التقسيمات الجغرافية
(١) القشتالتان وليون
لم تكن أسبانية في الماضي مملكة واحدة كما هي الآن، بل كانت أقسامًا شتى، وممالك مستقلة بعضها عن بعض. وبعد أن غلب الغرب على جميعها، ولم يبق موضع قدم منها لم يستولوا عليه، بقيت صخرة لاذ بها ملك يقال له «بلاي» دخل في كهف منها بثلاثمائة رجل، فلم يزل العرب يقاتلونه حتى مات أصحابه جوعًا، وترامت طائفة منهم إلى الطاعة، فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلًا، معهم عشر نسوة أصرّوا على الامتناع في ذلك الكهف، الذي كان يصعب الوصول إليه، وجعلوا يقتاتون من العسل الذي كان النحل يمجه في خروق الصخرة، فاستخف بهم المسلمون وتركوهم وقالوا ما في رواية «أخبار مجموعة: ثلاثون علجًا ما عسى أن يكون أمرهم!؟ فهؤلاء بعد رجوع المسلمين عنهم عادوا فخرجوا من الصخرة غير خاضعين، واعصوصب حولهم كل من نزع به في تلك الأرض عرق الأنفة عن الخضوع للأجنبي، ورأس بلاي هذا تلك العصابة التي لم تزل تنمو وتغلظ، حتى صارت إمارة حقيقية، ثم مملكة يحسب حسابها. ثم تكونت منها سلطنة قشتلة التي هي أول حكومة أسبانيولية استقلت عن الغرب بعد أن دانت لهم جميع الجزيرة الأيبيرية.
- الأولى: «برغش» Burgos ومساحتها ١٤١٩٦ كيلو مترًا مربعًا، وعدد سكانها نحو من ٣٥٠ ألف نسمة.
- والثانية: «آبلة» Avila، ومساحتها ٨٠٤٧ كيلو مترًا مربعًا. وعدد سكانها ٢١٠ آلاف نسمة.
- والثالثة: «سقوبية» Segovle ومساحتها ١٠٣١٨ كيلو مترًا مربعًا، وعدد سكانها زهاء ١٧٠ ألف نسمة.
- والرابعة: «شورية» Soria ومساحتها ١٠٣١٨ كيلو مترًا مربعًا وعدد سكانها ١٦٠ ألف نسمة.
- والخامسة: «لوكروني» Logrono ومساحتها ٥٠٤١ كيلو مترًا مربعًا، وعدد سكانها ١٩٠ ألف نسمة.
- والسادسة: «شنت أردم» أو «شنت أندر» Santander ومساحتها ٥٤٦٠ كيلو مترًا مربعًا، وعدد سكانها نحو من ٣٠٠ ألف نسمة.
(٢) بلاد البشكنس
- الأولى: «غيبوسكوه» Guèpuzco،
- والثانية: «بسقاية» Biscaye أو Vizcaya.
- والثالثة: «أَلَبة» بالتحريك Alava.
والبشكونس من أشد أمم الأرض حبًا بالحرية وأنَفَة عن قبول الضيم، وكما كانوا يردّون غارات العرب من الجنوب، كانوا يردّون غارات الفرنج من الشمال وكانت مواقع بلادهم الجبلية تساعدهم على رد غارات هذه الأمم العظيمة، فإن مساكنهم أكثرها في الجبال تحيط بها الأوعار، والأرض كما يقال تقاتل مع أهلها.
وقد فحص الأطباء مثل الدكتور بروكا والدكتور فالسكو من مجريط جماجم الباشكونس من سبعين سنة، وأخذوا منها عددًا كبيرًا من مقابر تلك البلاد، كما أنهم ميزوا جماجم الأحياء، فوجدوا أن هذه الأمة فيها نوعان من الجماجم، منها النوع الذي يزيد طوله على عرضه بنحو الربع، ومنها الذي يتساوى طوله بعرضه. ويقال عن أخلاق الباشكونس أنهم كثيرو الخيالات، سريعو الانفعالات، وأن عندهم خرافات قديمة لم يتخلصوا منها حتى الآن، ولكن فطرتهم الأصلية مبنية على الاستقامة، وعندهم حسن معاشرة ومخالقة، إلا أنهم بطّاشون عند الغضب، ومع أن الرصانة غالبة على طباعهم، فإنهم يحبون الألعاب، ويتلذذون بالمآكل والمشارب وحسن الوفادة، وإكرام الضيف عندهم مما لا يفوقهم فيه أحد. ونساؤهم حلائل أمينات، وأمهات مربيات، إلا أن التدين عندهن بالغ درجة الوسواس، لا سيما عند البنات اللواتي يئسن من المحيض، وكثيرًا ما ينتهي أمر العانس من هؤلاء بالجنون. والباشكونسيّ بطبيعته ذكي الفؤاد، شهم، عزيز النفس، صعب المقادة، وإذا تعلم وتهذّب ففيه قابلية كبيرة للترقي، أما خرافاتهم القديمة فمنها أن الإنسان إذا رأى امرأة يوم الاثنين تحت نافذة بيته ففي ذلك الأسبوع يحصل له بلاء، وإذا صاح الديك في أول الليل فيكون هذا الصياح علامة على كون الديك أحس بمرور الساحرات وهو خطر يتلافونه بأخذ قبضة من الملح وذرها في أرض البيت، والمتزوج يوم عرسه يجتهد أن يمسك بذيل من ثوب زوجته ويضعه تحت ركبته حتى يكون فيما بعد هو السيد في البيت، وكان للباشكونس اعتقاد عظيم بالسحر، وكانت السحرة عندهم في كل مكان، وكانت لهم اجتماعات يتداعون إليها، ويعتقدون أن هؤلاء السحرة لهم علاقات مع الشيطان وأنهم يدفعون شره، ولكن هذه الخرافات قد بدأت تضمحل شيئًا فشيئًا.
وقد كان للباشكونس دور مهم في حروب استرداد الأندلس من أيدي المسلمين وبهذا السبب تميزت بينهم عائلات كثيرة، ورأست وعزّت وبزّت، وبتوالي الزمن صارت نبيلة. ففي قشتالة وليون الملك هو المالك لجميع الأرض، أما في نبارة، حيث مواطن الباشكونس، فالملك يشاركه في ملك الأراضي هؤلاء النبلاء الذين ساعدوه على طرد المسلمين، ولهذا عندهم هناك ثلاث طبقات: النبلاء، والعامة، والطبقة المتوسطة بينهما. وفي «ألبه» الأهالي ينقسمون إلى نبلاء وإلى عامة، وذلك لأن منهم من حارب المسلمين، ومنهم من خضع لهم، فالذين خضعوا لهم هم المعدودون من صنف العامة.
ولهذا حصل التمايز بينهما، أما في «بسقاية» و«غويبوسقوه» و«لابورد» حيث لم يتمكن المسلمون، ولم تكن لهم ولاية، فجميع الأمة معدودة من النبلاء، لأنه ليس فيها من أسلم، ولا من خضع للإسلام. والنبلة في هذه المقاطعات يقال لها نبالة أرض، لا نبالة دم، والفرق بينهما أن الذين أخرجوا المسلمين بالحرب صارت لهم حقوق متأثلة، واستولوا على الأراضي التي كانت صارت إلى العرب، وأقاموا فيها أكّارين من عبيدهم وجنودهم، فصار هؤلاء بكرور الأيام عائلات نبيلة ذوات إقطاع، وأما نبلاء الأرض فهم الذين توارثوا أراضيهم من القديم، وحفطوها خلفًا عن سلف، لأنه لم يقع عليها فتح، وأما القوانين والأعراف التي يمشي الباشكونس عليها فهي عبارة عن عادات واصطلاحات قديمة مختلطة بقوانين جديدة ولكل ناحية عادات تختلف عن غيرها، وأكثرها يدور حول الامتيازات التي نالها بعض الأهالي، وتملكوا بها الأراضي في حروبهم مع العرب. وهذا هو خلاصة ما يقال عن الباشكنس، إحدى الأمم الأيبيرية وأقدمها، ونزيد عليه أن باشكنس فرنسا وباشكنس أسبانية عقدوا سنة ١٩٠٢ مؤتمرًا في «فونتارابية» سموه مؤتمر اتحاد الباشكنس.
(٣) عود إلى ليون وقشتالة
ثم نعود إلى تفصيل ما أجملناه عن ليون والقشتاليين بقدر الإمكان فنقول:
ثم مدينة «أوردونية» وهي على وادي «نرفيون» وعدد سكانها ٣٥٠٠ وجميع مناظر تلك البلاد شائقة نظرًا لكثرة الجبال والأودية والغابات فيها.
(٤) برغش
ولبرغش سهل مريع يسقيه جدول اسمه «بيكو» وأقنية من أرلنسون. وهذه البلدة هي من أقرس مدن أسبانية بردًا، يتسلط عليها ريح الشمال، وقد يقع فيها الثلج في شهر يونيو وفي الشتاء يصح أن يقال فيها:
وأما في القيظ فهي من أشدها حرارة، يهب عليها ريح الجنوب المحرق فيشوي الوجوه، وعليها يصدق المثل الذي يقال عن مجريط وهو: تسعة أشهر شتاء، وثلاثة أشهر جهنم الحمراء.
(٥) بلد وليد
وهذه البلدة هي اليوم عاصمة أسبانية، وسكانها يزيدون على ثلاثمائة ألف وفيها مدرسة جامعة، ومركز أسقفية، وموقعها على ٦، ١، ٣١ من الطول الغربي من خط نصف النهار الباريزي، وعلى ٤٠، ٢٤، ٣٠ من العرض الشمالي، وهي تعلو عن سطح البحر ٦٤٠ متر.
(٦) مجريط Madrid
قال ياقوت في معجم البلدان: مجريط بفتح أوله، وسكون ثانيه، وكسر الراء، وياء ساكنة، وطاء: بلدة بالأندلس ينسب إليها هارون بن موسى بن صالح بن جندل القيسي الأديب القرطبي، أصله من مجريط، يكنى أبا نصر، سمع من أبي عيسى الليثي وأبي علي القالي، روى عنه الخولاني، وكان رجلًا صالحًا صحيح الأدب، وله قصة في القالي ذكرتها في أخباره من كتاب الأدباء — يعنى كتابه معجم الأدباء — ومات المجريطي لأربع بقين من ذي القعدة سنة ٤٠١ قاله ابن بشكوال. ا.ﻫ.
ومن غريب الأمور أن ياقوت ذكر مجريط في مكانين من كتابه، ففي الأول ذكرها في صفحة ٣٨٨ من الجزء السابع من معجمه، الطبعة الأولى المصرية المصححة بقلم الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي، ثم في صفحة ٣٩٤ من الجزء نفسه، عاد فذكر مجريط هي نفسها وترجمها غير الترجمة الأولى فقال: مجريط بالفتح ثم السكون وكسر الراء، وياء، وآخره طاء مهملة: مدينة بوادي الحجارة، اختطها محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. ينسب إليها سعيد بن سالم الثغري، ساكن مجريط، يكنى أبا عثمان. سمع بطليطلة من وهب ابن عيسى، بوادي الحجارة من وهب بن مسرة وغيرهما، وكان فاضلًا، وقصد السماع عليه، ومات لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة ٣٧٦ قال ابن القرضي انتهى نقلًا عن بغية الملتمس.
وأما أبو يعقوب يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حماد المجريطي الذي قلنا إنه توفي بمجريط سنة ٤٧٣، فإذا كان القشتاليون استولوا على مجريط سنة ١٠٨٣ فينبغي أن تكون وفاته وقعت في مجريط بعد استرداد الأسبانيول لهذه البلدة. وأخبرني مهندس أسبانيولي مدقق متخصص بعلم الآثار اسمه فرناندس من أهل قرطبة أنه لما استولى الأسبان على مجريط كان فيها أربعة جوامع.
كان بناء مجريط في زمن العرب ضرورة عسكرية، لأنهم جعلوها قلعة في وجه القشتاليين، ولولا القلعة ما تكونت ثمة بلدة، إذ ليس إلا بلد محل، وماء ضحل، وبقيت في أيدي العرب مدة طويلة إلى أن تمكن الأسبانيول من إرجاعها سنة ١٠٨٣ وذلك على يد الأذفونش السادس، وكانت القلعة العربية في مكان القصر الملوكي الحالي وهذا القصر هو أفخم بناء في هذه العاصمة الآن، وكان الشروع ببنائه سنة ١٧٦٤.
والذي فكر في جعل مجريط عاصمة أسبانية هو فيليب الثاني، وذلك سنة ١٥٦٠ وقبلها كانت العاصمة طليطلة. وكان في طليطلة كرسي الأسقف الأكبر، فكانت هذه المدينة عاصمة أسبانية في الدين والدنيا، وكان الاحتكاك الدائم لا يخلو من حوادث تبعث على الاختلاف، فأخذ فيليب الثاني يفكر في الانتقال إلى مركز آخر يتوسط المملكة مع جميع الجهات، فلم يجد أفضل من مجريط، على علاتها، وقحولة أرضها، وعطلها من أكثر المواهب الطبيعية التي تقوم بها عمارة البلدان، فإنه فكر في سرقسطة، فوجدها منحرفة إلى الشمال. وفي برغش وليون، فلم يجد فيهما التوسط اللازم الذي جعله نصب عينيه، وفي قرطبة وأشبيلية، فوجدهما ضاربتين في الجنوب، وكان مراده على كل حال أن يغادر طليطلة فرارًا من مجاورة أحبار الكنيسة فاختار مجريط، برغم وقوعها في أرض قليلة الخيرات، لا تجري فيها أنهار ولا تمتاز بزرع ولا ضرع، كما أن هواءها جامع بين الأضداد، فمن نواقح البرد القارس، إلى لوافح الحر المحرق، ففي أيام الشتاء قد تنزل درجة الحرارة في الميزان إلى ١١ تحت الصفر ويتجمد الماء أكثر فصل الشتاء، وفي الصيف تصعد الحرارة إلى الدرجة ٤٣ في الظل، كأنه حر الساحل الجنوبي، ثم إن هواء مجريط، إما أن يكون شديدًا عاصفًا، يصرع الرجل الماشي في الشارع، وإما أن ينقطع تمامًا، حتى لا يطفئ المصباح، فتقلبات الأحوال الجوية في هذه العاصمة أعجوبة من الأعاجيب، ومن أمثالهم: لا تترك معطفك قبل ٢٠ مايو.
ولما انتقل فيليب الثاني إلى مجريط كان فيها ٢٥٠٠ بيت، و٢٥ ألف نسمة، فضاقت على رجال الدولة والجند. وصدرت الأوامر بإنزال الأمراء والقواد وأصحاب المناصب في البيوت الكبيرة، فمن ذلك الوقت امتنع الناس عن بناء الدور الفيحاء، وصار الأغنياء منهم يعتمدون السكنى في المنازل الحقيرة، حتى لا ينزل رجال الدولة في دورهم. فلذلك بقيت مجريط لا تتقدم إلى الأمام مدة طويلة، مع أن الفن لذلك العهد كان بلغ أوج الترقي، واستمرت هذه الحالة على مجريط إلى أن جاء آل بوربون ملوكًا على أسبانية، فشرع كارلس الثالث، أفضل ملوك هذه العائلة، في عمارة مجريط والاعتناء بشأنها. ولما استعفي كارلس الرابع من عرش أسبانية سنة ١٨٠٨ جاء يوسف بونابرت، وأخذ يوسع شوارع مجريط، ويهدم حاراتها القديمة، والأديار التي كانت تضيق بها الأرض بما رحبت ثم ذهب حكم نابليون، وأعيد حكم آل بربون، وجاء فرديناند السابع، فأخذ يعتني بتوسيع مجريط وتزيينها، إلى أن كسبت شكل عاصمة حقيقية.
وفي مجريط أكاديمية للفنون النفيسة، وفيها متحف المدفعية وفيه آثار ونفائس كثيرة. وفيه قاعة تسمى القاعة العربية، جمعوا إليها ما قدروا عليه من مخلفات العرب، من رايات، وعمائم، وأثواب، وأحذية، وسيوف، ومن جملتها سيف أبي عبد الله بن الأحمر، آخر ملوك غرناطة. وقد اشتمل هذا المتحف أيضًا على غنائم كثيرة مما حازه الأسبانيول في فتح أميركة، وتلك المستعمرات الواسعة، وكذلك في هذا المتحف تذكارات كثيرة من أيام حروب الكرلوسيين.
وحروب الكرلوسيين تشغل من تاريخ أسبانية حيزًا كبيرًا، بحيث لا يفهم القارئ، حقيقة تاريخ أسبانية في القرن الماضي بدون أن يعرف قضية الكرلوسيين هذه. فلذلك رأينا تلخيصها فيما يلي:
الدون كارلوس البريوني المولود سنة ١٧٨٨ المتوفى سنة ١٨٥٥ كان ابن كارلس الرابع، ملك أسبانية، وأخا فرديناند السابع. فلما حمل نابيلون الأول فرديناند هذا على الاستعفاء اعتقله، كان الدون كارلس مع أخيه في الاعتقال، فلما عاد فرديناند إلى الملك، بعد سقوط نابليون سنة ١٨١٤ عاد الدون كارلس أيضًا مع أخيه ونظرًا لكون فرديناند لم يعقب ولدًا، كان كارلس هو ولي العهد الشرعي، وحوله اجتمع رجال الكنيسة والرهبان والنبلاء الذين يكرهون مبادئ الثورة، وجميع من كان من أنصار الملكية المطلقة، وأصحاب الامتيازات والاقطاعات، فصار الدون كارلس يناوئ أخاه الملك، ولم يتمكن فرديناند من العرش في وسط هذه الهزاهز إلا بواسطة جيش أنجدته به فرنسا سنة ١٨٢٣، واشتدت العداوة بين الأخوين، فتزوج فرديناند بمارية كرستينا من ملوك الصقليتين، وولد له منها الأميرة إيزابلا، فصارت هي في نظر أبيها وارثة الملك. وحال أن قانون أسبانية كان يحصر الإرث في الذكور، فأدى الأمر إلى الحرب بين حزب الملك وحزب الدون كارلس، ومزقت هذه الحروب الأمة الأسبانية تمزيقًا، واتفقت فرنسا وإنكلترة، فعضدتا الملك فرديناند في وجه أخيه ثم مات الملك سنة ١٨٣٣ فقامت مقامه زوجته الدونة مارية، وعضدتها فرنسا وإنكلترة، فانهزم كارلس إلى البرتغال، لمصاهرة بينه وبين الدون ميكال ملك البرتغال. إلا أن حزب الدون كارلس كان كبيرًا وثارت معه المقاطعات التي كانت تكره النظام المركزي، فاشتعلت نار الفتنة في الأستورياش، وبلاد الباشكونس، ونباره، وأراغون، وكتلونية. واشتدت الحرب الأهلية في أسبانية، إلى أن وقع الخلف أخيرًا بين زعماء حزبه، ففشلوا، واضطر كارلوس إلى الفرار سنة ١٨٣٩، والتجأ إلى فرنسا في زمن الملك لويس فيليب، واعتقل فيها.
ثم نزل عن دعواه لشخصه وخلفه ابنه الدون المسمى كارلس أيضًا، فأخذ هذا يثير حزبه على ابنة عمه، وجرت وقائع وحروب في أيامه، كما جرت في أيام أبيه. وما زال يقاتل ويثير الفتنة إلى أن مات. فخلفه أخوه الدون جوان. ثم خلف الدون جوان ولده الدون كارلس أيضًا، وذلك سنة ١٨٦٨، وسماه حزبه كارلس السابع، ودخل أسبانية، وأثار الفتنة، نظير عمه وجده، وتغلب على عساكر الدولة الأسبانية، وقام بتشكيل وزارة، وأوشك أن يستولي على العرش، واستمرت هذه الحالة مدة أربع سنوات، إلى أن تغلبت الدولة الأسبانية في الآخر عليه، فانهزم إلى الخارج، فصار يجول في الأقطار إلى أن مات. وانتهت الشحناء الكارلوسية.
وفي مجريط ساحة يقال لها ساحة الشرق، في نهايتها ملهى التمثيل الملوكي. وأما قصر مجلس الشيوخ فإنه في طرف من المدينة، بينما مجلس النواب هو في الطرف الآخر.
وأما خزانة الكتب الوطنية ففيها عدا الكتب، وعدا الوثائق التاريخية متحف يقال له متحف الفن الحديث، ومتحف آخر يقال له متحف الآثار القومية. وقد بدأوا ببناء دار الكتب هذه سنة ١٨٦٦، وانتهوا منها سنة ١٨٩٤، وأمام رتاجها تماثيل المشاهير من رجال أسبانية، وفي داخلها تماثيل ملوكهم وملكاتهم. وأول من جمع هذه الكتب في مجريط هو الملك فيليب الخامس، وذلك من مائتين وخمس وعشرين سنة. وسنة ١٨٦٦ اشترت الحكومة مجموعة كتب مخطوطة كانت تخص دوق أوشونة، وأضافتها إلى هذه المكتبة. ومجموع ما تشتمل عليه من الكتب هو ستمائة وخمسون ألف مجلد، منها ثلاثون ألف مخطوط، وألفان وسبعة وخمسون كتابًا طبعت في بداية عهد الطباعة. وفيها عشرون ألف ورقة من الوثائق. وثلاثون ألف صورة يدوية. وفيها ثمانمائة طبعة من كتاب الدون كيشوط. والبناء هو سبع طبقات من الحجر والحديد، وفي قاعة القراءة ٣٢٠ كرسيًا. ولما ذهبت إلى مجريط سنة ١٩٣٠ كنت أذهب كل يوم إلى هذه المكتبة، وفيها اطلعت على كتب كثيرة تتعلق بالأندلس، ثم اقتنيت أكثرها فيما بعد ذلك، ونسخت بخط يدي يومئذ قسمًا من كتاب أخبار مجموعة، وهو أول تاريخ عربي لمسلمي الأندلس، يصل إلى زمان الناصر، وقسمًا من كتاب القضاة بقرطبة، لأبي عبد الله محمد الخشني.
وأما خزانة الآثار القومية ففيها مائتا ألف وثيقة، جمعت من كل الأطراف، ولا سيما من كنيسة آبلة. وتحت المكتبة أقباء ملأى بالآثار القديمة التي قبل التاريخ وعظام بشرية، وهناك مكان للعاديات الشرقية، ومنسوجات قبطية، وآنية أصلها من قبرص، وكثير من المصنوعات الأيبيرية، والتماثيل العتيقة، مما يحار له العقل. ويقضي السائح الأيام والأشهر وهو يقضي منه العجب، ويوجد قاعات لآثار القرون الوسطى: من كتابات، وقطع فنية، ونواويس. ومن هناك قاعة خاصة بآثار العرب. والآثار المسيحية التي يطلق عليها اسم الطراز المدجن، والأسبانيول يقولون المدجَّر، وأكثر هذه الآثار العربية مأخوذة من أشبيلية وقرطبة وسرقسطة وغرناطة وفي القاعة العربية أسطرلابان عربيان، أحدهما تاريخ صنعه سنة ١٠٦٧ مسيحية، وهو أقدم أسطرلاب معروف اليوم. وفيها تحت الزجاج مجموعة عظيمة من الصحون والآنية العربية. وإلى الحائط الغربي من القاعة العربية قوسان من باب الجعفرية، في سرقسطة، وقطع من البهو الملوكي في الجعفرية المذكورة، وباب عربي جيء به من ليون، وحوض للوضوء جيء به من مدينة الزهراء في قرطبة، وآثار من جامع بناه محمد الثالث في غرناطة وإلى الحائط الجنوبي باب عربي من خشب وجدوه في «دروقه»، وإلى الحائط الشرقي مجموعة من الزليج، وفي الوسط فوارة أشبه بفوارة قاعة الأسود في الحمراء، وفورتان من قرطبة، ويوجد سيوف عربية، وخواتم، وآنية من العاج، وغير ذلك من نفيس صناعات العرب. ومما يوجد في هذا المخزن مفاتيح مدينة وهران يوم دخلها الأسبانيول سنة ١٥٠٩.
وفي الطبقة الأولى من خزانة الآثار هذه توجد آثار مكسيكية قديمة، حازها الأسبانيول يوم فتحوا تلك البلاد، وآثار غريبة، وآنية خزفية، ومنسوجات من أميركا الجنوبية، وفسيفساء من صنعة أميركا الشمالية القديمة وغير ذلك مما وجدوه في المكسيك وكولومبية وكوبا وغيرها.
ومكتبة مجريط هي من أغنى مكاتب أوروبا بلا نزاع، سواء في الكتب، أو في الآثار أو في التحف النفيسة، وفيها أيضًا نفائس من صنعة فارس وتركية والهند، وتماثيل صينية، ومصنوعات من العاج من عمل الصين، وفيها أيضًا من صناعة اليابانيين وبلاد الفيليبين، وفيها معرض للمسكوكات القديمة، من زمان قرطاجنة فما بعدها، وغير ذلك مما لا يكاد يحيط به العقل.
وفي مجريط دار يقال لها أكاديمية التاريخ، بنيت سنة ١٧٣٨، وفيها متحف يحتوي على أسلحة أيبيرية قديمة، وعلى مجموعة مسكوكات، ومن جملة ما فيها راية عربية كانت من قبل في كنيسة سان أشتبان. وأما من جهة الكتب ففيها ٤٤ ألف مجلد، من أصلها ألفان من المجلدات المخطوطة، وأكثرها عائد لتاريخ أسبانية.
هذا وقد ترددت في أثناء مقامي بمجريط على مكتبة أكاديمية التاريخ، وعثرت فيها على كتب كثيرة. وقطفت من أزهارها. ونسخت بقدر ما أمكنني الوقت، وإني لذاكر الآن بعض الكتب التي استجلبت نظري، من أسفار تلك المملكة وهي: «تاريخ العلماء» الأندلس، لأبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي المعروف بابن الفرضي، وكتاب «الحلل الموشية في الأخبار المراكشية». و«الروضة الغناء في أصول الغناء» و«تفريج الكرب عن كروب أهل الأرب. في معرفة لامية العرب» لمحمد بن قاسم بن محمد بن عبد الواحد بن زاكور، و«نظم الدر والعقبان، في شرف بيت بني زيان، وذكر ملوكهم الأعيان، ومن ملك من أسلافهم في ما مضى من الزمان»، و«عمدة الطبيب في معرفة النبات»، لابن بطلان، و«نزهة المشتاق، في اختراق الآفاق» للشريف الإدريسي، الذي نقلنا عنه كل ما قاله عن الأندلس في كتابنا هذا وكتاب «فتوح أفريقية» وكتاب «القواعد المسطرة، في علم البيطرة» لعلي بن عبد الرحمن بن هذيل بن محمد الفزاري. وكتاب «فضالة الإخوان في طيبات الألوان»، لأبي الحسن علي بن محمد بن القاسم بن محمد بن أبي بكر بن الوزير التجيبي الأندلسي. و«تقييد الرسائل» من إنشاء الفقيه القاضي الكاتب ابن المطرف ابن عميرة. و«عقد الجمان، في تاريخ أهل الزمان» لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد بن موسى العيني. و«الروض الهتون، في أخبار مكناسة الزيتون»، لمحمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن غازي العثماني المكناسي. و«نتيجة الاجتهاد، في المهادنة والجهاد»، لأحمد بن المهدي الغزالي الفاسي. وكتاب «الاكتفا في أخبار الخلفا»، لأبي مروان عبد الملك بن الكرديوس. وكتاب «الدرة المضية، في اللغة التركية»، لزين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العيني. و«القوانين الكلية، لضبط اللغة التركية»، لشمس الدين محمد بن نور الدين علي بن زين الدين. وكتاب «استخراج ملح المعادن». وكتاب «تأيُّد الملة». و«الذخيرة» لابن بسام، ورسالة بفضل الأندلس لأبي الوليد إسماعيل بن محمد الشقندي. و«حكاية الجارية تودور»، وما كان من حديثها. وكتاب الجغرافية في مساحة الأرض وعجائب الأسقاع والبلدان. وقصة الست زمرد الستورية. و«التكملة» لابن الأبار. ودفتر لرسم الكتب الموضوعة في خزائن يمني المحراب من الجامع الأعظم (يريد جامع قرطبة). ودفتر لرسم الكتب الموضوعة في خزائن يسرى المحراب من الجامع الأعظم. وكتاب «فوائد الموائد» تأليف يحيى بن عدي، وقيل تأليف جمال الدين أبي الحسن المعروف بالجزار. وكل هذه الكتب نظرت فيها بقدر ما وسع الوقت وكتاب فوائد الموائد كثير النكات، يقرأه الإنسان للتسلية. أوله: «الحمد لله الذي جعل الطعام رزقًا للعباد، وقوامًا للأجساد، وسببًا لذم البخلاء ومدح الأجواد، أحمده على ما منح من طيبات رزقه، ومعرفة الكرام من خلقه، رازق الأطعمة الشهية، ومسخر النفوس السخية، إلخ». وأجل كتاب رأيته في هذه المكتبة هو «الفلاحة في الأرضين»، لأبي زكريا يحيى بن محمد بن أحمد بن العوام الأشبيلي. وهو جزءان، وعدة صفحاته ٨٤١. ويندر أن يكون في هذا الفن كتاب أجل قدرًا منه. وقد قرأت في مجلة المجمع العلمي العربي التي تصدر في دمشق أنه مترجم إلى الإفرنسية وقد نسخت من هذا الكتاب عدة صفحات ورأيته ينقل كثيرًا عن الفقيه الإمام أبي عمر أحمد بن محمد بن حجاج في كتابه «المقنع» وهو المؤلَّف سنة ست وستين وأربعمائة، نقل فيه صاحبه عن الرازي، وإسحق بن سليمان، وثابت بن قرة وغيرهم. وكذلك نقل أبو زكريا يحيى بن محمد بن العوّام الأشبيلي صاحب كتاب الفلاحة هذا عن كتاب الشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن الفصًال الأندلسي، الذي بنى كتابه على تجاربه الخاصة، ونقل عن كتاب الحكيم الشيخ أبي الخير الأشبيلي، وهذا مبني على تجارب المؤلف وعلى آراء جماعة من الحكماء والفلاحين. ونقل عن كتاب الحاج الغرناطي. وكتاب بن أبي الجواد، وكتاب غريب بن سعد، ونقل عن حكماء اليونان، وأيضًا عن كتاب الفلاحة النبطية المشهور المبني على أقوال جلة من الحكماء منهم آدم، وصغريت، وينبوشاد وأخنوخا، وماسي، ودونا، وكانتري، وغيرهم. وأما تاريخ ابن الفرضي، ورسالة الشقندي في فضل الأندلس، فقد نقل عنهما صاحب النفح ما شاء.
(٧) الاسكوريال L’escurial
وكان فيليب الثاني يريد أن يقتفي أثر أبيه في التنسك والاعتزال، فبعد أن بحث نحوًا من سنتين عن مكان لهذا الغرض أصابه في جوار مجريط بقرية الاسكوريال، فاستدعى إليه المهندس الطليطلي الشهير «جوان بوتيستا»، وبدأ بالعمل سنة ١٥٥٩، ولكن المهندس مات بعد أن بدأوا بالبناء، فخلفه عليه «جوان دوهربره» الذي هو من تلاميذه، وكان الأول تعلم البناء في رومة، وأما الثاني فكان تحصله في بروكسل. وكان فيليب الثاني يشترك بنفسه في الشغل، ويأخذ ويعطي مع الصناع، ولا يتركهم يعملون شيئًا بدون رأيه وقد بذل همة فوق تصور العقل لأجل إكمال هذه البنية التي قل أن يوجد مثلها في الدنيا. وقد انتهوا من العمل ووضع الصليب على القبة سنة ١٥٨١، وآخر حجر وضع في هذا الدير كان وضعه في ١٣ سبتمبر سنة ١٥٨٤، وأما المقبرة الملوكية فما تمت إلا في زمن فيليب الرابع، حفيد فيليب الثاني. وقد خمنوا نفقات هذه البنايات الكبرى بستة عشر مليونًا وخمسمائة ألف بسيطة. وطرز هندسة هذا الدير هو طرز عصر التجدد الثاني في إيطالية، وهو الذي يعتمد في جلاله على مجرد تناسب الأقسام، وليس في الأسكوريال شيء من الزينة ولا الزخرف، وجميع تلك الجدران لا يتخللها غير نوافذ صغيرة. وإذا نظرت إلى هذا البناء العظيم حسبت أنه قلعة أو سجن. ولما أراد فيليب الثاني أن يزين داخل الدير بالتصاوير التي لا بد منها نظرًا للمذهب الكاثوليكي، استجاد بعض مصوري إيطالية المشاهير مثل «تيبالدي» و«كامبيازو» و«زوكارو» وأما من أسبانية فقد استدعى «جوان فرناندس» و«نافاريت اللكروني».
وقد انتقد الكثيرون من أساطين الفن بناء الأسكوريال، وقالوا إنه ليس له من مزية غير السعة والكثرة، وأنه ليس فيه ذوق ولا قوة توليد، ولا فضل اختراع وكل ما هناك فهو خطوط هندسية مستقيمة، تسود عليها بساطة زائدة، يمجها الطبع. وقد علل بعضهم هذه البساطة الزائد بكون فيليب الثاني كان هو الآمر الناهي في اختيار الأشكال التي لم يكن يستحسن منها إلا البسيط الساذج. وكان كلما جاءه المهندسون بشيء من الزخرف رفضه فجاءت بنايته هذه أشبه في يبوستها وجهامة منظرها بالبرية التي تحيط بها. أما طول البناية فهو ٢٠٦ أمتار والعرض هو ١٦١ مترًا، ولها أربعة أبراج. وفي وسطها كنيسة ذات قبة عالية وبرجين عظيمين، في كل منهما جرس كبار وإلى الشرق والشمال من هذه الكنيسة المقر الملوكي، وإلى الغرب ساحة خارجية، وإلى الجنوب الدير الحقيقي وحواشيه وأماكن القديسين.
وللأسكوريال رتاج عظيم، عليه تمثال القديس لورانزو، يعلو أربعة أمتار، ورأسه ويداه من المرمر، وفي يده اليمنى مشواة من النحاس المذهب، إشارة إلى كيفية استشهاد القديس، الذي يقال إنه أميت على آلة مثلها. وفي الكنيسة ست أسطوانات، عليها تماثيل ملوك العهد القديم، وجميع الرؤوس والأيدي من الرخام الأبيض، والتيجان والصوالجة من النحاس المذهب. وقبة الصليب ترتفع ٩٥ مترًا، والكنيسة في غاية الاتساع، وفيها ٤٨ مذبحًا وعلى حيطانها تصاوير الوقائع الدينية الكبرى، مثل البشارة، والحمل، وولادة عيسى، وعبادة الملائكة له، وملوك المجوس، وبني إسرائيل في البادية، واليوم الآخر، وهزيمة بني إسرائيل للعمالقة، وغير ذلك.
وأما مقبرة الملوك فهي مجاورة للمذبح الأعظم، وذلك حتى تقام القداسات اليومية على عظام الملوك المدفونين. وفي هذه المقبرة زخرف كثير، مخالف لقاعدة البساطة التي كان فيليب الثاني قد جعلها إمامًا له في بناء هذا الدير. والسبب في ذلك هو أن هذه المقبرة قد أكملها خلفاؤه من بعده، والمدافن واقعة ضمن محاريب في الحيطان، وكل مدفن فيه ناووس من الرخام الأسود، عليه كتابة باسم الدفين. وفي هذه المقبرة ستة وعشرون ناووسًا، ولم يبق منها غير قليل خاليًا، وليس جميع الملوك مدفونين هنا، بل فيليب الخامس، وفرديناند السادس، ونساؤهما، ليسوا فيها. وهناك مقبرة أخرى فيها أجساد الأمراء والأميرات، ممن لم يصل إلى العرش.
وقال منويل: «إن قراصين الأسبانيول غنمت في بعض الأيام مركبًا للسلطان زيدان فيه أثاث نفيسة، من جملتها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والأدب والفلسفة وغير ذلك».
ومن جملة آثار خزانة الأسكوريال تآليف الملك الأذفونش الملقب بالحكيم من القرن الثالث عشر، وكرة أرضية، كان فيليب الثاني يستعملها في مطالعاته الفلكية. وفي هذه الخزانة صورة لفيليب الثاني، يوم كان في الواحدة والسبعين من العمر، وصورة لشارلكان يوم كان في التاسعة والأربعين، وصورة لفيليب الثالث، وصورة أيضًا لكارلس الثاني، وهو ابن أربع عشرة سنة. ثم إنه يوجد في الخزانة قسم للكتب الخطية، لا يمكن الاطلاع عليه إلا بإذن خاص من إدارة الأسكوريال.
وأما القصر الملوكي الذي في الاسكوريال فإنه إن كان فيه شيء من الزخرف، فهذا قد حصل بعد موت فيليب الثاني. فأما هو فلم يكن بنى لنفسه إلا غرفة صغيرة يشاهد منها المذبح الأكبر في الكنيسة، وغرفتين بجانبها، ولا تزال فيها المفروشات التي كانت في أيام فيليب الثاني، ولا تزال في غرفته الخاصة المائدة التي كان يكتب عليها مع أدواتها، وهناك الكرسي التي كان يمد عليه رجله. وفي هذه الغرفة كان يستقبل سفراء الدول. وفيها مات، وذلك في اليوم السابع عشر من سبتمبر سنة ١٥٩٨، على أثر مرض برح به، وكان وهو يجود بروحه ينظر إلى مذبح الكنيسة الكبير، كما أنه كان في يده نفس المصلوب الذي كان في يد والده شارلكان يوم فاضت روحه.
وللأسكوريال حديقة تتفتح أبوابها الساعة الثانية بعد الظهر. ولها منظر من أبدع المناظر، لا تبلع العينان مَدَّهُ على سهل قشتالة الجديدة، ومجريط، ووادي الرمل.
ولما زرت أسبانية سنة ١٩٣٠ أي من ست سنوات، ذهبت إلى الأسكوريال أنا واثنان من شبان المغرب النجباء، وسرواته الأدباء، وهما السيدان العالمان الفاضلان أحمد بلا فريج، ومحمد الفاسي الفهري، وكان معنا السنيور دوزميت يواكين، من شبان نبلاء الأسبانيول، فطوفنا في الأسكوريال مدة ساعات، وجلسنا في خزانة الكتب، حيث رأيت من الكتب العربية ما لا يوجد في كثير من المكاتب وهناك تعارفنا مع الأستاذ المستشرق العلامة القسيس آسين بلاسيوس المشهور، وتحادثنا معه في مختلفة المواضيع، وسألناه عن سبب ذهابه إلى أن رواية دانتي، الشاعر الإيطالي الأكبر، المسماة بالمهزلة الإلهية، هي فكرة مسروقة من رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري، فأدلى إلينا بآرائه في الموضوع، وبيّن لنا أن التشابه الواقع في عدة من النقط لا يمكن أن يكون من قبيل وقع الحافر على الحافر، وقال أيضًا إن رسالة الغفران كانت مترجمة إلى اللاتينية، ككثير من الكتب العربية، فيترجح أن يكون دانتي قد اطلع عليها. ثم سألناه عن رأيه في علماء غرب الأندلس، فرأينا له في حقهم رأيًا عظيمًا، وذكر منهم عددًا من جملتهم أبو محمد بن حزم، برغم كون ابن حزم طعن كثيرًا في النصرانية، وأن آسين بلاسيوس ليس نصرانيًا فحسب، بل هو قسيس مستمسك بدينه. وأما لسان الدين بن الخطيب فقال لنا أنه لا يعجبه. وذكر لنا آسين بلاسيوس أنه تلميذ «قُدَيره» المستشرق الأسبانيولي الذي أصله من العرب، والذي طبع في مجريط كتب ابن بشكوال، وابن الأبار وغيرهما، وله تحقيقات كثيرة، وإليه يرجع الفضل في تجديد العناية بالعربية في أسبانية.
شقوبية Ségovie١٣
(٨) طليطلة Tolédo
ولما وقع الانشقاق الديني في النصرانية بين الكاثوليكيين الذين يقولون بإلوهية عيسى، والأريوسيين الذين لم يكونوا يقولون بإلوهية عيسى، جرت في طليطلة مجادلات دينية شديدة، وانعقدت مجامع متعددة لفصل الخلاف، وكان لكل من الحزبين قوة هي كفؤ للأخرى، إلا أن الملك القوطي ريكاريد جحد المذهب الأريوسي سنة ٥٥٧ للمسيح، فسادت بعد ذلك الكثلكة في أسبانية كلها. ولم يلبث العرب بعدها أن فتحوا أسبانية، واستولوا على حاضرتها طليطلة، وغنموا فيها مغانم كثيرة، مما سيرد ذكره في القسم التاريخي من هذا الكتاب. ولكن العرب لم يتخذوها حاضرة لملكهم كالقوط لأنهم وإن كانوا وجدوها متوسط بالنسبة إلى أسبانية، فلم يجدوها متوسطة بالنسبة إلى القوة العربية، وقد كانوا لا يقدرون أن يبعدوا كثيرًا عن أفريقية، فلذلك جعلوا مركز الإمارة في أشبيلية، ثم في قرطبة وصارت قرطبة هي العاصمة مدة قرون متطاولة.
على أن طليطلة كان لها شأن عظيم في زمن العرب، وكانت هي المعقل الأعظم لهم في وجه الأسبانيول، وكانت تسمى بالثغر الأدنى، كان فيها أمير من قبل الخليفة وطالما انتقضت طليطلة على قرطبة، وطالما ساق عليها بنو أمية من قرطبة الجحافل الجرارة. وكانت تمتنع عليهم، وربما تغلب عليها الخلفاء بالحيلة، كما سيأتي خبره. وأخيرًا عندما جرت الثورة في قرطبة، وانتثر سلك الخلافة، استأثر بأمر طليطلة الأمراء بنو ذي النون، واستقلوا بها سنة ١٠٣٥. وفي جميع أدوارها كانت مدينة علم وصناعة، وفيها أحسن معامل السلاح ومناسج الحرير والصوف. وفيها صنعة الحفر والتنزيل على المعادن، وهي الصنعة الباقية إلى الآن من أيام العرب. ونفائس هذه الصنعة تباع في كل أوروبا. ولها في طليطلة تسعة معامل في يومنا هذا، والمترفون يتنافسون باقتناء ما يصنع بها من ساعات، وأسفاط، وعلب، ومحاجن، وأقلام، وسكاكين، وغير ذلك، من عمل اليد، وقد ورث الطليطليون كل هذا من العرب.
شهد على أشهادهما بالمذكور فيه عنهما، من أشهاده به على أنفسهما، حسب نصه وسمعه منهما، وعرفهما بحال الصحة والجواز والطواعة. ا.ﻫ.
وإليك هذا الصك:
وممن أشهده علي بن البليوشي بإجازته له وإمضائه له وإقراره ألا حق له في شيء من المبيع المذكور وبوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب، وإنه كان لوالدته جميلة إلى أن باعته حيث وصف.
إبراهيم علي بن سعيد بن الفتح الداني. وإبراهيم بن وهب (هناك كلمة غير مقروءة). و(هنا كلمة أخرى لا تقرأ) بن يوسف بن الربابي. ومحمد بن أحمد بن سعيد وعبد الرحمن بن أحمد بن عفيف الفهري وأحمد بن محمد (كلمة ممحوَّة). ومحمد بن عبد الله بن مظاهر الأنصاري. وأحمد بن يوسف الأنصاري. وإبراهيم ابن عبد الرحمن بن أبي … وسلمة بن يونس الأنصاري. ويحيى بن عبد الله … الغافقي»
عبد الرحمن بن زكريا: يوان بن خلف شاهد. سليم بن زكريا وكتب عنه. سليمان ابن عمر شاهد وكتب عنه. وعلي بن الحرير. عبد العزيز بن خير. وعبد الله ابتوال. وسليمان بن المدجالة. إليان بن سعيد. وعبد الملك بن عبد الملك وكتب عنه وعليه شهد عندي. وبخط عجمي جليانش بطريس تشتا. وبخط عجمي سيدا له ابن مشارك شاهد. وعلى كل اسم من العجمي معلم شهد عندي. وبالعربي أبو خالد بن أسطر. ا.ﻫ.
مثال آخر:
صحت هذه النسخة (إلخ) في العشر الأوسط من شهر سبتمبر سنة ثلاثين ومائتين وألف للصفر. يوان بن يليان الصقلي شهد. ويوانش بن مقايل بن عبد العزيز المشناري. وباطره بن عمر بن غالب بن القلاس.
مثال آخر:
عبد الملك بن عامر. ولب … وعبد الله بن جلبرت. وخير بن يحيى. ومروان ابن غالب. يحيى بن معبد وكتب عنه وبأمره. السرقسطي كتب عنه بأمره وعمر بن عامر بن الليث. وعبد الرحمن بن غلمير بن عريب. وعبد العزيز بن سعيد وكتب عنه بأمره. وعبد الله القوطي وكتب عنه بأمره»
مثال أيضًا:
شهد عندي … بن يوانش شاهد. شهد عندي … بن عبد … شهد عندي، وعبد الرحمن بن …
مثال آخر:
«اشترى مرتين الأرجيد ياقن من يوسف بن يعيش اليهودي جميع الثلاثة جبال الكروم المتصلة التي له بمرطيلة، حدها في الشرق كرم بيطر والجزار، وفي الغرب كرم شلوط، وفي القبلة كرم … الطريق بثمن عدته … اثنتان وثلاثون دنانير الجارية بطليطلة حين التاريخ في شهر مارس الكاين في عام ثمانية وأربعين بعد ألف لتاريخ الصفر.
ويوصف بن … شاهد. وسيف بن العزاد شاهد. إبراهيم بن إسحق ومرتين الخيَّاط. عمر بن عبد الله، وعبد الله بن مرتين بن خير، وسعدان بن عبد الله، ويعقوب البرسلوني شاهد».
مثال آخر:
سهل بن خلف بن علي، حسان بن جهيد وسلمة بن سعد وكتب عنه بأمره، عبد الله بن حسان»
مثال آخر:
عمر بن سعيد شهد وخلف بن عمر كذلك، وسلامة بن مقيال شهد، وعبد الله بن عثمان نقطة، وعتبة بن وليد ورمان بن عامر، وخير بن مورن. وعبد العزيز بن أبي الحسن بن أبي رجال، ويعيش بن فيليش، وعبد الملك بن بهلول، وبهلول بن … وكتب عنهم بأمرهم، وعبد الله بن فرسان وكتب عنه، وعبد الرحمن بن عبد الرحمن شاهد، وعثمان بن عثمان شاهد وكتب عنه.
شهدوا الشهود على … بعد إقرار الفريقين في التاريخ المؤرخ إن شاء الله.
مثال آخر:
«اشترى يوانش بن ملوك بن استافن بن عبد الرحمن جميع الغرس مع الأرض البيضا المتصلة به المعهودين له بحومة بنال من عمل طليطلة حرسها الله، حدهما في الشرق الطريق الناهض إلى حصن مورة حرسها الله، وفي الغرب غرس بيطره شرانه الحداد، وفي الجوف غرس مرتين بلايس بثمن عدته أربعة مثاقيل ذهبًا مرابطيًا في شهر يولية من سنة إحدى وسبعين ومائة وألف لتاريخ الصفر.
يحيى بن علي بن يحيى شاهد، بيطره بن سهل، ومقيال بن يوانس شاهد، ومسعود بن يحيى بن عفان شاهد، فليس ابن مروان شاهد وكتب عنه لورانس بن … يوانس شاهد»
مثال آخر:
مثال آخر:
وعبد الله بن داود شاهد. وباقي بن عمر بن باقي. وديمنقوه بن يحيى بن مرتين وبهلول بن عمر شاهد على النص. وعبد الله بن اليعص. ويوان بن عامر. وعامر بن تمام. وعبد الرحمن بن إبراهيم شاهد. ويحيى بن مفرّج وكتب. وعلي بن عيّاش وكتب عنه. وحكم بن شلمون وكتب عنه. ويوليان بن سلمة شاهد. وجنيد ابن عبد الملك بن ليون وكتب عنه. وبيطره بن عبد العزيز بن عطّاف بن لنبطار.
مثال آخر:
يعيش بن قريش شهد عندي، ومرتين بن رمانش شاهد وكتب عنه شهد عندي. شهدوا عندي الشهود بأعيانهم، وفي التاريخ وأنا عبد الرحمن بن يحيى بن حارث وبالله التوفيق.
مثال آخر:
شهود الأصل فيه … مجانت بن عثمان بن خلف. وعمر بن عبد الله شاهد. ويحيى بن سعيد شاهد كذلك. وبالعجمي سبربان بطرس تشتش. ديمنقه شربطول تشتش.
هذه النسخة إلخ. في العشر الأخير من نوفمبر سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف للصفر.
ولا يمكننا أن نستقصي جميع الصكوك والحجج التي في هذه المجموعة التي تقع في ألف صفحة كبيرة، وإنما اقتبسنا منها بعض أمثلة لأجل تمثيل حالة طليطلة الاجتماعية، التي قيل فيها بحق إنها الحد الواصل بين الإسلام والنصرانية، والتخم الذي يجمع بين الشرق والغرب، ترى ذلك من اختلاط الأسماء فبينما الأب هو عمر إذ الابن هو بطره، وبينما الأب هو عبد العزيز إذ الابن هو ميقيال. وربما تجد بيطره بن يحيى بن أصبغ، واشتافن بن حسان، ومرتين بن عثمان، وشلبطور بن عبد الرحمن وهلم جرا. والسبب في ذلك هو أنه لما فتح العرب الأندلس، وأسلم من أهلها أناس كثيرون استعربوا اسمًا وفعلًا. ومنهم من لم يدخل في الإسلام، ولكنه استعرب وهو باق على نصرانيته. وأكثر ما تجلى هذا الوضع في مدينة طليطلة التي كان النصارى فيها يشبهون نصارى المشرق باستعمال كثير من العربية في صلواتهم وطقوسهم الدينية.
«وبسط الكافر العدل على أهل المدينة وحبب التنصر إلى عامة طغامها، فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله، وشرع في تغيير الجامع كنيسة في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة». ا.ﻫ.
وكيف كان الأمر فقد تنصر كثير من مسلمي طليطلة، وبقي كثير من المسلمين على دينهم، لا سيما طبقة الخواص، ولكنهم لم يهجروا البلدة دفعة واحدة. وما خلت طليطلة من المسلمين تمامًا إلا بعد قرون متطاولة. ومن الغريب أن طليطلة رجعت إلى النصارى في الثلث الثالث من القرن الحادي عشر للمسيح، وأنه في أوائل القرن السابع عشر كان لا يزال فيه مسلمون في زي نصارى. وقد نقلنا في بحث مسلمي الأندلس في حاضر العالم الإسلامي في الجزء الثاني عن كتاب الأنوار النبوية في أنباء خير البرية، للعالم النسابة سيدي محمد بن عبد الرفيع الأندلسي المتوفى في رجب عام اثنين وخمسين وألف، وصفه يوم كانوا بالأندلس لحالة المسلمين الذين كانوا مضطرين تحت خطر الحرق بالنار، أن يظهروا النصرانية وهم يبطنون الإسلام، وكيف كان والد المؤلف المذكور يعلم ولده الإسلام سرًا، ويوصيه بأن يكتم ذلك حتى عن والدته وعمه وأخيه، وجميع أقاربه، وأن لا يخبر أحدًا من الخلق بما يعلمه إياه في الخفاء. ثم كان يرسل والدته إليه فتسأله: ما الذي يعلمك والدك فيقول لها: لا شيء. فتقول له: أخبرني بذلك ولا تخف لأني عندي الخبر بما يعلمك. فيقول لها: أبدًا ما هو يعلمني شيئًا. قال: وكذلك كان يفعل عمي، وأنا أنكر أشد الإنكار ثم أروح إلى مكتب النصارى، وآتي الدار فيعلمني والدي، إلى أن مضت مدة، فأرسل إلى من أخوانه في الله والأصدقاء. فلم أقر لأحد قط بشيء، مع أنه رحمه الله تعالى قد ألقى بنفسه للهلاك لإمكان أن أخبر بذلك عنه فيحرق لا محالة. لكن أيدنا الله سبحانه وتعالى بتأييده إلخ. إلى أن يقول: فلما تحقق والدي رحمه الله تعالى أني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب، فضلًا عن الأجانب، أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وعمي وبعض أصحابه الأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين وأنا أسمع، فلما رأى حزمي مع صغر سني فرح غاية الفرح، وعرفني بأصدقائه وأحبائه وإخوانه في دين الإسلام فاجتمعت بهم واحدًا واحدًا. ا.ﻫ.
وقد علقت على هذه الجملة بقولي: إن الإسلام بالأندلس حسبما يظهر من هذا الوصف كان أصبح شبيهًا بجمعية سرية تكتم أمرها أشد الكتمان، ولا يقدر واحد من المسلمين أن يبوح بإسلامه إلا لمن يكون قد ابتلى أمانته، وامتحن صدقه فكانوا يجتمعون سرًا إذا كان بعضهم واثقًا ببعض، ويتكلمون في أمر الدين في أشد الخفية. ثم نقلت عنه ما يلي:
وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار من جيان، مدينة ابن مالك إلى غرناطة، وإلى قرطبة، وأشبيلية، وطليطلة، وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء أعادها الله تعالى للإسلام فتلخص لي من معرفتهم أني ميزت سبعة رجال، كانوا كلهم يحدثونني بأمور غرناطة، وما كان بها في الإسلام حينئذ، وبما أقوله وقلته بعد، فسندي عال لكونه ما تم إلا بواسطة واحدة بيني وبين الإسلام بها. ا.ﻫ.
وعلقت على هذه الجملة الأخرى ما يلي: إنما من عرف كون ابن عبد الرفيع توفي عام ألف واثنين وخمسين للهجرة، لا يخفى عنه أنه كان شابًا في أول سنى الألف للهجرة، أي منذ نيف وثلاثمائة سنة. ويظهر له أنه منذ نيف وثلاثمائة سنة، كان في جيان وغرناطة وأشبيلية وقرطبة أناس لا يزالون يدينون بالإسلام سرًا، وهم في الظاهر نصارى. وأغرب من هذا وجود مثل هؤلاء في طليطلة المصاقبة لمجريط، والتي كان مضى على استرجاع الأسبانيول لها يوم زارها ابن عبد الرفيع أكثر من خمسمائة سنة. أي أنه بقي مسلمون في الباطن في طليطلة من بعد أن زال عنها حكم الإسلام بخمسمائة عام.
وقيل لي إن أحد المغاربة وقع في هذه الأيام الأخيرة ببعض قرى طليطلة، فوجدهم يذبحون الأكباش يوم عيد النحر عندنا، ويقولون إنها عادة توارثوها عن آبائهم. ا.ﻫ.
ثم إني أذكر في المبحث نفسه فصلًا عثرت عليه في جريدة «العملة» النمساوية الصادر في فينة، عددها المؤرخ في ٣ يناير سنة ١٩٣٢، جاء فيه بمناسبة الكلام عن ثورات أهل العمل، كلام عن موريسك الأندلس، وأعمال ديوان التفتيش الكاثوليكي ما يلي:
فأخذ هذا الديوان ينقب ينقر عن الكلية والجزئية من أعمال المسلمين ومنع جميع شعائرهم الدينية، بل منع جميع عاداتهم ومذاهبهم في الحياة: ولو لم يكن لها تعلق بالدين، وعاقب على ذلك. وكان يعاقب أشد العقاب من علم عنه أنه لا يأكل لحم الخنزير أو الميتة، أو عرف عنه أنه لا يشرب الخمر، أو قيل إنه أدرج ميته في كفن نظيف. وكانت النظافة في ذاتها ذنبًا يعاقب عليه، وفي سنة ١٥٩٧ وجد في طليطلة المسمى «موريسكو بار ثولوم شانجه» فلحظ عليه القوم أنه شديد التطهر، فعذبوه عذابًا شديدًا، ومازالوا يعذبونه حتى أقر بأنه يتطهر عن عقيدة، فحكموا عليه بالسجن المؤبد، وبضبط جميع أملاكه. ووجدوا قرآنًا عند عجوز اسمها «إيزابلا زاسن» فقالت أنها لا تقدر أن تقرأه فلم ينفعها هذا القول، وعذبوها، ولكن لما كان عمرها تسعين سنة اكتفوا من إهانتها بحملها على حمار، والطواف بها في الشوارع وعليها غطاء مكتوب عليه اسمها «وإثمها» ثم زجوها في السجن بعد ذلك، وبقيت فيه إلى أن علموها قواعد المسيحية. ا.ﻫ.
من هذا الفصل الوارد في جريدة «العملة» النمساوية.
ونعود إلى طليطلة واختلاط أسمائها، الأسبانيولي بالعربي، والعربي بالأسبانيولي مما يدل على امتزاج المجتمعين في هذه البلدة، بشكل غريب، لم يسبق له مثيل، وإليك أمثلة أخرى:
«باع القائد دون شبيب بن عبد الرحمن من دون دمنقه مرزاله الدليل، ومن زوجه بشته بنت مرتين إلخ. والشهود يحيى بن خليل ورفاعة بن يحيى القنتري وإبراهيم بن خليل وعبد الله بن عمر وحسين بن جعفر وميقائيل بن شبيب ابن عبد الرحمن».
ومثال آخر:
وفي صك آخر يقول: اشترى دون لازر بن علي بن دون يوان بن عثمان ومن زوجه دمنقة بنت حنصون جميع الكرم الذي لهما بحايز شنت اشتاين خلف نهر تاجه وبمقربة من قرال بني أبي مالك من أحواز مدينة طليطلة حرسها الله. والتاريخ هو في العشر الأوسط من شهر ينير سنة إحدى ومائتين وألف للصفر والثمن ثلاثون مثقالًا من الذهب البياسي. والشهود يليان بن فرجون وبيطرو بن أندراش بن عزيزي وميقايل بن سلمة بن سدرابه ولب بن فرنندس. وفي آخر الصك يقول: وأنا يوان ابن عثمان بن عثمان بعت وقبضت. ا.ﻫ.
وانظر إلى هذا الصك:
اشترى الدقاين دون دمنقه نفره الذي من أئمة قاعدة شنتة مرية بطليطلة حرسها الله من الإمام دون بيطرو جلبرت منها أيضًا جميع الغرس المعلوم له بحومة برج الشياطين عدوة نهر تاجه في حومة شنت فليس من أعمال مدينة طليطلة المذكورة أنها يصل إليه وهو الغرس الذي اغترسه أبو الطيب المغترس وحده في الشرق غرس لدون اشنابن القميراني وفي الغرب شنطير سالك من النهر المذكور إلى الطرق التي بالحومة المذكورة وإلى سواها وفي القبلة غرس الأندراش وفي الجوف غرس لبيطروه أشكرده بثمن عدده ثلاثة عشر مثقالًا ونصف مثقال ذهبًا بياسي الضرب طيبًا وازنًا في شهر مارس من عام اثنين ومائتين وألف.
وهذا المثال:
اشترى ميقيال يوانش وأخيه دمنقر يوانش على السواء بينهما والاعتدال من دونة التي كانت زوجًا لاندراش دِ حجاج ومن بينهما يوانش ويليان واشتابن ورومان ومرية وقلنبه جميع الدار التي لهم بحومة شنت رومان داخل مدينة طليطلة حرسها الله التي حدها في الشرق دار لورثة دمنقه سبريان وفي الغرب الزقاق الغير نافذ والباب فيه شارع وفي القبلة غرفة على أسطوان هذه الدار وهي لدون فيليز شنجس.
وهذا صك آخر:
وتأمل هذا الصك:
وشهود الأصل فيه بيطرو بن يليان بن أبي الحسن، وعمرو بن أبي الفرج، وفيليس بن غليام، وبوانش بن غليام، وبيطروش بن غليام، وأندراش فرتوم، وميقاييل أرتند. وفي آخره مذكور هكذا: صحة النسخة (إلخ) وذلك في العشر الأوسط من شهر فبرير سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف للصفر.
شلبطور بن عبد الملك بن العريب، ويحيى بن وليد بن قاسم».
وغيره:
واشترى القس ديمنقه بن الريم من دونة بنت الوزير القاضي عبد الرحمن ابن يحيى بن حارث، جميع الكرمين المعلومة لها بحومة منزل مشقة من مدينة طليطلة حرسها الله، وحد أحدها في الشرق كرم لورثة لب اشنابنس، وفي الغرب نهر تاجه وفي القبلة كرم لمرتين قالبه وفي الجوف جبل كرم لمرتين قالبه، وقطعة كرم لصق نهر تاجه (إلى أن يقول): حضر لهذا البيع دون يوليان بن البائعة. وقال أن لا اعتراض عنده فيه وسلمه.
والشهود بيطرو بن مرتين بن بهلول، وبهلول بن غالب، ويوانش بن تمام وعمر بن أبي الفرج. وفي الآخر هكذا: كان ذلك بحضري وأنايوانش بن عطاف بن لنبضار».
وغيره:
والشهود: عبد الرحمن بن عبد الملك، وديمنقة بيطروس الباسي، وعبد الله بن عمر بن يوانش بن سليمان، وعامر بن يحيى بن بلاي».
وغيره:
«أشهدت دونة شولي بنت عمر بن هشام، وبنتاها يوشتا وسنى بنتي مقيال ابن سليمان على أنفسهن شهدا آخر هذا الكتاب أنهن بعن من الوزير الأجل دون اشتافن بليانس، أكرمه الله الربع الواحد على الإشاعة من جميع السد المعروف بسد الفته الذي في نهر تاجه تحت حصن قلانية إلخ».
وغيره:
وغيره:
«اشترى الوزير المشرف دون ديمنقه بن سليمان بن غصن بن شربند، أكرمه الله من سبريان بن بِسَنْت، ومن زوجه لوقادية بنت يحيى البياسي، جميع الدار المعلومة لهما بحومة كنيسة شنت يوانش، بثمن عدده ومبلغه سبعون مثقالًا من الذهب الفنشي الطليطلي الضرب الطيب الوازن إلخ.»
وغيره:
وغيره:
«اشترى أبو زكري يحيى بن علي المالقي، من دونه لوقادية بنت بيطروسلبيس ومن ابنها رودريقه بن بشكوال جميع الكرم المعلومة لها بحومة كنيسة شنته قلمبه عمل مدينة طليطلة حرسها الله إلخ.
والشهود فرنانده يوانش وعبد الله بن عبد العزيز بن خطاب، وبسنت بن عبد العزيز بن سعد، وباطره بن عمر بن غالب بن القلاس».
وغيره:
وغيره:
وغيره:
«اشترى دون يليان القس الميردوم، متاع شنت ديمنقة، إلى دير شنت قلمنت الذي هو بمدينة طليطلة حماها الله، ومن مال الدير المذكور إلخ».
وغيره:
«اشترى الفرايلي دون فرناندوه يوانش، متاع قلعة رباح إلى الأبطشة دونة مطرى متاع شنت قلمنت إلخ».
ومن هذه الصكوك ما فيه:
وتحته مكتوب: غالب بن غلمون. ومرتين بن يحيى بن عبد العزيز. وديمنقه ابن بيطروه القنتري. تكيف الأشهاد فيه بين يدي وأنا شلمون بن علي بن وعيد».
ثم هذا الصك الذي يتضمن بيع عقار موقوف، وبيان السبب الذي اضطر إلى هذا البيع فهو يقول:
واعترف المتباع المذكور دون مرتين أن هذا الشري على حسبه ونسبته هو بينه وبين زوجه دونه يوشتة، على المناصفة، وعلى الجميع يقع الإشهاد.
فمن هذا الصك وأمثاله يعرف أنه في طليلطة لم يكن الجميع يكتبون بالعربية وكان لا يزال قسم كبير من الأسبانيول يضعون إمضاءاتهم بالأسبانية ولكن العربية كانت هي السائدة.
ولنأخذ من بعض الصكوك بعض الجمل التي تدل على حالة طليطلة الاجتماعية في ذلك العصر، لكون استقصاء هذه الوثائق بأجمعها غير ضروري ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد.
وإليك هذا الصك يستدل منه القارئ على أحوال طليطلة في ذلك العصر فهو يقول:
وقد رأينا هذه اللفظة «مستعرب» مرارًا في هذه الصكوك، واستدللنا بها على أن نصارى طليطلة كانوا قسمين قسم يقال لهم المستعربون، وهم الذين كانوا يتكلمون ويكتبون ويقيمون صلواتهم باللغة العربية، وقسم آخر كانوا يتكلمون ويكتبون بالأسبانيولية ويقيمون صلواتهم باللاتينية، وهذا هو السبب في أنهم عند كتابة الصكوك يميزون الأسبانيولي الذي لغته العربية بقولهم «مستعرب» وكذلك يذكرون عند وضع الشهادات لفظة «بالعربي» ولفظة «بالعجمي» لأن من الشهود من كان يكتب إمضاءه بالعربي ومنهم من لم يعرف وضع إمضائه بالعربي فيشيرون إلى أنه وضع بالعجمي.
ومما تعرف منه اصطلاحاتهم مثل هذا الصك:
وانظر إلى صك آخر:
وإليك هذا الصك:
ويظهر أنه كان لليهود في طليطلة شأن عظيم، لأن الأسماء الإسرائيلية تدور كثيرًا في هذه الصكوك، وفيها أسماء رجال لهم مقام اجتماعي نبيه، مثل ما ورد في بعض الصكوك قوله:
اشترى الوزير أبو هارون موسى بن الشحات الإسرائيلي أعزه الله من دونه غاليانه (إلخ).
وأما أهمية رجال الكنيسة فلا تخفى في كل حرف من حروف هذه الكتابات ومنها يظهر أن أكثر الأملاك كانت لهم، لأن أكثر البيع والشراء هو منهم وإليهم وإذا ورد ذكر أحدهم فبغاية التعظيم والإجلال، مثل قوله في كثير من الصكوك:
ولم تكن أسماء رجال الكنيسة كلها لاتينية بل من القسيسين من كانت أسماؤهم عربية ففي بعض الصكوك:
ومن الصكوك التي تستجلب النظر ما يلي:
ومثله:
ومثله:
والشهود: بيطروه بن اشتافن الربالي، وديمنقه اندراش، ودون رجلد الأفرنجي ودون غليلم طبلد، من ربض الافرنج، وبيطروه نقولا البنا، وكتب عن كل واحد منهم اسمه عنه بأمرهم وحضرتهم وقيليز بين يحيى بن عبد الله.
وهذا تأييد لكون الافرنج لم يزالوا بعد رجوع طليطلة إلى الأسبان كأنهم غرباء فيها. وفي صك من الصكوك يذكر مشتريين ثم يقول: بعد أن فسر عليهما معانيه بلفظ أعجمي فهماه واعترفا بفهمه، في العشر الآخر من شهر أوغوشت سنة ست وخمسين ومائتين وألف للصفر.
ومما يستجلب النظر صك فيه:
ومما يستجلب النظر صك فيه:
اشترى المطران الأجل دون رودريقه شيمانس بريماط أشبانية أطال الله مدة وأدام بقاءه، من دون فرنندوه لبوس بن دون لب فرنندس رحمه الله وأكرمه إلخ.
ومثله:
ومما يستجلب النظر هذا الصك:
اشترى أبو حسن علي البشيري المسلم وزوجه عائشة بن الدودري من الغيران وفقهم الله، على المناصفة بينهما، من دونه أو رابونه، تربيه القائد الأجل دون اشتابن إلخ والتاريخ العشر الآخر من ينير سنة أربع وثمانين ومائتين وألف للصفر. ومن هذا التاريخ أيضًا يعلم أنه كان يوجد جماعة من المسلمين بطليطلة في ذلك العصر.
وهذا الصك:
وفي صك آخر:
باع غنصالبه قاضي الحضرة أيده الله، وقاضي بمدينة قرطبة، وساكن بها، من غنصالبه بن الفونش بن الفونش بيطروس بن سربتوش أكرمه الله أسيرًا واحدًا، علي الأسمر البنا بن سعيد مملوك كان لقنصالبه رودريقه لمدينة قرطبة المذكورة بيعًا تامًا صحيحًا بثمن عدده أربعمائة مثقال كل مثقال خمسة عشر فرد من البيض الجارية، الآن وهذا الأسير باعه البايع للمبتاع المذكور كما ذكر على يدي دلال الأسارى أبي عمر بن إسرائيل الإسرائيلي الذي هو دلال الأسارى بطليطلة في حادي وعشرين نوفمبر عام أربعة وعشرين وثلاثمائة وألف للصفر.
ومما يستوجب النظر الصك الآتي:
وفي صك آخر يقول:
كاتب مولانا الملك المعظم الأعلى دون شانجه أطال الله بقاهم، وخلد ملكهم وأيدهم ونصرهم، ومن ماله المختص به الذي صار له من مولانا الملك المذكور إلخ.
وهذا الصك:
وهذا الصك الذي فيه:
اشترى دون جوان بيطروس بن دون بيطروه يليان بن الوزير القاضي دون يليان أكرمه الله لنفسه ومن ماله، من مريه بنت جوان النجار، جميع الدار مع خمسة حوانت، بحومة كنيسة شنت يوشت، وقريب الكدية. بمدينة طليطلة حرسها الله ويلاصق ذلك كله من جوانبه وجهاته قاعة قرال، هي لجماعة مسلمين طليطلة، حيث تذبح الكباش، ودار لجوان مرتين العدار، ودار لقنونقين شنته لوقادية لصق قصر مولانا الملك إلخ، والتاريخ سابع نوفمبر عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف للصفر. ا.ﻫ.
قلنا ثبت من هنا أنه كان في ذلك التاريخ جماعة من المسلمين في طليطلة وهذا بعد سقوط طليطلة في أيدي الأسبان بمائتين وخمسين سنة. وكانوا إلى ذلك الوقت يمارسون شعائر دينهم ويذبحون الكباش في عيد الأضحى.
وهذا الصك:
قاطع القوننق الأجل دون غشطين، الذي من قونونقين القاعدة العظمى شنته مريه أم النور، دركنا الله شفاعتها، أسيرته ومملوكته المتنصرة سيسليه المسماة به المعمودية، على حرية نفسها منه، بأربعون مثقالًا فونشيًا صروفًا، لتخدم سيسليه المذكورة بداخل مدينة طليطلة، حرسها الله وبأحوازها، دون رقيب عليها ولا تقاف وتأخذ لنفسها جميع ما يعود الله عليها من فايد وعايد، قلّ به أم كثر، وتؤدي له الفدية المذكورة، كما يذكر بعد هذا، في كل شهر، شهر بعد آخر، إلى أن تتم الفدية المذكورة وإذ ذلك تكون سيسليه المذكورة حرة كسائر حرائر النصرانيات أهل ملتها، وما ينقص لها من شهر تكمله في شهر ثان وثالث. وإن لم تكمل لها في الشهر الثالث، كما ذكر، حاشى مرض بيّن يمنعها عن الفدية، أو هربت وخالطت قوم سوا، أو وجدت في سرقة أو خيانة، فتخسر ما يكون منها مدفوعًا، وتعود للأسر كما كانت إلخ. وتاريخ هذا الكتاب ديسمبر سنة تسع وسبعين ومائتين وألف. ا.ﻫ. ملخصًا.
ومثله صك آخر للأبطيشه المذكورة بحق أسرى مسلمين هم: محمد المناري ولد القنان، وأحمد الذي كان لدون ميقائيل دي رنالش، وعمر بزارة، يعرف بابن أحمد ابن جامع الصنهاجي، وعلى الرمنقارة الغماري على حرية أنفسهم، وذلك بالخدمة مدة ثمانية أعوام متوالية في جميع الكرم المعلوم بحومة قرية أوليش، (إلى أن يقول) وإن هربوا أجمع أو أحدهم، أو خالطوا قوم سوا، أو وجدوا في سرقة، يخسروا ما يكون لهم ويرجعون للأسر إلخ، وتاريخه ست وثمانون ومائتان وألف.
ومثل ذلك هذا الصك:
وهناك صك مقاطعة لراهبة بدير شنت قلمنت لمملوكتها فطيمة بنت عمر على النحو المتقدم:
ومما يستجلب النظر، ويطلع به القارئ على اصطلاحات النصارى في ما يكتبونه بالعربية في ذلك الوقت هذا الصك:
ولما كان اليهود في كل مكان وكل زمان يتعاملون بالدين، ففي هذه المجموعة صور مئات من السندات المالية أكثرها لهم نذكر منها بعض أمثلة: للأمين أبي الحسن زيزه بن ربي بن أبي يوسف أعزه الله، قبل دون بطرو البرقنطي، وقبل زوجه لبه وفي مالهما وذمتهما، وعلى جميع أملاكهما وأحوالهما كلها حيث كانت وعلمت لهما دينًا لازمًا وحقًا واجبًا، سبعة مثاقيل ونصف ذهبًا فنشيًا إلخ.
وفي هذه المجموعة صكوك من أنواع متعددة، منها وصايا، ومنها رهون ومنها مصالحات، ومنها صكوك شركات، ومنها مزارعات، وما أشبه ذلك. لنذكر منها صك مزارعة على سبيل المثال، وهو هذا:
أنزل القس ماير ديمنقه المستعربي من كنيسة شنت مارتين ليوان فرنندس في الأرض المعلومة له بحومة جبل حمارة، عمل طليطلة حرسها الله، حدها في الشرق غرس بيطرو مرتينس، وفي الغرب أرض بيضا، وفي القبلة رأس جبل حمارة المذكور، وفي الجوف غرس غنصالبه الجزار، في أرض القس المذكور بالمناصفة، وذلك بشرط يأتي ذكره بعد هذا، ليغترسها يوان المذكور بقضيب الزرجون، ويعتمر بالزبر والحفر والثنا في كل عام، مدة خمسة أعوام، أولها تاريخ هذا الكتاب … الأعوام المذكور ينقسم الغرس على ثلاثة أثلاث، يأخذ صاحب الأرض الثلث الواحد يأخذه الخيار في أحد الجانبين، والمغترس الثلثين متصلين عن اغتراسه واعتماره في أول شهر مارس من سبعة وتسعين ومائة وألف من تاريخ الصفر. ا.ﻫ.
وهذا الاصطلاح بقولهم «أنزل» فلان لفلان في الأرض الفلانية على شرط كذا وكذا مستفيض في هذه الصكوك.
ومن الصكوك المتعلقة بأسارى المسلمين ما يأتي:
ومثله:
وهنا صك وقف يجدر بالنظر:
ومن الصكوك التي استرعت نظرنا حكم يتعلق بصدقات الإمبراطور الأذفونش السادس جاء فيه:
انتهت النسخة وذلك في شهر ابريل عام أربعة وعشرين ومائتين وألف للصفر.
عمر بن عبد الرحمن، ويوسف بن عبد العزيز، ومرتين بن حسن بن عبد العزيز إلخ.
ويوجد جم من الأحكام على هذا النسق ويظهر أن ملكتهم في العربية أخذت تضعف بمرور الأيام فتجد صكوكًا وأحكامًا كثيرة ملأى من الخطأ واللحن مثلًا:
وهذا كتاب صلح:
هذا كتاب وقع الاصطلاح عليه، وجرى الاقتصار إليه، ما بين هند بنت جبران وبني أخيها الوزير مابر تمام رحمه الله غرسيه وأولياليه ومريه، على ما يأتي ذكره بعد هذا، وذلك أن يعطي غرسيه لهند عمته المذكورة جميع حصته في جنان أبيه المخلف له ولأخته المذكورين المعروف بعهد المسلمين بجنة الحنشي، بربض طليطلة وبحومة مرج القاضي إلخ.
ومن الوثائق التي اطلعنا عليها عقود أنكحة كالذي يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وهذه وصية ثانية:
هذا ما أوصى به وعهد بتنفيذه، حسب ما يأتي الذكر فيه الوزير القاضي دومنقه انطولين، أعزه الله وهو عليل في جسمه وثابت في عقله وذهنه مؤمن بالأب والابن والروح القدس الله واحد، ومعتقد بما بشر به الحواريون، ووصفه الأنبياء المختارون، خشية الموت، وحلول الفوت، الذي لا بد منه، ولا محيص لأحد خلق الله عنه، فأول ما أمر به شفاه الله أن يمتثل بعد عينه إن توفاه الله تعالى، أن يزين على أقباره حين دفنه، ومدة الثلاثة أيام بجميع أئمة البلد من أهل الكنائس بعد أندابهم بمن حف بهم من أساقفة ومدرجين، على حسب رتبهم، وإن كان المطران حاضرًا فيندب، وله الأجر والثواب إن يحضر ويزين مع من حضر مدة الثلاثة أيام المذكورة، وبعد الثلاثة أيام فليستمر مدرجين كنيسة شنته لوقاضية، التي داخل المدينة بالتزيين إلى تمام تسعة أيام. وأمر أن يعطى للمطران الأجل أكرمه الله خمسة مثاقيل، وللأسقف دومنه يوانس المرشاني مثقال وللأسقف دومنه فلقيس مثقال فينا إلخ، وبعد أن عدد جميع ما أراد الإيصاء به بالتدقيق من عقار ولباس وطعام ومال صامت وناطق، ذكر بأن يخرج جميع ما ذكر من ثمن غنمه وبقره ودوابه، ورماكة وخنازير، ومن مانتاتي ومن الكاس الصغير الفضة، وأمر أن يعطى ليوان ورماكه وخنازيره،، ومن مانتاتي ومن الكاس الصغيرة، وأمر أن يعطى ليوان مستعرب الكاب، وما يبقى بعد هذا كله يكون لأخته دونه مريه وبنتيها.
وفي وصية أخرى للمسماة دونه لوقادية بنت يوانش، بعد ذكر الديباجة المصطلح عليها في أول الوصايا، وذكر جميع ما أرادت توزيعه على الكنائس والقسوس والصواحبات تقول: وأمرت أن تكون الأميرة عائشة التي لها فيه النصف تُرَد نصرانية إن هي شاءت وتنصف دون غرشيه عن نصفيته من ثمنها بما اشتريت، والتصفية خمسة مثاقيل من مالها، وتكون حرة من أحرار النصارى فيما لهم وعليهم، تصير حيث تشاء وتهوى، بعد أن تخدم لدون غرسيه عام واحد لا غير.
وقرأت في وصية أخرى من دونه قرشتينة بنت اندراش بعد الإيصاء للكنائس وللقسيسين وللأصحاب ولذوي القرابة ما يلي:
وعهدت الموصية المذكورة في أسيرتها مريم زوج عبد الله القزاز، أن تكون حرة من أحرار المسلمين في ما لهم وعليهم، عن عشرة مثاقيل ذهبًا فنشيًا، كانت الموصية المذكورة قد قبضتها باعترافها من عبد الله القزاز زوجها المذكور. ولذلك انقطع عن مريم المذكورة حبل الرق، فتملك مريم المذكورة نفسها، تنهض حيث تشاء إلخ.
وفي أكثر هذه الوصايا يذكر شيء من المال لفكاك أسرى النصارى، فقد كانت الحالة عندهم كما عند المسلمين، فأصحاب الخير والإحسان، ولا سيما النساء من المسلمين، كانوا يوصون بجانب من أموالهم لفكاك أسرى المسلمين في بلاد النصارى وكذلك أهل الخير من النصارى، ولا سيما النساء، كانوا يوصون بشطر من أموالهم لفكاك أسرى النصارى في بلاد المسلمين. قرأت في وصية للمسمى دون رودريقة شلبطورس بن دون شلبطور بن الوزير دون يوان ميقاليس ما يلي:
وقيد فيه عن أمره على يدي والدته، دونه سنى المذكورة، ثقة منه بديانتها وحسن أمانتها، أنها تفعل في ذلك كله فعل من يعلم أن الله لا يخفى عليه خافية في سماواته وأرضه، والتاريخ شهر يونوه سنة تسع وأربعين ومائتين للصفر.
وفي وصية للدون ملنده فرنندس ابن الوزير القاضي يقول: فأول ما أمر به أن يعطي لمعلمه القس جوان مثقالًا واحدًا، ويحل عن روحه الفين ميشه ويخرج أيضًا من بلاد الإسلام أسير بالغ ما بلغ بعشرين مثقالًا.
وفي وصية للدون غنصالبه خل تاريخها شهر أوكتوبر سنة اثنين وسبعين ومائتين وألف. وأمر متى توفاه الله أن يعلم ما له كله، أصله ومتحركه، أثاثًا وعقارًا دقه وجلده، جامده ومتخلخله، يخرج منه عن خمسمائة مثقال فونشية، وتبذل عن روحه، إلى أن يقول: ويعطي في استفكاك أسارى من بلاد الإسلام ستين مثقالًا إلخ.
وفي وصية للدون بطره شانجه من جماعة شنت رمان، وصهر دون جوان اشتا ابن دي البقال، يقول من جملة وصايا عدة: وأمر لرتبة افرايرين قلعة رباح ماية مثقال فونشية على شرط أن يدفنوه الافريرين منها هنا بطليطلة بشنته فيلج، ويزينوا عليه كما لو كان افرايري منهم، وأمر بأن يفك زوج نصارى أسيرين في بلاد الإسلام بما يقوم في ذلك.
اشترى يحيى بن محمد الأنصاري، من دون غليان القس، لزوجه هند بنت عبد الرحمن ابن محمد، جميع الحجرة التي بقرب كنيسة امنيوم شنتوروم، بمدينة طليطلة، حرسها الله، حد هذه الحجرة في الشرق قرال لورثة ديمنقه إياس، وفي الغرب طريق فيه خرج الحجرة المذكورة، وإليه يشرع بابها، وفي الجوف دار ولد الشقية المسلم، وفي القبلة قرال لورثة ديمنقه إياس، بثمن مبلغه عشرة مثاقيل من الذهب الطيب البياسي إلخ.
وجاء في نفح الطيب: وطليطلة قاعدة ملك القوطيين، وهي مطلة على نهر تاجه، وعليه كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها، وكانت على قوس واحدة: تكنفه فرجتان من كل جانب، وطول القنطرة ثلاثمائة باع، وعرضها ثمانون باعًا، وخربت أيام الأمير محمد، لما عصى عليه أهلها، فغزاهم، واحتال في هدمها.»
فأما أسوار طليطلة فهي موصوفة بالمنعة ومن رأى طليطلة يقول إنها لا تحتاج إلى أسوار، لمنعة موقعها الطبيعي، ولكثرة ما فيها من غور ونجد، فهي في هذا المعنى أشبه بمدينة لوزان في سويسرة، لا يكاد يجد فيها الإنسان مساحة مسطحة. تزيد على ٢٠٠ متر بل ترى الماشي فيها يصعد وينزل أبدًا، وربما كانت طليطلة تفوق لوزان في قلة الاستواء، فإن أكثر شوارعها لا تسير فيها العربات، ولهذا تقل المركبات في طليطلة، والناس تنقل أشيائها على الدواب، فكيفما توجهت في طليطلة تجد جر الأثقال ضربًا من المحال.
وبرغم هذا فإن الملوك الغابرين قد أحكموا أسوارها، وجعلوها طبقًا عن طبق، فجمعت بين المنعتين الطبيعية والصناعية.
طليطلة فيها من الدير، ومن السجن، ومن القلعة، ومن الحرم الإسلامي، وذلك لأن العرب مروا بها.
نعم فيها من الدير لكثرة ما شاد الأسبانيول فيها من المعاهد الدينية تغطية لآثار العرب. وفيها من السجن لما يشاهد من الوثاقة والمتانة في مبانيها وفيها من القلعة لكثرة أسوارها ولمنعة مكانها الطبيعي وفيها من الحرم لأن بيوتها الأصلية هي بيوت عربية كسائر بيوت العرب في الدنيا.
وكان المسلمون قد اشترطوا لأجل تسليم البلدة بقاء المسجد الجامع لهم ورضي الأذفونش بذلك. قال ابن بسام. لما توالت على أهل طليطلة الفتن المظلمة والحوادث المصطلمة وترادف عليهم البلاء والجلاء، واستباح الفرنج لعنهم الله تعالى، أموالهم وأرواحهم، كان من أعجب النوادر الدالة على الخذلان أن الحنطة كانت تقيم عندهم مخزونة خمسين سنة لا تتغير، ولا يؤثر فيها طول المدة بما يمنع من أكلها فلما كانت السنة التي استولى عليها العدو فيها، لم ترفع الغلة من الأندر حتى أسرع فيها الفساد. فعلم الناس أن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأمر أراده، من شمول البلوى، وعموم الضراء، فاستولى العدو على طليطلة، وأنزل من بها على حكمه. وخرج ابن ذي النون منها على أقبح صورة وأفظع مسيرة، ورآه الناس وبيده اسطرلاب، يأخذ به وقتًا يرحل فيه. فتعجب منه المسلمون، وضحك عليه الكافرون.
وبسط الكافر العدل على أهل المدينة، وحبب التنصر إلى عامة طغامها، فوجد المسلمون بذلك ما لا يطاق حمله، وشرع في تغيير الجامع كنيسة في ربيع الأول سنة ست وسبعين وأربعمائة.
ومما جرى في ذلك اليوم أن الشيخ الأستاذ المغامي رحمه الله تعالى صار إلى الجامع وصلى فيه، وأمر مريدًا له بالقراءة، ووافاه الفرنج، لعنهم الله تعالى، وتكاثروا لتغيير القبلة، فما جسر أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته، وعصمه الله تعالى منهم، إلى أن أكمل القراءة، وسجدة سجدة، ورفع رأسه وبكى على الجامع بكاء شديدًا، وخرج ولم يعرض له أحد بمكروه. ا.ﻫ.
قلنا إن الأسبان كانوا يعلمون أن تلك الساعة هي الساعة الأخيرة للجامع فصبروا على هذا الشيخ الجليل حتى أتمها بآخر عبادة إسلامية فيها.
وفي ١١ أغسطس ١٢٢٧ جعل ملك أسبانية، الذي يقولون له القديس فرديناند هذه البنية دكا، حتى يبتني مكانها بيعة على الطراز القوطي، الذي منه كنائس شمالي فرنسا، وجنوبي ألمانية، وانتدب المهندس الأفرنسي بطرس بتري، الذي بقي متوليًا إدارة تشييدها مدة تزيد على خمسين سنة، وبعد وفاته عمل فيها مهندسون آخرون، أشهرهم رودريقُه الفونسُه، وجوان غواس، وألبير غومس، ومرتين شانجس وغيرهم، فالعمل فيه لم ينقطع مدة طويلة، وهي قائمة على خمسة صفوف من الأساطين وطولها ١٢٠ مترًا وأربعون سنتيمترًا، وعرضها ٥٩ مترًا و١٣ سنتيمترًا وبناؤها من الحجر المحبب، إلا أن نقوشها الخارجية والداخلية هي في الحجر الكلسي، ولا يضارعها في أسبانية إلا كنيسة أشبيلية من بعض الوجوه. وكنيسة طليطلة أطول من كنيسة أشبيلية بعشرة أمتار إلا أن كنيسة أشبيلية أعلى بعشرة أمتار. ومزايا كنيسة طليطلة على كنيسة أشبيلية هي في تناسب الأقسام وبداعة الزخرف وتخريم المذبح الأعظم، حتى كأنه قطعة من العاج المخرم المرصع.
وفي هذه الكنيسة من صنوف الخرط والنجر وفنون التنزيل والحفر ما يعجز القلم عن وصفه، فليس له إلا النظر بالعين! وماذا تقول في بناء لبثوا يعملون فيه ثلاثمائة سنة، وبذلوا عليه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، واستجادوا له أشهر الصناع في أعصرهم، وأمهر النحاتين والمصورين في أوقاتهم؟! وفي خزائن هذه البيعة كنوز هي فوق التخمين من كل نوع، قد تراكمت من قرون. ولكن الذي يريد الفرجة لا يقدر أن يتبين محاسنها، من ضعف النور الذي يدخل إلى الكنيسة، لأنهم، كما لا يخفى، يستحب عندهم في الكنائس أن يكون نهارها ليلًا، لما في ذلك من الهيبة بزعمهم، وهذا ما رأينا الكثيرين من الأفرنج ينتقدونه، ويقابلون بينه وبين مساجد الإسلام التي تفيض نورًا.
ومن كنائس طليطلة المعدودة كنيسة سانت ياقو الربض بنيت لعهد الأذفونش السادس، وهي على الهندسة العربية ومنارتها لا تزال منارة مسجد إسلامي. وأما الدار الأسقفية التي يقيم بها برماط أسبانية، وكان لها ذلك الشأن العظيم حتى كان يجاذب الملك الحبل فهي قبالة الكنيسة الكبرى من الجهة الغربية.
وهذه الخرافة معناها أنه لما دخل الأذفونش السادس إلى طليطلة، وكان معه القمبيدور الملقب بالسيد سجد حصان السيد بزعمهم أمام حائط هناك، فهالهم سجود الحصان من نفسه فبحثوا في الحائط، فوجدوا فيه مصلوبًا، وبجانبه سراج يضيء زيته من زمن القوط.
وأشهر قصر في الأندلس هو قصر طليطلة المبني على أعلى قمة من تلك البلدة، فقد كان فيما يظهر مقر الإمارة من قديم الدهر، ففيه أقام الأيبيريون، ثم القوط ثم العرب، ثم الأسبان، وفيه نزل أذفونش السادس يوم دخل طليطلة. ولقد تبدلت هيئته كثيرًا بكثرة ما توالى عليه من الحريق. وكان كلما احترق جددت الملوك بناءه ولكن الذي لا يتغير فيه هو مسرح النظر الذي له، والذي لا يضارعه منظر لقصر من قصور أسبانية كلها. وقد كان هذا القصر تارة حصنًا وطورًا قصرًا، وتعاقبت عليه أدوار مختلفة.
وقد أصاب هذا الشاعر في قوله هذا، لأنه لما استولى النصارى على طليطلة كانوا كأنهم دخلوا في وسط بلاد الإسلام، وجاءت الإسلام الضربة في حامل رأسه لأنه كان المسلمون في ذلك الوقت لا يزالون في سرقسطة ونواحيها، وكان لا يزال لهم قواعد وحواضر هي إلى الشمال من طليطلة. ثم إن موقع طليطلة بمنعته الخارقة للعادة جعلت الأسبانيول منها في حصن حصين لا يؤتى وعصمتهم في حرز حريز لا يؤخذ، وهم أنفسهم لم يقدروا على طليطلة في حقيقة الأمر إلا بفساد أحوال المسلمين، والفتن التي كانت بينهم. وخلاصة الأمر أنه بعد أن نشبت الفتنة الكبرى في قرطبة بين العرب والبربر، وانتثر السلك، ونجمت الملوك الذي يقال لهم ملوك الطوائف، استبد بأمر طليطلة بنو ذي النون، كما سيأتي الكلام عليه، فوقعت العداوة بينهم وبين بني هود الذين استقلوا بسرقسطة، وتوالت الوقائع بين الفريقين، وكل منهما يستظهر بالأسبانيول على الآخر.
المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» وهود خير كتاب عرّف بأخبار الأندلس. قال عند ذكره سقوط طليطلة: «وخرج فرديلند الطاغية أيضًا المظاهر لسلمان بن هو، وهو فردلند بن شانجة، أمير جليقية إلى ثغر طليطلة في خلق كثير. وجاءه ابن عم ابن ذي النون ليدله على عورات البلاد، وتهاربت الناس أمامه من كل جهة إلى طليطلة حتى غصت بهم، واضطربت أحوال أهلها. كل ذلك وأميرهم يحيى بن ذي النون غائب عنهم بجيشه في مدينة سالم، مقيم بها لئلا يدخلها ابن هود فلما تيقن بخروج هذا اللعين إلى عمله، وضجت رعيته إليه، جاء في جموعه، فلم يصنع شيئًا ولا قدر على لقائه (أي على لقاء الطاغية) واضطربت أحوال الناس بطليطلة خلال ذلك، فلما رأى ذلك أهل طليطلة أرسلوا إلى الطاغية فردلند المظاهر لابن هود ليعقدوا معه صلحًا على بلدهم طليطلة وما حولها على مال يؤدونه إليه ويرحل عنهم. فقال لهم: ما أجيبكم إلى سلم، ولا أعفيكم من حرب، حتى تفعلوا كذا وكذا. واشترط عليهم شروطًا لا يقدرون عليها. فقالوا: لو كنا نقدر على هذه الأشياء وهذه الأموال لأنفقناها على البرابرة، واستدعيناهم لكشف هذه المعضلة. فقال فرلند: «أما قولكم لا تقدرون على هذه الأموال فذلك محال، فلو كسفت سقوف بيوتكم لبرقت ذهبًا لكثرته، وأما استدعاؤكم البرابرة فأمر تكثرون به علينا، وتهددوننا به، ولا تقدرون عليه مع عداوتهم لكم، ونحن قد صمدنا إليكم، ما نبالي من أتانا منكم، فإنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديمًا في أول أمركم، فقد سكنتموها ما قضي لكم، وقد نصرنا الآن عليكم بردائتكم، فارحلوا إلى عدوتكم، واتركوا لنا بلادنا، فلا خير لكم في سكناكم معنا بعد اليوم، ولن نرجع عنكم أو يحكم الله بيننا وبينكم. ا.ﻫ.
فلم يجد رسل أهل طليطلة عند فردلند وأصحابه النصارى قبولًا لما عرضوه عليهم من الصلح.
وكان أخو هذا العلج صاحب يحيى بن ذي النون مظاهرًا له فخرج في هذه السنة إلى بلاد ابن هود فوطئها، وأغلظ في إهلاكها، وأخل بالثغر الأعلى، فعل أخيه فردلند في نظر ابن ذي النون، ودامت الفتنة بين هذين الأميرين، ابن هود وابن ذي النون، على هذه الحال من سنة خمس وثلاثين إلى آخر سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة وانقطعت بموت سليمان بن هود في السنة المذكورة. ولما تنفس مخنق ابن ذي النون بموت سليمان المذكور جعل يطلب جاره ابن الأفطس صاحب بطليوس فجرت له معه حروب كثيرة إلخ.
وطليطلة هذه دار مملكة الروم، وبها كان البيت المغلق الذي كانوا يتحامون فتحه، حتى فتحه لذريق فوجد فيه صورة العرب. ا.ﻫ.
فلم يلبث هذا إلا يسيرًا حتى قضى نحبه. ا.هـ.
وقال ابن خلكان: إن طليطلة أخذت يوم الثلاثة مستهل صفر سنة ٤٧٨ بعد حصار شديد. وقال ابن علقمة: إن طليطلة أخذت يوم الأربعا لعشر خلون من المحرم سنة ٤٧٨، وكانت وقعة الزلاقة التي نشأت في السنة بعدها. ا.ﻫ.
وكان أفقه من يحيى بن يحيى، على جلالة قدر يحيى. وكان محمد بن عمر بن لبابة يقول: فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى. وتوفي سنة ٢١٢ بطليطلة، وقبره معروف. ومحمد بن عبد الله بن عيشون الطليطلي أبو عبد الله، كان فقيهًا، وله مختصر في الفقه، وكتاب في توجيه حديث الموطأ، وسمع كثيرًا من الحديث، ورواه. وله إلى المشرق رحلة، سمع فيها من جماعة، وتوفي بطليطلة لتسع ليال خلون من صفر سنة ٣٤١. ا.ﻫ. كلام ياقوت.
ولما تغلب الأسبانيول على طليطلة اهتز لذلك الإسلام، وأدرك العقلاء سوء المصير، لأن ذهاب هذه القاعدة من أيدي المسلمين، وهي في وسط أسبانية، كان مقدمة حوادث كبار توقعوها، ولم يخطئوا في حسبانهم لها. وقد كانت وقعة الزلاقة في السنة التالية، وهي التي أجاز فيها يوسف بن تاشفين إلى الأندلس إصراخًا لمسلميها هي نتيجة سقوط طليطلة في أيدي النصارى. وبالرغم من كون ابن تاشفين أحرز في وقعة الزلاقة نصرًا عزيزًا، وفتحًا مبينًا، وخضد شوكة الأسبانيول في ذلك اليوم، فإنه لم يتمكن من استرداد طليطلة، وبقيت العلة في محلها، وإنما تأخر انحلال دولة الإسلام في الأندلس بواسطة المرابطين، ثم بواسطة الموحدين نحوا من ثلاثمائة سنة ولنذكر هنا مرثية قيلت لدى سقوط طليطلة، وحتى الآن لم نعرف اسم قائلها، ونحن ننقلها عن نفح الطيب كما هي. وهي هذه:
ويقال في قضية أخذ الأسبانيول لطليطلة النكتة الآتية: كان الأذفونش السادس قد فر من وجه أخيه شانجه، فالتجأ إلى ابن ذي النون ملك طليطلة، فسمح له بالإقامة عنده، ولم يكن من عادة العرب أن يستنكفوا في وقت من الأوقات من إيواء الدخيل. وكان المسلمون أنفسهم إذا حزب الواحد منهم أمر يذهب نزيلًا عند أحد ملوك النصارى، وكم التجأ فيما بعد مسلمون من غرناطة إلى أشبيلية، ونصارى من أشبيلية إلى غرناطة فالمأمون ابن ذي النون تلقى الأذفونش أوانئذ برًا وترحيبًا، وائتلف الضيف والمضيف وكانا يذهبان معًا إلى الصيد، وكانت أرض طليطلة شجرًا، أكثر جدًا مما هي اليوم فبينما ذات يوم المأمون والأذفونش في إحدى الجنان بطليطلة، أدركت القائلة الأذفونش، فاضطجع في ظل شجرة، وجلس المأمون يتحدث إلى أصحابه على مقربة منه، فينما هم في الحديث، عن لهم موضوع طليطلة وما هي عليه من المنعة الطبيعية، على شفير ذلك الوادي العميق. فأجمع من حضر من أهل النظر على أن طليطلة لا تؤخذ ولا ينال منها مرام. فانبرى أحد الذين كانوا في ذلك المجلس، وخالف رأي الجماعة، وقال إنه يكفي لتذليل طليطلة، أن يعمد العدو إلى ضواحيها فيجتاحها، ويقطع الميرة عن أهلها، فيضطروا إلى التسليم. فإن لم يمكن أخذ طليطلة بالسيف فيمكن جدًا أخذها بالجوع.
وكان الأذفونش بين النائم والواعي. فلما سمع الحديث عن أخذ طليطلة، أصغى إليه، وتنبه له، ووعى كل ما سمعه. ولكنه أسرها في نفسه، ولم يشعر القوم بأنه سمع مما قيل شيئًا. ثم إنه لما جلس على عرش قشتالة تذكر ذلك المجلس، وعمل برأي من قال إن طليطلة قد تؤخذ بالحصر والجوع.
ويظهر من هنا أن الأذفونش لم يكن يجهل العربية، لأن ابن ذي النون وجماعته إنما تكلموا في تلك القائلة بالعربية، لا بالأسبانيولية. فلو لم يكن الأذفونش عارفًا بالعربية لما فهم الحديث.
والخلاصة أنه حاصر طليطلة عدة سنوات وعاث في نواحيها، وقطع الميرة التي كانت تأتيها من ضواحيها، ومازال يجوّع أهلها حتى أخذها في ٢٥ مايو سنة ١٠٨٥ كما تقدم.
وقيل، وهو الأرجح، إنه استولى على تلك البلدة بدون عناء كبير، بل بإقناعه القادر بن المأمون بن ذي النون بأن يكون خيرًا له لو ذهب إلى بلنسية، وملك فيها وهي في بحبوحة من الإسلام، وترك له طليطلة الواقعة دائمًا في حلق العدو.
وقد أجمع المؤرخون على سوء تدبير القادر بن ذي النون، وأنه لم يكن كفؤًا لعروس مثل طليطلة، فكان وجوده فيها السبب في ذهابها من يد الإسلام. وكان ذلك نبأ كبيرًا، كما جاء في مرثية طليطلة، لأن القشتاليين أخذوا بعدها بمخنق الإسلام وبركوا على قلبه في جزيرة الأندلس، وصار بعدها ثغره معورًا وأمره مدبرًا.
وأصل بني ذي النون من البربر الذين كانوا في خدمة الدولة العامرية. وروى ابن عذارى أن اسم جدهم لم يكن «ذا النون» وإنما كان «زنون»، وهو اسم من أسماء البربر فتصحف بطول المدة، وصار «ذا النون» بالذال.
قال: ولم يكن لهؤلاء القوم نباهة قديمة، ولا ذكر إلا في دولة ابن أبي عامر، فإنهم تقدموا في دولته واشتهروا، فكان منهم من يقود الجيوش، ويلي الأعمال والبلاد، وكان منهم في آخر أمد الجماعة وال بكورة «شنت بريه»، فلما وقعت الفتنة بالأندلس كان الوالي بمدينة طليطلة وذواتها عبد الرحمن بن منيوه، وأدركته منيته في خلال ذلك، فورث نظره عبد الملك بن عبد الرحمن بن منيوه، فأساء السيرة بالرعية. وكان أهل طليطلة على قديم الدهر أهل فتنة وقيام على الملوك، فلم يرضوا سيرة هذا الفتى فخلعوه، وولوا على أنفسهم من ينظر في أمرهم. ثم إنهم نقموا عليه شيئًا فعزلوه، وولوا غيره، ثم خلعوه. ثم رأوا أن يرسلوا إلى ابن ذي النون بشنت مرية، فوجه إليهم ابنه إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذي النون. فاستولى هذا الفتى على ملك طليطلة وبلادها، فساس أهل مملكته السياسة الحسنة.
وكان أكبر أهل طليطلة رجلًا يسمى أبا بكر بن الحديدي، وكان شيخها، والمنظور إليه بها من أهل العلم، والعقل والدهاء، وحسن النظر في صلاح البلد. وكان العامة تعضده، وتقوم دونه، فكان هذا الفتى إسماعيل بن ذي النون لا يقطع أمرًا دونه، ويشاوره في مهمات أموره، فحسده قوم من أهل طليطلة على منزلته عند أميرهم، فناقشوه وعادوه، وحضرت منية إسماعيل بن ذي النون، فولى بعده ابنه يحيى بن إسماعيل الملقب بالمأمون، ولما ملك يحيى بن ذي النون طليطلة جرى على سيرة أبيه في استعمال قانون العدل، وجرى مع بن الحديدي على سنن أبيه، فاستقامت طاعته، وضخم ملكه. انتهى قلنا ولم يكن القادر بن المأمون على شيء مما كان عليه أبوه فلذلك أضاع تلك البلدة العذراء، والخطة الغراء، وأي ملك أضاع! وأي ثغر مكن منه عدو الإسلام، فتمكن بقدر ما استطاع؟!
ولنذكر هنا ملخصًا ما قاله المستشرق لاوي بروفنسال في الإنسيكلوبيدية الإسلامية قال: توليدو، وبالعربي طليطلة، مدينة في أسبانية، موقعها في وسط الجزيرة الأيبيرية على مسافة ٩١ كيلومترًا إلى الجنوب، والجنوب الغربي من مجريط وارتفاعها عن سطح البحر ٥٦٨ مترًا، وهي على أكمة من الصخر، يحيط بها نهر تاجه من الجهات الثلاث، جاريًا في واد عميق، يسقي حفافيه إلى الشمال الشرقي، والشمال الغربي، بقعة بديعة مريعة، ومن بعدها ترى بسائط قشتالة الجرداء. وليس في طليطلة اليوم أكثر من ٢٥ ألف نسمة من السكان، إلا أنها لا تزال مركز ولاية، ولا يزال فيها كرسي الأسقف الأعظم برماط أسبانية. وأما موقعها فلا يضاهيه موقع في العظمة.
وقد ذكرها جغرافيو العرب فأطالوا، وقصروا، وجعلها الشريف الإدريسي من إقليم الشارات، وفي زمانه كانت طليطلة انتقلت إلى أيدي الأسبانيول، وإنما نوه الإدريسي بمنعة موقعها، وبحصانة أسوارها، وبالتفاف جناتها التي تجري فيها قني الماء المرفوع بالنواعير.
ويدور ذكر طليطلة كثيرًا في كتب العرب، ولا سيما من بعد استقرار دولة بني أمية في قرطبة، فإن طليطلة لم تكن تطيع قرطبة، وأصبحت مركز عصيان دائم على الدولة، ومما لا شك فيه أن السواد الأعظم من أهلها بعد استيلاء الإسلام عليها لم يتركوا الديانة الكاثوليكية برغم استعرابهم، وأنهم كانوا لا يطيقون حكم المسلمين برغم شدة تسامح هؤلاء، فكانوا لا يدعون فرصة تمر، ولا غرة تلوح، حتى يطغوا ويتمردوا.
وفي طليطلة وجدت الثورة البربرية التي وقعت سنة ١٢٢ للهجرة أعظم أنصارها وبجانب طليطلة كانت واقعة وادي السليط التي استأصل فيها جيش قرطبة دابر ثوار طليطلة.
ثم في السنة التي بعدها حصر الأمير طليطلة حصارًا استمر عدة أشهر، ثم أخذها عنوة في عام ٢٢٢ ولم يرجع عنها حتى أخذ منها رهائن بقيت في قرطبة إلى سنة ٢٣٨ ولكن في هذه السنة نفسها عند ولاية الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم رفعت طليطلة لواء العصيان، وعزل أهلها الوالي العربي الذي عندهم وزحفوا بجيش هزم جيش الأمير محمد في اندوجر سنة ٢٣٩، ولما كانوا يتوقعون زحف الجيوش إليهم من قرطبة تحالفوا مع «أوردونوه» الأول ملك ليون الذي أمدهم بجيش من عنده، ولكن الجيش الأموي تغلب عليهم وقتل منهم عشرين ألفًا.
وسنة ٢٤٤ قوّب الأمير محمد تحت جسر طليطلة بينما كتائب الجند فوق القنطرة، فوقعت وهلكوا جميعًا، فاضطر الطليطليون إلى الخضوع، ولكن على صورة دفع جزية سنوية، وتمتعهم باستقلالهم الداخلي.
وبقيت الحال على هذا المنوال إلى زمن الخليفة الناصر، فلما انتهى من إخضاع جميع الثائرين أرسل إلى طليطلة جماعة من الفقهاء، ليبلغ أهلها بأن استقلالهم الداخلي غير مقبول. فنصح الفقهاء لهم، فذهب نصحهم بدون فائدة فزحف الخليفة إلى طليطلة بنفسه بجيش جرار، وخيم على الجبل المقابل لطليطلة، وأصر وصمم على أن لا يبرح مكانه حتى يفتحها.
ثم جعل يبني في المخيم بالحجر، وأقام سوقًا، وسمي المخيم مدينة الفتح. ودام الحصار إلى سنة ٣٢٠، وفق ٩٣٢، فاضطر الطليطليون إلى الاستسلام. وجعل فيها الناصر حامية أموية، وصارت مركزًا للثغر الأوسط.
وكان والي طليطلة معدودًا من أكابر رجال الديوان، فتولاها محمد بن عبد الله بن حدبر، ثم القائد أحمد بن يعلى.
وفي زمن الحكم المستنصر بن الناصر تولاها غالب بن عبد الرحمن الناصري، حمو الحاجب المنصور بن أبي عامر.
ولما نشبت في قرطبة الفتن التي أفضت إلى سقوط دولة بني أمية، لم تستفد طليطلة من تلك الحوادث، كما كانت تفعل قبل ذلك، وكانت على مدة سنين مقرًا للقائد واضح، وملجأ لمحمد بن هشام بن عبد الجبار، ولكن لما انقسمت الأندلس إلى ممالك صغيرة صارت طليطلة مملكة مستقلة يليها ينو ذي النون.
فلما زحف إليها الأذفونش السادس بحجة أنه يريد حفظها لابن ذي النون كان ذلك خداعًا منه، ودخلها في ٢٧ محرم سنة ٤٧٨، وفق ٢٥ مايو سنة ١٠٨٥ وكان قد أجبر القادر على عقد معاهدة معه يتخلى له بها عن المملكة، فكانت مرحلة شاسعة من مراحل استرداد المسيحيين للأندلس.
برغم أن طليطلة كانت ثغرًا، وكان فيها عناصر عظيمة من النصرانية، فقد كانت لآخر عهد بني أمية، وفي أيام المأمون بن ذي النون، من القواعد الكبرى للثقافة الإسلامية في الأندلس، وإن كثيرًا من التراجم والسير لتتعلق بعلماء وحكماء وفقهاء من مسلمي طليطلة. انتهى.
إلى الآن لم يتيسر القيام بتحقيق علمي تام عن كيفية تأثير المدنية الأسبانية العربية بأوروبا في القرون الوسطى، وإلى أية درجة بلغ هذا التأثير. فهذا الأمر يتعلق بالبحث عن دار الترجمة التي كانت بطليطلة، وهي الواسطة التي قام بها أدباء اليهود بين الشرق والغرب، وكان هؤلاء اليهود بأجمعهم منسوبين إلى الثقافة العربية. انتهى.
بقي علينا أن نذكر قضية المائدة التي يقال إن طارق بن زياد وجدها في طليلطة عند فتحها، وأطال مؤرخو العرب في وصفها، وهاموا في أودية الخيال، وقالوا ما ليس وراءه مقال، وسمّوها مائدة سليمان، وزعموا أنها كانت من ذخائر أشبان، ملك الروم لدى بني أشبيلية، وأنه أخذها من بيت المقدس. وقالوا إن هذه المائدة قُوّمت عند الوليد بن عبد الملك بمائة ألف دينار، وقيل إنها كانت من زمرد أخضر. وقالوا إن طارقًا وجد بطليطلة ذخائر عظيمة، منها مائة وسبعون تاجًا من الدر والياقوت والأحجار النفيسة، وإيوان ممتلئ من أواني الذهب والفضة، وهو كبير، حتى قيل إن الخيل تلعب فيه فرسانها برماحهم لوسعه. وذكروا أن أواني المائدة من الذهب، وصحافها من اليشم والجزع، قال المقري في نفح الطيب بعد سرده هذه الأشياء: وذكروا فيها غير هذا مما لا يكاد يصدقه الناظر فيه.
قلنا: هذه أخبار أشبه بالأساطير، وحكايات العجائز منها بالتواريخ، وقد كان مؤرخونا رحمهم الله في غنى عن نقل كل ما تلوكه ألسن العوام الذين يتكلمون بقدر عقولهم، وكلما بعد الزمان أو المكان ازدادت المبالغة في الخبر. ورحم الله ابن خلدون الذي عاب على المؤرخين تسوقهم من الأخبار كيفما اتفقت، بدون تمحيص ولا تفكير وبدون عرض الأشياء على أصولها، ولا قياسها بأشباهها، وأطال في هذا الموضوع. وكان حجة للعرب في أمر التحقيق.
والحقيقة التي لا مفر منها أن من عادة مؤرخي العرب، إلا من رحم ربك، نقْل الغث والسمين بدون أن يأذنوا لأنفسهم في الاعتراض على ما يكونون هم أنفسهم مرتابين في صحته، وذلك تورعًا عن تكذيب من قبلهم، وبحجة أن هذه المرويات قد تكون صحيحة، وأن هذا العالم هو عالم الإمكان، فليس ثمة شيء مستحيل، وأن قدرة الله تعالى لا يعجزها شيء، وما أشبه ذلك من التعليلات.
والجواب: نعم إن قدرة الله تعالى لا يعجزها شيء، وأن هذه الروايات وأغرب منها بكثير غير خارج عن حيز الإمكان، ولكن هذا شيء والذي نحن فيه شيءٌ آخر، فعدم خروج الغرائب عن حيز الإمكان لا يوجب أن يكون كل ما يُروى منها صحيحًا، إذا لم توجد له أسانيد لا يتطرق إليها شك، وحجج لا يمكن فيها النزاع. والحال أنه في ما يروى عن هذه المائدة التي قيل أن العرب وجدوها في طليطلة، لا توجد إثبات تحمل على الجزم بصحتها، وقد يكون طارق وجد في عاصمة القوط هذه بعض ذخائر ونفائس، مما لا تخلو منه عواصم الملوك، وربما وجد مائدة مرصعة بالدرر واليواقيت، وهذا عند الملوك شيء معتاد، وقد قيل: عن الملوك ولا تسل، ولكن العوام جعلوا الواحد مئة، وواصلوا المسألة إلى الحد الذي يتخيل فيه الإنسان قصص ألف ليلة وليلة.
وأما الإفرنج فقد تكلموا عن هذه الروايات فحملوها على الخيالات، وعدوها من المحالات، وهذا أيضًا مردود لأن عاصمة كعاصمة أسبانية يجوز أن يجد فيها الفاتح من ذخائر ملك القوط حجارة كريمة، وتيجانًا مرصعة، ومائدة من الذهب والفضة ويجوز أيضًا أن يطأ إيوانًا واسعًا مموهة أطرافه بالذهب، وإن كانت الفرسان لا تلعب فيه بأرماحها.
وأما طول قنطرة طليطلة وعرضها، وأن الطول ثلاثمائة باع، وأن العرض ثمانون باعًا، فهو من المبالغات التي تتناقلها العوام بدون روية، ولعلها من خطأ النساخ الذين نقلوا نفح الطيب.
أما ابن حوقل في المسالك والممالك فيقول عن طليطلة: وهي مدينة كبيرة جليلة مشهورة ذات سور منيع، وهي على وادي تاجُه، وعليه قنطرة عظيمة، ويقال أن طولها خمسون باعًا، الخ، فظهر من هنا اختلاف الراوية من ثلاثمائة إلى خمسين، على أن المقري في النفح يروي أن هذه القنطرة قد خربت أيام الأمير محمد الأموي، لما عصاه أهل طليطلة، وقال فيها الحكيم عباس بن فرناس أول من اخترع آلة للطيران:
والأمير محمد قد توفي سنة ٢٧٣، وابن حوقل كتب كتابه هذا في الثلث الأول من القرن الرابع للهجرة، أي بعد وفاة الأمير محمد الأموي بستين أو سبعين سنة، فتكون القنطرة الشهيرة الموصوفة قد خربت، وقام مقامها القنطرة الحديثة، التي يقول ابن حوقل أن طولها خمسون باعًا فهل بين القنطرتين كل هذا الفرق؟ وعلى كل حال لا نجد القنطرة الحاضرة على تلك العظمة التي حدثوا عنها، فهي قنطرة كبيرة بجانبها أخرى صغيرة أصلها من بناء العرب، ثم تشعثت في زمن الأذفونش الملقب بالحكيم فأصلحها. ثم جددها تينوريوه رئيس الأساقفة.
هذا تحريف من النساخ أو هو سهو من المسعودي نفسه، لأن نهر تاجه مصبه في البحر الأطلانتيكي وهو موصوف بأنه من أنهار العالم، وعليه على بعد من طليطلة قنطرة عظيمة تدعى قنطرة السيف، بنتها الملوك السالفة.
ومدينة طليطلة ذات منعة، وعليها أسوار منيعة، وأهلها بعد أن فتحت وصارت لبني أمية قد كانوا عصوا على الأمويين، فأقامت مدة سنين ممتنعة، لا سبيل للأمويين إليها. فلما كان بعد الخمس عشرة وثلاثمائة فتحها عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ابن مروان ابن الحكم، وعبد الرحمن هذا هو صاحب الأندلس في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وقد كان غيّر كثيرًا من بنيان هذه المدينة حين افتتحها وصارت دار مملكة الأندلس قرطبة إلى هذا الوقت … (إلى أن يقول): ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة، وتدعى بنو أمية الخلائف، ولا يخاطبون بالخلفاء، لأن الخلافة لا يستحقها عندهم إلا من كان مالكًا للحرمين، غير أنه يخاطب بأمير المؤمنين. ا.هـ.
قلت: ذكر هذا المسعودي في زمن عبد الرحمن الناصر، ويظهر أنه كتبه قبل أن علم أن الناصر رحمه الله تلقب في آخر الأمر بالخليفة، وبأمير المؤمنين معًا. وذلك بعد أن توحدت الجزيرة الأندلسية تحت حكمه، وامتد سلطانه إلى بر العدوة، وكان قد بدأ الضعف في دولة بني العباس في بغداد.
العظيم الاستحقاق للفخر، الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة، الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه.
وفي الاحتفال الذي جرى عند وصول سفراء ملك الروم وتكلم فيه القاضي المفوّه المشهور، منذر ابن سعيد البلّوطي، كان من جملة كلامه في ذلك الجمع: فأصبحتم بنعمته إخوانًا ويلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانًا، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات. (إلى أن يقول): فقد أصبحتم بين خلافة أمير المؤمنين، أيده الله بالعصمة والسداد، وألهمه خالص التوفيق إلى سبيل الرشاد، أحسن الناس حالًا، وانعمهم بالًا، وأعزهم قرارًا، وأمنعهم دارًا الخ.
وهو أول من تسمى من بني أمية بالأندلس بأمير المؤمنين، عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر وملاه سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فتلقّب بألقاب الخلافة. انتهى.
أن موسى بن نصير لما فتح الأندلس، مضى على وجهه يفتتح المداين، حتى انتهى إلى مدينة طليطلة. وهي مدينة الملوك، فوجد فيها بيتًا يقال له بيت الملوك، وجد فيه خمسة وعشرين تاجًا مكللة بالدر والياقوت، وهي على عدد الملوك الذين ملكوها، كلما مات ملك جعل تاجه في ذلك البيت، وكتب على التاج اسم صاحبه، وكم أتى عليه من الدهر إلى يوم مات. انتهى.
قال المقري: وقد ذكرنا فيما مر عن ابن حيان ما فيه نظير هذا، وذكرنا فيما مضى من أمر المائدة وغيرها ما فيه بعض تخالف. وما ذلك إلا لأنا ننقل كلام المؤرخين، وإن خالف بعضهم بعضًا، ومرادنا تكثير الفوائد.
وبالجملة فالمائدة جليلة المقدار، وإن حصل الخلاف في صفتها، وجنسها، وعدد أرجلها. وهي من أجلّ ما غنم بالأندلس، على كثرة ما حصل فيها من الغنائم.
هوامش
برغم هذا كله لا بد من الاعتراف بأن هذا الرجل الذي كان نقمة إلهية في وقته، بحبه للمجد، ومتانة خلقه، ورباطة جأشه، وشجاعته الخارقة للعادة، كان أعجوبة وقته وكان النصر لا يفارق رايته، وكانوا يقرأون سير أبطال العرب بحضوره، ولما وصلوا إلى سيرة المهلب أعجب بها إعجابًا شديدًا. انتهى.
وقد وجدت في آبلة بلاطة تاريخ الكتابة التي عليها سنة ٨٠١ للهجرة، نقلها لاوي بروفنسال، وقال إن هذه البلاطة وجدت بقرب باب القصر Alcazar في آبلة، وهي هذه: «هذا قبر عبد الله بن يوسف السي (؟) المقتول على ظلم … (؟) … ظه وملكه عام ض ١ لهجرة نبينا محمد ﷺ … (؟) … الله يجمعنا معه في الجنة النعيم لا حول ولا قوة إلا بالله»
قال لاوي بروفنسال إن هذا التاريخ يوافق سنة ١٣٩٨–٩٩ مسيحية، قلنا إن آبلة هي من المدن التي أخلاها المسلمون من أوائل الفتح، مثل شقوبية، وسمينكاس، وأستورقة، وليون، وزمورة، وغيرها، نعم أن المنصور بن أبي عامر كان قد غزا فيما بعد هذه البلاد كلها، واستولى عليها بعد أن أوقع بجيوش جميع أمم الأسبانيول، وأعاد شمالي أسبانية إلى ملك الإسلام. ولكن لم يمض على ذلك إلا قليل، حتى كانت الفتنة في قرطبة، وسقطت الخلافة، وصار المسلمون يستعين بعضهم على بعض بالنصارى وتجمعت ملوك الطوائف، وأصبحت الحالة أشبه بالفوضى، فاسترجع النصارى جميع تلك المدن، منها ما أخذوه بالقوة، ومنها ما اشترطوا التخلي عنه لأجل النصرة التي كان يرجوها منهم كل من الفريقين المتقاتلين في قرطبة، إذًا في سنة ٨٠٠ للهجرة لم يكن في آبلة مسلمون غير المدجنين، فإن آبلة كانت قبل تاريخ هذه الكتابة بثلاثمائة سنة رجعت إلى النصرانية، فإن كان قد بقي فيها مسلمون فيكون ممن اختاروا «الدجن» أي الإقامة تحت حكم النصارى، من دجن دجنًا ودجونًا أي أقام بالمكان وألفه واستأنس به. وأصل استعماله للحمام والحيوانات، يقال الحيوانات الداجنة، ضد الحيوانات البرية.
هذا القبر لشمسي ابنة ابن الشيخ رحمها الله وجعل الجنة مأواها بيوم أربع وعشرين لشهر أغشت ثمانية وتسعين ومائة ألف.
فرضي الإمبراطور بهذه الشروط وفي ٢٥ مايو سنة ١٠٨٥ دخل الأذفونش طليطلة وقد بلغ من العظمة ما ليس له حد وما لا يساويه إلا ما بلغه أمراء المسلمين وقتئذ من الدناء فأقبلوا عليه من كل فج يقدمون له الهدايا ويعرضون طاعتهم ويعلنون أنهم ليسوا أكثر من جباة عنده فتسمى الأذفونش بملك الملتين وكان يكتب ذلك في مناشيره ولم يكن يخفي احتقاره لأمراء الإسلام. ولما جاء حسام الدولة بن رزين يهنئ الأذفونش بفتح طليطلة مقدمًا له نفائس الهدايا كان عند الأذفونش قرد يلعب أمامه فأنعم عليه به ورجع حسام الدولة مفتخرًا بأن الإمبراطور أنعم عليه بقرد وعد ذلك من أعظم النعم. وكان في بلنسية ولدا عبد العزيز يتنازعان ملكها وكان فيها حزب ثالث يريد تمليك صاحب سرقسطة وحزب رابع يميل إلى القادر بن ذي النون وقد كان هذا يظاهره جيش قشتالة تحت قيادة (الفارفانيس) Alvar Fanez وكان البلنسيون مضطرين أن يقدموا ميرة هذا الجيش وكانت تكلفهم ستمائة ذهب في النهار فقالوا للقادر إنه في غير حاجة إلى هذا الجيش حتى يطيعوه فلم يسمع القادر كلامهم لأنه كان يعلم أنهم لا يحبونه فاستبقى القشتاليين في بلنسية استظهارًا بهم وفرض على أهلها وأهالي ملحقاتها غرامات منقضة للظهور وبلص الأعيان من أموالهم ومع هذا فلم يقدر أن يقوم بكل ما يتطلبه القشتاليون فعرض عليهم أن يقطعهم أراضي في مملكة بلنسية فرضوا بذلك وتملكوا القرى ولكنهم لم يقوموا على حرثها بأنفسهم بل جعلوا فيها زراعًا يحرثونها لهم واستمورا يشنون الغارات على الأطراف وانضم إلى الجيش القشتالي جماعة من غوغاء العرب ومن العبيد ومن الأشقياء أصحاب السوابق في الاعتداء وقطع السابلة وارتد هؤلاء عن الإسلام وأخذوا يفعلون الأفاعيل التي لم يسمع بمثلها فكانوا يسفكون الدماء ويهتكون أعراض النساء وربما باعوا الأسير المسلم بزق خمر أو برغيف من خبز وبقطعة من حوت وكانوا يمثلون بمن يمتنع عن إعطائهم ما يريدون فيقطعون لسانه أو يفقأون أعينه أو يلقون به للكلاب المفترسة لتأكله. فكانت بلنسية وقتئذ في الحقيقة ملكًا للأذفونش ولو كان القادر بن ذي النون ملكًا عليها في الظاهر، وكانت سرقسطة أيضًا تحت حصار الإمبراطور وقد أقسم أن يفتحها، وكان هناك القائد القشتالي غرسية شيميناس بجماعة من فرسانه يشن الغارات على المرية وكان صاحب غرناطة في المقيم المقعد أيضًا مع القشتاليين، وفي ربيع سنة ١٠٨٥ نازل القشتاليون أهل غرناطة في عقر دارهم ووقع الرعب في قلوب المسلمين حتى صار الخمسة منهم لا يقومون لواحد من النصارى ووجد في إحدى المرار أربعمائة جندي من المرية وكانوا من نخبة الجند فهربوا من وجه ثمانين قشتاليًا فعم اليأس جميع المسلمين ورأوا أنه لم يبق أمامهم إلا إحدى خطتين، إما الرحيل عن أوطانهم، وإما الدخول في طاعة النصارى، وبقيت خطة ثالثة وهي استصراخ المرابطين من إفريقية. ثم ذكر دوزي كيف دعا المعتمد بن عباد يوسف بن تاشفين لإنقاذ الأندلس ولما ذكر له ولده الرشيد في ذلك من الخطر عليهم أجابه أنه لم يبق أمامنا إلا إحدى هاتين الخطتين إما أن نخضع لحكم النصارى وإما أن نرضى بولاية المرابطين وإني أفضل أن أرعى الجمال في إفريقية على أن أرعى الخنازير في قشتالة وسيأتي ذكر ذلك تفصيلًا في باب التاريخ.
لا إله إلا الله محمد رسول الله جميع المؤمنين الذين يعتقدون بنبينا محمد ويقبلون أيدي المرابط مولاي عبد القادر يغفر الله لهم ذنوبهم ولا يكونون في يوم من الأيام صمًا ولا عميًا ولا مقطوعي الأعضاء ويتلقون منه البركة في ساعة الموت ولا يعتلون قبل موتهم إلا ثلاثة أيام ويذهبون إلى الجنة وعيونهم مفتوحة وذنوبهم مغفورة. انتهى.
ومما اشتهرت به طليطلة لذلك العهد صنعة الخبز التي كانت فيها المثل الأعلى وكانوا يصنعون نوعًا من الأقراص بالسمن والسكر واللوز لم يكن أحد يباريهم فيه وكانت للخبازين في طليطلة مكانة لا يستخف بها وأول كتاب في الطبخ طبع في أسبانية وكان طبعه سنة ١٥٢٥ في طليطلة. ولا يزال إلى هذا اليوم مع تقلص عمران طليطلة محفوظًا بها بعض الشيء من ذلك الإتقان في الخبز وهم يصنعون مربيات كثيرة من الفواكه.
أما الصناعات الباقية إلى الآن في طليطلة بعد أن سقطت عن معاليها القديمة فهي نسج الحرير والقطن ونقش المعادن على طرز دمشق مما يسمى في أوروبا بالأراباسك والأدوات الكنسية والحفر والتنزيل في الخشب وما أشبه ذلك. فطليطلة بعد أن نزل عدد سكانها من مائتي ألف نسمة إلى عشرين ألفًا لا تزال تعد من المدن الصناعية.
وما وصل عمروس إلى طليطلة حتى بدأ بإعمال الحيلة حتى ينال ثقة الطليطليين التامة، وأخذ يتظاهر بالعصبية للجنس الأسبانيولي، ويبدي في الأحايين بغضاء لبني أمية وللعرب على الإطلاق، ثم قال للطليطليين أن سبب العداوة بينكم وبين السلطان هو وضع الجنود في بيوتكم، وتثقيلهم عليكم بأصناف المغارم فمن هناك كانت تنشأ أسباب الخصام فإذا ساعدتموني في بناء حصن لإيواء هذه الجنود في طرف البلدة تكونون كفيتم أنفسكم مؤونة هذه المشاجرات. ولما كان الطليطليون قد أولوا عمروس مزيد ثقتهم رضوا باقتراحه هذا بل آثروا أن يكون هذا الحصن في وسط البلدة بدلًا من أن يكون على طرف منها. ولما انتهى بناء الحصن أعلم عمروس السلطان بأنه قد أتم بناء الحصن وانتقل إليه بجنوده. فأسرع السلطان بإعلام أحد القواد الذين يرابطون في الثغور بأن يكتب إليه عن حركة بدت من جهة العدو، وذلك حيلة منه حتى يتمكن من إرسال الجنود إلى طليطلة. فلما وصل كتاب القائد أمر السلطان بزحف الجيوش على رأسها ثلاثة من وزرائه بمعية ابنه الأمير عبد الرحمن، ولم يكن بلغ من العمر أكثر من ١٤ سنة، فوصلت الجيوش إلى ضواحي طليطلة فأشار عمروس إلى أعيان الطليطليين بالسلام على الأمير ففعلوا، وقابلهم الأمير بالحفاوة الزائدة ورجعوا مسرورين فقال لهم عمروس: تقتضي المصلحة أن ندعو الأمير ليقيم بين أظهرنا عدة أيام، فإن هذا الأمير سيكون هو الملك في المستقبل، وأنه يحسن أن تكون علاقات الطليطليين به وثيقة فاستحسن القوم رأي عمروس، وأقبلوا على الأمير يدعونه ليقيم عندهم أيامًا فأجاب دعوتهم بعد أن اعتذر ثم لما حصل المقصود أمر الأمير بدعوة أهالي طليطلة وضواحيها إلى طعام فكتبوا إلى جميع الأعيان والوجوه وأقبلوا زرافات في الميعاد المعين، فلم يأذنوا لهم في الدخول إلا واحدًا واحدًا فكان الواحد يدخل من باب ويرسل فرسه مع تابعه لانتظاره أمام الباب الآخر. وكان عمروس أمر بحفر حفرة في دار الحصن أقام بجانبها عددًا من الجلادين فعندما يصل الواحد من أعيان طليطلة إلى جانب الحفرة يتلقونه بالسيوف ويلقونه فيها. ولم يعلم على التمام عدد الذين قتلوا في ذلك اليوم: فأين عذارى يقول سبعمائة والنويري وابن القوطية يجعلونهم خمسة آلاف. ولما صار الوقت ضحىً قال أحد أطباء طليطلة لجماعة كانوا أمام باب القصر: ماذا تراه حصل بهؤلاء المدعوين؟ فقيل له: لعلهم خرجوا من الباب الآخر. فقال لهم: كنت عند الباب الآخر فلم أجد أحدًا خرج. ثم نظر فرأى دخانًا يتصاعد فقال لهم: ليس هذا دخان الوليمة وإنما هو دخان أجساد قتلاكم. وبعد ذلك هدأت طليطلة مدة طويلة. ا.ﻫ. وأما غربيب الشاعر الطليطلي فقد قال عنه في «بغية الملتمس» ما يلي: غربيب (بكسر أوله) الطليطلي شاعر قديم مشهور الطريقة في الفضل والخير ومما يتداول الناس من شعره:
يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. هذا قبر محمد بن أحمد بن محمد ابن مغيث كان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون توفي رحمه الله ليلة الأحد لثمان بقين من ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
وركبت في الحال مع الحاكم للمواضع التي أرشدنا إليها فإذا بمقبرة المسلمين رحمهم الله سارية من الرخام مكتوب عليها بخط كوفي: يا أيها الناس الآية، وهذا قبر الإمام أحمد بن أحمد بن مغيث كان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبد ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون توفي رحمة الله عليه ليلة الأحد لثمان بقين من ربيع الثاني سنة تسع وأربعين وأربعمائة ثم سارية أخرى مكتوب في أولها ما في الأول من الآية الشريفة غير أن صاحب القبر لم يعرف من هو لمحو المحل الذي هو مكتوب ولم يبق من الحروف إلا لفظ أربع وأربعين في محل التاريخ لا يقرأ ما قبله ولا ما بعده.
وقد وجدت أيضًا في تلك البقعة كتابة أخرى هي هذه: البسملة …
هذا قبر أحمد بن فرج مولى محمد بن جهور توفي رحمه الله يوم الأحد يوم خمس عشرة من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وأربعمائة رحمة الله عليه.
يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور هذا قبر زهرة بنت محمد بن محمد رحمها الله توفيت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله في عام ستين وستمائة.