جهاز الإرسال في الصالون!
كانت مجموعة العمل الثانية هي التي تجلس داخل السيارة الملاكي؛ «فهد» و«زبيدة» و«رشيد» و«خالد». كان «فهد» يجلس إلى عجلة القيادة، وبجواره «زبيدة» فجلس «أحمد» و«تومي» بجوار «رشيد» و«خالد».
سأل «أحمد»: هل الأصدقاء من الفيوم؟
أجاب «فهد»: نعم.
سأل «تومي»: هل تذهبون إلى الفيوم ذاتها؟
قال «فهد»: نعم، لكننا سوف نأخذ طريق بحيرة قارون، إنه ممتع هذه الأيام!
فنظر «تومي» إلى «أحمد» وهو يقول: إننا حسَنا الحظ جدًّا؛ فهما يمرَّان في طريقنا تمامًا.
سألت «زبيدة»: وهل أنتما من قارون؟
فأسرع «تومي» يقول: لنا أقاربٌ هناك.
قال «فهد»: في أي مكانٍ؟
أجاب «تومي»: بالقرب من «جزيرة حمدي»، هل تعرفُها؟
فكَّر «فهد» قليلًا قبل أن يقول: تلك التي تقع قريبة من القرن الذهبي؟
فظهرت دهشةٌ سريعة على وجه «تومي»، لكنه غطَّاها بابتسامةٍ وهو يقول: تقريبًا.
انطلقت السيارة بسرعةٍ، وكانت لحظة غريبة، ومُثيرة، فلا أحد من الشياطين يستطيع أن يُجري حوارًا صريحًا مع «أحمد»، ولذلك فقد أخذ الشياطين يتحدَّثون معًا بطريقة يفهمها «أحمد»، ويفهم منها تعليمات رقم «صفر».
كان الطريق الأسفلتي يمتد متعرجًا بين الرمال الصفراء وعندما وصلوا إلى منطقة «المفارق» قالت «زبيدة»: هذا هو طريق الفيوم. وأشارت إلى اليسار.
إلا أن السيارة ظلت في طريقها المستقيم إلى منطقة قارون، وبدأت الأراضي الزراعية، وبعد قليلٍ، ظهر «أوبرج الفيوم» ذلك الفندق القديم البديع، الذي يقع على شاطئ بحيرة قارون.
وعندما تجاوزته سيارة الشياطين قالت «زبيدة»: يجب أن نَحضُر موسم صيد البط هنا.
وأصبح الطريق يمتدُّ مُحاذيًا شاطئ البحيرة، ومن بعيدٍ ظهرت ربوةٌ عاليةٌ اسمها «جبل الزينة»، وهي منطقة مقابر، فقال «تومي» مُبتسمًا: سوف أنزل بعد هذه الربوة مباشرةً. وصمت قليلًا ثم قال: إننا نشكرُكُم تمامًا، ونتمنَّى أن نلتقي مرةً أخرى.
تجاوزت السيارة «جبل الزينة» ثم توقفت. نزل «تومي» وتبعه «أحمد»، وظلَّا واقفَين يُشيران للشياطين حتى انطلقت السيارة.
نظر «أحمد» حوله ثم قال: إن المنطقة لا يبدو فيها أثرٌ لمكانٍ!
قال «تومي» بفرحٍ: لا تقلق سوف نسير قليلًا. مدَّ يده، وأشار في خطٍّ مستقيمٍ إلى مجموعة أشجار مرتفعة، تبدو بعيدًا، وقال: هل ترى هذه الكتلة من الأشجار؟ إنها «جزيرة حمدي».
كان «أحمد» يعرف المنطقة جيدًا، لكنه كان يَترك «تومي» ليقول كلَّ ما عنده.
بدأ «تومي» يتحدث: الآن، سوف أقول لك كلُّ شيءٍ، إننا هاربان معًا من السجن ومصيرنا واحد؛ أي إننا أصبحنا زملاء، حتى لو رفضنا ذلك … وصمت قليلًا، وهو ينظر إلى الأمام وكأنه يتخيَّل شيئًا … ثم قال: إنني أعتقد أنك سوف تنال الإعجاب، فكلُّ الأعضاء على مستوى طيبٍ من الأداء، والتصرف، وأنت تملك هذه الإمكانيات، سوف تَهرب خارج مصر، دون أن يشك فيك أحد، وحتى لو وقف رجال الأمن المصريون في كل المنافذ، فسوف تخرج؛ إن لنا أعمالنا الهامة.
كانا قد سارا أكثر من كيلومترين، وبدأ «تومي» يشعر بالتعب، قال: فلنَسترِح قليلًا، ثم نستمرُّ، إننا في منطقة الأمان.
كانا يقفان عند ربوةٍ مُتوسِّطةٍ تُطلُّ على بحيرة قارون، وجلس «تومي» على الأرض ومدَّ رجليه في الهواء، وقال: اجلس، لا يوجد أمتع من الحرية!
كان «أحمد» يفكِّر، إن كلمات «تومي» قليلةٌ، وإن كانت الكلمات الأخيرة لا بأس بها، وفكَّر أن يسأله لكنه تراجَع، جلس بجواره، وأخذ يستنشق الهواء باستمتاعٍ، ونظر له «تومي» قليلًا، ثم قال وهو يُربِّت على كتفه: إنني أثق فيك تمامًا … ولذلك، سأقول لك السر، كل شيءٍ تراه بنفسك، لكني سوف أعطيك فكرةً عن كل شيءٍ قبل أن تراه، حتى تكون مستعدًّا ومن يدري فقد نجد عملية جديدة أمامنا.
وصمت قليلًا ثم قال: إنني أعمل في عصابة دولية، وهي تحت طلب أي جهة تطلبها، وتستطيع أن تقوم بأي شيء، تخطف ناسًا لهم أهمية خاصة، وتَخطف أثرياء، وتُقيم الحروب، المسألة لها ثمن. إنَّ أي عملية يَجري الاتفاق عليها، مع إدارةٍ خاصةٍ داخل العصابة، ثم يبدأ التخطيط، ثم التنفيذ، إنني واحدٌ من فرع التزييف، يُمكن أن أُزيِّف العملات الورقية مهما كانت جنسيتها، وأزيِّف الأوراق الرسمية، والخرائط؛ فأنا خبيرٌ فيها، وسوف أقوم بتزوير باسبور خاصٍّ، حتى تخرج من مصر، هذه مسألةٌ سهلةٌ.
ونظر إلى أمواج البحيرة ثم قال: إنها عصابةٌ للإيجار، يؤجِّرها الأفراد، وتؤجرها الدول أيضًا.
في الوقت الذي كان «تومي» يتحدث، كان «أحمد» يُركِّز انتباهه تمامًا مع كل كلمة، إن هذه هي فرصته الذهبية؛ فهذه هي كل المعلومات المطلوبة. فكَّر وفكَّر هل يَلتحم مع «تومي» ويهاجم مقر العصابة هو والشياطين؟ أو أنه يجب أن ينتظر قليلًا؛ حتى يكون داخلها؟ وفي النهاية قرَّر أن ينتظر.
نظر له «تومي» وقال: هيا بنا، حتى لا يدركنا الليل.
كانت الساعة قد اقتربت من الخامسة عصرًا، وبدأت الشمس تُلوِّن الجبل حول البحيرة بألوان متعددةٍ، تجعله وكأنه لوحةٌ رائعةٌ، حتى إن «أحمد» لفت نظَر «تومي» إلى المنظر، إلَّا أن «تومي» قال: في المَقرِّ، سوف ترى الطبيعة الجميلة، وسوف آخذك في رحلات إلى الجبل. سارا صامتين فترةً، كانت «جزيرة حمدي» تقترب، حتى أصبحت أمامهما تمامًا، كانت عبارة عن مساحةٍ خضراء وسط المياه الزرقاء للبحيرة، ولم يكن يظهر منها شيءٌ، سوى هذه الكتلة الخضراء التي يربطها بالطريق الأسفلتي طريقٌ ضيقٌ.
وعندما اقتربا منه، ظهر حارس يلبس الملابس البلدية، سأل: إلى أين؟
قال «تومي»: ع ١٣ م!
قال الحارس: لحظة واحدة.
اختفى الحارس عدة دقائق بين أشجار الورد التي تُخفي أي شيء، ثم عاد، وهو يقول باحترام: لحظة واحدة.
لم تمر دقائق، حتى ظهرت سيارة مُسرعة آتية من أعماق الجزيرة، ثم توقفت، ونزل منها رجل متوسِّط السنِّ صاح عندما رأى «تومي»: «كواتسوا» أخيرًا!
تعانقا، وقال «تومي»: هذا صديقي «حامد» يا مستر «دوك».
نظر «دوك» إلى «أحمد» ومدَّ يده مُحيِّيًا، وهو يقول: ما دام صديقك فهو صديقنا … هيا، هيا!
ركبوا السيارة التي دارت داخل الحديقة الواسعة التي تقع في مقدمة الجزيرة، ثم اتجهت إلى الداخل، وظلت تسير بين النباتات، بينما كان «تومي» يُقدِّم تقريرًا سريعًا إلى «دوك» عن «أحمد»، وكيف عاوَنَه في الهرب … وكان «أحمد» يبدو مُستغرقًا في مشاهدة ما حوله لكنه في الحقيقة كان يستمع إلى كل الكلمات التي قيلَت، ثم توقفت السيارة، أمام فيلَّا أنيقة، وقال «دوك»: تفضلا! ثم ابتسم ﻟ «أحمد» وقال: أهلًا يا سيد «حامد»!
تقدموا إلى داخل الفيلَّا، كانت هادئة تمامًا، حتى إنها تبعث على الريبة، ودخلوا في صالون متَّسع، له شرفات زجاجية تطلُّ على البحيرة، فقال «تومي»: ما رأيك يا صديقي «حامد»، أليست لوحة رائعة؟! فأبدى أحمد حماسَه الشديد للمكان، فقد كان غاية في الجمال فعلًا، وسأل «دوك»: أظنُّكما مقتولان جوعًا!
وضغط على زرٍّ بجواره، فدخل خادمٌ ضخمٌ، قال له بضع كلماتٍ فانصرف.
نظر إلى «أحمد» وقال: أظنُّ أنكما في حاجةٍ إلى تجديد نشاطكما بحمَّامٍ ساخنٍ، هيَّا!
وضغط زرًّا فجاء خادمٌ آخر، ألقى إليه أوامره، ثم أشار إلى «أحمد» الذي تبعه، فصعد سلمًا، ثم فتح الخادم بابًا، وأشار إليه، فدخل وأغلق الباب.
وقف «أحمد» يَستطلِع المكان حوله، وكان عبارة عن حجرةٍ واسعةٍ، تُطلُّ على البحيرة، وتقع فوق الصالون الأسفل تمامًا، وعلى يساره رأى حمَّامًا أنيقًا، تجوَّل في الحجرة قليلًا وفتح الدولاب، فوجد ملابس متعدِّدة الأحجام والألوان، وفكَّر: هل يُرسل رسالة إلى الشياطين؟ لكنه قال لنفسه: ربما أكون مراقبًا الآن … يجب تأجيل ذلك إلى ما بعد.
أخذ حمامًا ساخنًا، فاستعاد نشاطه فعلًا، وفتح الدولاب وبدأ يختار بعض الملابس التي تُلائمه، فجأةً سمع صوتًا يقول: إن بينها ما يُناسبك. توقفت يده لحظةً، ثم استمرَّ، لقد تأكد أنه مراقبٌ الآن وقال في نفسه: كان يُمكن أن أكشف نفسي، لو أرسلت أي رسالةٍ للشياطين.
لبس ملابسه، وعندما كان يخطو في اتجاه الباب، أحسَّ بدفءِ جهاز الاستقبال الدقيق المثبَّت فوق صدره، وعرف أن هناك رسالةً ما. توقف لحظةً سريعةً، لكنه استمرَّ في مشيته حتى لا يكشف أمره، وفي نفس الوقت كان يُركِّز ذهنه تمامًا في الرسالة، وهو ينزل درجات السلم إلى الطابق الأول، وعندما كان يدخل حجرة الطعام، حيث كان «تومي» في انتظاره، كان قد استقبل الرسالة، وعرف ما سوف يفعله.
قال «تومي» في مرح: ما رأيك؟
ابتسم «أحمد» وهو يردُّ: رائع!
قال «تومي» سوف ترى ما يُعجبك، وسوف تشعر بالسعادة بيننا!
ثم استغرقا في الأكل، وكان «أحمد» يفكر في الرسالة التي وصلته …
كانت الرسالة تقول: ثبِّت جهاز الإرسال في أي مكانٍ في الفيلَّا، وانتظر.
كان الجهاز الدقيق موجودًا تحت إبطه، وفكَّر: عندما أدخل الحمام لأغسل يدي، سوف أنقله من جيبي لأضعه في أيِّ مكانٍ في اللحظة المناسبة.
انتهى من طعامه، وكان «تومي» لا يزال يأكل، قام إلى الحمَّام، فغسل يديه بسرعةٍ، ثم أخرج الجهاز ووضعه في جيبه، وفكَّر في نفس الوقت: أرجو ألَّا أكون مراقَبًا.
عاد إلى حيث كان «تومي» الذي انتهى من طعامه فقال: لقد امتلأتُ حتى النهاية، ثم ضحك، وأضاف: انتظرني في الصالون. فأخذ طريقه إلى الصالون الذي كان خاليًا، واقترب من الشرفة العريضة التي تُطلُّ على البحيرة.
كانت هناك كنبة كبيرة تقع أمامها، فوقف، وكأنه قد استغرق في تأمُّل البحيرة وقت الغروب الذي كان قد بدأ يزحف إلى الوجود، وفي هدوءٍ، أخرج الجهاز، وثبَّته خلف مسند الكنبة، وعندما كان يضغط عليه، جاءه فجأةً صوت «دوك» يقول: ما رأيك؟ أليس منظرًا بديعًا؟!
استدار في هدوءٍ وهو يقول: إنه بديعٌ بلا شك!
ثم ابتعد عن الكنبة، وجلس «دوك» وأخذ يتحدَّث أحاديث كثيرة عن الحياة في هذا المكان، ورحلات الصيد التي يَخرج فيها، حتى دخل «تومي» مبتهجًا، وهو يقول: نحتاج لحفلٍ صغير الليلة، نقدِّم فيه صديقنا «حامد» إلى بقية الزملاء.
فقال «دوك» بهدوءٍ: إنهم في الانتظار، وتكريمًا لصديقنا «حامد»، فإن الحفلة سوف تكون في القاعة السريَّة.
وقف «دوك» قائلًا: هيا بنا!
تقدَّم، فتبعه «تومي» ثم «أحمد»، خرجوا إلى الحديقة، فركبوا السيارة، كان يقودها «دوك»، ودارت نصف دورة، ثم أخذت طريقها في جوف الليل، في اتجاه البحيرة، وكأنهم سوف ينزلون فيها، كان صوت الموج يقترب أكثر فأكثر، ولم يكن يظهر في الظلام إلَّا النباتات تحت شعاعَي الضوء الخارجان من السيارة.
فجأة، توقفت السيارة ثم سلَّطت أضواءها على مبنًى مُستدير، وقال «دوك»: هذه هي.