أقوال العرب عن جغرافية الأندلس
(١) قول ابن حوقل
وللزهراء أيضًا مسجد جامع دون جامع البلد في المحل والقدر والكبر، وعلى سورها سبعة أبواب حديد، وليس لها نظير بالمغرب فخامة حال، وسعة تملك، وابتذالًا لجيد الثياب والكسى، وفراهة كراع، وكثرة حلي، وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع، فليس لجيوشهم حلاوة في العين، ولا علم بأفانين الفروسية وقونينها، ولا بالشجاعة وطرقها. وأكثر ظفر جيوشهم في القتال بالكيد، ومما يدل على ذلك أني لم أر قط بها أحدًا أجرى فرس فاره أو برذون هجين، ورجلاه في الركب، ولا يستطيعون ذلك، ولا بلغني عن أحدهم، وكل ذلك لخوفهم من السقوط إلى فشل فيهم عند لقائهم وتواطؤهم على نزع أرجلهم من ركبهم، ولم تطبق قط جريدة عبد الرحمن، ولا من سبقه من آله، خمسة آلاف فارس، فمن يقبض رزقه ويختم عليه ديوانه لأنه مكفي المؤونة بأهل الثغور، مما ينوبه من كيد العدو الذي يجاوره من الروم، ولا عدو عليه سواهم، وقلما يكترث لهم، وربما طرقه في الأحايين مراكب الروس والترك والصقالبة والبجناكية، وهم جيل من أجيال الترك المجاورين لأرض الخزر والبلغار، فأنكوا في أعمال الأندلس وربما انصرفوا خاسرين.
ومن قلعة رباح إلى «ملقون» مرحلة، وهي مدينة على نهر، لها سور من تراب، وهي دون قلعة رباح في الكبر، ونهرها يعرف باسمها، ومنه شرب أهلها. ومنها إلى «أبلش» مرحلة، وهي قرية فيها فندق وعين منها شربهم آهلة، ومن أبلش إلى طليطلة مرحلة، وطليطلة مدينة كبير جليلة مشهورة، أكبر من بجانة، ذات سور منيع، وهي على وادي تاجه، وعليه قنطرة عظيمة، ويقال إن طولها خمسون باعًا، ويصير واديها إلى الوادي المنصب إلى شنترة.
(٢) قول ياقوت الحموي
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان:
(٣) قول الشريف الإدريسي
وقال الشريف الإدريسي في كتابه «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» وهو أشهر جغرافية عربية – الكلام الآتي:
وبمدينة سبتة مصايد للحوت ولا يعدلها بلد في إصابة الحوت وجلبه، ويصاد بها من السمك نحو من مائة نوع، ويصاد بها السمك المسمى بالتنين الكبير، وصيدهم له يكون زرقًا بالرماح وهذه الرماح لها في أسنتها أجنحة بارزة تنشب في الحوت ولا تخرج، وفي أطراف عصيها شرائط القنب الطوال، ولهم في ذلك دربة وحكمة سبقوا فيها جميع الصيادين.
ومدينة مليلة مدينة حسنة متوسطة ذات سور منيع وحال حسنة على البحر، وكان لها قبل هذا عمارات متصلة وزراعات كثيرة، ولها بئر فيها عين ألزلية كثيرة الماء ومنها شربهم، ويحيط بها من قبائل البربر بطون بطوية.
ومن مليلة إلى مصب الوادي الذي يأتي من «آقرسيف» ٢٠ ميلًا، وأمام مصب هذا النهر جزيرة صغيرة. ويقابل هذا الموضع من البرية مدينة «جراو» ومن مصب وادي آقرسيف إلى مرسى «تافركنيت» على البحر، وعليه حصن منيع صغير ٤٠ ميلًا. ومن تافركنيت إلى حصن تابحريت ثمانية أميال، وهو حصن حصين، حسن عامر آهل وله مرسى مقصود. ومن تابحريت إلى «هنين» على البحر ١١ ميلًا ومنها إلى «تلمسان» في البر ٤٠ ميلًا. وفيما بينهما مدينة «ندرومة» وهي مدينة كبيرة عامرة آهلة، ذات سور وسوق، موضعها في سند، ولها مزارع ولها واد يجري في شرقيها، وعليه بساتين وجنات وعمارة وسقي كثير.
وهنين مدينة حسنة صغيرة في نحر البحر، وهي عامرة، عليها سور متقن وأسواق وبيع وشراء، وخارجها زراعات كثيرة، وعمارات متصلة، ومن هنين على الساحل إلى مرسى «الوردانية» ستة أميال، ومنها إلى جزيرة «القشقار» ثمانية أميال، ومنها إلى جزيرة «إرشقول» ويروي «أرجكون» وكانت فيما سلف حصنًا عامرًا له مرسى وبادية وسعة في الماشية والأموال السائمة، ومرساها في جزيرة فيها مياه ومواجل كثيرة للمراكب، وهي جزيرة مسكونة، ويصب بحذائها نهر ملوية ومن مصب الوادي إلى حصن «أسلان» ستة أميال على البحر، ومنه إلى طرف خارج في البحر ٢٠ ميلًا، ويقابل الطرف في البحر جزيرة الغنم، وبين جزائر الغنم وأسلان ١٢ ميلًا. ومن جزائر الغنم إلى بني وزار ١٧ ميلًا، وبنو وزار حصن منيع في جبل على البحر، ومنه إلى «الدفالي» وهو طرف خارج في البحر ١٢ ميلًا، ومن طرف الدفالي إلى طرف «الحرشة» ١٢ ميلًا، ومنه إلى «وهران» ١٢ ميلًا. وقد ذكرنا وهران وأحوالها فيما صدر من ذكر الإقليم الثالث، والله المستعان.
فلنرجع الآن إلى ذكر الأندلس ووصف بلادها، ونذكر طرقاتها، وموضوع جهاتها، ومقتضى حالاتها، ومبادئ أوديتها، ومواقعها من البحر، ومشهور جبالها وعجائب بقعها، ونأتي من ذلك بما يجب بعون الله تعالى فنقول:
ومدينة طليطلة كانت في أيام الروم مدينة الملك ومدارًا لولاتها، وبها وجدت مائدة سليمان بن داود، مع جملة ذخائر يطول ذكرها. وما خلف الجبل المسمى بالشارات في جهة الجنوب يسمى أشبانية، وما خلف الجبل في جهة الشمال يسمى قشتالة. ومدينة طليطلة في وقتنا هذا يسكنها سلطان الروم القشتاليين.
ومدينة لبلة مدينة حسنة أزلية، وهي متوسطة القدر، ولها سور منيع، وبشرقيها نهر يأتيها من ناحية الجبل، ويجاز عليه في قنطرة إلى مدينة لبلة. وبها أسواق وتجارات ومنافع جمة. وشرب أهلها من عيون في مرج من ناحية غربيها. وبين مدينة لبلة والبحر المحيط ستة أميال.
ومدينة شنت ماريه على معظم البحر الأعظم، وسورها يصعد ماء البحر فيه إذا كان المد، وهي مدينة متوسطة القدر، حسنة الترتيب، لها مسجد جامع ومنبر وجماعة وبها المراكب واردة وصادرة، وهي كثيرة الأعناب والتين.
وهذه الكنيسة من عهد الروم إلى اليوم لم تتغير عن حالها، ولها أموال يتصدق بها عليها، وكرامات يحملها الروم الواردون عليها، وهي في طرف خارج في البحر وعلى رأس الكنيسة عشرة أغربة لا يعرف أحد فقدها وعهد زوالها، وقسيسو الكنيسة يخبرون عن تلك الأغربة بغرائب يتهم المخبر بها ولا سبيل لأحد من المجتازون بها أن يخرج منها حتى يأكل من ضيافة الكنيسة، ضريبة لازمة وسيرة دائمة، لا ينتقلون عنها ولا يتحولون عنها، وورثها الخلف عن السلف، أمر معتاد متعارف دائم، والكنيسة في ذاتها كنيسة عامرة بالقسيسين والرهبان، وبها أموال مدخرة، وأحوال واسعة وأكثر هذه الأموال محبسة عليها في أقطار الغرب وبلاده وينفق منها على الكنيسة وخدامها وجميع من يلوذ بها، معما يكرم به الأضياف الواردون على الكنيسة المذكورة، قلوا أو كثروا.
وفضائل أهل قرطبة أكثر وأشهر من أن تذكر، ومناقبهم أظهر من أن تستر، وإليهم الانتهاء، في السناء والبهاء، بل هم أعلام البلاد، وأعيان العباد، ذُكروا بصحة المذهب، وطيب المكسب، وحسن الزي في الملابس والمراكب، وعلو الهمة في المجالس والمراتب، وجميل التخصص في المطاعم والمشارب، مع جميل الخلائق، وحميد الطرائق، ولم تخلُ قرطبة قط من أعلام العلماء، وسادات الفضلاء، وتجّارها مياسير، لهم أموال كثيرة، وأحوال واسعة، ولهم مراكب سنية، وهم عليّة، وهي في ذاتها مدن خمس، يتلو بعضها بعضًا، بين المدينة والمدينة، سور حاجز، وفي كل مدينة ما يكفيها من الأسواق والفنادق والحمامات وسائر الصناعات، وفي طولها من غربيّها إلى شرقيّها ٣ أميال، وكذلك عرضها من باب القنطرة إلى باب اليهود بشمالها ميل واحد. وهي في سفح جبل مطل عليها يسمى جبل العروس، ومدينتها الوسطى هي التي فيها باب القنطرة.
ولهذا المسجد الجامع قبلة يُعجز الواصفين وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقُها وكل ذلك من الفسيفساء المذهب والملّون، مما بعث صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن المعروف بالناصر لدين الله الأموي. وعلى هذا الوجه، أعني وجه المحراب، سبع قسي قائمة على عمد، وطول كل قوس منها أشف من قامة، وكل هذه القسيّ مزجّجة صنعة القرط وقد أعيت المسلمين والروم بغريب أعمالها، ودقيق تكوينها ووضعها. وعلى أعلى الكل كتابان مسجونان بين بحرين من الفسيفساء المذهب، في أرض الزجاج اللازوردي وتحت هذه القسي التي ذكرناها كتابان مثل الأولين مسجونان بالفسيفساء المذهب في أرض اللازورد، وعلى وجه المحراب أنواع كثيرة من التزيين والنقش، وفي عضادتي المحراب ٤ أعمدة اثنان أخضران، واثنان لازورديان لا تقوّم بمال. وعلى رأس المحراب خصّة رخام قطعة واحدة مشبوكة محفورة منمقة بأبدع التنميق من الذهب واللازورد وسائر الألوان وعلى وجه المحراب مما استدار به حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريبة.
ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعة خشب آبنوس وبقس وعود المجمر، ويحكى في كتب تواريخ بني أمية أنه صنع في نجارته ونقشه ٧ سنين، وكان عدد صناعه ستة رجال، غير من يخدمهم تصرفًا، ولكل صانع منهم في اليوم نصف مثقال محمدي. وعن شمال المحراب بيت فيه عُدد وطشوت ذهب وفضة ومسك لوقيد الشمع في ليلة ٢٧ رمضان المعظم. ومع ذلك ففي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله، فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان، وهو المصحف الذي خطه بيمينه رضي الله عنه، وفيه نقط من دمه، وهذا المصحف يخرج في صبيحة كل يوم جمعة، ويتولى إخراجه رجلان من قَوَمَة المسجد. وأمامهم رجل ثالث بشمعة، وللمصحف غشاء بديع الصنعة، منقوش بأغرب ما يكون من النقش وأدقه وأعجبه، وله بموضع المصلى كرسي يوضع عليه ويتولى الإمام قراءة نصف حزب منه ثم يرد إلى موضعه.
وعن يمين المحراب والمنبر باب يفضي إلى القصر بين حائطي الجامع في ساباط متصل، وفي هذا الساباط ٨ أبواب منها ٤ تنغلق من جهة القصر، و٤ تنغلق من جهة الجامع. ولهذا الجامع عشرون بابًا مصفحة بصفائح النحاس وكواكب النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في نهاية من الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفص المتخذ من الآجر الأحمر المحكوك، أنواعًا شتى، وأجناسًا مختلفة من الصناعات والترييش وصدور البُزاة. وفيما استدار بالجامع في أعلاه لتمدد الضوء ودخوله إلى المسقّف متكآت رخام، طول كل متكأ منها قدر قامة، في سعة ٤ أشبار في غلظ ٤ أصابع. وكلها صُنُع مسدّسة ومثمنة، مخرّمة منفوذة لا يشبه بعضها بعضًا.
ومدينة قرطبة في حين تأليفنا هذا الكتاب طحنتها رحى الفتنة، وغيّرها حلول المصائب والأحداث، مع اتصال الشدائد على أهلها، فلم يبق بها منهم الآن إلا الخلق اليسير، ولا بلد أكبر اسمًا منها في بلاد الأندلس.
ومحاسن هذه المدينة وشماختها أكثر من أن يحاط بها خُبْرًا.
ومن مدينة قرطبة إلى مدينة الزهراء ٥ أميال، وهي قائمة الذات بأسوارها ورسوم قصورها، وفيها قوم سكان بأهليهم وذراريهم، وهم قليلون، وهي في ذاتها مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى يوازي على الجزء الأوسط، وسطح الثلث الأوسط يوازي على الجزء الأسفل، وكل ثلث منها له سور. فكان الجزء الأعلى منها قصورًا يقصر الوصف عن صفاتها. والجزء الأوسط بساتين وروضات والجزء الثالث فيه الديار والجامع. وهي الآن خراب في حال الذهاب.
وأما بحر الشام الذي عليه جنوب بلاد الأندلس، فمبدأه من الغرب، وآخره حيث أنطاكية، ومسافة ما بينهما ٣٦ مجرى. فأما عروضه فمختلفة، وذلك أن مدينة مالقة يقابلها من الضفة الأخرى «المزمّة» و«قادس» وبينهما عرض البحر مجرى يوم واحد بالريح الطيبة المعتدلة. وكذلك «المريّة» يوازيها في الضفة الأخرى «هُنين» وعرض البحر بينهما مجريان. وكذلك أيضًا مدينة «دانية» يقابلها من الضفة الأخرى «تَنس» وبينهما ٣ مجارٍ. وكذلك مدينة برشلونة تقابلها من عدوة الغرب الأوسط «بجّانة» وبينهما ٤ مجار في عرض البحر، والمجرى مائة ميل.
(٤) ما قاله عن إقليم الأندلس: أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب»
ذكر الأقاليم السبعة التي كان الجغرافيون الأولون يقولون بها، فذكر الأندلس في الإقليم الثالث فقال: الإقليم الثالث حده منتهى أرض الحبشة، مما يلي أرض الحجاز، إلى نصيبين، إلى أقصى الشام، إلى البحر الذي بين أرض مصر وبين الشام إلى وسط البحر الذي يلي الأندلس مما يلي المغرب.
ثم ذكر معرفة قسمة الأقاليم لبطليموس فقال: فأما بطليموس وقدماء اليونانيين فإنهم رأوا أن طباع الأقاليم وجبلّتها لا تكون إلا طرائق من المشرق إلى المغرب، متجاورة بعضها إلى بعض، من خط الاستواء إلى حيث يقع القطب الشمالي، خمسين درجة، وهو ضعف الميل وزيادة جزءين وكسر، وقد حد في قانونه عرض كل إقليم منها وساعات نهاره الأطول، على وسطه دون طرفيه، بقول من نقل عنه، فجعل وسط الإقليم الأول مدينة سبأ بمأرب من أرض اليمن، وجعل العرض ستة عشر جزءًا وربعًا وخمسًا، وساعات نهاره الأطول ثلاثة عشر سواء، وعرض الإقليم الثاني منتهى الميل، وهو ثلاثة وعشرون جزءًا وخمسة أسداس، وساعات نهاره الأطول ثلاث عشرة ونصف، والثالث إقليم إسكندرية، وعرضه ثلاثون جزءًا وسدس وخمس جزء، وساعاته أربع عشرة، والرابع إقليم بابل، وعرضه ستة وثلاثون جزءًا وعشر، وساعات نهاره الأطول أربع عشرة ونصف. والإقليم الخامس عرضه أربعون جزءًا، وتسعة أعشار، وثلث عشر ساعة، وساعاته خمس عشرة ساعة والإقليم السادس عرضه خمسة وأربعون جزءًا ونصف وسدس عشر، وساعات نهاره الأطول خمس عشرة ساعة ونصف، والإقليم السابع عرضه ثمانية وأربعون جزءًا ونصف وثلث عشر، ونهاره الأطول ست عشرة ساعة. وقد حدّ أقاصيها وأدانيها وبعض ما تشتمل عليه من البلاد المشهورة فقال: إن الإقليم الأول يمر على وسطه من المشرق إلى المغرب على المواضع التي يكون نهارها الأطول وعرضها ما ذكرناه وابتداؤه حيث يكون نهاره الأطول اثنتي عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة، وعرضه اثنا عشر جزءًا ونصف. وانتهاؤه حيث يكون نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة وربعًا وعرضه عشرين جزءًا وربعًا، ووسط هذا الإقليم مدينة سبأ، وما كان في مثل عرضها من مواضع الأرض، وابتداؤه من المشرق من أقاصي بلاد الصين الخ.
ولما وصل إلى الإقليم الرابع قال: ويمر الإقليم الرابع على وسطه من المشرق إلى المغرب على المواضع التي يكون نهارها الأطول وعرضها ما قد ذكرناه، وابتداؤه من الموضع الذي انتهت إليه ساعات الإقليم الثالث، وعرضه إلى حين يكون نهاره الأطول أربع عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة، وعرضه ثمانيًا وثلاثين درجة. ووسط هذا الإقليم بالتقريب مدينة أصبهان من مواضع، وابتداؤه من المشرق آخر أرض الصين وتبّت وبلخ وخراسان والجبال وأرض الموصل وشمال الشام، وبعض الثغور، وبحر الشام وجزيرة قبرص، وبلاد طنجة، إلى أن ينتهي إلى حد المغرب من دون البحر المظلم. ويمر الإقليم الخامس على وسطه من المشرق إلى المغرب على المواضع التي يكون نهارها الأطول وعرضها ما قدمنا ذكره. وابتداؤه من الموضع الذي انتهى إليه عرض الإقليم الرابع، ساعاته إلى حيث يكون نهاره الأطول خمس عشرة ساعة وربعًا وعرضه ثلاث وأربعون درجة، ووسط هذا الإقليم بالتقريب مدينة مَرْو، وما كان في مثل عرضها من مواضع الأرض. فابتداؤه من المشرق داخل بلاد الترك وشمال خراسان وأذريبجان وكور أرمينية وبلاد الروم وسواحل بحر الشام الشمالية والأندلس إلى أن ينتهي إلى حد المغرب من دون البحر المظلم.
هذا ما جاء في كتاب الهمداني من جغرافي العرب وحكمائهم عن أسبانية، وأما قضية تأثير الكواكب في طباع سكان الأرض، وما نقله الهمداني عن بطليموس القلودي من هذا الباب فهو معدود اليوم من النظريات البالية، التي عدل الناس عنها، لا سيما أننا لا نراها مطردة ولا غالبة حتى نحكم بصحتها.
(٥) ما ذكره أبو العباس أحمد المقري: صاحب كتاب نفح الطيب عن بلاد الأندلس من الجهة الجغرافية
- أولها: أن الداعي لتأليفه أهل الشام، أبقى الله مآثرهم، وجعلها على مر الزمان مديدة.
- ثانيها: أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام، ذوو الشوكة والنجدة الحديدة.
- ثالثها: أن غالب أهل الأندلس من عرب الشام الذين اتخذوا بالأندلس وطنًا مستأنفًا وحضرة جديدة.
- ورابعها: أن غرناطة نزل بها أهل دمشق، وسموها باسمها، لشبهها بها في القصر والنهر، والدوح والزهر، والغوطة الفيحاء.
وهذه مناسبة قوية العرى شديدة.
قد يكون كلام المقري هذا مما لا يعجب بعض الثائرين على السجع في أخريات هذه الأيام ولكنه ذو معنى كبير، وفيه تصريح خطير، ولذلك فإن ثورة هذه الفئة على السجع، والفاصلة، ليس من شأنها أن تقل من حد رغبتنا في نقل كلام يعود على وطننا الشامي بشقص كهذا من الفخر لم يوفره لغيره ثقة كبير، كأبي العباس أحمد المقري المغربي، إن لم يكن هو حجة في أخبار الأندلس فياليت شعري من يكون هو الحجة؟! فنحن رواة عنه، ونقلة من نصوص بأسجاعها وفواصلها وحروفها وحركاتها.
فيناسب أن أعيد هنا ما كنت قلته من ٤٠ سنة، وهو منقول بالحرف عن صفحة ٦٠ و٦١ و٦٢ و٦٣ من ذلك الكتاب، طبعته الثانية بمطبعة المنار وهو هذا (تحت عنوان) «تمهيد».
- الأول: إعانة القارئ على فهم الحوادث ومعرفة المواقع، بما تُفقد بدونه لذة المطالعة.
- والثاني: ما رأيته من اختصار جرم الرواية، فآثرت إردافها بذيل يطيل من قدها، ويزيد في حجمها، ويكون فيه من حقائق الوقائع التاريخية ما لا يقصّر فكاهة عن موهوم الرواية الغرامية، فجاءت روايتنا ذيّالًا، وإن لم نرج أن تكون طاووسًا، وليست هذه أول مرة جرّت فيها الروايات أذيالًا، واتخذت القصص أذنابًا طوالًا.
وما أقصد بهذا الذيل استقصاء تاريخ الأندلس الإجمالي إلا ما اضطر إليه مساق الكلام. فقد كنت منذ نشأتي ممن لا يحبون التأليف فيما كثر فيه التأليف، وطال فيه المقال كأنما أعده تكرارًا لسابق، أو إعادة لصدى، وأراه خلوًا من كل براعة. وأخبار الأندلس مستفيضة في التواريخ شرقًا وغربًا، ومعروفة عند الأدباء بما لا يكون التأليف فيه سوى زيادة في عدد الكتب. وإنما يستحب الإنشاء في ما ندر فيه الكلام وعز البحث، وطمست الأعلام فإذا قرأته العامة، بل الخاصة، سقطت منه على جديد ذي طلاوة، ولم تسأمه النفوس، لعدم تداولها مطالعته المرة بعد الأخرى مدارسة كتب القواعد التي لا تتغير.
فأشد الأقسام عوزًا إلى البحث من تاريخ هذه البلاد — التي لا نزال نحسبها عربية لكون أحسن أيامها ما كان من أيام العرب فيها — إنما هو القسم الأخير، وأحوج طائفة من أخبارها إلى التدوين ما تعلق بدور الجلاء، وعصر الخروج من بلاد كانت مدة الضيافة فيها ثمانمائة سنة، وذلك لأن هذا الحادث الكبير الذي هو أضخم الحوادث في الإسلام وقع على حين خمول من القرائح العربية، وبعد مرور زمن العلم والفلسفة عند معشر الناطقين بالضاد، ولدى إقحاط البلاد بالأدمغة المتوقدة، وعقم الأمة عن الرؤوس المولدة، بحيث فاته من التأليف والكتابة فيه ما لم يكن ليفوته لو وقع قبل ذلك بقرنين أو ثلاثة، فإنه لا عطر بعد عروس.
هذا ما كتبته عن نفح الطيب يوم كنت في السابعة والعشرين من العمر، ولست من بعد مضي تسع وثلاثين سنة على ذلك القول براجع عنه اليوم من حيث الجوهر، وإن كنت أراني الآن أقل قسوة، وأكثر عطفًا على المقري وأعظم تقديرًا لما أملاه في كتابه، ولا عجب فالذي عند الشيخ من سعة الطبع، وقبول العذر، ليس عند الشاب.
ولنبدأ الآن وقد أردنا أن ننقل ما جاء في النفح من المعلومات الجغرافية عن الأندلس لنقارن بينها وبين معلومات سائر مؤلفي العرب كابن حوقل والإدريسي وياقوت وغيرهم. قال في الجزء الأول في صفحة ٦٣ من الطبعة الأولى المنسوبة إلى المطبعة الأزهرية المصرية ما يلي:
الباب الأول
في وصف جزيرة الأندلس، وحسن هوائها، واعتدال مزاجها، ووفور خيراتها واستوائها، واشتمالها على كثير من المحاسن واحتوائها، وكرم بقعتها التي سقتها سماء البركات بأنوائها، وذكر بعض مآثرها المجلوة الصور، وتعداد كثير مما لها من البلدان والكور، المستمدة من أضوائها، فأقول:
قال المسعودي: بلاد الأندلس تكون مسيرة عمائرها ومدنها نحو شهرين، ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة. انتهى باختصار. ونحوه لابن اليسع إذ قال: طولها من أربونة إلى أشبونة، وهو قطع ستين يومًا للفارس المجد. وانتقد بأمرين: أحدهما أنه يقتضي أن أربونة داخلة في جزيرة الأندلس، والصحيح أنها خارجة عنها، والثاني أن قوله ستين يومًا للفارس المجد إعياء وإفراط، وقد قال جماعة أنها شهر ونصف. قال ابن سعيد: وهذا يقرب إذا لم يكن للفارس المجد. والصحيح ما نص عليه الشريف من أنه مسيرة شهر. وكذا قال الحجاري. وقد سألت المسافرين المحققين عن ذلك فعملوا حسابًا بالمراحل الجيدة أفضى إلى نحو شهر بنيف قليل. قال الحجاري في موضع من كتابه إن طول الأندلس من الحاجز إلى أشبونة ألف ميل ونيف اهـ. وبالجملة فالمراد القريب من غير مشاححة، كما قاله ابن سعيد وأطال في ذلك، ثم قال بعد كلام: ومسافة الحاجز الذي بين بحر الزقاق والبحر المحيط أربعون ميلًا، وهذا عرض الأندلس عند رأسها من جهة الشرق، ولقلته، سمّيت جزيرة، وإلاّ فليست بجزيرة على الحقيقة، لاتصال القدر بالأرض الكبيرة، وعرض جزيرة الأندلس في موسطها عند طليطلة ستة عشر يومًا.
والركن الثالث بمقربة من جبل الأغن؟ حيث صنم قادس. والجبل المذكور يدخل من غربه مع جنوبه بحر الزقاق من البحر المحيط، مارًّا مع ساحل البحر الجنوبي إلى جبل البرت المذكور. انتهى.
- الأول: هو الموضع الذي فيه صنم قادس المشهور بالأندلس، ومنه مخرج البحر المتوسط الشامي، الآخذ بقبلي الأندلس.
- والركن الثاني: هو بشرقي الأندلس، بين مدينة نربونة، ومدينة برديل، مما بأيدي الفرنجة اليوم، بإزاء جزيرتي ميورقه ومنورقة، بمجاورة من البحرين، البحر المحيط والبحر المتوسط، وبينهما البر الذي يعرف بالأبواب، مسيرة يومين. ومدينة نربونة تقابل البحر المحيط.٤٨٩
- والركن الثالث: منها هو ما بين الجوف٤٩٠ والغرب من حيز جليقية، حيث الجبل الموفي على البحر، وفيها الصنم العالي المشبه بصنم قادس، وهو الطالع على بلد برطانية.
- ركنها الواحد: فيما بين الجنوب والمغرب، حيث اجتماع البحرين عند صنم قادس.
- وركنها الثاني: في بلد جلّيقية، حيث الصنم المشبه صنم قادس، مقابل جزيرة بريطانية.
- وركنها الثالث: بين مدينة نربونة، ومدينة برديل من بلد الفرنجة، بحيث يقرب البحر المحيط من البحر الشامي المتوسط فيكادان يجتمعان في ذلك الموضع فيصير بلد الأندلس جزيرة بينهما في الحقيقة، لولا أنه يبقى بينهما برزخ برية صحراء وعمارة مسافة مسيرة يوم للراكب منه المدخل إلى الأرض الكبيرة، التي يقال لها الأبواب، ومن قِبَلِهِ يتصل بلد الأندلس بتلك البلاد المعروفة بالأرض الكبيرة، ذات الألسن المختلفة.
وقال بعض العلماء ما معناه إن النصارى أعطوا عن الآخرة بستانًا متصلًا من البحر المحيط بالأندلس إلى خليج القسطنطينية وعندهم عموم الشاه بلوط، والبندق، والجوز، والفستق، وغير ذلك مما يكون أكثر وأمكن في الأقاليم الباردة، والتمر عندهم معدوم، وكذا الموز وقصب السكر، وربما يكون شيء من ذلك في الساحل، لأن هواء البحر يدفئ. ا.هـ.
قال ابن حيان في المقتبس: ذكر رواة العجم أن الخضر عليه السلام وقف على أشبان المذكور وهو يحرث الأرض بفدن له أيام حراثته: فقال له: يا أشبان إنك لذو شأن، وسوف يحظيك زمان، ويعليك سلطان. فإذا أتت غلبت على إيليا، فارفق بذرية الأنبياء. فقال له أشبان: أساخر بي رحمك الله؟ أنَّى يكون هذا مني وأنا ضعيف ممتهين حقير فقير؟ ليس مثلي ينال السلطان! فقال له: قد قدّر ذلك فيك من قدّر في عصاك اليابسة ما تراه فنظر أشبان إلى عصاه فإذا بها قد أورقت فريع لما رأى من الآية، وذهب الخضر عنه، وقد وقع الكلام بخلده، ووفرت في نفسه الثقة بكونه، فترك الامتهان من وقته، وداخل الناس، وصحب أهل البأس منهم، وسما به جَدّه، فارتقى في طلب السلطان حتى أدرك منه عظيمًا، وكان منه ما كان، ثم أتى عليه ما أتى على القرون قبله. وكان ملكه كله عشرين سنة.
وتمادى ملك الأشبانيين بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكًا.
وقال جماعة: إن القوط غير البشتولقات، وإن البشتولقات من عجم رومة، وإنهم جعلوا دار ملكهم ماردة، واتصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكًا، ثم دخل عليهم القوط، واتخذوا طليطلة دار مملكة، ثم ذكر تنصر ملكهم خشندش مثل ما تقدم، ثم ذكر أن عدّة ملوك القوط ستة وثلاثون ملكًا.
وذكر الرازي أن القوط من ولد ياجوج بن يافث بن نوح، وقيل غير ذلك. ا.هـ.
وذكر الرازي في موضع آخر نحو ما تقدم وزيادة ونصه:
إن الأندلس في آخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة التي تقدم ذكرها التي هي ربع معمور الدنيا، فهي موسطة من البلدان، كريمة البقعة، بطبع الخلقة، طيبة التربة، مخصبة القاع، منبجسة العيون الثرّارة، منفجرة الأنهار الغزار، قليلة الهوام ذوات السموم، معتدلة الهواء أكثر الأزمان، لا يزيد قيظها زيادة منكرة تضر بالأبدان، وكذا فصولها في أعم سنيها تأتي على قدر من الاعتدال، وتوسط من الحال، وفواكهها تتصل طول الزمان، فلا تكاد تعدم، لأن الساحل ونواحيه، يبادر بباكوره، كما أن الثغر وجهاته، والجبال التي يخصها برد الهواء، وكثافة الجو، تستأخر بما فيها من ذلك، حتى يكاد طرفا فاكهتها يلتقيان، فمادة الخيرات فيها متصلة كل أوان.
وما ذكرت هنا، وإن تكرر بعضه مع ما سبق أو يأتي، فهو لجمع النظائر وما لم نذكره أكثر، والله تعالى أعلم.
ومن خواص طليطلة أن حنطتها لا تتغير ولا تسوس على طول السنين، يتوارثها الخلف عن السلف. وزعفران طليطلة هو الذي يعم البلاد، ويتجهز به الرفاق إلى الآفاق. وكذلك الصبغ السماوي ا.هـ.
وهو وإن تكرر مع ما ذكرته عن غيره فلا يخلو من فائدة والله تعالى أعلم.
وذكر البعض أن في بلاد الأندلس جميع المعادن الكائنات عن الثّيرات السبعة الرصاص من زحل، والقصدير الأبيض من المشترى، والحديد من قسم المريخ، والذهب من قسم الشمس، والنحاس من الزهرة، والزئبق من عطارد، والفضة من القمر.
قال ابن سعيد: ومخرج بحر الروم المتصاعد إلى الشام، هو بساحل الأندلس الغربي بمكان يقال له الخضراء، ما بين طنجة من أرض المغرب، وبين الأندلس فيكون مقدار عرضه هناك كما زعموا، ثمانية عشر ميلًا. وهذا عرض جزيرة طريف إلى قصر مصمودة بالقرب من سبتة. وهناك كانت القنطرة التي يزعم الناس أن الإسكندر بناها ليعبر عليها من بر الأندلس إلى بر العدوة، ويعرف هذا الموضع الزقاق، وهو صعب المجاز، لأنه مجمع البحرين، لا تزال الأمواج تتطاول فيه، والماء يدور، وطول هذا الزقاق الذي عرضه ثمانية عشر ميلًا، مضاعف ذلك إلى ميناء سبتة، ومن هناك يأخذ البحر في الاتساع إلى ثمانمائة ميل وأزيد، ومنتهاه مدينة صور من الشام، وفيه عدد عظيم من الجزائر، قال بعضهم: إنها ثمانٍ وعشرون جزيرة منها صقلية ومالطة وغيرهما. ا.هـ. وبعضه بالمعنى. وقال بعضهم عند وصفه ضيق بحر الزقاق قرب سبتة ما صورته: ثم يتسع كما امتدّ حتى يصير إلى ما ذرع له ولا نهاية.
وقال بعضهم: وكان مبلغ خراج الأندلس الذي كان يؤدي إلى ملوك بني أمية، قديمًا ثلاثمائة ألف دينار، دراهم أندلسية كل سنة قوانين. وعلى كل مدينة من مدائنهم مال معلوم فكانوا يعطون جندهم ورجالهم الثلث من ذلك مائة ألف دينار، وينفقون في أمورهم ونوائبهم ومؤن أهليهم مائة ألف دينار ويدخرون لحادث أيامهم مائة ألف دينار ا.هـ.
وفيها أيضًا قوله:
وبمالقة التين الذي يضرب المثل بحسنه، ويجلب حتى للهند والصين، وقيل إنه ليس في الدنيا مثله، وفيه يقول أبو الحجاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي حسبما أنشده غير واحد، منهم ابن سعيد:
وذيّل عليه الإمام الخطيب أبو محمد عبد الوهاب المنشي بقوله:
وفي بعض النسخ:
وهو نحو الأول لأن حمص هي أشبيلية لنزول أهل حمص من المشرق بها حسبما سنذكره. ونسب ابن جزي في ترتيبه لرحلة ابن بطوطة البيتين الأولين للخطيب أبي محمد عبد الوهاب المالقي، والتذييل لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد الملك فالله أعلم.
وبكورة أشبونة المتصلة بشنترين معدن التبر، وفيها عسل يجعل في كيس كتان. فلا يكون له رطوبة كأنه سكر. ويوجد في ريفها العنبر الذي لا يشبه إلا الشّحْري.
وقال الحجاري في المسهب: كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمخضت خلاصة القبائل المعدّية واليمانية، وإليها كانت الرحلة في الرواية، إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، ونهرها من أحسن الأنهار، مكتنف بديباج المروج، مطرز بالأزهار، تصدح في جنباته الأطيار، وتنعر النواعير، ويبسم النوّار، وقرطاها الزاهرة والزهراء، حاضرتا الملك، وأُفقاهُ النعماء والسراء، وإن كان قد أخنى عليها الزمان، وغير بهجة أوجهها الحسان، فتلك عادته! وسل الخورنق والسدير وغُمدان، وقد أعذر بإنذاره، إذ لم يزل ينادي بصروفه: لا أمان! لا أمان! وقد قال الشاعر:
انتهى.
ولما قال والده السلطان يوسف بن عبد المؤمن لأبي عمران موسى بن سعيد العنسي: ما عندك في قرطبة؟ قال له: ما كان لي أن أتكلم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها. فقال السلطان: إن ملوك بني أمية حين اتخذوها حضرة مملكتهم لعلى بصيرة: الديار المنفسحة الكبيرة، والشوارع المتسعة، والمياني الضخمة المشيدة، والنهر الجاري، والهواء المعتدل، والخارج الناضر، والمحرث العظيم، والشعراء الكافية والتوسط بين شرق الأندلس وغربها. قال فقلت: ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول!
وحكى الإمام ابن بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن سعادة أنه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ أبي بكر المخزومي. قال: فسألنا: من أين؟ فقلنا: من قرطبة. فقال: متى عهدكما بها؟ فقلنا: الآن وصلنا منها. فقال: أقربا إليّ أشمّ نسيم قرطبة فقربنا منه فشم رأسي وقبّلهُ وقال لي أكتب:
وكتب الرئيس الكاتب أبو بكر بن القبطرنة للعالم أبي الحسين بن سراج بقوله:
وفي باب اليهود بقرطبة يقول أبو عامر بن شهيد:
ومن أعظم مدن الأندلس أشبيلية، قال الشقندي: من محاسنها اعتدال الهواء، وحسن المباني، ونهرها الأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلًا ثم يحسر، وفيه يقول ابن سفر:
وقيل لأحد من رأي مصر والشام: أيهما رأيت أحسن، أهذان أم أشبيلية؟
وكان الأولون من ملوك الأعاجم يتداولون بسكناهم أربعة بلاد من بلاد الأندلس: أشبيلية، وقرطبة، وقرمونة، وطليطلة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها. وأما شرف أشبيلية فهو شريف البقعة، كريم التربة، دائم الخضرة فرسخ في فرسخ، طولًا وعرضًا، لا تكاد تشمس فيه بقعة، لالتفاف زيتونه.
وقال بعض من وصف أشبيلية إنها مدينة عامرة، على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة، وعليه جسر مربوط بالسفن، وبها أسواق قائمة، وتجارات رابحة، وأهلها ذوو أموال عظيمة، وأكثر متاجرهم الزيت، وهو يشتمل على كثير من إقليم الشرف. وإقليم الشرف على تل عال، من تراب أحمر، مسافته أربعون ميلًا في مثلها، يمشي به السائر في ظل الزيتون والتين. ولها فيما ذكر بعض الناس قرى كثيرة، وكل قرية عامرة بالأسواق، والديار الحسنة والحمامات وغيرها من المرافق.
ولجبل طارق حوز قصب السبق بنسبته إلى طارق مولى موسى بن نصير إذ كان أول ما حل به من المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح، ولذا شهر بجبل الفتح، وهو مقابل الجزيرة الخضراء، وقد تجون البحر هنالك مستديرًا، حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة الخضراء، وفيه يقول مطّرف شاعر غرناطة:
وإذا أقبل عليه المسافرون من جهة سبتة في البحر، بان كأنه سرج. قال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد: أقبلت عليه مرة مع والدي فنظرنا إليه على تلك الصفة فقال والدي: أجِزْ:
فقلت:
وأما جزيرة طريف فليست بجزيرة، وإنما سميت بذلك الجزيرة التي أمامها في البحر مثل الجزيرة الخضراء، وطريف المنسوبة إليه بربري من موالي موسى بن نصير. ويقال إن موسى بعثه قبل طارق في أربعمائة رجل، فنزل بهذه الجزيرة في رمضان سنة إحدى وتسعين، وبعده دخل طارق. والله أعلم.
وطليطلة قاعدة ملك القوطيين، وهي مطلة على نهر تاجة، وعليه كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها، وكانت على قوس واحد، تكنفه فرجتان من كل جانب، وطول القنطرة ثلاثمائة رباع، وعرضها ثمانون باعًا، وخربت أيام الأمير محمد، لما عصى عليها أهلها، فغزاهم واحتال في هدمها. وفي ذلك يقول الحكيم عباس بن فرناس:
ووادي المرية طوله أربعون ميلًا في مثلها، كلها بساتين بهجة، وجنات نضرة وأنهار مطردة، وطيور مغردة. قال بعضهم: ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالًا من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر، وكان بها من الحمامات والفنادق نحو الألف، وهي بين الجبلين، بينهما خندق معمور، وعلى الجبل الواحد، قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الآخر ربضها. والسور محيط بالمدينة والربض. وغربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض، ذو فنادق وحمامات، وخنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة، وأحجار أولية. وكأنما غربلت أرضها من التراب. ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار. انتهى.
إن من خواصها أن القمح والشعير يزرعان ويحصدان عند مضي أربعين يومًا من زراعته، وأن التفاح فيها دور كل واحدة ثلاثة أشبار وأكثر. قال لي أبو عبد الله الباكوري، وكان ثقة: أبصرت عند المعتمد بن عباد رجلًا من أهل شنترة، أهدى إليه أربعًا من التفاح، ما يُقِلُّ الحامل على رأسه غيرها، دور كل واحدة خمسة أشبار. وذكر الرجل بحضرة ابن عباد أن المعتاد عندهم أقل من هذا، فإذا أرادوا أن يجيء بهذا العِظَم وهذا القدر قطعوا أصلها وأبقوا منه عشرًا أو أقل، وجعلوا تحتها دعامات من الخشب. انتهى.
«قلت»: أظن هذا غلطًا فإن قرطاجنة التي بهذه الصفة قرطاجنة أفريقية لا قرطاجنة الأندلس. والله أعلم.
وقال يخاطب ملكها ذلك الوقت:
وقال بعضهم في طليطلة:
فقالت غرناطة: لي المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم، ولا تجري إلا تحته جياد الغيث السجوم، فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف، ولا يهتدي إليّ خيال طارق ولا طيف، فاستسلموا قولًا وفعلًا، فقد أفلح اليوم من استعلى، لي بطاح تقلدت من جداولها أسلاكًا، وأطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكًا، ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق، وبرد نسيم يردد ماء المستجير بالانتشاق، فحسني لا يطمع فيه ولا يحتال، فدعوني فكل ذات ذيل تختال، فأنا أولى بهذا السيد الأعدل، وما لي به من عوض ولا بدل، ولم لا يعطف عليّ عنان مجده ويثني، وإن أنشد يومًا فإياي يعني:
فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون، وتتأخرون في ميداني وتتقدمون؟ تبرأوا إليّ مما تزعمون، ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون.
فقالت مالقة: أتتركوني بينكم هملًا، ولم تعطوني في سيدنا أملًا؟ ولِمَ ولي البحر العجاج، والسبل الفجاج، والجنات الأثيرة، والفواكه الكثيرة؟! لديّ من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل، ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل، فما لي لا أعطى في ناديكم كلامًا، ولا أنشر في جيش فخاركم أعلامًا؟! فكأنّ الأمصار نضرتها ازدراء، فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراء، لأنها موطن لا يحظى منه بطائل، ونظن البلاد تأولت فيها قول القائل:
فقالت مرسية: أمامي تتعاطون الفخر، وبحضرة الدر تنفقون الصخر، إن عدّت المفاخر، فلي منها الأول والآخر، أين أوشالكم من بحري، وخرزكم من لؤلؤ نحري؟ وجعجعتكم من نفثات سحري؟ فلي الروض النضير، والمرأى الذي ما له نظير، ورتقائي التي سار مثلها في الآفاق، وتبرقع وجه جمالها بغرة الأصفاق، فمن دوحات، كم لها من بكور وروحات، ومن أرجاء، إليها تمد أيدي الرجاء. فأبنائي في الجنة الدنيوية مودعون، يتنعمون فيما يأخذون ويَدَعون، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يَدّعون، فانقادوا لأمري، وحاذروا اصطلاء جمري، وخلّوا بيني وبين سيدنا أبي زيد، وإلا ضربتكم ضرب زيد، فأنا أولاكم بهذا الملك المستأثر بالتعظيم، وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم.
فقالت بلنسية: فيم الجدال والقراع، وعلام الاستهام والاقتراع، وإلام التعريض والتصريح، وتحت الرغوة اللبن الصريح؟! أنا أحوزه من دونكم، فأخمدوا نار تحرككم وهدونكم، فلي المحاسن الشامخة الأعلام. والجنات التي تلقى إليها الآفاق يد الاستسلام، وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام، فأجمعوا على الانقياد لي والسلام، وإلا فعضوا بنانًا، واقرعوا أسنانًا. فأنا حيث لا تدركون وأنّي؟ ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منا!
فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشرار، واستدّت أسهمها لنحور الشرار، وقالت: عش رجبًا، تر عجبًا! أبَعَد العصيان والعقوق، تتهيأن لرتب ذوي الحقوق؟! هذه سماء الفخر، فمن ضمنك أن تعرجي؟ ليس بعشك فادرجي، لك الوصف والخيل. آلآن؟ وقد عصيت قبل أيتها الصانعة الفاعلة، من أدراك أن تضربي وما أنت فاعلة، ما الذي يجديك الروض والزهر؟ أم يفيدك الجدول والنهر؟ وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ هل أنت إلا محط رحل النفاق، ومنزل ما لسوق الخصب فيه من نفاق، ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع، وقراك لا يسمن ولا يغني من جوع، فإلامَ تبرز الإماء في منصة العقائل؟ ولكن اذكري قول القائل:
بيد أني أسأل الله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد، ويسيل من تسديدك ما جمد، ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد، وإياه سبحانه نسأل أن يرد سيدنا ومولانا إلى أفضل عوائده، ويجعل مصائب أعدائه من فوائده، ويمكن حسامه من رقاب المشغبين، ويبقيه وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويصل له تأييدًا وتأييدًا، ويمهد له الأيام حتى تكون الأحرار لعبيد عبيده عبيدًا، ويمد على الدنيا بساط سعده، ويهبه ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده.
وقال الشقندي: غرناطة: دمشق بلاد الندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، ولو لم يكن بها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها النساء الشواعر، كنزهون القَلْبميّة، والركونية، وغيرهما، وناهيك بهما في الظرف والأدب. انتهى.
ولبعضهم، يتشوق إلى غرناطة، فيما ذكره بعض المؤرخين، والصواب أن الأبيات قيلت في قرطبة كما مر والله أعلم.
وقال ابن مالك الرعيني:
وهو القائل:
وقال ابن سعيد، عندما أجرى ذكر قرية نارجة، وهي قرية كبيرة تضاهي المدن قد أحدقت بها البساتين، ولها نهر يفتن الناظرين، وهي من أعمال مالقة: أنه اجتاز مرة عليها مع والده أبي عمران موسى، وكان ذلك زمان صباغة الحرير عندهم وقد ضربوا في بطن الوادي بين مقطعاته خيمًا، وبعضهم يشرب، وبعضهم يغني ويطرب، وسألوا: بِمَ يعرف ذلك الموضع؟ فقالوا الطراز، فقال والدي اسم طابق مسماه، ولفظ وافق معناه.
انتهى.
وقال ابن سعيد: إن كورة بلنسية، من شرق الأندلس، ينبت بها الزعفران وتعرف بمدينة التراب، وبها كُمَّثْرَى تسمى الأرزة، في قدر حبة العنب، قد جمع مع حلاوة الطعم، ذكاء الرائحة، إذا دخل دارًا عرف بريحه، ويقال إن ضوء بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد الأندلس، وبها منارة ومسارح، ومن أبدعها وأشهرها الرصافة، ومُنْية ابن أبي عامر.
وقال الشرف أبو جعفر بن مسعدة الغرناطي من أبيات فيها:
وقال بعضهم فيها:
وفيها لابن الزقاق البلنسي:
وقال ابن سعيد أيضًا: أنشدني والدي قال: أنشدني مروان بن عبد الله بن عبد العزيز ملك بلنسية لنفسه بمراكش قوله:
وقال أبو الحسن بن حريق يجاوب ابن عياش:
وقال الرصافي في رصافتها:
فإذا نلت بك السماء في تلك الحضرة، فعلى من أسود فيها؟ ومن ذا أضاهي بها؟
وبعدها فكيف أفارق الأندلس، وقد علم سيدي أنها جنة الدنيا، بما حباها الله به من اعتدال الهواء، وعذوبة الماء، وكثافة الأفياء، وأن الإنسان لا يبرح فيها بين قرة عين وقرار نفس؟
أفُق صقيل، وبساط مدبج، وماء سائح، وطائر مترنم بليل، وكيف يعدل الأديب عن أرض على هذه الصفة؟ فيا سموءل الوفاء، ويا حاتم السماح، ويا جذيمة الصفاء، كمِّل لمن أملك النعمة، بتركه في موطنه، غير مكدّر لخاطره بالتحرك من معدنه، متلفتًا إلى قول القائل:
فإن أغناه اهتمام مؤمله عن ارتياد المراد، وبلّغه دون أن يشدّ قتبًا ولا أن يُنضي عيسًا غاية المراد، أنشد ناجح المرغوب، بالغ المطلوب:
ورب قائل إذا سمع هذا التبسط على الأماني: ماله تشططّ، وعدل عن سبيل التأدب وتبسَّط؟! ولا جواب عندي إلاّ قول القائل:
ومالي لا أنشد ما قاله المتنبي في سيف الدولة:
انتهى المقصود منه.
والمجبنات نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها وتقلى بالزيت الطيب. وفي شلب يقول الفاضل الكاتب أبو عمرو بن مالك بن سيدمير.
وهذا الشرح شهير بهذه البلاد المشرقية. ومن نظم ابن بدرون المذكور قوله:
ومنها نحويُّ زمانه وعلامته، أبو محمد عبد الله ابن السيد البطليوسي، فإن شلبًا بيضتهُ، ومنها كانت حركته ونهضته، كما في الذخيرة. وهو القائل:
وقال الوزير أبو عمرو بن الغلاس يمدح بطليوس بقوله:
وفي برجة يقول بعضهم:
واعلم أنه لو يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب الجياد للجهاد، لكان كافيًا، ويرحم الله لسان الدين بن الخطيب، حيث كتب على لسان سلطانه إلى بعض العلماء العاملين ما فيه إشارة إلى بعض ذلك ما نصه: من أمير المسلمين فلان إلى الشيخ كذا ابن الشيخ كذا وصل الله له سعادة تجذبه، وعناية إليه تقربه وقبولًا منه يدعوه إلى خير ما عند الله ويندبه، سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله المرشد المثيب، السميع المجيب، معوّد اللطف الخفي، والصنع العجيب المتكفل بإنجاز وعد النصر العزيز والفتح القريب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي القدر الرفيع والعز المنيع والجناب الرحيب، الذي به نرجو ظهور عبدة الله على عبَدَة الصليب، ونستظهر منه على العدو بالحبيب، ونعدّه عدتنا لليوم العصيب، والرضا عن آله وصحبه الذين فازوا بمشاهدته بأوفى النصيب، ورموا إلى هدف مرضاته بالسهم المصيب، فإنا كتبناه إليكم، كتب الله تعالى لكم عملًا صالحًا يختم الجهاد صحائف بره، وتتمخض لأن تكون كلمة الله هي العليا جوامع أمره، وجعلكم ممن تهنى في الأرض التي فتح فيها أبواب الجنة مدة عمره، من حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، ولطف الله هامي السحاب، وصنعه رائق الجناب، والله يصل لنا ولكم ما عوَّده من صلة لطفه، عند انبتات الأسباب، وإلى هذا أيها المولى الذي هو بركة المغرب المشار إليه بالبنان، وواحده في رفعة الشأن المؤثر ما عند الله على الزخرف الفتان، المتفلل من المتاع الفان، المستشرف إلى مقام العرفان، من درج الإسلام والإيمان والإحسان، فإننا لما نؤثره من بركم الذي نعده من الأمر الأكيد ونضمره من ودكم الذي نحله محل الكنز العتيد، ونلتمسه من دعائمكم التماس العدة والعديد، لا نزال نسأل عن أحوالكم التي ترقت في أطوار السعادة، ووصلت جناب الحق بهجر العادة، وألقت إلى يد التسليم لله والتوكل عليه بالمقادة، فنسر بما هيأ الله تعالى لكم من القبول وبلغكم من المأمول، وألهمكم من الكلف بالقرب إليه والوصول، والفوز بما لديه والحصول، وعندما ردّ الله تعالى علينا الرد الجميل، وأنالنا فضله الجزيل، وكان لعثارنا المقيل، خاطبناكم بذلك لمكانكم من ودادنا، ومحلكم من حسن اعتقادنا، ووجّهنا إلى وجهة دعائكم وجه اعتدادنا، والله ينفعنا بجميل الظن في دينكم المتين، وفضلكم المبين، ويجمع الشمل بكم في الجهاد عن الدين، وتعرفنا الآن بمن له بأنبائكم اعتناء، وعلى جلالكم حمد وثناء، ولجناب ودكم اعتزاء وانتماء، بتجاول عزمكم بين حج مبرور ترغبون من أجره في ازدياد، وتجدون العهد منه بأليف اعتياد وبين رباط في سبيل الله وجهاد، وتَوْثير مهاد، بين ربا أثيرة عند الله ووهاد، يحشر يوم القيامة شهداؤها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، فرحين بما آتاهم الله من فضله، والله أصدق القائلين الصادقين، حيث لا غارة لعدو الإسلام تُتّقى، إلا لابتغاء ما لدى الله يرتقي، حيث رحمة الله قد فتحت أبوابها، وحور الجنان قد زينت أترابها، دار العرب الذين قرعوا باب الفتح، وفازوا بجزيل المنح، وخلدوا الآثار، وأرغموا الكفار، وأقالوا العثار، وأخذوا الثار، وأمنوا من لفح جهنم، بما علا على وجوههم من ذلك الغبار، فكتبنا إليكم هذا نقوّى بصيرتكم، على جهة الجهاد من العَزْمَين، ونهب بكم إلى إحدى الحسنيين، والصبح غير خاف على ذي عينين والفضل ظاهر لإحدى المنزلتين، فإنكم إن حججتم أعدتم فرضًا أديتموه، وفضلًا أرتديتموه، فائدته عليكم مقصورة، وقضيته فيكم محصورة. وإذا أقمتم الجهاد، جلبتم إلى حسناتكم عملًا غريبًا، واستأنفتم سعيًا من الله قريبًا، وتعدت المنفعة إلى ألوف من النفوس، المستشعرة لبأس البوس، ولو كان الجهاد بحيث يخفى عليكم فضله لأطنبنا، وأعنة الاستدلال أرسلنا. هذا لو قدمتم على هذا الوطن، وفضلكم غُفل من الاشتهار، ومن به لا يوجب لكم ترفيع المقدار، فكيف وفضلكم أشهر من مُحيا النهار، ولقاؤكم أشهى الآمال وآثر الأوطار؟! فإن قوي عزمكم، والله يقويه، ويعيننا من بركم على ما ننويه، فالبلاد بلادكم، وما فيها طريقكم وتلادكم وكهولها إخوانكم، وأحداثها أولادكم، ونرجو أن تجدوا لذكركم الله في رباها حلاوة زائدة، ولا تعدموا من روح الله فائدة، وتتكيف نفسكم فيها بكيفيات تقصر عنها خلوات السلوك إلى ملك الملوك، حتى تغتبطوا بفضل الله الذي يوليكم، وتروا أثر رحمته فيكم، وتخلّفوا فخر هذا الانقطاع إلى الله في قبيلكم وبنيكم، وتختموا العمل الطيب بالجهاد الذي يعليكم، ومن الله تعالى يدنيكم، فنبيكم العربي، صلوات الله عليه وسلامه، نبي الرحمة والملاحم، ومُعمِل الصوارم، وبجهاد الفرنج ختم عمل جهاده، والأعمال بالخواتم، هذا على بعد بلادهم من بلاده، وأنتم أحق الناس باقتفاء جهاده، والاستباق إلى آماده.
هذا ما عندنا حثثناكم عليه، ونَدَبْناكم إليه، وأنتم في إيثار هذا الجوار، ومقارضة ما عندنا بقدومكم على بلادنا من الاستبشار، بحسب ما يخلق عنكم من بيده مقادة الاختيار، وتصريف الليل والنهار، وتقليب القلوب وإجالة الأفكار، وإذ تعارضت الحظوظ فما عند الله خير للأبرار، والدار الآخرة دار القرار، وخير الأعمال عمل أوصل إلى الجنة وباعد من النار، ولتعلموا أن نفوس أهل الكشف والاطلاع، بهذه الأرجاء والأصقاع، قد اتفقت أخبارها، واتحدت أسرارها، على البشارة بفتحٍ قرُب أوانه، وأظلّ زمانه. فنرجو الله أن تكونوا ممن يحضر مدّعاه، ويكرم فيه مسعاه، ويسلف فيه العمل الذي يشكره الله ويرعاه، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.
ولما دخل الأندلس أمير المسلمين عليّ ابن أمير المسلمين يوسف بن ناشفين اللمتوني، ملك المغرب والأندلس، وأمعن النظر فيها، وتأمّل وصفها وحالها، قال: إنها تشبه عُقابًا مخالبه طليطلة، وصدره قلعة رباح، ورأسه جيّان، ومنقاره غرناطة وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب، وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق … في خبر طويل لم يحضرني الآن، إذ تركته مع كتبي بالمغرب، جمعني الله بها على أحسن الأحوال.
ومع كون أهل الأندلس سُبّاق حَلْبة الجهاد، مهطعين إلى داعيه من الجبال والوهاد، فكان لهم في الترف والنعيم والمجون، ومداراة الشعراء، خوف الهجاء، محل وثير المهاد. وسيأتي في الباب السابع من هذا القسم من ذلك وغيره ما يشفي ويكفي، ولكن سنح لي أن أذكر هنا حكاية أبي بكر المخزوميّ الهجّاء المشهور، الذي قال فيه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة: إنه كان أعمى شديد الشر، معروفًا بالهجاء، مسلطًا على الأعراض، سريع الجواب، ذكي الذهن، فطنًا للمعارض سابقًا في ميدان الهجاء، فإذا مدح ضعف شعره.
والحكاية هي ما حكاه أبو الحسن بن سعيد في الطالع السعيد إذ قال، حكاية عن أبيه فيما أظن: قدم المذكور، يعني المخزومي، على غرناطة أيام ولاية أبي بكر ابن سعيد، ونزل قريبًا مني، وكنت أسمع به: نار صاعقة يرسلها الله على من يشاء من عباده، ثم رأيت أن أبدأه بالتأنيس والإحسان، فاستدعيته بهذه الأبيات:
ووجه له الوزير أبو بكر بن سعيد عبدًا صغيرًا قاده. فلما استقر به المجلس، وأفغمته روائح النّد والعود والأزهار، وهزت عطفه الأوتار، قال:
فقال أبو بكر بن سعيد: وإلى الآن لا سبيل له إلا بآذان؟ فقال: حتى يبعث الله ولد زنا كلما أنشدت هذه الأبيات قال إنها لأعمى. فقال: أما أنا فلا أنطق بحرف. فقال: من صمت نجا.
وكانت نزهون بنت القلاعي حاضرة فقالت: وتراك يا أستاذ، قديم النعمة بمجرد ندّ وغناء وشراب، فتعجَب من تأنيه، وتشبهه بنعيم الجنة، ويقول ما كان يعلم إلا بالسماع، ولا يبلغ إليه بالعيان! ولكن من يجيء من حصن المدور، وينشأ بين تيوس وبقر، من أين له معرفة بمجالس النعيم؟! فلما استوفت كلامها تنحنح الأعمى، فقالت له: ذبحة! فقال: من هذه الفاضلة؟ فقالت عجوز مقام أمك! فقال: كذبت! ما هذا صوت عجوز … الخ. ثم قال:
(وطوينا هنا بعض محاضرات لا صلة لها بموضوعنا من جغرافية البلاد إلى أن يقول):
واعلم أن بأرض الأندلس من الخصب والنضرة وعجائب الصنائع وغرائب الدنيا ما لا يوجد مجموعه غالبًا في غيرها. فمن ذلك ما ذكره الحجاري في المسهب أن السَّمور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة، يوجد في البحر المحيط بالأندلس من جهة جزيرة برطانية، ويجلب إلى سرقسطة ويصنع بها. ولما ذكر ابن غالب وبر السمور الذي يصنع بقرطبة قال: هذا السمور المذكور هنا لم أتحقق ما هو، ولا ما عني به، إن كان هو نباتًا عندهم، أو وبر الدابة المعروفة، فإن كانت الدابة المعروفة فهي دابة تكون في البحر وتخرج إلى البر، وعندها قوة ميز. وقال حامد بن سمحون الطبيب، صاحب كتاب الأدوية المفردة: هو حيوان يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلا خصاه، فيخرج الحيوان من البحر في البر، فيؤخذ وتقطع خصاه ويطلق، فربما عرض للقناصين مرةً أخرى، فإذا أحس بهم وخشي أن لا يفوتهم، استلقى على ظهره وفرج بين فخذيه، ليرى موضع خصييه خاليًا، فإذا رآه القناصون كذلك تركوه. قال ابن غالب ويسمّى هذا الحيوان أيضًا «الجند بادستر» والدواء الذي يصنع من خصييه من الأدوية الرفيعة، ومنافعه كثيرة، وخاصيته في العلل الباردة، وهو حارّ يابس في الدرجة الرابعة.
«والقنلية»؟ حيوان أدق من الأرنب، وأطيب في الطعم، وأحسن وبرًا، وكثيرًا ما يلبس فراؤها، ويستعملها أهل الأندلس من المسلمين والنصارى، ولا يوجد في بر البربر، إلا ما جلب منها إلى سبتة، فنشأ في جوانبها. قال ابن سعيد: وقد جلبت في هذه المدة إلى تونس حضرة أفريقية.
وبالأندلس عدة مقاطع للرخام. وذكر الرازي: أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع اللون والخمري وفي «ناشرة» مقطع عجيب للعمد و«بباغة» من مملكة غرناطة مقاطع للرخام كثيرة غريبة، موشاة في حمرة وصفرة وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك والمجزّع وحصى المرية يحمل إلى البلاد فإنه كالدر في رونقه، وله ألوان عجيبة. ومن عادتهم أن يضعوه في كيزان الماء وفي الأندلس من الأمتان التي تنزل من السماء القرمز الذي ينزل على شجرة البلوط فيجمعه الناس من الشعراء ويصبغون به فيخرج منه اللون الأحمر، الذي لا تفوقه حمرة.
أما بعد، فإن فتح القسطنطينية إنما يكون من قِبَل الأندلس، فإنكم إن فتحتموها، كنتم الشركاء في الأجر والسلام. ا.هـ.
ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدر العين بسوادها، ويضيق الصدر بضيق أوضاعها. وفي الأندلس جهات تقرب فيها المدينة العظيمة الممصرة من مثلها. والمثال في ذلك أنك إذا توجهت من أشبيلية فعلى مسيرة يوم وبعض آخر، مدينة شريش، وهي في نهاية من الحضارة والنضارة، ثم يليها الجزيرة الخضراء كذلك، ثم مالقة. وهذا كثير في الأندلس. ولهذا كثرت مدنها، وأكثرها مسوّر من أجل الاستعداد للعدّو، فحصل لها بذلك التشييد والتزيين، وفي حصونها ما يبقى في محاربة العدو ما ينيف على عشرين سنة، لامتناع معاقلها، ودربة أهلها على الحرب، واعتيادهم لمجاورة العدو بالطعن والضرب، وكثرة ما تتخزّن الغلة في مطاميرها، فمنها ما يطول صبره عليها نحوًا من مائة سنة.
وقيل أن سبب فسادهما حنين اليهودي الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليطلة في يومٍ واحد، وذلك سنة ٥٢٧، وهو الذي أعلم الفنش أن ولده سيدخل قرطبة ويملكها، فأراد أن يكشف حركة البيلتين، فقال له: أيها الملك، أنا أقلعهما وأردهما أحسن مما كانتا، وذلك أني أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل. فلما قلعت لم يقدر على ردها، وقيل أنه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت، ولم تزل الأخرى تعطي حركتها. والله أعلم بحقيقة الحال.
ولله در ابن خفاجة حيث يقول:
ومن أعظم ذلك وأشده أنهم كانوا يتغلبون على الحصن من حصون الإسلام التي يتمكنون بها من بسائط بلادهم، فيسبون ويأسرون، فلا تجتمع همم الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك، وقد يستعين به بعضهم على بعض، فيتمكن من ذلك الداء الذي لا يطب.
ولأجل توثبهم على النعوت العباسية قال ابن رشيق القيرواني:
وكان عباد بن محمد بن عباد قد تلقب بالمعتضد، واقتفى سيرة المعتضد العباسي أمير المؤمنين. وتلقب ابنه محمد بن عباد بالمعتمد. وكانت لبني عباد مملكة أشبيلية، ثم انضاف إليها غيرها. وكان خلفاء بني أمية يظهرون للناس في الأحيان على أبهة الخلافة، ولهم قانون في ذلك معروف إلى أن كانت الفتنة، فاذدرت العيون ذلك الناموس، واستخفّت به. وقد كان بنو حمّود من ولد إدريس العلوي، الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس، يتعاظمون، ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس، وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح، أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم، يتكلم من وراء حجاب، والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقوله له الخليفة. ولما حضر ابن مقانا الأشبوني أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي، الذي خطب له بالخلافة في مالقة، وأنشده قصيدته المشهورة النونية التي منها قوله:
وبلغ فيها إلى قوله:
فآل ذلك إلى تلف القواعد العظيمة، وتملك الأمصار الجليلة، وخروجها من يد الإسلام، والضابط فيما يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان، أنهم إذا وجدوا فارسًا يبرع الفرسان، أو جوادًا يبرع الأجواد، تهافتوا في نصرته، ونصبوه ملكًا من غير تدبير في عاقبة الأمر، إلام يؤل؟ وبعد أن يكون الملك في مملكة قد توورثت وتدوولت، ويكون في تلك المملكة قائد من قوادها، قد شهرت عنه وقائع في العدو، وظهر منه كرم نفس للأجناد، ومراعاة، قدموه ملكًا في حصن من الحصون، ورفضوا عيالهم وأولادهم إن كان لهم ذلك بكرسيي الملك، ولم يزالوا في جهاد وتلاف أنفس، حتى يظفر صاحبهم بطلبته. وأهل المشرق أصوب رأيًا منهم في مراعاة نظام الملك، والمحافظة على نصابه، لئلا يدخل الخلل الذي يقضي باختلال القواعد، وفساد التربية، وحل الأوضاع، ونحن نمثل في ذلك بما شاهدناه.
لما كانت هذه الفتنة الخيرة بالأندلس، تمخضت عن رجل من حصن يقال له أرجونة، ويعرف الرجل بابن الأحمر، كان يكثر مغاورة العدو من حصنه، وظهرت له مخايل وشواهد على الشجاعة، إلى أن طار اسمه في الأندلس، وآل ذلك إلى أن قدمه أهل حصنه على أنفسهم، ثم نهض فملك قرطبة العظمى، وملك أشبيلية، وقتل ملكها الباجي، وملك جيان، أحصن بلد بالأندلس، وأجلّه قدرًا في الامتناع، وملك غرناطة ومالقة، وسموه بأمير المسلمين. فهو الآن المشار إليه بالأندلس والمعتمد عليه.
وأما الكتابة فهي على ضربين، أعلاهما كاتب الرسائل، وله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس، وأشرف أسمائه الكاتب. وبهذه السمة يخصه من يعظمه في رسالة. وأهل الأندلس كثيرو الانتقاد على صاحب هذه السمة، لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة، فإن كان ناقصًا عن درجات الكمال، لم ينفعه جاهه، ولا مكانه من سلطانه، من تسلط الألسن، والطعن عليه وعلى صاحبه.
ومع هذا إن تأثلت حالته، واغترّ بكثرة البناء والاكتساب، نكب وصودر. وهذا راجع إلى تقلب الأحوال، وكيفية السلطان.
وأما خطة القضاء بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة، لتعلقها بأمور الدين، وكون السلطان لو توجّه عليه حكم حضر بين يدي القاضي، هذا وصفها في زمان بني أمية ومن سلك مسلكهم، ولا سبيل أن يتسم بهذه السمة إلا من هو وال للحكم الشرعي في مدينة جليلة، وإن كانت صغيرة، فلا يطلق على حاكمها إلاّ مسدّد خاصة، وقاضي القضاة يقال له قاضي القضاة وقاضي الجماعة.
وأما خطة الشرطة بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن، معروفة بهذه السمة، ويعرف صاحبها في ألسُن العامة بصاحب المدينة، وصاحب الليل، وإذا كان عظيم القدر عند السلطان، كان له القتل لمن وجب عليه دون استئذان السلطان، وذلك قليل، ولا يكون إلا في حضرة السلطان الأعظم. وهو الذي يحدّ على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه، قد صارت تلك عادة تقرر عليها رضا القاضي، وكانت خطة القاضي أوقر وأتقى عندهم من ذلك.
وأما خطة الاحتساب فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفِطن، وكأن صاحبها قاض، والعادة فيه أن يمشي بنفسه راكبًا على الأسواق، وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان، للربع من الدرهم رغيف، على وزن معلوم. وكذلك للثُمن، وفي ذلك من المصلحة أن يرسل المتاع الصبي الصغير، أو الجارية الرعناء، فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق، في معرفة الأوزان.
وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر أو دون ما حد له المحتسب في الورقة، ولا يكاد تخفى خيانته، فإن المحتسب يدس عليه صبيًا أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر الوزن المحتسب، فإن وجد نقصًا قاس على ذلك حاله مع الناس، فلا تسأل عما يلقى! وإن كثر ذلك منه، ولم يتب بعد الضرب والتجريس في الأسواق نفي من البلد. ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه، لأنها عندهم تدخل في جميع المتاعات، وتتفرع إلى ما يطول ذكره. وأما خطة الطواف بالليل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق، فإنهم يعرفون في الأندلس بالدرابين، لأن بلاد الأندلس لها دروب بإغلاق تغلق بعد العتمة، ولكل زقاق بائت فيه له سراج معلق، وكلب يسهر، وسلاح معدّ وذلك لشطارة عامتها، وكثرة شرهم، وإعيائهم في أمور التلصص، إلى أن يظهروا على المباني المشيدة، ويفتحوا الأغلاق الصعبة، ويقتلوا صاحب الدار، خوف أن يقرّ عليهم، أو يطالبهم بعد ذلك، ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع: دار فلان دُخلت البارحة، وفلان ذبحه اللصوص على فراشه. وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدة الوالي ولينه، ومع إفراطه في الشدة، وكون سيفه يقطر دمًا، فإن ذلك لا يعدم وقد آل الحال عندهم إلى أن قتلوا على عنقود سرقه شخص من كرم، وما أشبه ذلك ولم ينته اللصوص.
وأما قواعد أهل الأندلس في ديانتهم فإنها تختلف بحسب الأوقات والنظر إلى السلاطين، ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره، إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره، فيدخلون عليه قصره المشيد، ولا يعبئون بخيله ورجله، حتى يخرجوه من بلدهم. وهذا كثير في أخبارهم.
وأما الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال، إذا لم يعدلوا، فكل يوم. وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدورة التي تكسل عن الكدّ، وتخرج الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى النهاية. وإذا رأوا شخصًا صحيحًا قادرًا على الخدمة يطلب، سبّوه وأهانوه، فضلًا عن أن يتصدقوا عليه، فلا تجد بالأندلس سائلًا إلا أن يكون صاحب عذر.
وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يرُى فارغًا، عالة على الناس، لأن هذا عندهم في نهاية القبح. والعالم عندهم معظّم من الخاصة والعامة، يشار إليه، ويحال عليه، ويَنْبُه قدره وذكره عند الناس، ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك. ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرأون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرأون لأن يعلموا، لا لأن يأخذوا جاريًا. فالعالم منهم بارع لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه، يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق من عنده، حتى يعلم، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظًا عظيمًا عند خواصهم، ولا يتظاهرون بها خوف العامة، فإنه كلما قيل يقرأ الفلسفة، أو يشتغل بالتنجيم، اطلعت عليه العامة اسم زنديق، وقيّدت على أنفاسه، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة، أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربًا لقلوب العامة. وكثيرًا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرّب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن، على ما ذكره الحجاري، والله أعلم.
وأما زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم، لا سيما في شرق الأندلس، فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيًا ولا فقيهًا مشارًا إليه إلاّ وهو بعمامة. وقد تسامحوا بشرقها في ذلك، ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان، وإليه الإشارة، وقد خطب له بالملك في تلك الجهة؛ وهو حاسر الرأس، وشيبه قد غلب على سواد شعره.
ولا تجد في خواص الأندلس وأكثر عوامهم من يمشي دون طيلسان، إلاّ أنه لا يضعه على رأسه منهم إلاّ الأشياخ المعظمون. وغفائر الصوف كثيرًا ما يلبسونها حمرًا وخضرًا، والصفر مخصوصة باليهود، ولا سبيل ليهودي أن يتعمم البتة. والذؤابة لا يرخيها إلاّ العالم، ولا يصرفونها بين الأكتاف، وإنما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى، وهذه الأوضاع التي بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس، وإن رأوا في رأس مشرقي داخل إلى بلادهم شكلًا منها أظهروا التعجب والاستظراف، ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها، لأنهم لم يعتادوا ولم يستحسنوا إلاّ أوضاعهم. وكذلك في تفصيل الثياب.
وأهل الأندلس أشدّ خلق الله اعتناءً بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلاّ ما يقوته يومه، فيطويه صائمًا، ويبتاع صابونًا يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها. وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش، وحفظ لما في أيديهم، خوف ذل السؤال، فلذلك قد ينسبون للبخل. ولهم مروآت على عادة بلادهم، لو فطن لها حاتم لفضل دقائقها على عظائمه. ولقد اجتزت مع والدي على قرية من قراها، وقد نال منا البرد والمطر أشد النيل، فأوينا إليها وكنا على حال ترقب من السلطان، وخلوّ من الرفاهية، فنزلنا في بيت شيخ من أهلها من غير معرفة متقدّمة فقال لنا: إن كان عندكم ما أشتري لكم به فحمًا تسخنون به، فإني أمضي في حوائجكم، وأجعل عيالي يقومون بشأنكم، فأعطيناه ما اشترى به فحمًا. فأضرم نارًا، فجاء ابن له صغير ليصطلي، فضربه، فقال له والدي: لمَ ضربته؟ فقال: يتعلم استغنام أموال الناس، والضجر للبرد من الصغر. ثم لما جاء النوم قال لابنه: أعط هذا الشاب كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه. فدفع كساءه إليّ. ثم لما قمنا عند الصباح وجدت الصبي منتبهًا، ويده في الكساء، فقلت ذلك لوالدي فقال: هذه مروآت أهل الأندلس، وهذا احتياطهم أعطاك الكساء وفضلك على نفسه، ثم أفكر في أنك غريب، لا يعرف هل أنت ثقة أو لص، فلم يطب له منام حتى يأخذ كساءه، خوفًا من انفصالك بها وهو نائم. وعلى هذا الشيء الحقير فقس الشيء الجليل.
- الكتاب الأول: كتاب حلي العرس، في حلي غرب الأندلس.
- الكتاب الثاني: كتاب الشفاه اللعس، في حلي موسطة الأندلس.
- الكتاب الثالث: كتاب الأنس، في حلي شرق الأندلس.
- الكتاب الرابع: كتاب لحظات المريب، في ذكر ما حماه من الأندلس عيّاد الصليب.
- الكتاب الأول: كتاب الحلة المذهبة، في حلي مملكة قرطبة.
- الكتاب الثاني: كتاب الذهبية الأصيلية، في حلي المملكة الأشبيلية.
- الكتاب الثالث: كتاب خدع الممالقة، في حلي مملكة مالقة.
- الكتاب الرابع: كتاب الفردوس، في حلي مملكة بطليوس.
- الكتاب الخامس: كتاب الخلب، في حلي مملكة شلب.
- الكتاب السادس: كتاب الديباجة، في حلي مملكة باجة.
- الكتاب السابع: كتاب الرياض المصونة، في حلي مملكة أشبونة.
وقد ذكر رحمه الله تعالى في كل قسم ما يليق به، وصوّر أجزاءه على ما ينبغي. فالله يجازيه خيرًا، والكلام في الأندلس طويل عريض.
وقال بعض المؤرخين: طول الأندلس ثلاثون يومًا، وعرضها تسعة أيام، ويشقها أربعون نهرًا كبارًا، وبها من العيون والحمامات والمعادن ما لا يحصى، وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار، وأزيد من ثلثمائة من المتوسطة، وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة، حتى قيل إن عدد القرى التي على نهر أشبيلية اثنا عشر ألف قرية. وليس في معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعًا من يومه إلا بالأندلس.
ومن بركتها أن المسافر لا يسافر فيها فرسخين دون ماء أصلًا. وحيثما سار في الأقطار يجد الحوانيت في الفلوات والصحاري والأودية ورؤس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وغير ذلك من ضروب الأطعمة.
أخذت الأندلس في عرض الإقليمين الخامس والسادس من البحر الشامي في الجنوب، إلى البحر المحيط في الشمال، وبها من الجبال سبعة وثمانون جبلًا. ا.هـ.
ولبعضهم:
وقال آخر:
وقال آخر:
وحكى بعضهم أن بالجامع في مدينة أقليش بلاطًا فيه جوائز منشورة مربعة مستوية الأطراف، طول الجائزة منها مائة شبر وأحد عشر شبرًا. وفي الأندلس جبل من شرب من مائة كثر عليه الاحتلام من غير إرادة ولا تفكر، وفيها غير ذلك مما يطول ذكره. والله أعلم. انتهى.
(٦) ما قاله المسعودي في مروج الذهب عن الأندلس
ومن قرطبة إلى مدينة طليلطلة نحو من سبع مراحل، ومن قرطبة إلى البحر مسيرة نحو من ثلاثة أيام، ولهم على بحر تونس من الساحل مدينة يقال لها أشبيلية.
(٧) قول القلقشندي في صبح الأعشى عن الأندلس
قال ابن سعيد: قال الحجاري: وطول الأندلس من جبل ألبرت الفاصل بين الأندلس والأرض الكبيرة، وهو نهاية الأندلس الشرقية إلى أشبونة، وهي في نهاية الأندلس الغربية، ألف ميل. وعرض وسطه، من بحر الزقاق إلى البحر المحيط، عند طليطلة وجبل ألبرت، ستة عشر يومًا. قال في تقويم البلدان: وقد قيل: إن طوله غربًا وشرقًا من أشبونة، وهي في غرب الأندلس إلى أربونة، وهي في شرق الأندلس، مسيرة ستين يومًا، وقيل شهر ونصف. وقيل: شهر. قال: وهو الأصح.
واعلم أن جبل ألبرت المقدّم ذكره متصل من بحر الزقاق إلى البحر المحيط، وطوله أربعون ميلًا، وفيه أبواب فتحها الأوائل، حتى صار للأندلس طريق في البر وفي وسط الأندلس جبل ممتد من الشرق إلى الغرب، يقال له جبل الشارة، يقسمه بنصفين: نصف جنوبيّ ونصف شماليّ. اهـ. ثم ذكر القلقشندي أهم حواضر الأندلس وسنأثر عنه ما نجده جديرًا بالنقل، وذلك عند وصولنا إليها.
(٨) ما قاله ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب
في سنة أربع وثمانين افتتح موسى بن نصير أوروبا من المغرب، وبلغ عدد السبي خمسين ألفًا. ا.هـ. سمي الأندلس أوروبا، من باب تسمية البعض باسم الكل.
وذكر في حوادث سنة ٨٧ فتح سردانية من المغرب. وفي حوادث ٨٩ فتح جزيرتي ميورقة ومنورقة. وقال عن حوادث ٩٢: فيها افتتح إقليم الأندلس على يد طارق مولى موسى بن نصير، وتمم موسى فتحه في ثلاث سنوات. وذكر في حوادث سنة ١٧٢ موت صاحب الأندلس أبي المطرف عبد الرحمن بن معاوية بن الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي الدمشقي المعروف بالداخل وقال إنه: فرَّ إلى المغرب عند زوال دولتهم، فقامت معه اليمانية، وحارب يوسف الفهري، متولي الأندلس، وهزمه، وملك قرطبة في يوم الأضحى سنة ثمان وثلاثين ومائة. وامتدت أيامه، وكان عالمًا، حسن السيرة، وعاش اثنتين وستين سنة. وولى بعده ابنه هشام، وبقيت الأندلس لعقبه إلى حدود الأربعمائة الخ.
(٩) قول المقدسي في جغرافيته الشهيرة المسماة «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»
ذكر المقدسي الأندلس في جملة إقليم المغرب، بدأ بأفريقية، أي مملكة تونس الحاضرة، وتقدّم إلى المغرب الأوسط، وكان يسمّى في ذلك الوقت إقليم تاهرت ثم تقدم إلى سجلماسة، وفاس، والسوس الأقصى. ثم ذكر جزيرة صقلية، وبعد أن عدد مدنها بدأ بالأندلس فقال: وأما الأندلس فنظيرها هيطل من جانب المشرق، غير أنّا لم نقف على نواحيها فنكوِّرها، ولم ندخلها فنقسمها. ويقال إنها ألف ميل. وقال ابن خرداذبة: الأندلس أربعون مدينة، يعني المشهور منها، لأن أحدًا لم يسبقنا إلى تفصيل الكور، ووضع القصبات، فبعض المدن التي ذكر هي قصبات، على قياس ما رتبنا.
وسألت بعض العقلاء منهم عن الرساتيق المحيطة بقرطبة، والمنسوبة إليها والمدن فقال: إنّا نسمي الرستاق إقليمًا، فالأقاليم المحيطة بقرطبة ثلاثة عشر مع مدنها، فذكر «أرجونة» «قَسْطلّة» «شَوْذَر» «مارتُش» «قنْبانُش» «فجّ ابن لَقيط» «بلاط مرْوان» «حصن بُلْكونة» «الشنيدة» «وادي عبد الله» «قرسيس» «المائدة» «جيّان» — وعلى ما دل آخر الاسم هي ناحية مدَّنها الجفر — «بَيْغو» «مارتُش» «قانت» «غَرْناتة» «مَنتِيشة» «بيّاسة» وسائر مدن أندلس المذكورة «طرطوشة» «بلنسية» «مُرسية» «بَجانة» «مالقة» «جزيرة جبل طارق» «شَذُنة» «إشبيلية» «أُخشنُبة» «مرية» «شَنْتَرين» «باحَة» «لَبْلَة» «قَرْمونة» «مَوْرور» «إستجة».
ثم عاد بعد قليل فذكر الأندلس بشيء من التفصيل فقال: قرطبة هي مصر الأندلس سمعت بعض العثمانية يقول: هي أجلٌ من بغداد. في صحراء يطل عليها جبل، ولها مدينة جوّانية، وربض الجامع في المدينة وأسواق. وأغلب الأسواق ودار السلطان في الربض. قدامها وادٍ عظيم، سطوحهما قراميد. الجامع من حجر وجير. سواريه رخام. حواليه مياض.
فيحصل القول، وتثبت الدلائل، على أن مثل المغرب كمثل المشرق، كل واحدٍ منهما جانبان: فكما أن المشرق خراسان وهيطل يفصل بينهما جيحون، فكذلك المغرب والأندلس يفصل بينهما بحر الروم.
ثم ذكر المقدّسي جمل شؤون هذا الإقليم فقال: هو إقليم جليل كبير طويل يوجد فيه أكثر ما يوجد في سائر الأقاليم، مع الرخص، كثير النخيل والزيتون، به مواضع الحرّ، ومعادن البرد، كثير اليهود، جيد الهواء والماء.
فأما الحر فإنك تجده من مصر إلى السوس الأقصى، إلا في مواضع، فإن بها جبلًا وبلدانًا باردة، والغالب على الأندلس البرد، كثير المجذّمين، والخصيان، والثقلاء، والبخلاء، قليل القصّاص، رُفق، يحبون العلم وأهله، ويكثرون التجارات والتغرب.
وأما المذاهب فعلى ثلاثة أقسام: أما في الأندلس فمذهب مالك وقراءة نافع. وهم يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله وموطأ مالك. فإن ظهروا على حنفيّ أو شافعيّ نفوه، وإن عثروا على معتزليّ أو شيعي ونحوهما ربما قتلوه. وبسائر المغرب إلى مصر لا يعرفون مذهب الشافعي (رحه) إنما هو أبو حنيفة ومالك (رحمهما). وكنت يومًا أذاكر بعضهم في مسألة فذكرت قول الشافعي (رحه) فقال: اسكت! من هو الشافعي؟ إنما كانا بحرين: أبو حنيفة لأهل المشرق، ومالك لأهل المغرب، أفنتركهما ونشتغل بالساقية؟ ورأيت أصحاب مالك (رحه) يبغضون الشافعي قالوا: أخذ العلم عن مالك ثم خالفه.
وما رأيت فريقين أحسن اتفاقًا وأقل تعصبًا منهم، وسمعتهم يحكون عن قدمائهم في ذلك حكايات عجيبة، حتى قالوا إنه كان الحاكم سنة حنفيّ، وسنة مالكي. قلت: وكيف وقع مذهب أبي حنيفة (رحه) إليكم ولم يكن على سابلتكم؟ وقالوا: لما قدم وهب بن وهب من عند مالك (رحه) وقد حاز من العلوم والفقه ما حاز استنكف أسد بن عبد الله أن يدرس عليه، لجلالته وكبر نفسه، فرحل إلى المدينة ليدرس على مالك، فوجده عليلًا، فلما طال مقامه عنده قال له: ارجع إلى ابن وهب فقد أودعته علمي وكفيتكم به الرحلة، فصعب ذلك على أسد، وسأل: هل يعرف لمالك نظير؟ فقالوا: فتًى بالكوفة يقال له محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة. قالوا: فرحل إليه وأقبل عليه محمد إقبالًا لم يقبله أحد، ورأى فهمًا وحرصًا، فزقّه الفقه زقًا، فلما علم أنه قد استقل وبلغ مراده فيه، سيّبه إلى المغرب، فلما دخل اختلف إليه الفتيان، ورأوا فروعًا حيرتهم، ودقائق أعجبتهم، ومسائل ما طنت على أذن بن وهب وتخرج به الخلق، وفشا مذهب أبي حنيفة (رحه) بالمغرب قلت: فلم لم يفش بالأندلس؟ قالوا: لم يكن بالأندلس أقل منه ههنا، ولكن تناظر الفريقان يومًا بين يدي السلطان فقال لهم: من أين كان أبو حنيفة؟ قالوا: من الكوفة. فقال: مالك؟ قالوا: من المدينة. قال: عالم دار الهجرة يكفينا؟ فأمر بإخراج أصحاب أبي حنيفة. وقال: لا أحب أن يكون في عملي مذهبان. وسمعت هذه الحكايات من عدة من مشايخ الأندلس.
والقسم الثالث مذاهب الفاطميّ، وهي على ثلاثة أقسام: أحدها ما قد اختلف فيه الأئمة مثل القنوت في الفجر، والجهر بالبسملة، والوتر بركعة، وما أشبه ذلك. والثاني الرجوع إلى ما كان عليه السلف، مثل الإقامة مثنى التي ردّها بنو أمية إلى واحدة، ومثل لبس البياض الذي ردّه بنو العباس إلى السواد، والثالث ما تفرّد به مما لا يخالف الأئمة، وإن لم يعرف له قدمة، مثل الحيملة في الآذان، وجعل أول الشهر يومًا يرى فيه الهلال، وصلاة الكسوف بخمس ركعات وسجدتين في كل ركعة وهذه مذاهب الشيعة، ولهم تصانيف يدرسونها.
ونظرت في كتاب «الدعائم» فإذا هم يوافقون المعتزلة في أكثر الأصول ويقولون بمذهب الإسماعيلية. ولهم فيه سر لا يعلمونه ولا يأخذونه على كل أحد، إلا من وثقوا به، بعد أن يحلّفوه ويعاهدوه. وإنما سموا باطنّية لأنهم يصرفون ظاهر القرآن إلى بواطن، وتفاسير غريبة، ومعانٍ دقيقة. وهذه الأصول مذاهب الإدريسية وغلبتهم بكورة السوس الأقصى، وهي قريبة من مذاهب القرامطة.
وأهل المغرب والمشرق في مذاهب الفاطمي على ثلاثة أقسام: منهم من أقرّ بها واعتقدها. ومنهم من كفر بها وأنكرها. ومنهم من جعلها في اختلاف الأمة. وأكثر أهل أصقلية حنفيّون. وقرأت في كتاب صنفه بعض مشايخ الكرّامية بنيسابور أن بالمغرب سبعمائة خانقاه لهم، فقلت لا والله ولا واحدة!
وأما الأرطال فكانت بغدادية في الإقليم كله، إلا الذي يوزن به الفلفل، فإنه يشف على البغدادي بعشرة دراهم. والآن هو المستعمل في أعمال الفاطميّ بالمغرب كله. والمكاييل قفيز القيروان اثنان وثلاثون ثمنًا، والثمن ستة أمداد بمدّ النبي ﷺ. وقفيز الأندلس ستون رطلًا، والربع ثمانية عشر رطلًا. وفنيقة نصف القفيز. ومكاييل الفاطمي الدوّار، وهي التي تشف على ويبة مصر بشيء يسير قد ألجم رأسها بعارضة من حديد، وأقيم عمود من قاعها إلى العارضة فوقه حديد يدور على رأس الويبة، فإذا أترعها أدار الحديد، فمسحت فم الويبة، وصح الكيل. وأرطاله رصاص على كل رطل اسم أمير المؤمنين، فإن اجتمعت أرطال بموضع واحد بسيط صبّها، وطبع على كل رطل، ولو كانت عشرة.
والعجائب بهذا الإقليم كثيرة، منها أبو قلمون، وهي دابة تحتك بحجارة على شط البحر فيقع منها وبرها، وهو في لين الخز، لونه لون الذهب، لا يغادر منه شيئًا، وهو عزيز الوجود، فيجمع وينسج منه ثياب تتلّون في اليوم ألوانًا، ويمنع السلطان من حمل ذلك إلى البلدان، إلا ما يخفى عنهم، ربما بلغ الثوب عشرة آلاف دينار.
بأصقليّة جبل تفور منه النار أربعة أشهر، في كل عشر سنين مرة، وسائر الأوقات يدخن، وحوله ثلوج متلبدة، إلا موضع الدخان.
بمدينة «إيكِجَا» عيون تخرج أوقات الصلاة ثم تغور. فإن قصدها رجل كان قد قتل نفسًا بغير حق لم يخرج له شيء.
فإن قال القائل: إنك تركت كثيرًا من العجائب في هذا الإقليم لم تذكرها. قيل له: إنما تركنا ما ذكره من قبلنا في تصانيفهم. ومن مفاخر كتابنا الإعراض عما ذكره غيرنا. وأوحش شيء في كتبهم ضد ما ذكرنا. ألا ترى أنك إذا نظرت في كتاب الجبهاني وجدته قد احتوى على جميع أصل ابن خرداذبه، وبناه عليه، وإذا نظرت في كتاب ابن الفقيه، فكأنما أنت ناظر في كتاب الجاحظ والزيج الأعظم، وإذا نظرت في كتابنا وجدته يسبّح وحده يتيمًا في نظمه. ولو وجدنا رخصة في ترك جمع هذا الأصل ما اشتغلنا به، ولكن لما بلّغنا الله تعالى أقاصي الإسلام، وأرانا أسبابه، وألهمنا قسمته، وجب أن ننهي ذلك إلى كافة المسلمين. ألا ترى إلى قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِأَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا لمن اعتبر وفوائد لمن سافر.
(١٠) مما قاله عن الأندلس لسان الدين بن الخطيب
والبربري يرجع إلى قبائله المرينية، والزنانية، والنجانية، والمغراوية، والعجيسية والعرب المغربية، إلى أقطاب ورؤوس يرجع أمرهم إلى رئيس على رؤسائهم، وقطب لعرفائهم، من كبار القبائل المرينية، يمت إلى ملك المغرب بنسب. والعمائم تقل في زي هذه الحضرة، إلاّ ما شذّ في شيوخهم وقضاتهم وعلمائهم والجند العربي منهم. وسلاح جموعهم العصى الطويلة المثناة بعصى صغار ذوات عرى في أوساطها، ترفع بالأنامل عند قذفها، تسمى «بالأمداس» وقسي الإفرنجة يحملون على التدريب بها على الأيام. والمواسم متوسطة، وأعيادهم حسنة مائلة إلى الاقتصاد: والغني بمدينتهم فاش، حتى في الدكاكين التي تجمع صنائعها كثيرًا من الأحداث كالخفافين ومثلهم. وقوتهم الغالب البُرّ الطيّب عامة العام، وربما اقتات في فصل الشتاء الضعَفة والبوادي والفعلة في الفلاحة الذرة العربية، ومثل أصناف القطاني الطيبة.
وصرفهم فضة خالصة، وذهب إبريز طيب محفوظ، ودرهم مربع الشكل من وزن المهدي القائم بدولة الموحدين، في الأوقية منه سبعون درهمًا، يختلف الكتب فيه: فعلى عهدنا في شِق: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وفي شِقٍ آخر: «لا غالب إلا الله» غرناطة. ونصف، وهو القيراط، في شق: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وفي شق: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ ونصفه، وهو الربع، في شِق: هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ وفي شق: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ.
ودينارهم في الأوقية منه ستة دنانير وثلثا دينار، وفي الدينار الواحد ثُمن أوقية وخُمس ثُمن أوقية، وفي شق منه: «قل اللهُم مالك الملك (إلى) بيدك الخير» ويستدير به قوله تعالى: وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ وفي شق: «الأمير عبد الله يوسف بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن نصر أيّد الله أمره» ويستدير به: «لا غالب إلا الله» ولتاريخ تمام هذا الكتاب في وجه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ويستدبر به: «لا غالب إلا الله» وفي وجه: «الأمير عبد الله الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن نصر أيّده الله وأعانه» ويستدير بربع: «بمدينة غرناطة حرسها الله».
وعادة أهل هذه المدينة الانتقال إلى حلل العصير، أوان إدراكه بما تشتمل عليه دورهم، والبروز إلى الفحوص بأولادهم وعيالهم، معوّلين في ذلك على شهامتهم. وأسلحتهم على أكتاد دوابهم، وانصال أمصارهم بحدود أرضهم، وحليهم في القلائد والدمالج والشنوف والخلاخل الذهب الخالص إلى هذا العهد في أولي الجدة، واللجين في كثير من آلة الراجلين فيمن عداهم، والأحجار النفيسة من الياقوت والزبرجد والزمرد، ونفيس الجوهر كثير ممن ترتفع طبقاتهم المستندة إلى ظل دولة، أو أصالة معروفة موفّرة.
وحريمهم حريم جميل موصوف بالحسن وتنعم الجسوم، واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب النَّشر، وخفة الحركات، ونبل الكلام، وحسن المحاورة، إلا أن الطول يندر فيهن. وقد يبلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد، وللظاهرة بين المصبّغات، والتنافس بالذهبيات والديباجيات، والتماجن في أشكال الحلي إلى غاية، نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر، ويكف كف الخطب، ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة، وأن يعامل جميع من بها بستره، ولا يسلبهم خفي لطفه بعزته وقدرته. انتهى. قلت: كيف لو عاش ابن الخطيب في عصرنا هذا! فماذا كان يقول يا ليت شعري!؟ ولله الأمر من قبل ومن بعد!.
(١١) ما ذكره المقري في النفح عن أنساب عرب الأندلس
قال: إنه لما استقر قدم أهل الإسلام في الأندلس، وتتامّ فتحها، صرف أهل الشام وغيرهم من العرب هممهم إلى الحلول بها، فنزل بها من جراثيم العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم، إلى أن كان من أمرهم ما كان. فأما العدنانيون فمنهم خندف ومنهم قريش. وأما بنو هاشم من قريش فقال ابن غالب في فرحة الأنفس: بالأندلس منهم جماعة كلهم من ولد إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ومن هؤلاء بنو حمّود ملوك الأندلس بعد انتثار ملك بني أمية. وأما بنو أمية فمنهم خلفاء الأندلس. قال ابن سعيد: ويعرفون هنالك إلى الآن بالقرشيين، وربما عموا نسبهم إلى أمية في الآخر، لما انحرف الناس عنهم، وذكروا أفعالهم في الحسين رضي الله عنه. وأما بنو زهرة فمنهم بأشبيلية أعيان متميّزون. وأما المخزوميون فمنهم أبو بكر المخزومي الأعمى الشاعر المشهور من أهل حصن المدور. ومنهم الوزير الفاضل في النظم والنثر أبو بكر بن زيدون، ووالده الذي هو أعظم منه، أبو الوليد ابن زيدون وزير معتضد بني عباد.
وأما المنتسبون إلى عموم كنانة فكثير، وجلهم في طليطلة وأعمالها، ولهم ينسب الوشقيون الكنانيون الأعيان الفضلاء، الذين منهم القاضي أبو الوليد، والوزير أبو جعفر، ومنهم أبو الحسين بن جبير العالم صاحب الرحلة، وقد ذكرناه في محله.
وأما هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غالب أن منزلهم بجهة أريولة من كورة تدمير. وأما تميم بن مرة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غالب أيضًا أنهم خلق كثير بالأندلس، ومنهم أبو الطاهر صاحب المقامات اللزومية. وأما ضبة بن أدّ بن طابخة فذكر أنهم قليلون بالأندلس. فهؤلاء خندف من العدنانية.
وفي ثقيف اختلاف: فمنهم من قال إنها قيسية، وإن ثقيفًا هو قيس بن منبه ابن بكر بن هوزان، ومنهم بالأندلس جماعة، وإليهم ينتسب الحر بن عبد الرحمن الثقفي صاحب الأندلس وقيل إنها من بقايا ثمود. انتهى قيس بن عيلان وجميع مضر.
وأما ربيعة بن نزار فمنهم من ينتسب إلى أسد بن ربيعة بن نزار. قال في فرحة الأنفس: إن إقليم هؤلاء مشهور باسمهم، بجوفيّ مدينة وادي آش. انتهى. والأشهر بالنسبة إلى أسد أبدًا بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ومنهم من ينتسب إلى محارب بن عمرو بن وديعة بن بكير بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد ابن ربيعة. قال ابن غالب في فرحة الأنفس: ومنهم بنو عطية أعيان غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى النمر بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد كبني عبد البر الذين منهم الحافظ أبو عمر بن عبد البر، ومنهم من ينتسب إلى تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب، كبني حمديس أعيان قرطبة، ومنهم من ينتسب إلى بكر بن وائل كالبكريين أصحاب أونبة وشلطيش، الذين منهم أبو عبيد البكري صاحب التصانيف. انتهت ربيعة.
وأما إياد بن نزار، وقد يقال أنه ابن معدّ، والصحيح الأول، فينتسب إليهم بنو زهرة المشهورون بأشبيلية وغيرهم. انتهت العدنانية. وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام.
واختلف في القحطانية، هل هم من ولد إسماعيل؟ أو من ولد هود؟ على ما هو معروف، وظاهر صنيع البخاري الأول، والأكثر على خلافه. والقحطانية هم المعروفون باليمانية، وكثيرًا ما يقع بينهم وبين المضرية وسائر العدنانية الحروب بالأندلس، كما كان يقع بالمشرق، وهم الأكثر بالأندلس، والملك فيهم أرسخ، إلا ما كان من خلفاء بني أمية، فإن القرشية قدمتهم على الفرقتين، واسم الخلافة لهم بالمشرق. وكان عرب الأندلس يتميزون بالعمائر والقبائل والبطون والأفخاذ، إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداهية الذي ملك سلطنة الأندلس، وقصد بذلك تشتيتهم، وقطع التحامهم وتعصبهم في الاعتزاء، وقدّم القواد على الأجناد، فيكون في جند القائد الواحد فِرق من كل قبيل، فانحسمت مادة الفتن والاعتزاء بالأندلس، إلا ما جاءت على غير هذه الجهة.
قال ابن حزم: جماع أنساب اليمن من جرم بن كهلان، وحمير بن يشجب ابن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفَخشذ بن سام بن نوح، وقيل قحطان بن الهميسع بن تيهان بن نابت بن إسماعيل، وقيل قحطان بن هود ابن عبد الله بن رباح بن جارف بن عاد بن عَوْص بن إرم بن سام. والخلف في ذلك مشهور، فمنهم كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومنهم الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، وإليهم ينتسب محمد بن هانئ الشاعر المشهور الألبيري، وهو من بني المهلّب. ومن الأزد من ينتسب إلى غسّان، وهم بنو مازن بن الأزد، وغسان ماء شربوا منه. وذكر ابن غالب أن منهم بني القيسعي من أعيان غرناطة، وكثير منهم بصالحة، قرية على طريق مالقة، ومن الأزد من ينتسب إلى الأنصار على العموم، وهم الجم الغفير بالأندلس.
قال ابن سعيد: والعجب أنك تعدم هذا النسب بالمدينة، وتجد منه بالأندلس في أكثر بلدانها ما يشذ عن العدد كثرة. ولقد أخبرني من سأل عن هذا النسب بالمدينة فلم يجد منه إلاّ شيخًا من الخزرج، وعجوزًا من الأوس. قال ابن غالب: وكان جزء الأنصار بناحية طليطلة، وهم أكثر القبائل بالأندلس في شرقها ومغربها. انتهى. ومن الخزرج بالأندلس أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء، من ولد سعد بن عبادة، صاحب رسول الله ﷺ، وهو المشهور بالموشحات. وإلى قيس بن سعد بن عبادة ينتسب بنو الأحمر سلاطين غرناطة، الذين كان لسان الدين بن الخطيب أحد وزرائهم، وعليهم انقرض ملك الأندلس من المسلمين، واستولى العدو على الجزيرة جميعًا كما يذكر. ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى الأوس أخي الخزرج، ومنهم من ينتسب إلى غافق بن عك بن عديان بن أزان بن الأزد. وقد يقال عك بن عدنان بالنون. فيكون أخا معدّ بن عدنان وليس بصحيح.
ومن كهلان خولان بن عمرو بن الحرث بن مُرة. وقلعة خولان مشهورة بين الجزيرة الخضراء وأشبيلية. ومنهم بنو عبد السلام أعيان غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى المعافرين يعفر بن مالك بن الحرث بن مرة، منهم المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس. ومنهم من ينتسب إلى لخم بن عدي بن الحرث بن مرة. منهم بنو عباد أصحاب أشبيلية وغيرها. وهم من ولد النعمان بن المنذر صاحب الحيرة. ومنهم بنو الباجي أعيان أشبيلية، وبنو وافد العيان. ومنهم من ينتسب إلى جذام، مثل ثوابة بن سلامة صاحب الأندلس، وبني هود ملوك شرق الأندلس. ومنهم المتوكل ابن هود الذي صحت له سلطنة الأندلس بعد الموحدين. ومنهم بنو مردنيش أصحاب شرق الأندلس. قال بن غالب: وكان لجذام جزء من قلعة رباح، واسم جذام عامر، واسم لخم مالك، وهما ابنا عدي.
وأما حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمنهم من ينتسب إلى ذي رُعين. قال ابن غالب: وذو رُعين هم ولد عمرو بن حِمير في بعض الأقوال، وقيل هو من ولد سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جُثم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قَطن بن عَريب بن زُهير بن أيمن بن الهَميْسع بن حمير. قال: ومنهم أبو عبد الله الحناط الأعمى الشاعر. قال الجازمي في كتاب النسب: واسم ذي رُعين عَريم بن زيد بن سهل. وَوَصل النسب. ومنهم من ينتسب إلى ذي أصبْح. قال ابن حزم: هو ذو أصبح بن مالك بن زيد من ولد سبأ الأصغر ابن زيد بن سهل ابن عمرو بن قيس، ووَصل النسب. وذكر الحازمي أن ذا أصبح من كهلان. وأخبر أن منهم مالك بن أنس الإمام، والمشهور أنهم من حمير. والأصبحيون من أعيان قرطبة. ومنهم من ينتسب إلى يحصب قال ابن حزم: إنه أخوذي أصبح، وهم كثير بقلعة بني سعيد، وقد تُعرف من أجلهم في التواريخ الأندلسية بقلعة يحصب. ومنهم من ينتسب إلى هوزان بن عوف بن عبد شمس بن وائل بن الغوث. قال ابن غالب ومنزلهم بشرق أشبيلية والهوازنيون من أعيان أشبيلية. ومنهم من ينتسب إلى قُضاعة بن مالك بن حمير، وقد قيل إنه قضاعة بن معدّ بن عدنان، وليس بمُرض.
وقد رأيت أن أسرد هنا أسماء ملوك الأندلس من لدن الفتح إلى آخر ملوك بني أمية، وإن تقدم، ويأتي ذكر جملة منهم بما هو أتمّ مما هنا فنقول: طارق ابن زياد مولى موسى بن نصير، ثم الأمير موسى بن نصير، وكلاهما لم يتخذ سرير السلطنة ثم عبد العزيز بن موسى بن نصير، وسريره أشبيلية، ثم أيوب بن حبيب اللخمي وسريره قرطبة. وكل من يأتي بعده فسريره قرطبة، والزهراء والزاهرة بجانبيها، إلى أن انقضت دولة بني مروان، على ما ينبه عليه، ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي، ثم السمْح بن مالك الخولاني، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، ثم عنبسة بن سحيم الكلبي، ثم عذرة بن عبد الله الفهري، ثم يحيى بن سلمة الكلبي، ثم عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، ثم حذيفة بن الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عبيد الكلابي ثم محد بن عبد الله الأشجعي، ثم عبد الملك بن قَطَن الفهري، ثم بلج، ثم بشر ابن عياض القشيري، ثم ثعلبة بن سلامة العامليّ، ثم أبو الخطار بن ضرار الكلبي، ثم ثوابة بن سلامة الجذامي، ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهري. وههنا انتهى الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة، أفرادًا عددهم عشرون، فيما ذكر بن سعيد، ولم يتعدوا في السمة لفظ الأمير قال ابن حيان: مدتهم، منذ تاريخ الفتح من لذريق سلطان الأندلس النصراني، وهو يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين إلى يوم الهزيمة على يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وتغلب عبد الرحمن بن معاوية المرواني على سرير الملك بقرطبة، وهو يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة — ست وأربعون سنة وخمسة أيام. ا.هـ.
ثم كانت دولة بني أمية، أولهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ثم ابنه هشام الرضي. ثم ابنه الحكم بن هشام. ثم ابنه عبد الرحمن الأوسط. ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن. ثم ابنه المنذر بن محمد. ثم أخوه عبد الله بن محمد. ثم ابن عمه عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله. ثم ابنه الحكم المستنصر، وكرسيهما الزهراء. ثم هشام ابن الحكم. وفي أيامه بني حاجبه المنصور بن أبي عامر الزاهرة. ثم المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر. وهو أول خلفاء الفتنة، وهدمت في أيامه الزهراء والزاهرة، وعاد السرير إلى قرطبة. ثم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، ثم تخللت دولة بني حمود العلويين، وأولهم الناصر علي بن حمود العلوي الإدريسي. ثم أخوه المأمون القاسم بن حمود. ثم كانت دولة بني أمية الثانية وأولها المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر. ثم المستكفي محمد ابن عبد الرحمن بن عبد الله. ثم المعتمد هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وهو آخر خلفاء الجماعة بالأندلس. وحين خلع أسقط ملوك الأندلس الدعوة للخلافة المروانية، واستبدت ملوك الطوائف كابن جهور في قرطبة، وابن عبّاد بأشبيلية، وغيرهما، ولم يعد نظام الأندلس إلى شخص واحد إلى أن ملكها يوسف بن تاشفين الملثم من بر العدوة، وفتك بملوك الطوائف، وبعد ذلك ما خلصت له ولا لولده علي ابن يوسف، لأن بني هود نازعوه في شرقها بالثغر، إلى أن جاءت دولة عبد المؤمن وبنيه. فما صفَت لعبد المؤمن بمحمد بن مردنيش الذي كان ينازعه في شرق الأندلس ثم صفت ليوسف بن عبد الرحمن بموت ابن مردنيش، ثم لمن بعده من بنيه، وحضرتهم مراكش. وكانت ولاتهم تتردد على الأندلس وممالكها، ولم يولّوا على جميعها شخصًا واحدً لعظم ممالكها، إلى أن انقرضت منها دولتهم بالمتوكل محمد بن هود من بني هود، ملوك سرقسطة، وجهاتها، فملك معظم الأندلس بحيث يطلق عليه اسم السلطان، ولم ينازعه فيها إلا زيان بن مردنيش في بلنسية من شرق الأندلس، وابن هلالة طبيرة من غرب الأندلس. ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته ولما قتله وزيره ابن الرميمي بالمرية زاد الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر. وكان عرب أهل الأندلس في المائة السابعة يخطبون لصاحب أفريقية السلطان أبي زكريا يحيى ابن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص. ثم تقلصت تلك الظلال، ودخل الجزيرة الانحلال، إلى أن استولى عليها حزب الضلال. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
هوامش
لم أر بدًا من إثبات هذا الفصل وإن كان على أهل بلدي فيه من الظلم والتعصب ما لا يخفى، ولسان الحال في الرد أنطق من لسان البلاغة، وليت شعري إذ سلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء والهمم والشجاعة، فمن الذين دبروها بآرائهم وعقولهم مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيف؟ ومن الذين حموها ببسالتهم من الأمم المتصلة بهم في داخلها وخارجها نحو ثلاثة أشهر على كلمة واحدة في نصرة الصليب؟ وإني لأعجب منه إذ كان في زمن قد دلفت فيه عباد الصليب إلى الشام والجزيرة، وعاثوا كل العيث في بلاد الإسلام، حيث الجمهور والقبة العظمى، حتى أنهم دخلوا مدينة حلب. وما أدراك، وفعلوا فيها ما فعلوا وبلاد الإسلام متصلة بها من كل جهة، إلى غير ذلك مما هو مسطور في كتب التواريخ. ومن أعظم ذلك وأشده أنهم كانوا يتغلبون على الحصن من حصون الإسلام التي يتمكنون بها من بسائط بلادهم فيسبون ويأسرون فلا تجتمع همم الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك، وقد يستعين بعضهم على بعض فيتمكن من ذلك الداء الذي لا يطب، وقد كانت جزيرة ا لأندلس في ذلك الزمان بالضد من البلاد التي ترك وراء ظهره. وذلك موجود في تاريخ ابن حيان وغيره ا.ﻫ.
وأقول إن ترجمة لفظة سلاف بصقالبة آتية من كون أحد أصناف الأمة السلافية ومنهم من يسكن الآن في يوغسلافية، يقال لها الأسكلافون Escklavon أو الأسكلابون فعربها العرب اسقلابون، ثم جمعوها على صقالبة أو صقالب. قال المتنبي:
الأنكبرده بالفتح ثم السكون وفتح الكاف وضم الباء الموحدة وسكون الراء ودال مهملة وهاء بلاد واسعة من بلاد الإفرنج بين القسطنطينية والأندلس تأخذ على طرف بحر الخليج من محاذاة جبل القلال وتمر على محاذاة ساحل المغرب مشرقًا إلى أن تتصل ببلاد قلورية انتهى. قلت هذا الوصف لا ينطبق إلا على مملكة إيطالية الحاضرة الممتدة من جبل القلال غربًا وهو الجبل المشرف على مدينة نيس إلى بلاد كالبرة شرقًا وهي التي يعنيها بقوله قلورية. عليك لمعرفة جبل القلال بمراجعة كتابنا «غزوات العرب في أوروبا».
الجوف: الشمال وهو من اصطلاح المغاربة جاء في كتاب الإدريسي وفي اللمحة البدرية: وسبب هذه التسمية هو أن الذين سموا بهذا الاسم ريح الشمال أو الشمال نفسه هم سكان البلاد الواقعة في جنوبي بحر الروم فإذا هبت الشمال عندهم جاءتهم من «جوف» ذيالك البحر فلذلك عرفوها بهذا الاسم كأنهم أشاروا إلى أصل مهبها فحذفوا واكتفوا باللفظ الظاهر الإشارة إليه انتهى.
لاحظت دوران حرف الخاء في غالب كلماتهم التي يكون فيها شين أو جيم أو سين بحيث لو سمعهم رجل من أهل المزاح لأستمنح السماح وقال أن لغة القوم تدور على حرف الخاء.
ففي الحال فكرت في هذه المسألة، وقلت أنا في باريز وأمامي المكتبة العمومية العظيمة، فيمكنني أن أبحث فيها ما شئت وذهبت إلى خزانة الكتب الكبرى Bibliotieque National وبمجرد وصولي أمام ذلك البحر الخضم من الكتب فكرت أن حادثًا كهذا لا يمكن أن ينشد إلا في كتب العرب المؤلفة عن الأندلس ورجحت أن أبدأ البحث في كتب الجغرافية على كتب التاريخ، وقلت في نفسي أن أشهر جغرافية عربية في القرون الوسطى هي جغرافية الشريف الإدريسي، فطلبت فهرس الكتب العربية، ووجهت نظري إلى كتب الجغرافية، فعثرت على كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» للسيد الإدريسي، وبدأت بتصفحه، ولم أكن طالعته من قبل، فما مضى ربع ساعة حتى عثرت على هذه الواقعة، وهي التي يسردها الإدريسي حسبما هو مكتوب في المتن. فكان ذلك عجبًا، لأن ما كنت أقدر له حتى أصل إليه أيامًا طوالًا، من بحث وتنقيب في مختلف الكتب، قد وصلت إليه في ربع ساعة. فنسخت ما ورد عن الأخوة المغرورين أو المغررين بتمامه، وذهبت فكتبت مقالة بعثت بها إلى جريدة ثمرات الفنون في بيروت أوردت فيها في عرض الجواب على سؤال النشرة الأسبوعية وسؤال علماء أميركة ما جاء في كتاب الشريف الإدريسي بالحرف. ثم علقت على ذلك توجيهًا للكلام يساعد على استخلاص المعنى، وهو أن الأخوة المغرورين خرجوا من أشبونة أولًا، إلى ناحية الغرب، في نحر البحر، وساروا ١٢ يومًا. فلم يجدوا شيئًا، فانعطفوا إلى ناحية الجنوب، فساروا ١٢ يومًا أخرى، فوصلوا إلى جزيرة لم يجدوا فيها إلا غنمًا لحومها مرة لا تؤكل، فانعطفوا أيضًا إلى الجنوب، وجروا ١٢ يومًا، إلى أن وصلوا إلى جزيرة وجدوا فيها بشرًا، وأخذوا إلى أمير الجزيرة، وجرى معهم ما جرى، كما هو وارد في الكتاب. وأزيد الآن هذا بيانًا فأقول: الذي يلوح لي أنهم وصلوا أولًا إلى جزيرة من جزائر الأنطيل، التي هي بين أميركة الشمالية، وأميركة الجنوبية، ومجموع هذه الجزائر هو بين ١٠ و٢٧ درجة من العرض الشمالي، وبين ٦٢ و٨٧ درجة من الطول، في غربي خط نصف النهار، المار بباريز، وكان أول وصول كريستوف كولومبوس إلى جزيرة من أميركا كهذه في ١٢ أكتوبر سنة ١٤٩٢، وجزر الأنطيل تنقسم إلى الأنطيل الكبرى، وهي إلى الشمال الغربي، والأنطيل الصغرى، وهي إلى الجنوب الشرقي، وهذه الجزر صغيرة لا تحصى، والذي يظهر أن الأخوة المغرورين بعد أن ساروا ١٢ يومًا خطًا مستقيمًا إلى الغرب، ولم يجدوا شيئًا، خافوا من التلف، فرجعوا إلى الجنوب، وكانوا لو صبروا وتابعوا جريهم خطًا مستقيمًا، وصلوا إلى ساحل القارة المسماة الآن بأميركا الشمالية، ولكنهم يئسوا من الوصول إلى البر من جهة السير نحرًا إلى الغرب، فساروا إلى الجنوب، لعلهم يجدون البر هناك، فوصلوا إلى الجزيرة التي وجدوا فيها الغنم، ولم يجدوا البشر، فحينئذ يئسوا، وعادوا جنوبًا إلى الشرق، فوصلوا إلى إحدى جزائر الخالدات أو جزائر أسور Acores وهذه الجزائر كما هو معلوم، مسكونة من قديم الزمان، وهي واقعة بين ٢٧ و٣٣ و٤٠ درجة من الطول الغربي، و٣٦ و٥٠ و٣٩ و٤٥ من العرض الشمالي. وهي أقرب قليلًا إلى أوروبا منها إلى أفريقية. وقد جاء في الأنسيكلوبيدية الأفرنسية الكبرى أن جزر آسور كان وصل إليها القرطاجنيون، ثم النورمنديون، ثم العرب. تجد هذا في الجزء الأول صفحة ٤٣١. ثم يقول أنهم لم يكشفوا هذه الجزائر إلا في القرن الخامس عشر، حينما وصل إليها البرتغاليون، وأن هؤلاء بدأوا باستعمارها سنة ١٤٤٤، ولم تنكشف جميع هذه الجزائر دفعة واحدة، بل الواحدة بعد الأخرى.
قال وإنه كان قد قصدها بعد البرتغال قوم من الفلمنك، ثم قال ولما طرد العرب من أسبانية إلتجأ منهم أناس إلى هذه الجزر؛ ونشروا فيها المدنية. أما الخالدات ويقال لها كناري Canaries فهي أقرب إلى أفريقية منها إلى أوروبا، وهي ممتدة من الشمال إلى الجنوب بين ٢٧ و٢٨ و٢٩ و٢٥ من العرض الشمالي، وممتدة من الشرق إلى الغرب بين الدرجة ١٥ و٤٠ و٢٠ و٣٠ من العرض الغربي عن باريز، وليس بين إحدى الخالدات المسماة فورت أفنطوره Fortaventura وبين رأس جنوبي من مراكش غير مائة كيلومتر لا غير وربما كان وصولهم إلى إحدى جزائر الخالدات أرجح، لأنهم من هناك ذهبوا بهم إلى مرسى أسفي (قرب) ما بين الخالدات ومراكش. وبالاختصار الأخوة المغرورون كانوا قد وطأوا البر الأميركي بأرجلهم، ولكنهم بقلة عددهم، وقلة الوسائل التي كانت في أيديهم، لم يتقدموا إلى الأمام. ويغلب على الظن أن كريستوف كولومبوس لم يكن يجهل قصة المغرورين هذه، وأنه سمع بنزولهم في إحدى الجزر بعد مسيرة ٢٤ يومًا في الأوقيانوس الأطلانطيكي، ناخرين الغرب ثم منعطفين إلى الجنوب، فاستنتج من ذلك أن وجود البر وراء بحر الظلمات أمرًا لا بد منه ولكن لا بد أيضًا من أن يكون الملججون في هذا البحر العظيم عددًا كبيرًا. وتكون معهم جميع الأقوات والأدوات والأسباب اللازمة، وأن يكونوا سائرين في عدة سفن، بعضها في أثر بعض. ولذلك بقي كولومبوس مدة طويلة، يراجع الملك فرديناند والملكة إيزابلة حتى أقنعهما بتزويده بكل ما طلبه، لعلمه أن السفر شاق وطويل، وأن أمامه أهوالًا. ولذلك كلفت رحلته هذه حتى كشف أميركا مبلغًا قدروه بثلاثمائة وستة وثلاثين ألفًا وخمسمائة فرنك أفرنسي. وهو مبلغ جسيم بالنسبة إلى ذلك الوقت، وسار بثلاث سفن كبيرة وكان سفره من جزيرة «شاليش» قبالة «أونبة» في غربي أسبانية، إلى جزر الخالدات، ومنها بقي يخوض بحر الظلمات ٣٢ يومًا، إلى أن وصل إلى إحدى الجزر وهي التي سماها سان سلفادور. ومن المحقق أن قضية وجود بر وراء بحر الظلمات، لم تكن تولدت في مخيلة كولومبس بل هي فكرة قديمة معروفة.
وكان كولومبس قد اطلع على كتاب «صورة الأرض» تأليف الكردينال بطرس دالي Pierre D’Ailly مطران كمبراي Combray، وهو تأليف كتبه هذا المطران سنة ١٤١٠، وحشر فيه معلومات كثيرة تتعلق بصورة الأرض، منها ما نقله عن التوراة، ومنها ما نقله عن اليونان، ومنها ما أخذه عن العرب، كما جاء في الأنسيكلوبيدية الكبرى الأفرنسية، في ترجمة كولومبس، وقد ورد في هذا الكتاب أن أرسطو وشارحه ابن رشد لم يكونا يعتقدان أنه يوجد بين ساحل إفريقية الغربي وساحل الهند الشرقي مسافة شاسعة البعد، فمطالعة كولمبوس هذا الكتاب بنوع خاص كانت تحمله على الاعتقاد بالوصول إلى الهند من طريق بحر الظلمات ولا تعبأ برواية الإدريسي عن عدة أيام السفر التي رواها عن المغرورين، فإنه إنما روى عن أفواه الناس، ولم يجتمع بالأخوة المذكورين. والأرجح أن سفرهم استمر أكثر مما قال، لأن كولمبوس بقي يلجج في الجزر الخالدات إلى أول جزيرة وطئها من أميركا مدة ٣٢ يومًا، وهذا ثابت تاريخًا، وغاية ما يستفاد من العبرة في قصة المغرورين، أن العرب حاولوا اختراق بحر المحيط، والوصول إلى البر الذي يقال له اليوم أميركا.
هذا وجاء في صبح الأعشى للقلقشندي عند ذكر ملوك مملكة «مالي» في السودان الغربي ما يلي: أنه تولى منهم الملك منسي موسى بن أبي بكر، قال في «العبر»: وكان رجلًا صالحًا، وملكًا عظيمًا له أخبار في العدل تؤثر عنه، وعظمت المملكة في أيامه إلى الغاية، وافتتح الكثير من البلاد، قال في «مسالك الأبصار»: حكي ابن أمير حاجب والي عنه أنه فتح بسيفه وحده أربعًا وعشرين مدينة من مدن السودان ذوات أعمال، وقرى وضياع. قال في «مسالك الأبصار» قال ابن أمير حاجب: سألته عن سبب انتقال الملك إليه فقال: إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك فجهز مئتين من السفن وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، وأمر من فيها أن لا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته، أو تنفد أزوادهم، فغابوا مدة طويلة، ثم عاد منها سفينة واحدة، وحضر مقدمها، فسأله عن أمرهم فقال:. سارت السفن زمانًا طويلًا حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة واد له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم، فرجعت بسفينتي، فلم يصدقه. فجهز ألفي سفينة. ألفًا للأولاد، وألفًا للأزواد. واستخلفني، وسار بنفسه ليعلم حقيقة ذلك، وكان آخر العهد به وبمن معه قال في «العبر» وكان حجه في سنة أربع وعشرين وسبعمائة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون.ا.ﻫ ومعناها أن هذا الحادث إن كان وقع فيكون في أول القرن الثامن من الهجرة وقد ورد هذا الخبر في الجزء الخامس من صبح الأعشى فليراجع هناك.
وأما القنطرة التي بقرطبة فهي بديعة الصنعة، عجيبة المرأى، فاقت قناطر الدنيا حسنًا. وعدة قسيها سبعة عشر قوسًا سعة كل قوس منها خمسون شبرًا، وبين كل قوسين.خمسون شبرًا. وبالجملة فمحاسن قرطبة أفضل المحاسن، وأعظم من أن نحيط بها وصفًا انتهى ملخصًا وهو وإن تكرر بعضه مع ما قدمته فلا يخلو من فائدة زائدة والله الموفق.
وما ذكره في طول المسجد وعرضه مخالف لما مر، ويمكن الجواب بأن هذا الذراع أكبر من ذلك، كما أشار إليه هو في أمر الصومعة، وكذلك ذكره في عدد السواري، إلا أن يقال: ما تقدم باعتبار الصغار والكبار، وهذا العدد الذي ذكره هنا إنما هو للكبار فقط كما صرح به والله تعالى أعلم. وأما الثريات فقد خالف في عدها ما تقدم، مع أن المتقدم هو قول ثقات مؤرخي الأندلس، ونحن جلينا النقل من مواضعه وإن اختلفت طرقه ومضموناته انتهى. قلت: أي من قرأ هذا التلخيص، وكان طالع جغرافية الشريف الإدريسي، يعلم أن هذا النقل الذي نقله المقري، إنما نقله عنه ولكن ملخصًا كما صرح هو بذلك. ولم نعلم سبب تحامي المقري نسبة هذا النقل والتصريح باسم الكتاب الذي نقل عنه. وعلى كل حال فظاهر للعيان أن الكلام ملخص عن «نزهة المشتاق في اختراقه الآفاق» غير أنه لا بد هنا من بعض ملاحظات: الأولى: أن هناك غلطًا في النسخ، إما في كتاب الإدريسي أو في كتاب نفح الطيب نفسه، مثل أن الجامع الأعظم طوله مائة ذراع في عرض ثمانين، والحال أن الإدريسي كما في نسخة باريز ونسخة أوكسفورد لم يقل مائة ذراع، وإنما قال مائة باع مرسلة في ثمانين باعًا. والفرق بين الباع والذراع غير خافٍ على أحد. وأنه يستحيل قول الإدريسي أن الجامع هو مائة ذراع في ثمانين، لأن الإدريسي عرف قرطبة بنفسه، ووصف المسجد الأعظم وصف من رأى لا من سمع، فلا يمكن أن يقع في خطأ فظيع كهذا. ولقد أشار المقري بأنه يمكن أن يكون هذا الذراع الذي ذكره الإدريسي أكبر من الذراع الذي حسب بموجبه غيره من المؤرخين، ممن ذكروا أن طول الجامع من القبلة إلى الجوف ثلاثمائة وثلاثون ذراعًا وعرضه من الغرب إلى الشرق مائتان وخمسون ذراعًا، فمهما كان هذا الذراع يزيد على ذلك الذراع فيبقى البون شاسعًا، والصحيح أن الإدريسي إنما قال مائة باع في ثمانين، لا مائة ذراع في ثمانين. والملاحظة الثانية: هي في اختلاف عدد الثريات، فالإدريسي يقول مائة وثلاث عشرة ثريا، وهو مخالف لما قاله غيره، مثل ابن الفرضي مثلًا الذي قال أنها مائتان وثمانون ثريا، ومثل ابن سعيد الذي نقل عن ابن بشكوال فقال أنها مائتان وأربع وعشرون ثريا. وليس الاختلاف هنا بشيء فإن الثريات هي مما يزيد وينقص بحسب الوقت، لأنها آنية منقولة وليست من قبيل المساحة التي هي شيء ثابت محسوس. وتأويل هذا الفرق هو أنه يوم عرف الإدريسي مدينة قرطبة لم يكن في الجامع الأعظم أكثر من ١١٣ ثريا، فإن الإدريسي نفسه ذكر كون قرطبة لعهده قد انتقصت منها الحوادث بتوالي الفتن، ونزح أهلها إلى اليسير، فلا جرم أن النقص الذي لحق بأهلها وبكل شيء يخصها قد وصل إلى ثريات جامعها، فسقط عددها إلى النصف مما كانت كما سقط عدد الخدمة في الجامع فقد ورد في كلام ابن الفرضي أنه كان يتصرف في المسجد بين أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وموقدين مائة وتسعة وخمسون شخصًا. وروى غيره أنهم كانوا ثلاثمائة، والحال أن الإدريسي لا يذكر غير ستين شخصًا فيظهر أن هذا العدد هو الذي كان في زمانه، أي بعد تقلص العمران في قرطبة.
والملاحظة الثالثة: هي من جهة سقوط كلمات في النسخ أو اختلافها، ففي نسخة نفح الطيب يقول نقلًا عن الإدريسي إنه كان يعمل في المنبر ثمانية صناع. وفي نسختي باريز وأكسفورد يقول ستة، وفي نسخة نفح الطيب يقول: وفي الجامع حاصل كبير ملآن من آنية الذهب والفضة لأجل وقوده. وفي نسختي باريز وأكسفورد يزيد على الذهب والفضة لفظة المسك. وفي نسخة نفح الطيب يذكر أن الصومعة ارتفاعها مائة ذراع بالمكي المعروف بالرشاشي. والحال أنه في النسختين المذكورتين يذكر الرشاشي بدون المكي. والملاحظة الرابعة: هي أنه في نسخة نفح الطيب يقول: إن في الجامع ثلاثة أعمدة حمر، على الواحد اسم محمد وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح. وهذا لا يوجد في النسخة التي نقلنا عنها المطبوعة في ليدن وفقًا لنسختي باريز وأكسفورد، والخبر كله غريب، لأن التصوير مكروه، ولا سيما في المساجد. وقد أوردنا هذه الملاحظات لأجل الاستدلال على ما بين النسخ من الاختلافات فليكن الراوي من النسخ على حذر، ولا يجوز له أن يجزم بخبر إلا بعد أن ينخل رواياته نخلًا دقيقًا، ويقابل بينها بأجمعها فيعتمد على المتواتر الذي أجمع عليه الرواة أو الذي ترجح بالأقل لدى الجمهور وبالأخص على ما طابق المحسوس.
وعلى كل حال فقول المستشرق «لافي بروفنسال» Lévi-Provençal في الإنسيكلوبيدية الإسلامية L’Encyclopédie De Lislam إن نفح الطيب هو الوثيقة الوحيدة التي في أيدينا عن حادثة خروج العرب النهائي من أسبانية ليس بصحيح.
ومن ذلك الوقت صار يقال لأسبانية شبه الجزيرة الأيبيرية. وأول ما عرف الأقدمون من أسبانية هو السواحل الجنوبية والشرقية، أي من جبال البيرانس إلى أعمدة هرقل التي هي بوغاز جبل طارق، وأما السواحل الجنوبية فكانت عندهم تنتهي برأس سان فنسان Saint-Vincent كما أن الساحل الشمالي كان ينتهي برأس أورتغال Ortegal فكان الأولون يتصورون سواحل أسبانية من جهة الجنوب تصورًا صحيحًا، أما من جهة الغرب فكانت في تخيلهم أقصر مما هي في الواقع. فأما أواسط أسبانية فلم تعرف إلا في المائة الثانية قبل المسيح. قال المؤرخ رافائيل بالستر: إن بين أسبانية وأفريقية تشابهًا عظيمًا من الجهة الجغرافية، وقال أيضًا إن أحسن وصف لأسبانية مما تركه الأقدمون هو ما جاء في كتاب سترابون الجغرافي اليوناني الذي وجد قبل المسيح بقرن واحد.
وأما كاتب هذه السطور فقد كنت من أول الأمر أظن أن العرب لما كانوا قد دخلوا الأندلس من الجنوب، وتوغلوا فيها إلى الشمال، وصلوا إلى ما يسمونه بالأرض الكبيرة، شمالي البرانس، وهي وسط القارة الأوروبية، لا طرفها كما هي أسبانية فصاروا يقولون للأرض الكبيرة جوفًا، ولما كانت الأرض الكبيرة هي في الشمال نحرًا، صار الشمال والجوف عندهم مترادفين. وقد جاءني من السيد علال الفاسي مؤخرًا كتاب يقول فيه: «وأما رأيكم فقد وجدت ما يستأنس له به في كلام ابن خلدون فقد جاء عنده في صفحة ٣٠٣ ما لفظه: «وقال هوروشيوش أن نيرون قيصر انتفض عليه أهل مملكته، فخرج عن طاعته أهل بريطانية من أهل الجوف، ورجع أهل أرمينية والشام إلى طاعة الفرس» ا.هـ.
وخلاصة القول أن الأستاذين عبد القادر المغربي وعلال الفاسي يميلان إلى القول بأن الجوف استعمل للشمال لوقوع بلاد الجوف في شمالي مكة، كما استعملت القبلة لمعنى الجنوب لوقوعها في شمالي الشام، وأن العلاّمة الكرملي يرى التسمية المذكورة بدأت عند أهل شمال أفريقية، لكون الرياح الشمالية تهب على بلادهم من «جوف» البحر المتوسط، وأن العلامة خضر حسين التونسي يذهب إلى رأي قريب من رأي هذا العاجز، وهو أن العرب جاؤوا الأندلس من الجنوب، فكان داخلها أو جوفها هو الشمال في نظرهم، وفي الواقع، فأطلقوا كلمة الجوف على كل ما هو شمالي. وإنما الفرق هو في أني أنا أظن أن الجوف عند العرب لم يكن جوف الأندلس نفسها، ولكن جوف القارة الأوربية كلها، لأن الأندلس في ذاتها هي طرف بالنسبة إلى القارة المذكورة، فالأندلس وجزر البحر المتوسط وإيطالية هي بالنسبة إلى أوروبا معدودة من الأطراف، والجوف هو وسط القارة. ولما كان هذا الوسط هو في الشمال بالنسبة إلى أهل المغرب وعرب الأندلس، فقد أطلق هؤلاء اسم الجوف على الشمال وكلام ابن خلدون فيه ما يدل على هذا، لأنه يذكر انتقاض أهل بريطانية، وهم أهل شمالي فرنسا وجزيرة انجلترا، ويعدهم أهل وسط أوروبا فهذه هي الآراء المختلفة في هذا التوجيه وللقارئ أن يختار منها ما يشاء.
القسم الشمالي الشرقي الذي يقطنه الباشكنس، مثل بيسقاية ونبارة، ووشقة، والفاردول Vardules في «قيبوسقوا» Guipuzacoa. الإيلرجيت Illergetes وفي لاردة. والكوزيتان Cosétanes في طركونة واللاسيتان Lacétanes في برشلونة والأوسيتان Ausétanes، والإنديجيت Indigétes في جرنده Géronne، والإيديتان Edetanes في بلنسية، والباستيتان Bastitans في لقنت ومرسية، والتردينان Turdetans والتردول Turdules والتارتيز Tarteses في الجنوب من بوغاز جبل طارق إلى وادي يانه Guadiana. ثم القسم المتوسط، وسكانه الأوريفان Orétans في جهات المانش. والكاربيتان Carpétans في طليطلة. والأريتاك Arévaques في شوريه Soria ونومانسيه Numaucia مع المقاطعات السلتيبرية الممتدة من الوادي الجوفي Dourv إلى أرض بالنسية Palencia (هي غير بلنسية Valencia) حيث يسكن الفاسيون Vacéens.
ثم القسم الثالث الذي يقطنه القنتبريون Cantabres أهل سنت اندر (أو شنت أدرم) والاستوريون Astures (أو الاشتوريون) والغاليسيون Gallaiques أهل غاليسيا Galicia وقبائل سلتية ساكنة بين البحر المحيط والوادي الجوفي والأمة التي يقال لها اللوزيتانيون Lusitaius وهم أقوى أمة ايبرية بين الوادي الجوفي ووادي يانة أي البرتغال وشمالي الاسترامادور. وإلى الشرق من لوزيتانية كان يسكن الفوتونيون Vettons وكان في جزيرتي ميورقة ومينورقة قوم يقال لهم «الجيمناز» Gimnèses وفي جزيرة يابسة قوم يقال لهم «البيتيوز» Pytieuses.
والذي يلوح لنا من المقابلة بين هذه الروايات التي في بعض كتب العرب وبين تواريخ الإفرنج المعول عليها أن الذين يعنيهم ابن حيان بقولهم «البشتولقات» هم «الفيزيقوت» أو «الفيزيقوط» أنفسهم والمشابهة بين اللفظين ظاهرة فالفاء هي الباء والزاي هي الشين لأن من عادة العرب قلب السين والزاي شينًا بل يقال أن أوائل الأسبان أيضًا كانوا يقلبونهما شينًا فتصير اللفظة هي «البيشيقيوت» وأما اللام فطالما أدخلوها على الأعلام التي فيها «واو» مثل «بودوين» Baudwin جعلوها «بلدوين» ومثل «بيوغراد» Beaugrade التي صارت «بلغراد» وعليه فتصير اللفظة «البشيقولت» ثم جمعوها على «بيشقولتات» ثم تعاورها التصحيف الذي لا يوجد أكثر منه في نسخ العرب للألفاظ الإفرنجية فإن الاسم الإفرنجي يجتاز عند العرب عقبتين الأولى هي اللفظ لأن العرب لا تقدر أن تتلفظ ببعض الحروف الإفرنجية ولو قطعت رؤوسها والثانية هي التحريف والتصحيف في النسخ فبعد أن يمر الاسم الإفرنجي بهاتين العقبتين يبعد جدًا عن أصله حتى يصعب رده إلى الأصل. وأنا أرى أن «طوليش بن بيطه» الذي ذكره ابن حيان أنه أول من ملك من «البشقولتات» إنما هو «طوديش» Theudis الذي ذكر مؤرخو الإفرنجة أنه أول من ملك من «الفيزيقوط» أو «البيزيقوط» في أسبانية. وكذلك «خشندش» الذي قال ابن حيان أنه هو أول من تنصر من ملوك القوط إنما هو «شنداسنت» الذي ملك عام ٦٤٢ وأن الاسم تحرف أولًا إلى «خنداشنت» ثم تصحف وتحرف فصار «خشندش» على أن مؤرخي الإفرنج يذكرون أن أول ملك تنصر من ملوك القوط هو ريكاريد الأول أي قبل عهد الذي سموه «خشندش» أو تصحف اسمه إلى خشندش بخمسين سنة وشيء. وأما «فيتيزا» الذي يسميه العرب في كتبهم «غيطشه» فإني معتقد أن الغين هنا هي تصحيف الفاء وأن العرب من البداية قالوا «فيطشه» لا «غيطشه» وذلك لأنهم لفظوا الزاي شينًا على عادتهم فصار «فيتيزه» هو «فيتيشه» ثم فخموا التاء فصار «فيطشه». وأما عدد ملوك «الفيزيقوط» فهو بحسب ما ذكر الإفرنج ٢٥ ملكًا كما ترى ورواية ابن حيان عن عدد ملوك «البشقولتات» الذين أعتقد أنهم هم هم هي أنهم ٢٧ ملكًا فالروايتان متقاربتان. وهناك ملاحظة، وهي أن المقري يروي فيما بعد قائلًا: وقال جماعة: إن القوط غير البشقولتات الخ وهذا دليل على وجود روايات أخرى بأن البشقولتات هم من القوط أنفسهم لا سيما أنه يروي عن هؤلاء أن عددهم ٢٧ ملكًا.
وفي كتابنا «غزوات العرب في أوروبا» نذكر مدينة طلوزة Toulouse ونقول أنها كانت قاعدة مملكة التكنوزاجيين Valces Tectosages وقلت في الحاشية أن هؤلاء هم جيل من الغولوا ولا نعلم هل هم الذين أرادهم صاحب نفح الطيب عند ذكر الأمم التي عمرت الأندلس وسماهم البشتلقات أم لا؟ وقد تكون اللفظة مصحفة عن تشتلقات وفي صبح الأعشى يذكر الشبنقات ويقول أنهم ملكوا الأندلس وبلاد الأندلس معًا وأن القوط خرجوا عليهم. انتهى. إلا أن العلامات كثيرة على كون المراد بالبشتلقات أو البشتقات هم أمة الفيزيقوط. هذا ويظهر أن المؤرخين من أسبانيين وغيرهم مختلفون في عدد ملوك القوط وفي أسمائهم وفي سني ملكهم وذلك كما ترى من سلسلة ملوك القوط التي ننشرها هنا مع صورة كل واحد منهم فإنك تراها مختلفة عن السلسلة الأولى التي نقلناها عن تواريخ ممحصة إفرنجية إلى أن السلسلة المصوّرة مبدوء فيها بملوك القوط وهم لا يزالون في غالية وهي منقولة عن مجموعة عظيمة مطبوعة في برشلونة بمطبعة «بونافيستا» Buenavista كانت قد أهديت إلى الوطني الكبير فقيد المغرب الحاج عبد السلام بنونه من عيون أعيان قطاون رحمه الله وقد أهدانا إياها أخوه الفاضل الحاج محمد العربي بنونه حفظه الله وما نشرناه في هذا الكتاب من التصاوير والرسوم منه ما أخذناه عن هذه المجموعة ومنه ما اقتفيناه في أثناء سياحتنا إلى الأندلس ومنه ما أرسلنا واستجلبناه منها فيما بعد.
وهكذا جرى إصلاح الحساب الأول، إلا أن سنة سوزستان نفسها بقيت ناقصة بإحدى عشرة دقيقة واثنتي عشرة ثانية عن السنة الشمسية، وبقيت الحال هكذا من سنة ٤٧ للمسيح إلى سنة ١٥٨٢ فتنبه لإصلاح هذا الخلل البابا غريغوريوس الثالث عشر، فأصلح الحساب اليولياني، وسمي الحساب الجديد بالحساب الغريغوري، ولكنه لم يسلم من الخلل أيضًا، بحيث لا يزال علماء الفلك والتقويم يفكرون في حساب آخر ينتهي إليه الضبط، ولكن صعوبة ترك التقليد تحول دون هذا المشروع في أوروبا، وسنة ١٩١٧ إذ كنت من أعضاء مجلس النواب العثماني في استانبول، تقرر عندنا في المجلس العمل بالتاريخ الغريغوري بكونه أصح من التاريخ العربي، فتم هذا القرار في مجلس النواب أو المبعوثين، وتقدم إلى مجلس الأعيان، فجاء الفلكي الشهير أحمد مختار باشا الغازي، واعترض على هذا التغيير، وقال: إن الحساب الغريغوري هو أيضًا غير سالم من الخطأ، فما الفائدة في العدول عن خطأ إلى خطأ آخر؟ وبين ببراهين علمية صحة نظره. وبذلك عدلت الدولة العثمانية يومئذ عن اتخاذ الحساب الغريغوري، وبقيت على الحساب الذي يقال له المارتي، وهو حساب عربي قد رفع منه الفرق بين الشمسي والقمري، ولكن تركيا بعد الحرب العامة عادت فاتخذت الحساب الغريغوري. أما في زمن أغسطس قيصر فقد وضع الرومان حسابين لمواسم الزراعة أحدهما يسمى كولوتيانوم Colotianum، والآخر فالنس Vallense ووجدوا مكتوبين على الحجارة.
وأما تاريخ الصغر فيقال إنه اصطلاح أسباني كان مبدأه أول يناير سنة ٣٨ قبل الميلاد، أي في زمن فتح أغسطس الروماني لأسبانية، وبقي مستعملًا فيها إلى أواخر القرن الخامس عشر.
وكان عمق الآبار نحوًا من مائة ذراع.
وكان يوجد زئبق وتوتية بقرب شَلَوبين على ساحل البحر المتوسط، وكذلك ذكر المقري وجودهما في بطرنه. ويظهر أن المسلمين لم يعتنوا بمعادن التنك التي في «ريوتنتو» إلى الشمال الشرقي من «أنبه» ولكن كانوا يأخذون النحاس من «أشكونية» في الغرب وهي تابعة البرتغال اليوم. وكان عندهم الرصاص في «قبره» وعندهم الملح في سرقسطة، وكان عندهم الطفال بقرب طليطلة والكحل في نواحي طرطوشة وبسطة وكانت الأندلس موصوفة بالحجارة الثمينة، فكان الياسنت من مالقة وحجر الكهرباء في مرسية. وأما المرمر فلم يكن يكفي البلاد بل كانوا يستوردون من الخارج وكان معدن المرمر في جبال مورينا وفي مكابل ومن هذه قطعت أعمدة المرمر التي كانت في المرية وقد نقلت الآن إلى مجريط. وكان يوجد من الحديد في جزيرة شلطش بإزاء أنبه وهناك دار صناعة حسبما قال الإدريسي. وفي شلطش أيضًا مصايد للأسماك كان يحمل منها إلى أشبيلية، ويقول الإدريسي إنه كان من هذه المصايد في بزليانة بقرب مالقة وكان صيادو السمك في سواحل الأتلانتيك كما روى ياقوت في المعجم يبحثون عن العنبر الرمادي ولا سيما في سيتوبال وكان يقال لها الجون العنبري عند العرب وكان أيضًا يوجد في شذونة وكانوا يبحثون بقرب المرية.
قلنا أن الحواضر الست الكبرى لا بد من أن يعني بها قرطبة، وأشبيلية، وغرناطة، وبلنسية، وطليطلة، وسرقسطة. وأما الثمانون مدينة المعمورة جدًا فيعني بها المدن التي من درجة مالقة، والمرية، ومرسية، وجيان، وشاطبة، ودانية، وميورقة، وطرطوشة، وماردة، وبطليوس، وشنترين، وبرشلونة، وأشبونة وما في ضربها. وأما الثلاثمائة مدينة من الدرجة الثانية فهي من قبيل قبرة، وبيانة، وبياسة، والمدور، وقرمونة، وشلب، ولبلة، وشريش، ورندة، والجزيرة الخضراء، وبسطة، وبرجة، ودلاية، والش، وأوربوالة، والقنت، وقرطاجنة، وشقورة، وشنشالة، وأقليش، وطلبيرة، وقلعة رباح، ومجريط، ووادي الحجارة، ومدينة سالم، وشنتمرية ابن رزين، وقلعة أيوب، ودروقة، وبطيلة، ولاردة، وطركونة، ووشقة، وبربشتر، وفحص البلوط، ويابره، وشنترة، وقنطرة السيف، وجزيرة شقر، وقونكة، ومربيطر ولوشة، ووادي آش، وقرية سلامة، وقادس، ويلبش، وأبذة، وبجانة، وطشانة، وشنتمرية الغرب، وأشونة، وقلعة يحصب، وأسيجة، وأسترقة، وبلش، وقلعة حماد، ومورور، وأندوجر، والمنكب، وأندرش، وأندة، ولورقة، وأونبة، ومرتلة، ومدينة الزهراء، وما في ضربها. وكيفما اقتصد المخمن في تخمين عدد سكان الأندلس الإسلامية لعهد بني أمية، فلا يقدر أن ينزل ذلك عن ١٥ مليون نسمة، وقد يكون مناهزًا العشرين.
حصن حصين، يضيق عن مثله هند وصين، ويقضي بفضله كل ذي عقلٍ رصين، سبب عزه متين، ومادة قوته شعير وتين، قد علم أهله مشربهم، وأمنوا مهربهم، وأسهلت بين يديه قراه، ماثلة بحيث تراه، وجاد بالسمك واديه، وبالحب ثراه، وعرف شأنه بأرض النوب، ومنه يظهر سهيل من كواكب الجنوب. إلا أن سواحله بِلّ الغارة البحرية، ومهبط السرية غير السرية، ومسرح السائمة الأميرية، وخدامها كما علمت أولئك هم شر البرية. ا.هـ.
عنصر جباية، وكمن به أولو إباية، حريرها ذهب، وتربها تبر ملتهب، وماؤها سلسل، وهواؤها لا يلفي معه كسل إلا أنها ضيقة الأحواز والجهات، كثيرة المقابر والقهوات، عديمة الفرج والمتنزهات، ثقيلة المغارم، مستباحة المحارم، أعرابها أولو استطالة، فلا يعدم الزرع عدوانًا، ولا يفقد غير الشر نزوانا، وطريقها غير سوي وساكنها ضعيف يشكو من قوى. ا.هـ.
هذا وقد صعدت إليها يوم زرت أشبيلية وهي من أبدع آثار العرب في أسبانية وإليها يقصد السياح من أقطار الأرض ويسرح النظر من أعلاها فيما لا نهاية له. ولكني لم أعلم من أين جاء اسمها هذا «الخيرالدة» إلا إن كان محرفًا عن «الخالدة» ويعقوب المنصور سلطان الموحدين كان من أعظم ملوك الإسلام وأفخمهم آثارًا وله في الرباط من العدوة جامع حسان الشهير كان قائمًا على ٤٠٠ سارية محيط كل منها ١٤ شبرًا وطولها أزيد من ٢٠ شبرًا ومساحة الجامع ٢٦٥٩ مترًا مربعًا وكانت له منارة علوها يزيد على ٦٠ مترًا ومحيطها ٢٤٠ شبرًا وكانت هذه المنارة أعجوبة من الأعاجيب وكانت أشبه شيء بمنار الإسكندرية ولا تزال ماثلة تشهد بعلو همة المنصور فليست منارة أشبيلية هي الفذة من آثاره الخالدة.
والقارئ يجد في هذا الكتاب من المنابر التي أنشأها يعقوب المنصور في المغرب مالا يقل حسنا وبداعة وفخامة عن منارة اشبيلية ويرى من مآثر المرينيين والسعديين والعائلة المالكة اليوم مالا تفى العبارات بأوصافة مهما ملك الكاتب من ناصية البيان وقد قال الأخوان الكاتبان جيروم وجان نارو من مشاهير كتاب فرنسا: إن من لم يشاهد في حياته مقبره الملوك السعديين في مراكش لم يدرك إلى أية درجة من الارتقاء بلغت المدينة الاسلامية.
أما من جهة مجموع دخل الخزانة في أيام خلافة بني أمية بالأندلس لعهد الناصر فقد وردت بشأنه شهادة يزيد قيمتها صدورها عن رجل هو أميل إلى التنزيل من قدر الأمويين منه إلى التعظيم من أمرهم وهو ابن حوقل الذي أقام مدة بقرطبة وذلك في النصف الثاني من القرن العاشر فهو يقول إن دخل خزانة الخلافة من أول تولي الناصر إلى سنة ٣٤٠ (٩٥١) بلغ عشرين مليون دينار ذهب وثلثمائة وأربعين مليون درهم من الفضة وهو مبلغ عظيم جدًا بالنسبة إلى ذلك العصر. ولقد كان هذا الدخل مضاعفًا في أيام الحكم المستنصر فبلغ إذ ذاك أربعين مليون دينار. ا.هـ. وسنعود إلى هذا البحث عند الكلام على التاريخ.
إن النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها، حصل اعتقادًا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء. أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من العوائد والمذاهب، نغالط أيضًا بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وأظهر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم متشبهين بهم دائمًا؟
وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر، لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله. ا.هـ.
وبدأ ذلك في أيام السلطان محمود العثماني. ولكن لم يبلغ في وقت من الأوقات حب هذا الاقتداء ما بلغه في هذا العصر، لا سيما بعد الحروب العامة، فما كادت تركية وإيران تسترجعان استقلالهما، حتى بدأنا بالتشبه بالأوربيين في الدقيق والجليل والكلي والجزئي وأصدرت الحكومة التركية أوامرها بلبس القبعة حتمًا. ودقت مئات من الأعناق على مجرد الاعتراض عليها. وجعلت الأحرف اللاتينية مكان الأحرف العربية برغم أن كتابة التركية بالأحرف اللاتينية قد انحرفت بهذه اللغة عن لهجتها الأصلية، واستبدلت بها لغة غير الأولى، ولم يكتفوا بهذا حتى لو أرادوا حمل الأتراك على طمس معالم كل قديم، وتحدثوا بإلغاء التاريخ التركي من أصله، ومنعوا الألحان الشرقية وآلات الطرب الشرقي، وتبدلوا بها الموسيقى الأوربية، وكادوا ينتقلون إلى منع المآكل الشرقية لو لم تكن الأذواق أصعب مراسًا من غيرها، وكل هذا من باب اقتداء المغلوب بالغالب، مما أشار إليه إمام علم الاجتماع ابن خلدون رحمه الله، وليس في الحقيقة بضرورة من الضرورات، ولقد ترقى اليابانيون، وبلغوا مبالغ الأوربيين في كل شيء، وربما بذوهم، ولم يزالوا يابانيين في أذواقهم وعاداتهم، ومآخذهم ومتاوكهم، وكل شيء توارثوه عن آبائهم.
وقد جاء في بعض تواريخ الأسبان أن لذريق لم يقتل في المعركة، وأنه فر إلى شمالي أسبانية، وبقي يقاتل المسلمين إلى أن مات، ولكن الرواية الغالبة هي أن لذريق قتل في المعركة.
ثم هناك نقطة ذات بال وهي أن من ملك الحرمين الشريفين يحق له أن يدعي الخلافة. وهي من النظريات التي كانت تدور في ذلك العصر، ولا تزال إلى يوم الناس هذا.
قلنا في هذه الرواية شك، وإن صحت عن جبير بن مطعم فيكون خطأ منه، لأن لخم وجذام هم من عرب اليمن، والقول بخلاف ذلك هو خرق للإجماع قال في سبائك الذهب: وقد كان للخميين ملك بالحيرة من العراق وإنه كان لبقايا لخم ملك بأشبيلية من الأندلس، وهي دولة بني عباد: وقال القضاعي في خطط مصر أنهم حضروا فتح مصر واختطوا بها، وفي صعيد مصر بنو سماك وبنو سهل وبنو شنوءة وبنو عدي وبنو راشد وأفخاذ كثيرة من لخم ومنهم بنو عمم الذين ينسب إليهم ملوك الحيرة رهط النعمان بن المنذر واسم عمم الأصلي هو عدي، ولما كانت عائلة محرر هذه السطور تنتسب إلى المناذرة فقد راجعت سلسلة نسبهم إلى لخم في سجل النسب الأرسلاني في المبدوء به سنة ١٤٢ للهجرة المتسلسل خلفًا عن سلف من ذلك التاريخ إلى الآن تحت تصديق القضاة والحكام، والعلماء الأعلام فوجدته يقول: إن الملك المنذر الذي لقبته العرب بالمغرور هو ابن الملك النعمان أبي قابوس بن الملك المنذر بن الملك المنذر، وهو ابن ماء السماء مارية ابنة ربيعة التغلبي أخت كليب والمهلهل بن الملك امرئ القيس ابن الملك النعمان الأعور ابن الملك امرئ القيس بن الأمير النعمان ابن الملك عمرو بن الملك امرئ القيس بن الملك عمرو، وهو بن أخت جذيمة الأبرش الذي زوجها من ابنه عدي حتى يملك على لخم، وعدي هو ابن نصر بن ربيعة بن المنذر بن تميم بن عمرو ابن سعد بن ذميل بن الحارث بن زيد بن الحارث بن إياد بن نصر بن فهم بن عامر بن زهير بن مالك بن جزيلة ابن مالك. وهو لخم بن عدي بن عمرو بن عبد شمس، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان جد العرب العرباء والله أعلم.
وهم الذين نصروا عليًا في حرب صفين حتى قال رضي الله عنه.
وجاء في سبائك الذهب نقلًا عن أبي عبيد أن بني عاملة هم بنو الحارث بن مالك يعني ابن الحارث بن مرة بن أدد وأنه كان تحته عاملة بنت مالك بن وديعة بن عُفير ابن عدي قال الحمداني: وجبل عاملة من بلاد الشام وقيل إن هذه القبيلة من اليمن نزلت به فقيل له عاملة وقد يحذفون التاء فيقال جبل عامل وهو الواقع بين صيدا وصور من الشمال إلى الجنوب وبين البحر المتوسط وغور الحوله من الغرب إلى الشرق.