إن أسبانية والبرتغال ليستا على وجه الإجمال معروفتين حق المعرفة عند الناس ومهما
اتسعت
المعلومات عنهما فالناس تعلم عن أكثر البلدان الأوربية ما لا تعلمه عنهما، لأن الممالك
المعدودة كأنموذجات للمدنية الحاضرة، والعواصم التي يقصد إليها السياح لأجل الفرجة
والاستشفاء أو البحث. ويؤمها الطلبة لأجل تحصيل العلوم، ليست في أسبانية ولا في البرتغال،
وإذا رجعنا إلى طبيعة الأرض، وبداعة المناظر فليس في الجزيرة الأيبيرية في الحقيقة من
تنوع
المناظر الساحرة ما في إيطالية مثلًا، كما أن السائح لا يرى فيها تلك المروج الزمردية،
والبحيرات اللطيفة، والجبال الشامخة، المعممة بالثلج، ولا مسارح اللمحات التي يراها في
سويسرة، ولكن مما لا جدال فيه أن مواقع معدودة من أسبانية والبرتغال تعد من أبدع مواقع
العالم، وأنها المثل الأعلى من جهة الجنان والبساتين.
أما من جهة المدنية فهي في جنوبي أسبانية راجعة إلى أشد أدوار التاريخ توغلًا في القدم،
وقد كان للفينقيين في هذه البلاد دور طويل عريض، وقد أثروا فيها آثارًا لا تزال بقاياها
ماثلة إلى الآن، ثم جاء الرومانيون، وكانت لهم طبيعة عمرانية معروفة لهم شرقًا وغربًا،
فوجدوا مجال العمل في أسبانية ذا سعة، فعملوا، وبنوا، وأثّروا، وأثّلوا، وتركوا آثارًا
ناطقة بفضلهم، وجسورًا وأقنية معلقة منبئة عن شأوهم، وملاهي وهياكل، كالتي في ماردة،
وطرّكونة، ومربيطر، وغيرها مما لا يدرسه الزمان، ولا ينال منه الحدثان.
وجاء بعد ذلك العرب فأثّلوا في الجزيرة الأيبيرية، أو الجزيرة الأندلسية على رأيهم،
حضارة
عربية شرقية بلغت من الأبهة، والفراهة، وسلامة الذوق، سدرة المنتهى، فلا تكاد تمر بمكان
إلا
للعرب فيه آثار باهرة، وعنهم أخبار تتحدث بها السامرة، ولا يزال نظام سقيا الجنان، وتوزيع
المياه على الأرضين، هو النظام الذي رتّبوه في أيامهم، ثم إنه لا ينكر أن الفن المسيحي،
سواء في القرون الوسطى، أو من بعد عهد النهضة Renaissance
قد ترك في أسبانية آثارًا فاخرة، ومباني فخمة، كقصر الإسكوربال مثلًا.
فالذين يقصدون إلى أسبانية من السياح لا تخيب آمالهم، ولا تذهل نفقاتهم سدى، وذلك
لأن
السائح الأوربي يجد دائمًا في أسبانية أشياء جديدة بالنسبة إليه.
فالبلاد كلها عبارة عن جزيرة يحيط بها البحر من جهاتها الثلاث، وتحيط بها جبال البرانس
الشامخة من الجهة الرابعة، فهي معتزلة في مكانها، منتبذة من أوروبا زاوية خاصة بها، غير
متأثرة بغيرها، محتفظة بجميع مميزاتها وخصائصها، لا هي شرقية تمامًا، ولا هي غربية تمامًا،
بل هي متوسطة بين أوروبا وأفريقية، واصلة بين المشرق والمغرب، منطوية في أحناء وجودها
هذا
المستقل على أسرار لا يعرفها إلا من أكثر من التجوال فيها، وقرن السير بالنظر.
وهناك شعب شديد الخنزوانة قائم بذاته، لا يشبه غيره، ولا يريد أن يتشبه بغيره، وله
مآخذ
ومتارك لا ينزل عنها، وهو بفطرته لا يحب تقليد الشعوب الأخرى، بل هو من قديم الزمان مستمسك
بأوضاعه، متعال عن السير وراء أقرانه، لا يرضى بما لديه بدلًا، ولا يبتغي عما ائتلفه
حِولًا.
نعم من جهة الصناعة وفن الرسم والتصوير قد يقلد الأسبانيول سواهم، بل يجد الناظر في
كنائسهم وقصورهم آثارًا للفن الإيطالي، الذي يدور على محاكاة الطبيعة. وكذلك يجد في رسومهم
وتصاويرهم تأثير الفن الإفرنسي، والفلمنكي، بل ليس في أسبانية فن تصوير خاص بها، ولا
فن
بناء خاص بها، وإنما هي محاكاة للأمم الغربية الأخرى مع جزء فيها من الطبع الأسباني.
وإذا
كان السائح الأوربي لم يعرف بلاد الشرق، أو لم يقيض له أن يزور بلاد الإسلام، فإنه يجد
في
أسبانية آثارًا عربية، تكفيه لأخذ صورة حقيقية عن المدنية الإسلامية، التي منها في الأندلس
أمثلة كافية، وقِطَع تعد من أنفس وأرقى ما تركه العرب من الآثار في الأرض.
وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في أسبانية متأملًا، غائصًا في بحار العبر هائمًا
في
أودية الفكر. كلما عثر على أثر عربي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه
الخالين، وما كانوا عليه من بعد نظر، وعلو همم، وسلامة ذوق، ورفق يد، ودقة صنعة. وكيف
سمت
بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات في ما وراء البحر في بحبوحة النصرانية، وملتطم
أمواج
الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين ويشيدوا فيها ألوفًا من الحصون، وأن يملأوها
أساسًا وغراسًا، كأنهم فيها أبد الآبدين، فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسمًا
بين
الإعجاب بما صنعه آباؤه فيها، والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم
من
ذلك الفردوس الذي كانوا ملكوه، والوجد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما
يغلب
عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم، فهو لا يزال يسير بين تأمل وتألم، وتفكر، وتحسّر،
لكنه يريد مع ذلك أن يقتري هذه الآثار، وأن يمشي في مساكن أولئك الآباء، وأن يخاطب الأحجار،
وذلك لأنه لهوى النفوس سرائر لا تُعلم، من جملتها أنها تنزع إلى البكاء عند دواعي الوجد،
كما ترتاح إلى الطرب عند بواعث السرور، وأنها قد تهتف بالأمرين معًا، وتجمع الضدين شرعًا،
وأن كل ما هو حنين وتذكار، وولوع بعد الأعيان بالآثار، هو من سرائر البشرية، ومما هو
غالب
على النفس الناطقة.
(١) العمران والفن في أسبانية
هذا وإذا حاولنا تحليل الإنشاء العمراني الذي يعول عليه في أسبانية وجدناه ينقسم
إلى
أربعة أدوار: روماني، وقوطي، وعربي، وأوربي متجدد، فالروماني أعظم آثاره متجلية في
مدينة ماردة، قاعدة «لوزيتانيا» التي بناها أغسطس، ففيها الجسر الذي كانت له ٨١ حنيّة،
وفيها القناتان المعلقتان، وفيها الملهى التمثيلي، وفيها ملهى التمثيل البحري وفيها
الملعب العام، وفيها هيكل المريخ الذي تحوّل فيما بعد كنيسة وفيها قوس النصر الشهيرة،
وغير ذلك من المباني الخالدة. وطركونة فيها عدة هياكل وملهى تمثيلي، وملعب وحمامات،
وجميعها من أفخم المباني الرومانية التي يقيدها التاريخ لتلك الأمة العظيمة.
وسقوبية Segopice هي ذات القناة المعلقة التي
طولها ٨١٨ مترًا، منها ٢٦٦ مترًا راكبة على طاقين من الحنايا، الواحد فوق الآخر، عدد
قناطرها ١١٩ قنطرة، وهو أكمل وأروع بناء روماني في أسبانيا.
وأما القوطي فأقدم آثاره في «أوبيط» Oviedo وهي
كنيسة «سان ميكال دولينو» San Mikal de Lino من بناء
رامير الأول (٨٤٢-٨٥٠) وكنيسة «سانتا مارية
نارنكو» Naranco وغيرهما. وفي برشلونة أديار البندكتيين «سان بابلو دلكمبو» San Pablo delcampo و«سان بدرو دولاس بويلاس» San Pedro de Las Puellas من أبنية
القرن العاشر.
وبعد ذلك لعهد بداية الكرّة الأسبانيولية على العرب ظهرت صنعة جديدة في البناء تدل
عليها كنائس ذلك الوقت، يكثر في بنائها شكل الصليب، ويقل الزخرف، وتمتاز بالرصانة
والمتانة. ومن هذا النوع كنيسة «سانت ياقو دو
كومبوستيلا» De Compostela التي يرجع بناؤها إلى سنة ١٠٦٠، وقد امتد إلى سنة ١٠٩٦
وهي تقليد لكنيسة «سان سِرنين» في طلّوزة. وعلى نسق هذه الكنيسة بنيت كنيسة «سان
إيزيدورو» في ليون بين سنتي ١٠٦٣ و١١٤٩ و«سانتا مرية» في «كورنية» وسان بدرو في وشقة
وغيرها. ثم في القرن الثاني عشر بدأوا في أسبانية يقلدون نسق البناء المعروف في فرنسا،
ويقال له هناك غوثيق Gothique وأصله نسبة إلى القوط،
ولكنه ليس بالقوطي الأسبانيولي القديم، فبنيت كنائس في طلمنكة، وطرّكونة ولاردة،
وتطيلة، وآبلة، وسقوبية، على هذا النسق. وقد فاقت في الضخامة جميع ما تقدمها.
وفي مدينة برغش Burgos كنيسة كبرى بناها المطران
موريسيو سنة ١٢٢١ تحتوي مجموعة فنون البناء في الثلاثة الأعصر الأخيرة لذلك العهد. وكان
يقال إنها أبدع كنيسة في أسبانية. بناها الأستاذ يوحنا
الكولوني Jean Cologne وكان من بلدة كولونية بنّاؤون كثيرون يعملون في أسبانية،
وكانوا يتوخون في ذلك العهد مناغاة الأبنية العربية، ويحاولون التفوق عليها. فكنيسة
برغش بنيت سنة ١٢٢١ وبعد ذلك بقليل، عندما حوّلوا المسجد الأعظم في طليطلة إلى كنيسة
في
سنة ١٢٢٧ اجتهدوا في أن يعطوه من السعة والإتقان والفخامة والضخامة ما لم يكن معهودًا
إلى ذلك الوقت، وليس في أسبانية كنيسة أوسع رقعة من كنيسة طليطلة سوى كنيسة أشبيلية.
ثم
بعد بناء كنيسة طليطلة أنشأوا الكنيسة الكبرى في ليون، ذات الصورة البديعة على البلور،
وتبع ذلك كنيسة «آبلة» Avila ثم في القرن الرابع عشر
والخامس عشر جدَّ طرز آخر للبناء يميل إلى توسيع الداخل، ومنه كنيسة سانت ياقو في
طليطلة، وكنيسة «أستورقة» Astorca وكنيسة سان بنيتو في
«بلد الوليد» Valladolid ودير «البرّال» Parrel في سقوبية، وفي «نبارة» Navarre كنيسة بنبلونة Panpelonne
وهي اشبه بكنائس فرنسا. وأبهى تلك الكنائس كلها الكنيسة العظمى في برشلونة، بناها فابر
الميورقي. وفي القرن الخامس عشر بنيت كنيسة أشبيلية مكان الجامع الكبير الذي كان فيها،
وهي أوسع بنية في ذلك العصر، بناها معلمون من هولاندة، وكانوا قد بدأوا يقلدون العرب
في
نقش الكتابات على أحجار المباني العامة، وتطريس الخطوط على الأبواب.
وأما في كتلونية فانتهى طرز إنشاء الكنائس بأن أصبح مطابقًا تمام المطابقة لطرز
بنائها في فرنسا، ولما كشف الأسبانيول أميركة، وبلغت أسبانية ما بلغته من العظمة
والبسطة في القرن الخامس عشر، ازداد الأسبان تفننًا في البناء، وشادوا تحت تأثير العز،
ونشوة السلطان، وكثرة الخيرات، مباني مدهشة، تستحق السياحة من البلاد النائية، وذلك من
قبيل «سان بابلو» و«سان غريغوريو» في بلد الوليد، و«سنتا كروس» في سقوبية، وفي ذلك
العصر نبغ «خيل دوسيلو» الذي يعد عبقري وقته في البناء. إلا أنه قد دخل إذ ذاك في هندسة
الكنائس في أسبانية بدعة لم تكن لتزيدها بهاءً ولا رونقًا، وهي جعل موضع خاص في وسط
البيعة لأجل الأحبار والقسيسين، مما كان يخل بالهندسة، وينافي وحدة الخطوط.
وكذلك هناك بدعة أخرى، ليست بأقل منها هجنة، وهي الاجتهاد في منع النور عن الكنائس،
وإبقاء داخلها مظلمًا بقدر الإمكان. وهذه العادة فاشية في أكثر بيع أوروبا حتى يظن
الغريب الجاهل بالأوضاع أن الظلمة هي مستحبة في قانون الكنيسة، وأن النور مكروه فيه.
ولا نظن أحدًا يكابر في هذه الحالة.
وأما طرز البناء العربي فهو على العكس من ذلك فهو يكره الظلام، ويحب النور، كما تشهد
ذلك في جميع المساجد والمباني العمومية التي شادها المسلمون في الأندلس وغيرها، فأما
مسجد قرطبة فهو أعظم مسجد في أسبانية، ومن أعظم المساجد في الإسلام، لا أظن مسجدًا
يفوقه في السعة سوى المسجد الحرام، وسوى المسجد الأقصى. وربما كان جامع ابن طولون في
مصر بهذا المقدار. ولم يقع إنشاء المسجد الأعظم في قرطبة دفعة واحدة، بل وقع شيئًا
فشيئًا، كما سيأتي تفصيل ذلك، فكان يزاد فيه كلما ازداد سكان قرطبة. وترى الإفرنج الذين
يدخلون إليه يؤوّلون سعته هذه بأنه بناء قوم كانوا يحلمون بأن الإسلام لا بد أن يعم
العالم، فإن المسقوف والصحن من هذا المسجد يسعان ثمانين ألف مصل يصلون وراء إمام
واحد.
فأما النقش والفسيفساء اللذان في هذا المسجد فلا شك في كونها من الصنعة البيزنطية،
كما أنه لا شك في أن صنّاع المسلمين تعلموها وتفننوا فيها، وقد تفننوا في الخرط والنحت
والنقش والزينة بما جعل لهم أسلوبًا خاصًا معروفًا بهم منسوبًا إليهم، تجده في مساجدهم،
وقصورهم، وحماماتهم، وأبراجهم، وأبوابهم، وكل بناء يولونه شطرًا من عنايتهم.
ومما تمتاز به المباني الإسلامية نقش آيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة
والأمثال، والأشعار، في الحيطان والسقوف، وفوق الأبواب، وفي الأمكنة المعروضة للنظر،
بما تزداد به الأبنية سناءً، والإبهاء بهاءً، ويعد من نفائس الزينة التي تزهو بها هذه
المعاهد. ولقد رأيت في رُندة قاعة انكشفت جديدًا، حيطانها كلها من المرمر، وقد حُفر
عليها سورة الفتح من أولها إلى آخرها. وكان الأسبانيول يوم أجلوا العرب عن الأندلس إذا
رأوا بناءً متقنًا، وضنّوا به أن يجعلوه دكًا، أبقوه ماثلًا، لكنهم غطوا بالجص جميع ما
على الحيطان من الكتابات العربية، حتى يمحو أثر الإسلام من بلادهم بالمرة.
ولبث ذلك ديدنهم إلى هذا العصر الذي شعروا فيه بأن السياح إنما تقصد بلادهم لأجل
مشاهدة الآثار العربية، فرجعوا ينقبون عنها في كل سهل وجبل، وكلما انكشف لأحدهم منها
شيء عدّ نفسه قد عثر على كنز، وصارت المجالس البلدية تمنع هدم أي أثر قديم للعرب، وإن
كان متداعيًا إلى الخراب اكتفوا بتقويم شعثه، وأبقوه على هيئته. وقد يكون الشارع ضيقًا
ولا يسمحون بتوسيعه، إذا استلزم ذلك هدم الأبنية العربية.
ومما يُعجب به الإفرنج من مساجد الأندلس جامع في طليطلة يقال له اليوم «سانتو كريستو
دولالوز» Dola Luz تاريخ بنائه كما يفهم من
الكتابة التي في مدخله سنة ٩٢٢ مسيحية. ولما استرجع الأسبانيول طليطلة في القرن الحادي
عشر المسيحي حولوه كنيسة، ولم يغيروا فيه إلا الجهة الشرقية. وفي هذا المسجد بقايا نقوش
عربية بديعة. ويقال إن الأذفونش السادس الذي احتال على ابن ذي النون حتى أخذ من يده
طليطلة قد سمع أول قداس بعد استيلائه على هذه البلدة في هذا المسجد نفسه. وفي طليلطة
أيضًا من أمثلة الصنعة العربية كنيس لليهود يقصد إليه السياح لنفاسة بنائه. وقد بقي في
الأندلس من المآثر العربية التي يشار إليها بالبنان قصر الجعفرية في سرقسطة، ومنارة
أشبيلية الشهيرة، وباب ساحة النارنج في هذه البلدة، والقصر Alcazar الذي بناه الملك بترو الملقب بالغاشم ولكن على الطرز العربي
بأيدي بنّائين من العرب.
فأما حمراء غرناطة فلا تزال إلى يوم الناس هذا زينة أسبانية وحليتها، ومقصد المتفرجين
من جميع الأقطار يزورها في دور السنة من سبعين إلى مائة ألف متفرج، ومن أغرب ما سمعت
أن
بعضهم يقيم الشهر والشهرين والثلاثة في غرناطة، وقلما يمضي يوم إلا ويقصد فيه إلى
الحمراء حتى يمتع نظره بما فيها من نفائس الصنعة، وبدائع الطبيعة، لأن موقع الحمراء
الطبيعي هو أيضًا نادر في الدنيا. ومما يحمد الله عليه أن صناعة البناء الأندلسية هي
محفوظة كلها في المغرب، لا تختلف في شيء عما كانت عليه في الأندلس، وأن الزليج الذي
تزين به الحيطان والساحات، والذي يشبه القاشاني في المشرق، لا يزال يصنع ويتنافس
به.
هذا، وبعد أن استرد الأسبان بلاد الأندلس من أيدي العرب، وصار هؤلاء تبعة لهم تحت
اسم
المدجَّنين، والأسبان يقولون مدجّر Mudéjar بقيت
الصنعة العربية زاهرة، يبني بها الأسبان أنفسهم، ويدخلونها حتى في بعض كنائسهم، وقد
يجمعون بينها وبين الصنعة القوطية. ومن القصور المبنية على الطراز العربي قصر
«الأنفانتادو» في وادي الحجارة، وقصر اسمه «كارادال
كردون» Casa del Cardon في برغش، من بناء مهندس عربي اسمه محمد، من سقوبية، تاريخ
بنائه يرجع إلى القرن الخامس عشر.
ولا تخلوا أسبانية من أبنية قلدوا فيها الصنعة الإيطالية بعد عصر التجدد Renaissance ثم رغبوا في زيادة التزيين والتزويق
والتخريم والترصيع، حتى سمي هذا الطراز من البناء بطرز الصياغة. وكان البناءون من
الطليان يطوفون في أسبانية، ويبنون القصور لأمرائها بحسب الصنعة الإيطالية، وربما أرسل
بعض المترفين من أسبانية إلى جَنَوَة، فأوصوا على رسوم لقبور موتاهم، وبنوا بحسبها في
بلادهم. ولم يكن الطليان وحدهم هم الذين يبنون بمقتضى الهندسة الجديدة في أسبانية بل
كان هناك بناءون من فرنسا وهولاندة وبلجيكة وكان أشهر هؤلاء «أنريك دو ايغاس» Enrique de Egas الذي هندس مدرسة «سنتا كروز»
في بلد الوليد، وعدة مستشفيات في طليطلة وغرناطة وسانت ياقو.
واشتهر من النحاتين في ذلك العصر «فيليب
فيكارني» Vigarni و«وسيلو» Siloe الذي بنى
كنائس غرناطة وكنيسة مالقة. واشتهر أيضًا دياغو
دوريانو Diego Deriano الذي له أبنية شهيرة في أشبيلية. مثل دار البلدية، وكذلك في
تلك الحقبة بنيت في بيّاسة دار بلدية فاخرة. وفي أُبذة كنيسة سانتا مارية المشهورة
بناها المهندس المسمّى «بلد البيرة» وهو الذي بنى كنيسة جيّان. واشتهر أيضًا «ريبارا»
باني دار البلدية في شريش. ومن المدن الشهيرة بالمباني المشيدة بحسب الطراز الجديد
طلمنكة Salamanqua ذات الأديار والمدارس، ومدينة
القلعة Aleala وقَوَنكة. ثم جاء عهد فيليب الثاني،
وكان الميل فيه إلى الفخامة، مع عدم الاعتناء بالزخرف، وبحسب هذا الأسلوب بُني
الإسكوربال الشهير كما لا يخفى.
ثم جاء مهندسون أحبوا الخروج عن قواعد الفن، ونزعوا منزع عدم التقيد مثل «جوفاره» Juvara الذي بنى قصر آل نربون الملوكي، ويقال أنه من
أنفس آثار هذا الأسلوب الجديد الحر الذي يسميه الأسبان باسم «روكوكو» Rococo وكذلك يعدون مدخل كنيسة مرسية من طُرف هذا الأسلوب.
وبالإجمال ففي أسبانية من جميع أساليب الفنون النفيسة، وكلها تستحق النظر. وفيها عدا
الكنائس وقصور الملوك والمباني العمومية منازل للنبلاء والمترفين في كثير من المدن،
يجدر بالسائحين أن يعرجوا عليها، مثل قصور «آل
بينافنت» Benavente في بياسة، وآل مدينة
سالم Medinaceli في «كوغولودو» Cogoludo وقصور
«فالاسكو» Velasco و«ميراندة» Miranda في برغش وقصور «مندوزه» Mendoza في وادي الحجارة، وغيرها من قصور العائلات النبيلة.
فأما صناعة النحت فقد وجد منها آثار قديمة ترجع إلى زمن الرومانيين، لكنها شخوص
معدودة. ثم وجدت تماثيل قليلة من أوائل عهد النصرانية، ولكن فن النحت، في أسبانية لم
يبلغ درجة تستحق الذكر إلا في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، وإن وجد في أسبانية
بعض تماثيل تعد من طرف الفن فيكون ذلك من صنع الطليان أو الفرنسيس، وفي كنيسة طركونة
أمثلة من جميع أساليب النحت المعروفة حتى إن من جملتها محرابًا باقيًا من عهد المسلمين.
وقد كان الغالب على بلاد «نبارة» الأسلوب الإفرنسي في النحت، كما ترى ذلك في دير
بنيلونة وأماكن أخرى وأجمل ما في أسبانية من التماثيل تماثيل السيدة مريم العذراء، تجد
منها نفائس في أشبيلية وطرطوشة وميورقة وطليطلة وغيرها. وأكثر ما تنحت التماثيل هو
للأموات من ملوك وأمراء وأحبار وأعيان. وأشهر هذه تمثال الملك فرديناند في برغش، وتمثال
الأسقف «فرنندس دولونا» Deluna في كنيسة سرقسطة. وكذلك
تمثال الأسقف «دوسار فنتس» De Cervantes في أشبيلية
وأرباب الفن يترنمون دائمًا بذكر تماثيل برغش، التي هي من خرط خيل «سيلو» Siloe ويعجبون بقبور كارلس الثالث وامرأته في بنبلونة
«وجوان كرادو» Grado في زمّورة. ثم إنه في كتيسة
سرقسطة المسماة «بالسيو» وفي كنيسة طركونة تماثيل يقول أهل الصنعة إنها يتائم في
بابها.
ولو جاء الكاتب يحصي ما في أسبانية من التماثيل المشهورة، والتصاوير المستعذبة
والتهاويل المعروفة ببداعة الصنعة، لطال به الأمر، فإن هذه البلاد ملأى بهذا النوع منه
ما هو من عمل صنّاع طليان، ومنه ما هو من عمل صنّاع البلدان الشمالية، كفرنسا وألمانية
وبلجيكة وهولاندة. ومن أشهر المتفننين في النحت من أمة الأسبانيول «ألونزو بروغيت» Berruguete الذي كانت له حظوة لدى الإمبراطور
شارلكان في بلد الوليد، فقد ترك هذا المِفَنّ آثارًا كثيرة، أثيرة، يطول تعدادها. ومثله
«بياترو تورّيجياني» Torrigiani. ومما يجب ذكره أن
مملكة أراغون كانت لها ملكة قوية في صناعة النحت، امتازت بها على غيرها من الأقطار
الأسبانية واشتهر من صناعها «داميان فورمان» Forment،
كما أنه كان في قشتالة من الصناع المشهورين «كسبار
بسرّة» Becerra أقام مدة طويلة في رومة، وقد رجع منها أستاذًا كبيرًا في النحت
والتصوير معًا، وكان يؤثر العمل في الخشب على العمل في الحجر، وأحسن آثاره المذبح الذي
في أستورقة. وممن اشتهر في أشبيلية «مارتينس
مونتانس» Montanes المعدود من فحول هذا الفن، وكان أسلوبه وطنيًا محضًا، غير
متأثر بأي فن أجنبي. ونبغ في القرن الثامن عشر نحات أصله طلياني، مولود في مرسية اسمه
«زار سيلو» Zarcillo وكان له مذهب خاص لا يقلد فيه
غيره.
أما من جهة التصوير فلم يوجد في أسبانية بقايا تصوير من عهد القوط الأولين وإنما
بقيت
تصاوير راجعة إلى القرون التي كان فيها العرب مالكين لأسبانية. وإن السائح يجد في
الإسكوربال، وفي المكتبة الوطنية في مجريط، وفي أكاديمية التاريخ في هذه العاصمة، كتبًا
أثرية تشتمل تضاعيفها على صور يأخذ منها صورة ذهنية عن درجة هذا الفن في أسبانية لعهد
العرب، ومنها صور لبعض القصور العربية، وكان يسمى هذا النوع من الرسم بالبيزنطي. ثم دخل
في أسبانية التصوير الإفرنسي، ومنه آثار تذكر في طلمنكة، وبنبلونة، وتطيلة، ودخل من جهة
أخرى التصوير الإيطالي واشتهرت له نفائس في بلنسية وكتلونية وجزيرة ميورقة، وامتاز
بنصاعة الألوان، ودقة التقاطيع، وغلب عليه الجمال. وقد وجد في أسبانية نوع من التصوير
لا يخلو من الصنعة العربية منه مذبح دير «بيادره» Piedra.
وعلى كل حال فلا الفن الإفرنسي، ولا الفن الإيطالي، بلغ في أسبانية في التصوير ما
بلغه الفن الفلمنكي، فلقد اشتهر من مصوري الفلمنك الذين كانت أسبانية معرضًا لبدائعهم
«جان فان أيك» Van Eyck ونبغ مصورون أسبانيوليون
في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هم من مقلدي الطريقة الفلمنكية. وفي كل مقاطعة من
أسبانية يجد العارف بهذا الفن مسحة منتقلة إليها من مملكة أجنبية. ففي الشمال مثل نبارة
وأراغون تسود الريشة الإفرنسية، وفي الشرق مثل بلنسية وميورقة تسود الريشة الإيطالية،
وأما في برشلونة فتوجد آثار الرسم الإفرنسي والألماني والإيطالي على السواء، وأبدع
أمثلة التصوير الأراغوني والقشتالي يجدها الإنسان في سقوبية وآبلة، وفي المتحف الآثاري
في مجريط، كما أنه يجد أنفس قطع الفن الكتلوني في كنيسة برشلونة، وكذلك يجد في متحفي
بلنسية وميورقة نفائس كثيرة. وفي أشبيلية يتجلّى أيضًا الفن الفلمنكي عيانًا، لأن أعظم
مصور في هذه البلدة وهو «كاسترو» Castro كان من أتباع
الطريقة الفلمنكية، ثم طرأت على أشبيلية طريقة جديدة طليانية الأصل تميل على محاكاة
الواقع بحذافيره، وعدم الاسترسال إلى التخيل، واشتهر بها مصور اسمه «زورباران» Zurbaran ولا تنس آثار مصوري البنادقة الذين من
عملهم أماثيل أنيقة في الإسكوربال وقصر مجريط. وكان قد نبغ من رجال الفن البندقي مصور
يقال له «تتوان» Tetuan ونبغ له تلميذ يوناني الأصل
أطلق عليه الأسبان لقب «الكريكو» Greco وقد رأيت لهذا
الكربكو صورًا كثيرة في طُليطلة.
وفي القرن السادس عشر نبغ في مصوري أسبانية رجل يقال له «هريره» Herrera يعدّه الأسبانيول المفن الوطني الأكبر، لأنه يمثل الرصانة
والشدة والحمية والصفات التي تغلب عليهم. وكان أهل بلنسية معروفين بحسن الذوق في
التصوير ونبغ فيهم نوابغ في هذا الفن، ولكن تأثير الفن الإيطالي ظاهر في تصاويرهم، ومن
أشهر هؤلاء «ريبالتا» Ribalta ثم «إسبينوزه» Espinosa تلميذه ثم «ريباره» Ribera. وليس في أسبانية مدرسة أحدث عهدًا في التصوير من مدرسة
غرناطة وممن نبغ فيها «الونزوكانو» Cano. وفي القرن
السابع عشر نبغ «مورلو» Murullo الذي يحبه الأسبانيول
أكثر من غيره، وقد كان في فنه من مقلدي الطبيعة، أمينًا للحقيقة، لا يؤثر الخروج عنها،
وكان له ميل إلى محاكاة أذواق العامة وله تلاميذ كثيرون مثل «أوزوريو» Osorio و«طوبار» Tobar وظهر في
ذلك العصر أيضًا «فلاسكس» Velazquez وأصله من شلب وقد
تبع في التصوير الطريقة الأشبيلية، وترك آثارًا يفتخر بها الأسبانيول، مثل صورة فيليب
الرابع، وصورة الدون كارلوس، ولم يسن لنفسه طريقة يقال إنها طريقة مدرسية ليتابعه الناس
فيها، بل لم يكن يتقيد بأسلوب خاص به. وفي مجريط نبغ «جوان
كارينيو» Carreno في أوائل القرن السابع عشر، وكان مصورًا للبلاط الملوكي في
أواخر عهد آل هبسبورغ، ثم اشتهر «سيربزو» Cerezo
و«فرنسيسكو ريزي» Rizi الذي يحاكي في تصويره
الألوان المستحبة في الشرق. ومن مصوري القرن السابع عشر في مجريط «ليوناردو» Leonardo ثم «مينوز» Munoz: وفي أواخر القرن السابع عشر نبغ «كولّو» Coello وكان يحاكي الفلمنكيين بسطوع الألوان وإشعاع النور، شثونة
التقاطيع. وبه ختمت دولة التصوير القديمة في أسبانية، وقيل إنه مات كمدًا، لأن البلاط
الملوكي استدعى إليه «جيوردانو» Jiordano وفي زمن آل
بوربون نبغ «بالومينو» Palomino ولكن البوربون في
القرن الثامن عشر اعتمدوا على مصوري الفرنسيس، وروجوا بضائعهم. وفي أواخر القرن الثامن
عشر، إلى أوائل التاسع عشر، اشتهر «فرنسيسكو
غويا» Goya وكان هذا الرجل أعجوبة في طريقته، يرسل نفسه على سجيتها، ولا
يعرف المحاباة، وقد تعرض غويا هذا لجميع المواضيع، وله تصاوير دينية معلقة في كنائس
طليطلة وبلنسية ومجريط، إلا أنه لم يكن يحسن إلا هذا اللون، ولم يكن الناس يحبون
تصاويره إلا لخشونتها، ولمذهبه في الصراحة، لا رئاء فيها. والصورة التي رسمها لعائلة
كارلوس الرابع هي في الحقيقة مخزاة ناطقة بعظائم أمور. وله تصوير ملاعب الثيران، وديوان
التفتيش، وتصاوير تمثل حرب الاستقلال، أجاد فيها إلى الغاية ويقال إنه أقدر مصور مثّل
أعياد الأسبانيول. وجاء خلفًا له مصور يقال له «مدرازو» Madrazo.
ثم جاء العصر الأخير فنبغ «براديلا» Pradilla
و«بنليور» Benlliure وإضرابهما، فأتقنوا الصور
التاريخية، وفق هوى الأسبانيول في الغرام بالماضي المجيد، والافتتان بالعظيم والمحزن
والمناظر القاسية. ثم ظهر المصور «فورتوفي» Fortuny
وهو من كتلونية، اعتنى بالحياة العصرية، وكان له ملكة تامة في إيجاد تناسب الألوان، على
نمط نسّاجي خراسان وكشمير. وبالجملة فالأسبانيول أصحاب دولة في التصوير والنحت، وربما
كانوا أدرى بتمثيل أحوالهم الداخلية، والأشكال التي ترتاح إليها نفوسهم من سائر الأمم،
ولو كان الآخرون أعلى منهم كعبًا في الفنون النفيسة على وجه العموم.
(٢) كلام القاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي الطليطلي
المتوفى سنة ٤٦٢ وذلك عن الأندلس العربية في كتابه «طبقات الأمم»
قال تحت عنوان «العلوم في الأندلس»: وأما الأندلس فكان فيها أيضًا بعد تغلب بني أمية
عليها جماعة عُنيت بطلب الفلسفة، ونالت أجزاء كثيرة منها، وكانت الأندلس قبل ذلك في
الزمان القديم خالية من العلم، لم يشتهر عند أهلها أحد بالاعتناء به إلاّ أنه يوجد فيها
طِلسمات قديمة في مواضع مختلفة، وقع الإجماع على أنها من عمل ملوك رومية، إذ كانت
الأندلس منتظمة بمملكتهم.
ولم تزل على ذلك عاطلة من الحكمة إلى أن افتتحها المسلمون في شهر رمضان سنة اثنتين
وتسعين من الهجرة، فتمادت على ذلك أيضًا لا يُعني أهلها بشيء من العلوم إلا بعلوم
الشريعة، وعلم اللغة، إلى أن توطد الملك لبني أمية، بعد عهد أهلها بالفتنة، فتحرك ذوو
الهمم منهم لطلب العلوم، وتنبهوا لإشارة الحقائق على حسب ما يأتي ذكره بعد إن شاء الله
تعالى.
وأما دين أهل الأندلس فدين الروم من الصابئة أولًا ثم النصرانية إلى أن افتتحها
المسلمون في التاريخ الذي ذكرناه، وأما ملكهم فكان لطوائف من الأمم مختلفة، تداولوها
أمةً بعد أمة، فمن تلك الأمم الروم وكان عمّالهم ينزلون مدينة طالقة العتيقة المجاورة
لأشبيلية. واتصل ملكهم بها زمنًا طويلًا إلى أن غلبتهم عليها القوط. فانتسخ الملك
الرومي منها، واتخذ القوط مدينة طليطلة، من مدائنها العتيقة قاعدة لملكه، وملكوا
الأندلس أفخم ملك قريبًا من ثلاثمائة سنة، إلى أن غلبهم المسلمون عليها في التاريخ الذي
قدمنا ذكره، واقتعد ملوكهم قرطبة وطنًا، ولم تزل مركزًا لملك المسلمين بها إلى زمان
الفتنة، وانتشار الأمر على بني أمية. فافترق عند ذلك شمل الملك بالأندلس، وصار إلى عدة
من الرؤساء، حالهم كحال الطوائف من الفرس.
وأما حدود الأندلس، فإن حدها الجنوبي منها الخليج الرومي، الخارج مما يقابل طنجة في
موضع يعرف بالزقاق، سعته اثنا عشر ميلًا، ثم ينتهي إلى مدينة صور من مدائن الشام.
وحداها الشمالي والغربي، البحر الأعظم المسمى أوقيانوس المعروف عندنا ببحر الظلمة.
وحدّها الشرقي الجبل الذي فيه هيكل الزهرة الواصل ما بين البحرين: بحر الروم، والبحر
الأعظم، ومسافة ما بين البحرين في هذا الجبل ثلاث مراحل، وهو الحد الأصغر من حدود
الأندلس، وحدّاها الأكبران الجنوبي والشمالي، ومسافة كل واحد منهما نحو ثلاثين مرحلة،
ومسافة حدّها الغربي نحو من عشرين مرحلة، ووسط الأندلس مدينة طليطلة العتيقة، التي كانت
قاعدة القوط. وعرضها ٣٩ درجة و٥٠ دقيقة، وطولها ٢٨ درجة بالتقريب، فصارت بذلك في
التقريب من وسط الإقليم الخامس، وهي في وقتنا هذا الذي هو سنة ستين وأربعمائة قاعدة
الأمير أبي الحسن يحيى بن إسماعيل بن عامر بن مطرف بن موسى بن ذي النون عظيم ملوك
الأندلس. وأقل بلاد الأندلس عرضًا المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، على البحر
الجنوبي منها، وعرضها ٣٦ درجة، وأكثر مدنها عرضًا بعض المدائن التي على ساحلها الشمالي،
وعرض ذلك الموضع ٤٣ درجة، فمعظم الأندلس في الإقليم الخامس، وطائفة منها في الإقليم
الرابع، كأشبيلية، ومالقة، وقرطبة، وغرناطة، والمرية، ومرسية. وهذا الجبل الذي ذكرنا
فيه هيكل الزهرة الذي هو الحد الشرقي من الأندلس، هو الحاجز ما بين الأندلس وبين بلاد
أفرنسا من الأرض الكبيرة، التي هي بلاد إفرنجة العظمى والأندلس آخر المعمور في المغرب،
لأنها كما ذكرنا منتهية إلى بحر الأوقيانوس الأعظم. ا.هـ.