لمحة عامة عن شبه الجزيرة الأيبيرية
وكان الجغرافيون القدماء يقسمون الكرة الأرضية إلى مناطق سبع، وبحسب هذه المناطق تكون أسبانية وجزائر البحر المتوسط مثل سردانية وصقلية وكريت وقبرص، وكذلك البلاد الشامية والعراقية، منطقة واحدة. وقد شاهدت شمالي المغرب فرأيته لا يفترق عن جنوبي أسبانية. وكيف يختلف عنه وكل الفاصل بينهما مضيق لا يتجاوز في بعض الأماكن أكثر من مسافة ١٥ كيلو مترًا؛ وهذا الفاصل قد جرى الماء فيه حديثًا بالنسبة إلى الأدوار الجيولوجية. وأنت إذا نظرت إلى شكل الأرض في الجزيرة الخضراء وجبل طارق، من جهة، وإلى شكلها في طنجة وجبل موسى وسبتة تجده واحدًا، فهي بقعة خرقها الماء من الأوقيانوس الأطلانطيقي إلى البحر المتوسط فجعلها شطرين، ولكن لم ينزع من كل من الشطرين وحدته الطبيعية مع الآخر. وقد قيل لي: إن في برية جبل طارق نوعًا من القردة قديم الوجود فيها، وهذا النوع نفسه يسكن في جبل موسى المقابل لجبل طارق وذلك من جهة أفريقية.
إن شبه الجزيرة الأيبيرية لا يتصل بأوروبا إلا ببرزخ، هو جبال البرانس، وهي جبال شهيرة متوسط ارتفاعها سبعمائة متر عن سطح البحر تتكسر على أذيالها أمواج البحر المتوسط من الشرق والأطلانطيقي من الغرب، وقد حفرت المياه على منحدريها سواء من جهة الشرق أو من جهة الغرب مسلانًا لا تحصى وأنهارًا تتدفق وجرّدت صخورها من التراب الذي لا يزال يجحف به السيل من عشرات الآلاف من السنين.
وكثيرًا ما تتجاور الشقوة مع السعادة ويسكن الخير مع الشر في بيت واحد، فإن هذه المنطقة هي مع زلازلها أخصب بقاع أسبانية، ناهيك بمرج غرناطة وبساتين مالقة وجنان مرسية ولورقة وغيضة نخيل ألش وحقول القنت، وأخيرًا غوطة بلنسية التي تضارع غوطة دمشق. وبالاختصار هذا الخط البديع الذي فوقه الماء وتحته النار والذي هو بين الشمس والأمطار قد بسقت فيه عظام الأشجار وتهدلت فوقها أصناف الثمار، وهو لجيد الجزيرة الأيبيرية كالعقد لجيد الحسناء بلا إنكار.
(١) اسم الجزيرة الأيبيرية
(٢) اسم الجزيرة الأندلسية
قلنا أن هذا الاسم لا يزال يطلق إلى الآن على ولايات أسبانية الجنوبية، مثل قرطبة وأشبيلية وغرناطة ورندة ومالقة وما جاورها. ولننظر الآن إلى ما قاله مؤرخو العرب في أصل اشتقاق لفظة الأندلس:
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان:
الأندلس يقال بضم الدال وفتحها وضم الدال ليس إلا، وهي كلمة عجمية لم يستعملها العرب في القديم وإنما عرفتها العرب في الإسلام وقد جرى على الألسن أن تلزم الألف واللام. وقد استعمل حذفها في شعر ينسب إلى بعض العرب فقال عند ذلك:
ثم أخذ ياقوت يبحث في بناء اللفظة ومكانها من الأوزان العربية وكيف أنه لا يوجد لها وزن في هذه اللغة، بحثًا ليس له طائل، لأن هذه لفظة أندلس هي أعجمية من أصلها كما قال هو فلا حاجة لعرضها على وزن عربي. ولم يقل ياقوت مصدر هذه اللفظة كما ذكر غيره، ولكن نقل المقري في نفح الطيب عن ابن سعيد أنها إنما سميت بالأندلس لأن هذا الاسم هو اسم ابن طوبال بن يافث بن نوح الذي نزلها كما أن أخاه سبت بن يافث نزل العدوة المقابلة لها وإليها تنسب مدينة سبتة (؟) قال: وقال ابن غالب: إنه أندلس بن يافث والله تعالى أعلم.
(٣) ما قاله دوزي عن اشتقاق اسم الأندلس
(٤) تخطيط الجزيرة الأندلسية
وقال لاوي بروفنسال في كتابه «أسبانية الإسلامية في القرن العاشر»: إن جغرافيات العرب لم ترد فيها تفاصيل كافية شافية عن الأندلس، ونحن مضطرون أن نقتنع بالموجود بين أيدينا منها، مثل كتاب الهمذاني الذي كتب في حوالي سنة ٩١٠ مسيحية، وكتاب الأصطخري الذي تاريخه ٩٢١ مسيحية، أي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر، وابن حوقل الذي أكمل جغرافيته سنة ٩٧٦ والمقدسي الذي كتب كتابه في أحسن التقاسيم. بعد ابن حوقل، فالأصطخري ذكر أن أهم مدن الأندلس في أيامه كانت شنترين، وجبل طارق، وطليطلة، ووادي الحجارة، ورية، وفحص البلوط، وقورية، وماردة. وقال: إن أهم الثغور لذلك العهد كانت ماردة ونقزة ووادي الحجارة وطليطلة. وأما المقدسي فأحصى ثماني عشرة كورة للأندلس (سيأتي كلام المقدسي بحروفه نقلًا عن الأصل).
أما محمد بن أحمد الرازي الأندلسي فله تاريخ وجغرافية للأندلس، لا يوجد لهما سوى ترجمة باللغة الأسبانية القشتالية، عن ترجمة برتغالية، عن الأصل العربي الذي كتب في أوائل القرن الرابع عشر، وقد أمر بهذه الترجمة إلى البرتغالية دنيس ملك البرتغال. وكتاب الرازي هذا كان عمدة ياقوت الحموي عن الأندلس. وبحسب كلام الرازي كانت الأندلس إحدى وأربعين كورة: قرطبة، وقبرة، والبيرة، وجيان، وتدمير، وبلنسية، وطرطوشة، وطراكونة، ولاردة، وبرباطانية، ووشقة، وتطيلة، وسرقسطة، وباروشة، ومدينة سالم، وشنتبرية، وراقوبيل، وزوربته، ووادي الحجارة، وطليطلة، وأوبيط، وفحص البلوط، وفريش، وماردة، وبطليوس، وبيجه، وأقشنوبه، وشنترين، وقويمره، وأكشيتانية، ولشبونة، وأشبيلية، وقرمونة، ومورون، وشذونة، والجزيرة، ورية، وأسجه، وناكرونه. وأما الإدريسي الذي كتب جغرافيته في القرن الثاني عشر فالأندلس عنده ستة وعشرون إقليمًا — وهو تقسيم جغرافي ليس بسياسي ولا إداري — وهذه الأقاليم هي: البحيرة، وشذونة، وجرف، وقنبانية، وأشونه، ورية، والبشرات، وبجانه، والبيرة، وقريرة، وتدمير، وقونسه، وأرجيرة، ومربيطر، والقواطم، والفلجه، والبلالطة، والفخر، وقصر أبي دنيس، والبلاط، وبلاطة، والشارات، وأرنيده، والزيتون، والبرتات، ومرمرية. قال: وقد رأينا أن الشاميين نزلوا في البيرة، وأن أهل الأردن نزلوا مالقة، وأن أهل فلسطين نزلوا في شذونة، وأن أهل حمص نزلوا في أشبيلية، وأن أهل قنسرين سكونوا جيَّان، وأن أهل مصر كانوا في بيجة ومرسية، فكانت هذه المدن في زمن الخلافة الأموية أمصارًا. وأما سائر الكور فتشكلت فيما بعد، مثل كور الجنوب العربي، وهي: مورون، ولبلة، وماردة، وشنترين، وناكرونه، ورية، وبجانه، أي رندة، ومالقة، وأطرية. وسنة ٣٥٠ عندما تولى الحكم المستنصر كانت الثغور خطًا منحنيًا مارًا بالقسم الشمالي من الأندلس من شرقيه إلى الغرب، يبتدئ من جنوبي برشلونة ويمتد شمالًا بغرب، وذلك من عند بربشتر ووشقة، ثم يتصل بوادي إبره شمالي تطيلة، ثم يصعد من هذا الوادي إلى هارو، ثم يعود فينحني صوب الجنوب تابعًا مجرى الوادي الجوفي أي دويره، إلى المحيط الأطلانتيكي بعد أن يمر بالمدن التالية: أشمه، وسيمنكاس، ورموره، ولاميغو، وبورته. وأما المسعودي فيقول في مروج الذهب الذي تاريخه سنة ٣٢٧ للهجرة: إن الثغر الشمالي يمتد من طرطوشة إلى أفراغة إلى لاردة.
انتهى وسيأتي كلام المسعودي بحروفه.
(٥) عدد سكان أسبانية
لاشك أن العصر الذي بلغت فيه أسبانية ذروة نموها هو العصر الروماني، فقد قيل أنه كان فيها أيام الرومان من ثلاثين إلى أربعين مليون نسمة. ولكن لم يوجد وثائق تاريخية تؤيد بلوغ أهالي الجزيرة الأيبيرية هذا العدد. ثم أنها كانت في نمو عظيم أيام العرب، يستدل على ذلك بكثرة مدنها الحافلة لعهد العرب، فقد كان فيها نحو من أربعين مدينة عربية، ومنها قرطبة التي أحزر عدد سكانها بنحو من مليوني نسمة، كما سيأتي الكلام في هذا المبحث. إلا أنه مع الأسف لا يوجد عندنا وثائق يعرف منها بالضبط عدد المسلمين الذين كانوا في أسبانية لعهد الناصر مثلًا ولا عدد مجموع السكان من مسلمين ومسيحيين في ذلك العصر.
ومن باب الحزر والتخمين أقول إنه يمكن أن يكون عدد مسلمي الأندلس لعهد الناصر والمستنصر أقل من خمسة عشر مليونًا. ولما أجلى الأسبانيول المسلمين واليهود هبط عدد سكان أسبانيا، لهذا السبب ولسبب آخر هو كشف أميركة التي هاجروا إليها، هبوطًا عظيمًا. ففي سنة ١٥٩٤ كان عدد سكان أسبانية نيفًا وثمانية ملايين، ومضى على ذلك قرنان ولم يزدد عدد الأهالي أكثر من مليون واحد، ففي سنة ١٧٦٨ كان في أسبانية تسعة ملايين ومائة وستون ألفًا من السكان، ثم ازداد هذا العدد في زمن آل بربون إلى عشرة ملايين، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر. وسنة ١٨٣٢ كانوا أحد عشر مليونًا، وسنة ١٨٤٩ كانوا ١٤ مليونًا، وفي أوائل هذا القرن العشرين صاروا ٢١ مليونًا، والآن هم ٢٢ مليونًا و٣٣٨ ألفًا.
ومعدل كثافة السكان بالنسبة إلى مساحة الأرض هو ٤٠ نسمة في الكيلومتر الواحد، هذا بالتعديل المتوسط. وأسباب عدم تزايد السكان كما في الممالك الأخرى، لا تنحصر في المهاجرة، بل هناك أسباب أخرى، مثل عدم التناسب في توزيع الأراضي، ومثل فدح الضرائب، ومثل التعامل بالربا، ومن جملة هذه الأسباب ندور الحراج والغابات، فالناس يرحلون إلى أميركة من الفقر ولا سيما من بلاد البشكونس ولاردة ووشقة وجيرونة. وأكثر الذين يرحلون من الجنوب هم أهالي المرية والقنت، ففي السنة يرحل زهاء مائتي ألف، وهم يرحلون إلى المكسيك والأرجنتين وسائر أمريكا. ومنهم من يرحل إلى المغرب وإلى الجزائر. وفي عمالة وهران ١٧٥ ألف أسبانيولي.
هوامش
ثم إنه طرأ على أسبانية جاليات يونانية نزلت في أقسامها الشرقية، وتلاها جاليات رومانية غلبت على جميعها، وفي أثناء ذلك دخلها العنصر السامي أيضًا بمجيء عدد كبير من اليهود.
وبعد أن تلاقى فيها الأيبيريون والسليتون واللاتينيون واليونانيون من السلائل الأوربية، والقرطاجنيون والفينيقيون واليهود من السلائل الآسيوية، طرأت على أسبانية أمم جرمانية مثل السويف، والألانيين والفندالس والقوط الذين ملكوها وكانوا الطبقة السائدة فيها عندما فتحها العرب.
ولما جاء العرب دخلها ملايين منهم ومن البربر، فاختلطت آسيا وأفريقية بأوروبا اختلاطًا شديدًا، وصار الغالب على أسبانية هو المدنية الشرقية، ولا عبرة بما جرى من إجلاء العرب والبربر فيما بعد، فإن هؤلاء قد بقي منهم في الجزيرة عدد كبير اندمجوا في الأهالي في جميع المقاطعات ودانوا بالنصرانية ولا يوجد في أسبانية مكان يخلو منهم حتى أن القشتاليين الذين هم أقل أهل أسبانية اختلاطًا بالعناصر الشرقية والذين يمثلون السلالة الأيبيرية القديمة لا يخلون من عنصر دخيل من العرب والبربر.
وعلى وجه الإجمال السلالة الآرية هي الغالبة على القسم الشمالي الغربي من أسبانية ولذلك أجسامهم أقوى وعضلاتهم أصلب. ومنهم القشتاليون الذين يعدون أنفسهم محرري البلاد، ففي أنوفهم نعرة شديدة. ومثل القشتاليين في حمية الأنوف أهل أراغون وأهل مقاطعة مرسية. أما الكتكلونيون فهم أهل صناعة وعمل، ولا يفترقون كثيرًا عن أهل اللفدوق في جنوبي فرنسا لأنهم جيرانهم. وأما سكان الأندلس أي المقاطعات الجنوبية فيغلب على أهلها الذكاء والجمال والسرور وحب الترف، وذلك لأنهم من بقايا العرب وممن كان اندمج في العرب.ا.ﻫ. تلخيصًا عن جوسه صاحب جغرافية أسبانية والبرتغال.
وهناك توجيه آخر لاسم أسبانية، وهو أن أشبيلية كانت في القدم مستعمرة أيبرية، وكان يقال لها «هيسباليس» Hispalis ولم تلبث أن صارت عاصمة «باتيكا» أي أسبانية الجنوبية، فلا عجب أن اشتق اسم أسبانية من هيسباليس لأن اللام والنون كثيرًا ما يحصل التبادل بينهما ولا تنس أن أصل البلاد التي يقال لها إسبانية هو الجنوب من إسبانية الحالية وأن اسم أسبانية لم يشمل شمالي الجزيرة الأيبرية إلا حديثًا فلا يبعد أن يكون اسم أشبيلية القديم شمل البلاد التابعة لها، وكثيرًا ما تسمت المملكة باسم العاصمة.
وهذا التوجيه هو الذي ظهر لمحرر هذه السطور ولم أجده في كتاب وقد كاشفت الأستاذ المدقق السيد محمد علال الفاسي من آل الجد وهو من ثقوب الذهن وأصالة الرأي وسعة الاطلاع بالمكان الذي يعرفه له كل من عرفه فأجابني بما يلي: إن المحدثين تكلموا عن مصدر اشتقاق هذا الاسم «أسبانية» فذهب بعضهم إلى أنه مأخوذ من لفظة «شافان» السامية ومعناها الأرنب وهو الحيوان المعروف قيل لأن الفينيقيين وجدوه بكثرة هناك. ويظن الآخرون أنها سميت «أسبانية» من لفظة «أزبانيا» وهي لفظة باسكية معناها «شاطئ» ونفسي تطمئن لهذا التعليل لأنه منطبق تمامًا على حال الجزيرة وليس فيه ثغر كبير. أما كونها سميت أسبانية باسم أشبيلية التي كانت تدعى «هيسباليس» فغير متعين لأني أظن أن هذه اللفظة كانت من قبل، أي بعد سقوط مملكة القرطاجنيين، علمًا على شبه الجزيرة كلها وأن أشبيلية كانت معروفة عند الفينقيين باسم «سيفيلا» والرومان هم الذين أبقوا اسم المملكة على خصوص هذه المدينة اﻫ فرأي السيد علال هو إذًا اشتقاقها من أزبانيا بمعنى شاطئ والله أعلم.
La rénniment et la tressent à la maniére des Arabes de Douab. أي يجمعونها ويضفرونها على نسق أعراب بلاد دواب!
وجاء في كلام الإدريسي عن أحد الظالمين أنه «مسخ» وهو فعل مبني للمجهول فلم يفهم جوبر لفظة «مسخ» وظنها اسم علم وترجمها هكذا On dit que cest masth بدلًا من أن يقول il fut métamorphosé ووقع جوبر في أغلاط كثيرة من هذا النمط، أتينا بأمثلة منها استدلالًا على خبط بعض المستشرقين، ولكن بعض هؤلاء تعقبوا جوبر هذا في ترجمته السقيمة هذه، ومن هؤلاء «كاترمار» Quatremére ومنهم دوزي. إلا أن كاترمار وإن أصاب في أكثر ما تعقب به جوبر فقد أخطأ في بعضه مثل أن أكثر خشب مسجد قرطبة هو من الصنوبر الطرطوشي، فذهب كاترمار إلى أن الطرطوشي هنا لا محل له وأنه قد يكون محرفًا عن لفظة «مرصوص» والحال أنه هو الصنوبر الطرطوشي المنسوب إلى طرطوشة Tortose الموصوفة بجودة الصنوبر والتي فيها دار صنعة للسفن بسبب متانة خشبة صنوبرها.
وقد كانت ترجمة دوزي «لنزهة المشتاق في اختراق الآفق» عن نسخة مخطوطة في مكتبة باريز، وأخرى في مكتبة أكسفورد، وفي كلتيهما أغلاط نسخ تحير دوزي وغير دوزي في ردها إلى الأصل. وأما على وجه الإجمال فقد كان اجتهاد دوزي برغم بعض آراء تعسف فيها مما أزاح الستار عن أكثر حقائق العلم بالأندلس سواء من جهة تاريخها أم من جهة جغرافيتها، وذلك في نظر الأوربيين الذين لم يكونوا يعلمون عنها من قبله إلا معلومات ناقصة وأخبارًا مشوهة ولم تكن لهم عنها إلا آراء مشوبة بأهواء رجال الكنيسة.