بعض الأقوال في أصل الماسونيَّة وتعاليمها وغايتها ومستقبلها
لم يتفق المؤرخون على أصل الماسونيَّة وكيفية نشأتها، فقد تضاربت الآراءُ واختلفت الأقاويل فيها، فمن ناسبٍ أصلها إلى أقدم الأزمان، ومن قائل: إنها لا تتجاوز الجيل السابع عشر، وبالإجمال فإن دون معرفة الحقيقة أستارًا مسدولةً تمنع النور عن خرق الحجاب وتَحَقُّقِ شيءٍ من ذلك؛ لأنه من أي مكان جئناها ومن أية وجهة طلبناها لنقف عند الحقيقة ونكون من أمرها على بينة صدق نرى أمامنا عقبات جمة تعرقل سعينا وترجعنا حيارى في أمر نشأتها ومعرفة أول مؤسس لها؛ وذلك لتوالي الأيام وكرور السنين والأعوام.
ولكنه لكثرة ما نقب العلماءُ والمؤرخون الماسونيون وجدُّوا سعيًا في استقصاءِ الحقيقة بلغوا غايةً طالما صَبَوْا إليها وأدركوا أمنيَّة كثيرًا ما تاقوا إلى معرفة كنهها، فقد كشفوا القناع عن كثير من الحقائق والغوامض التي كانت تحول دون ذلك وتقف سدًّا منيعًا بأوجهنا لا يخرقه الاستقصاء ولا يدفعه التنقيب.
وحدث عن هذه الجهالة في معرفة الحقيقة الراهنة أن اختلفت المذاهب في الماسونيَّة، فمن مؤمن مُسَلِّمٍ بحقيقة أمرها وشرف مبادئها عالم مُتيقِّن أنها أُسست لتكون للعالم كنز الراحة ومجلبة السعادة والهناء، ومن مرجف مكابر يَهْرِف بما لا يعرف، أبى إلا الكذب والنميمة مطيَّةً يعلوها، فسار وصوافن البغي والعناد تُقِلُّه وتلقيهِ في مَهَامِهِ الجهالة عامهًا لا يدري في أيِّ وادٍ يهيم فنسب إلى الجمعية الماسونيَّة كل بذيئة واتهمها بما هي براءٌ منه، وعاث في الأرض فسادًا، وأبى الله أن يُفلح المفسدون.
وقام بعد ذلك المؤرخون المدققون وشمَّروا عن ساعد الاجتهاد بِهمَّةٍ شَمَّاءَ ووقفوا أنفسَهم وأوقاتِهم لإدراك هذه الغاية العظيمة، وفضلوا الموت على الحياة، أو يعيشوا أشرافًا مستنيرين. وبعد أن طال بحثهم واستقراؤهم في استطلاع طلع الحقيقة نسبوا الجمعية الماسونيَّة إلى أصل قديم جدًّا، وقالوا: إنها اقتبست قواعدها من مدارس الأقدمين الفلسفيَّة، وقالوا: إن الهنود والمصريين أول من نادَوْا بهذه الجمعية العظيمة؛ وذلك لما رأوه من موافقة الرموز والإشارات الماسونيَّة الحديثة لتلك، وذهب بعضهم مذاهب أُخرى يطول شرحها.
وقام المعارضون وقالوا: إنها شيِّدت يوم بنى «سليمان» هيكله المشهور، واحتجوا بما في الشرائع الماسونيَّة من الكلمات العبرانيَّة، وقالوا: إن «سليمان» شيَّدها يوم أسس هيكله سنة ١٠١٢ قبل المسيح، فكرَّسه بعد تسع سنوات من بنائهِ لعبادة إله قادر أبدع السموات والأرض، وأن هذا الهيكل كان أول بناءٍ تأسس لعبادة إله واحد. فلو سلمنا بهذا الاعتقاد، ونسبنا إلى الماسونيَّة هذا التقادم في العهد لرأينا أن الهيكل السليماني إشارة حقيقية إلى الجمعية الماسونيَّة، وأن هذا البناء العظيم راموز الهندسة وعلم البناء فتتشبه به المحافل الماسونيَّة؛ لأن كل أخ يضع فيهِ حجره وتُشاد عليهِ هذه الجمعية العظيمة الشأن.
ولكن الماسونيَّة حافظت على التقاليد القديمة التي وصلت إليها ولم تزل كذلك، وكلٌّ منها يشير إلى حقيقة هذا الهيكل ويشبهه في الرموز، ومن هذه التقاليد والرموز نتج الخطأ الفاحش الذي ارتكبه المؤرخون إذ حسبوا المجاز حقيقةً فبنوا أقوالهم عليها.
وتمادى كثيرون في بحثهم واستقصائهم حتى ظنوا أنهم أصابوا مَحَجَّةَ الصدق وفصل الخطاب، وأنهم علموا ما لم يعلمه غيرهم من الباحثين المدققين فنسبوا أصل نشأتها إلى الديانة المسيحية، إذ رأوا بادئ ظهورها أسرارًا ورموزًا كثيرة مُحجَّبة بحجب الخفاءِ كي لا يطَّلع عليها أحد من غير الذين أصبحوا باستقامتهم أهلًا للانتظام فيها. وقال بعضهم: إنها لم تتجاوز القرون المتوسطة، وأن فرسان «ماري يوحنا» هم الذين أسسوها بعد أن أخذوا تقاليدها من الصليبيين، والصليبيون أخذوها من البراهمة والهنود، وأن أول محفل ماسوني تأسس في مالطة. وقال آخرون: إنها لا تتجاوز القرن السابع عشر، وبنوا أقوالهم هذه عَلَى حجج دامغة مبرهنين أنها أخذت إشاراتِها ورموزَها من الأقدمين، ولكنها لم تتجاوز قطُّ هذا العهد، وبيَّنوا أنها كانت قبلًا عملية، وأصبحت بعد هذا التاريخ رمزية محضة لا تعَلُّق لها بالأولى.
وهناك سبب آخر أوجب هذا التضارب في الآراء والتباين في الأفكار عن أصل هذه الجمعية وأول واضع لها، وهذا السبب هو اختلاف الامتحانات في القبول بالدرجات، ففي الأولى تشبه كثيرًا ما كان يجريهِ المصريون، أما في الثانية والثالثة فهي عين ما يُعلِّمه العبرانيون وما يجرونه. وهاك تفصيلًا كافيًا يدفع الشك والارتياب:
عندما أمر نوما بومبيليوس (وهو أول واضع لمدارس علم البناء في رومية) بتشييدها وإعلاء هذا الفن ومساعدة تلك الصناعة، وعرض حمايته العظمى عليها، وسن لها قوانين وشرائع عظيمة لا يُمْكِنُ أحدًا أن يتعداها، كان كثير من المترشحين إلى قبولها من اليونان الذين تلقنوا أسرارهم وتعاليمهم عن المصريين، وأتوا بها إلى بلادهم فأدخلوا هذه التعاليم إلى تلك المدارس، وجعلوا أسرار بلادهم عين تلك الأسرار التي أخذها من ثمَّ عنهم الرومان. ولكن عندما اتسعت المملكة الرومانية وكثرت فتوحاتها وأصبحت وهي المالكة على العالم المعروف بأسرهِ القابضة على زمام أموره، بدأ الناس يهاجرون زرافات إلى تلك البلاد لما رأوا فيها من عظم المكاسب وفَرْطِ المغانم وجاءوا البلاد الرومانية، فرأوا فيها الجمعيات الماسونيَّة وهي شبيهة بالجمعيات التي عندهم من حيث إخفاؤهم الأعمال وعدم كشف الأسرار فانخرطوا في سلكها، وأدخلوا عليها كثيرًا من تعاليمهم وأسرارهم السامية، وهذه الأسرار هي ما كان يعلمه اليهود زمنَ بناء الهيكل.
ولو أن الامتحانات والتجارب المستعملة الآن في قبول الطلاب تختلف كثيرًا عما كان يجريهِ الأقدمون لَمَا رأوا وجوب تغيير أشياءَ كثيرةٍ منها حسب اختلاف الزمان والمكان وأهلية الأساتذة الذين كانوا يرأسونها، ولكنا نرى كثيرًا منها حُفِظ بتمام النظام ولم يطرأ عليهِ تغيير البتة مع توالي الأيام وكرور السنين والأعوام، فالامتحانات التي أُدخلت إلى محافل لوندرة سنة ١٦٥٠م، والتي حُوِّرت أيضًا سنة ١٧١٧م هي عين التعاليم والامتحانات التي كان يجريها قدماءُ الأنكلوساكسون. وفي تلك الأزمان تركت الجمعية مبدأها الأصلي التي بُنيت لأجلهِ واتبعت مبدأً آخر أعظم منه وهو إسعاد العالم والنظر في شئونهِ وأعمالهِ والإتيان بكل مبرة يمكن إجراؤها وأدخلوا إلى الامتحانات التي يجرونها للأستاذ الأعظم نفس الطريقة الإسرائيلية التي أُخذت عنها.
ومع هذه المشابهة كلها في الامتحانات بين الماسونيَّة العملية والرمزية نرى اختلافًا عظيمًا بينهما فلا يمكننا أن نخلط بين هذه وتلك، ولا أن نعدَّ الامتحانات التي يجريها الماسون، إلا ما كان يجريهِ الأقدمون، إذ إنهم يتشبهون بهم ليس إلا.
فكانت الماسونيَّة الرمزية تكتفي بعد هذه الامتحانات بتثقيف الطلاب في العلوم البنائية والرياضية والهندسية والفلسفية، وتبث فيهم روح التكافؤ على العمل ومحبة القريب ودرس الحوادث الطبيعية وما جرى مجراها، في حين أن الماسونيَّة العملية تهذب العقول وتدمث الأخلاق وترفع المرءَ إلى مراكز سامية جدًّا من حيث الشهامة؛ فتلقنه علم الفلسفة الحقيقي والحكمة البشرية مقترنة بالإلهية مجتهدة لتجعل صفات الماسون لا عيب فيها ولا شيءَ يشينها فتقرب الخالق من المخلوق وتفهم كل ما له وما عليهِ من حيث العالم المدني، فهي الحكمة وأصالة الرأي التي يضطرُّ لمعرفتها أي إنسان من أي مكان وأي مذهب كان فلا تقبل شرائع عليها، بل هي تعطي وتلقن الشرائع العظيمة؛ لأن مبدأها واحد وهو شريف إلى الغاية لا تشوبه شائبة وهو في أمن حريز من طوارق الحدثان وعوامل الأيام.
والماسونيَّة منتشرة انتشارًا يحسدها عليهِ أعظم الأديان المولودة التي امتدت في أربعة أقطار المعمور؛ لأن تلك تُفرَّق في العالم بين الشعوب فمن عابد صنم، وكافر وجاحد ومبدع ومخالف، بينما نرى الماسونيَّة فاتحة ذراعيها لقبول أولادها داعية إياهم إخوة فيدخلون هيكلها حزانى ويخرجون فرحين، يدخلونه وهم جهلاءُ لا يفقهون من دنياهم وأحوالهم شيئًا، ويخرجون وكلهم عالم فاهم، فهي الممهدة السبل الوعرة المروضة الأخلاق الآمرة بالخير الناهية عن الشر وهي التي أعتقت الإنسان من شوائب المكر والضلال وصيَّرته عالمًا نحريرًا.
فالماسونيَّة تصلح ما فسد من عقائد الأديان بتعليمها المحبة والتواثق على السراءِ والضراءِ؛ لأنها تنفر من الضلال والشرور حليمة رءوفة حتى مع مضطهديها. وغايتها محصورة في هذه التعاليم، وهي: إبطال الغايات والتحزب في الأديان والأشكال والحرف والمراكز والآراءِ والوطنية، وملاشاة الأحقاد فتبيد معها شرور الحروب، والوصول بواسطة السلم إلى غاية شريفة سامية، وهي أن تجعل العالم كله عائلة واحدة لا فرق بين أعضائها ولا انفصال، يربطهم رابط الشهامة وتجمعهم جامعة الإخاء.
ورأى العالم فضل هذه الجمعية وغايتها السامية فبدأ العقلاءُ ينتظمون في سلكها متقاطرين، ولكنهم لم يدركوا حتى الآن الغاية التي طالما جنحوا إليها والأمنية التي تعللوا بها، إذ لا يتم هذا الأمر إلا حين يدرك الجميع القصد من وجودها ويعلمون أن الماسونيَّة عضد الأديان التي تأمر بالخير وتنهى عن الشر فيدخلون في عدادها وتصبح هي الجمعية الوحيدة السائدة على العالم، ويظهر إذ ذاك كوكب الحق ساطعًا في سماء العلم والعمل.
نعم، إن وقتًا يرى العالم نفسه فيهِ متخلصًا من ربقة الأسر والاستعباد لوقت سعيد. ولكن لما كانت الماسونيَّة مؤسسةً على مباني الحق قائمة على دعائم الصدق بلا شائبة تشوبها فسيأتي ولا شك يوم يظهر للعالم هذا الأمر ويصبح الجميع وكلهم أبناءُ أم واحدة وأب واحد لا تفرق بينهم عوامل الحقد والضغينة ولا عوامل التشيع والتحزب، وما ذلك إلا لانتظامهم في الماسونيَّة التي هي عقد الاجتماع ورابطة الأخوة.