقط الحراسة القوية، بجوار تلك الكشافات التي تُضاء بالليل، فتجعل المنطقة كالنهار، كانا في حقل طماطم، يقومون بجمع الثمار الناضجة، فهمس «تومي»: هل أنت جادٌّ؟!
قال «أحمد» بسرعةٍ: وأنت؟!
ردَّ «تومي»: إنني معك. وهكذا بدأت خطة الهرب.