الاثنان … في سيارة نقل!
سأل «تومي»: هل تعرف المنطقة جيدًا؟
أحمد: نعم، أعرفها بالخطوة.
صمت «تومي» وأخذ يُداعب بعض الحشائش النابتة وسط الطماطم، بينما قال «أحمد»: إن مشكلتي هي كيف الخروج من مصر؟!
فنظر «تومي» له نظرةً مُستقيمةً، ثم عاد يداعب الحشائش من جديدٍ، بينما يقول سؤاله في بساطة: هل تفكر في الهرب من مصر؟!
أجاب «أحمد» بلهفة: نعم، لكني لا أعرف كيف؟
ابتسم «تومي» ابتسامة عريضة، ثم ربَّت على ظهر «أحمد» وقال واحدة بواحدةٍ. إذا استطعت أن تؤمِّن لي الهروب من السجن أؤمِّن لك الهروب من مصر.
صاح «أحمد» في سعادةٍ: هل تعني ما تقول؟
فقال «تومي» في هدوءٍ: نعم، لكن هذه مسألةٌ مؤجَّلةٌ حتى نخرج من هنا.
عرف «أحمد» أنه بدأ الطريق إلى حيث يُريد. كان عليه أن يُعدَّ خطة الهرب، وكان من الضروري أن تنجح الخطة.
ذات مساءٍ، بينما كان المساجين عائدين إلى عنابرهم، كان «أحمد» بجوار «تومي» فهمس: لقد أعددتُ كل شيءٍ.
ظهرت الدهشة على وجه تومي، وسأل: كيف؟!
قال «أحمد»: عندما استدعاني الرقيب «مسعد»، كان بعض أقربائي قد حضروا لزيارتي، اتفقت معهم على نقطة معيَّنة، سوف يخفون فيها حقيبة بداخلها الملابس التي نحتاجها، حتى لا يعرفنا أحد … ثم صمت «أحمد» ليرى وقع الحديث على «تومي»، الذي كان يُنصِت. فسأل: المُهم، كيف سنهرب من هنا؟!
ردَّ «أحمد»: ساعة الغداء.
علت الدهشة وجه «تومي» وردَّد: ساعة الغداء؟!
قال «أحمد»: نعم.
تومي: متى إذن؟
أحمد: إنني أنتظر زيارة أخرى، ثم أخبرك.
كان «تومي» يبدو سعيدًا بتلك الأنباء التي نقلها «أحمد» إليه. في نفس الوقت كان «أحمد» قد أرسل رسالةً إلى رقم «صفر» يشرح له فيها ما تمَّ. وجاءه الرد بأن كل شيءٍ سيكون مُعدًّا، وأن الشياطين سوف يأتون لزيارتِه. وفي اليوم التالي وبينما كانوا يعملون، حضر الرقيب «مسعد» وصاح: المسجون ١٢٨ … زيارة. الْتَقت أعين «تومي» و«أحمد» الذي انسحب بسرعةٍ.
وفي جانب من حديقة السجن، كان الشياطين ينتظرون؛ «إلهام» و«بو عمير» و«عثمان»، وما إن رأوا «أحمد» حتى التفُّوا حوله في سعادة حقيقية، وقالت «إلهام» مُبتسمة: لقد أصبحت مسجونًا حقيقيًّا. وأخذوا يتحدثون في سرعةٍ حتى لا يلفتوا النظر … وقال «عثمان»: يوم الثلاثاء القادم، يعني بعد يومين، سوف تأتي سيارة نقل لحمل أقفاص الطماطم، رقمها ٩٥٩ نقل جيزة، مع سائقها سوف تجدان الملابس المطلوبة، عليكما بلبسِها، ثم الركوب، أحدكما بجوار السائق والآخر في صندوق السيارة بين الأقفاص، بعد ذلك كل شيءٍ جاهز.
… ثم أكمل «بو عمير» ترتيبات رقم «صفر» التي تبدأ منذ خروج السيارة إلى الطريق، واقترب أحد الحرَّاس منهم، ثم قال: لقد انتهت الزيارة.
رفع «أحمد» صوته وقال: بلِّغوا إخوتي أشواقي، وأخبروهم أننا سنَلتقي قريبًا. وامتدَّت أيديهم بالتحية ثم انصرفوا.
ظل «أحمد» يرقبهم قليلًا، ثم أخذ طريقه إلى «تومي» الذي كان ينتظر في لهفة، وما إن رآه، حتى ابتسم ابتسامة عريضة؛ فقد رأى «أحمد» يَقترِب مُبتسمًا، وعندما جلس بجواره سأله: هل كانت الزيارة موفَّقة؟
نظر «أحمد» حوله في ريبةٍ، حتى يُعطيَ أهمية لما يقول، ثم همس: موفَّقة تمامًا، كل شيءٍ جاهزٌ.
مدَّ «تومي» يده، ثم شدَّ على يد «أحمد»، وهو يتلفَّت حوله، وانتهت فترة عمل الصباح، وجاءت فترة الغداء، فأخذوا طريقهم إلى عنبر الطعام في صفٍّ طويلٍ، وكان «تومي» يسير خلف «أحمد».
وعندما جلسوا إلى الترابيزات المُمتدة، أخذ الاثنان مكانًا متجاورًا، وأخذ عمال المطبخ، يضعون الطعام في الأواني أمام المساجين، مال «تومي» ناحية «أحمد» وهمس: هل اقترب الوقت؟
هزَّ «أحمد» رأسه بالإيجاب دون أن ينطق، كان يبدو أن «تومي» متلهِّف لأن يعرف، ظلَّا صامتين وهما يتناولان الغداء، حتى إذا انتهيا، أخذا طريقهما بين المساجين إلى حيث تمتد المزروعات، وهناك أخذا جانبًا وهما يقومان بجمع الطماطم.
قال «تومي»: متى؟
نظر له «أحمد» قليلًا ثم قال: الساعة الثانية.
وكأن «تومي» لم يصدق أذنيه، فسأل: الثانية ليلًا؟!
لم يرد «أحمد» مباشرة، فقال «تومي»: إن الموعد غير مناسبٍ، لقد حاولتُ الهرب ليلًا، فلم أستطع، ونلتُ عقوبةً بدنية قاسية.
ابتسم «أحمد» وقال: الثانية نهارًا. واقترب أحد الحرَّاس فانهمكا في جمع الثمار، ثم نقلها إلى حيث تُعبَّأ في أقفاصٍ تُشحَن في سيارات إلى القاهرة …
واستمر العمل بقية النهار، كان «تومي» قَلِقًا، ينظر إلى «أحمد» كثيرًا، في الوقت الذي انشغل «أحمد» فيه بالعمل، دون أن يَنظر حوله. ومالت الشمس إلى المغيب، وبدأ المساجين ينتظمون في طابور الانصراف، وقد وقف الحرَّاس يعدُّونهم.
وعندما دخلوا العنبر، ألقى كلُّ من المساجين نفسه على سريره. فقد كان العمل شاقًّا اليوم.
نظر «تومي» إلى «أحمد» ثم اقترب منه، وهمس: لم تَقُل لي التفاصيل!
قال «أحمد» في هدوءٍ: لا توجد تفاصيل، بعد يومين سيتمُّ كل شيءٍ.
ظل «أحمد» صامتًا طوال اليومين، وحتى عندما كان «تومي» يتحدَّث إليه، لم يكن يرد. وجاء يوم الثلاثاء، وخرجا بين المساجين إلى حيث العمل اليومي. واقترب «تومي»، وسأل: موعدنا اليوم؟
أجاب «أحمد» في هدوءٍ: نعم.
وظل «تومي» يروح ويجيء في توتُّرٍ. كان يُريد أن يعرف مزيدًا من التفاصيل …
في النهاية اقترب من «أحمد» وسأله: لماذا أنت صامتٌ هكذا؟ هل أنت خائفٌ؟
لم يرد «أحمد» مُباشَرة فقد مرَّ بعض الوقت قبل أن يقول: أفكِّر في الموقف بعد هروبنا.
اتسعت عينا «تومي»، ثم ملأت وجهه ابتسامة عريضة وهو يهمس: لا تُفكِّر في ذلك، إنك منذ اليوم ستنضمُّ إلينا … وصمت «تومي» ولم يُكمل.
فقال «أحمد» في غير اهتمام: أنضمُّ إلى مَنْ؟!
أجاب «تومي» مُبتسمًا: سوف تعرف، عندما تتنفَّس هواء الصحراء.
بدأت سيارات النقل تظهر؛ لتحمل أقفاص الطماطم، وظلت عينا «أحمد» تقرأ الأرقام، حتى ظهرت السيارة رقم ٩٥٩ نقل جيزة، وتوقفت بعيدًا …
فقال «أحمد»: استعد؛ إن اللحظة قد حانت. ونقل إليه كيف سيتصرَّف؟
تقدَّم «أحمد» أولًا، حتى وقف عند مجموعة الأقفاص فحمل اثنين منها، وتقدَّم بهما إلى السيارة ٩٥٩. وفجأة، ملأت وجهه ابتسامة أخفاها بسرعةٍ، لقد رأى … «عثمان» و«بو عمير». كان «عثمان» يقوم بالقيادة، و«بو عمير» يعمل بالتحميل على السيارة. وضع القفصين على الأرض أمام «بو عمير»، ثم قفز إلى صندوق السيارة، ناوله «بو عمير» قفصًا، أخذه منه، وبينما كان يضعه أسفل الصندوق، رأى الملابس في انتظاره، رقَد على ظهره، ثم بدأ يخلع ملابس السجن بسرعة، ويلبس الملابس الأخرى التي كانت تُشبه ملابس «بو عمير». ثم ظهر بسرعةٍ فناوله «بو عمير» القفص الثاني، فأخذه منه.
همس «أحمد» ﻟ «بو عمير» بأوصاف «تومي»، فأسرع «بو عمير» في اتجاه المساجين، حتى إذا اقترب من «تومي» قال: هيَّا احمل الأقفاص بسرعةٍ حتى لا تتأخَّر فهذه الحمولة سوف تذهب إلى «بورسعيد» والطريق طويلٌ.
حمل «تومي» قفصَين، ثم تقدَّم في اتجاه السيارة، وخلفه سار بعض المساجين يَحملون أقفاصًا أخرى. كان «أحمد» قد اختفى، فقال «عثمان» مُخاطبًا «تومي»: هيَّا اصعد إلى الصندوق، وضَعْ الأقفاص.
قفز «تومي» إلى أعلى الصندوق، ثم بدأ يأخذ الأقفاص ويَرصُّها بجوار بعضها، كان المساجين قد وضعوا الأقفاص قُرب السيارة، وانصرفوا ليأتوا بغيرها. ظلَّ «عثمان» و«بو عمير» يُناوِلان «تومي» أقفاص الطماطم حتى انتهت. وفجأةً سمع مَن يُناديه من خلف الأقفاص، وظهر وجه «أحمد».
رقَد «تومي» على ظهره، وبدأ يُغيِّر ملابسه، وفي نفس الوقت ظهر «أحمد» مكانه بالملابس الأخرى. ظلَّ المساجين يَحملون أقفاص الطماطم حتى امتلأت السيارة، وأعلن «عثمان» أنها تَحمِل كفايتها الآن. ثمَّ قال للحارس الذي اقترب: هل تحتاجون شيئًا آتيكم به غدًا؟
شكره الحارس، فقفز إلى عجلة القيادة وقفز «بو عمير» إلى جواره فانطلقت السيارة. وعند البوابة توقفت قليلًا، وقال «عثمان»: هل تأمُرون بأيِّ شيءٍ آتيكم به باكرًا؟
شكره الشرطي الواقف على الباب، وغادرت السيارة السجن …
كان «أحمد» و«تومي» يقبعان بين أقفاص الطماطم وعندما عرفا أنهما أصبحا خارج حدود السجن قال «تومي»: إلى أين تتَّجه السيارة الآن؟
أجاب «أحمد»: إلى القاهرة.
قال «تومي»: يجب أن نغادِرَها عند مفترق طرق القاهرة-الفيوم.
أحمد: لماذا؟
تومي: سوف نذهب إلى «قارون» إنهم هناك.
أحمد: مَن؟!
تومي: سوف تَعرف فيما بعد.
في اللحظة التي كان الحوار يدور بين «تومي» و«أحمد»، كان «بو عمير» قد ألصق سماعةً مكبِّرة في صندوق السيارة فاستمع للحوار، وعندما اقترب مفترق الطرق الذي تحدَّث عنه «تومي» أبطأت السيارة حتى توقَّفت، وخرج «بو عمير» وتحدَّث إليهما، وقال: لقد انتهت مهمتنا، هكذا كان اتفاقنا مع والدك يا أخ «حامد» الآن، يجب أن تُغادِرا السيارة.
ابتسم «أحمد» وقال: نحن نشكُرُك جدًّا.
ثم قفز من السيارة، وتبعه «تومين».
استمرَّت السيارة في طريقها، في نفس الوقت كان «تومي» و«أحمد» قد دخَلا في طريق الفيوم. ظلا سائرين فيه، يشيران إلى سيارات كثيرة تمر، إلَّا أنه لم تقف لهما سيارة.
بعد نصف ساعةٍ من الانتظار أقبلت سيارة ملاكي الفيوم ورفع «أحمد» يده مُشيرًا إليها، فتوقفت. اقترب منها، وأخفى دهشته عندما رأى مَنْ فيها. قال: هل يُمكن أن تأخذانا معكما؟
جاءه الردُّ: تفضَّل.
نظر إلى «تومي» الذي ابتسم، وقفزا داخل السيارة التي انطلقت إلى الفيوم.