الماسونيَّة في غاليا
بينما كانت الماسونيَّة تتقدم في بريطانيا تقدمًا عظيمًا كما ذكرناه كانت تزهو وتزهر في غاليا ترانسالبين فتُشَادُ المحافل وتتقاطر الشعوب أفواجًا للانتظام في سلك هذه الجمعية الشريفة، ولبثت منقطعة متفرقة في البلاد ولا مقرَّ لها حتى انتهى حكم الرومان الذين ضغطوا عليها أخيرًا فذاقت من استبدادهم مُرَّ العذاب فالْتأمت ولمَّت شعثها وجعلت فرنسا مركز دائرتها.
وكانت تُدعى هناك الجمعيات السرية الحرة، وكان إخوتها يُسَمَّوْن البنَّائين الأحرار وغيَّرت سنة ٤٨٦ب.م قليلًا من الرموز والإشارات التي رأت وجوب تحويرها. ولكنه بقي في لومبارديا محافل حفظت قواعدها الأساسية الأصلية التي بُنيت عليها ولم تقبل أقل تحوير أو تغيير، وتكاثر عددها جدًّا وأصبح طلابها من الألف فما فوق، فضاقت عليهم الأعمال وأمسى كثيرون منهم بلا عمل.
ثم نالت الماسونيَّة من الحكم الباباوي الذي بيدهِ الحل والربط في المسائل الدينية امتيازات ببناءِ الكنائس وتشييد المعابد، وتفرَّق إخوتها في العالم المسيحي يبثون فيهِ روح النشاط، وما زالت الامتيازات والإنعامات تتوالى عليهم من زمن رئاسة البابا نيقولاوس الثالث سنة ١٢٧٧ حتى خلافة البابا بنديكتوس الثاني عشر سنة ١٣٣٤ وأُعفوا من الضرائب الأميرية التي وضعتها الحكومة على الشعب.
وكانت تلك الامتيازات تُخَوِّلُهم أن يقيموا محلات لسُكْنَى الباباوات، وأن يعيِّنوا مقدار أجرتهم عن البناء بلا مراجعة في الطلب، وأن يلتئموا في محافلهم ويروا أعمالهم ويقيموا احتفالاتهم بلا منازع ولا معارض، ومنع الطلبة عن العمل ما لم يكونوا قد انتظموا في سلك الجمعية الماسونيَّة التي لها وحدها حق البناء ومن خالف حُرم عن الاشتراك في الديانة المسيحية وأسرارها جزاءَ ما كسبت يداه.
وزهت الماسونيَّة في جميع الأجيال الغابرة خصوصًا في الأعصر المتوسطة وتقدمت تقدمًا عظيمًا، وأقامت في جميع أنحاء أوروبا كإنكلترا وجرمانيا وغاليا وإيطاليا وإسبانيا والبروتغال تلك المباني العظيمة التي يدهش منها العالم الأدبي حتى الآن.
وكان الماسون يقيمون لهم محافل عظيمة لاجتماعاتهم في أي مكان احتلوه متخذين لهم رؤساء من أعاظم الرجال ونابغيهم لعلمهم الأكيد أن الجمعية لا تتوثق عراها ما لم تجمعهم جامعة الحب وتربطهم رابطة الوئام، وكانوا يقبلون في عدادهم طلبة كثيرين، وبعد أن يقسم هؤلاء اليمين المعظمة أنهم لن يخونوا الجمعية الماسونيَّة ولا يبوحوا بأسرارها لأيٍّ كان ما لم يكن أخًا معروفًا عندهم ولا يتخذوا معرفتهم للرموز والإشارات طريقة لهداية الجهال، ولا يتلفَّظون بشيءٍ من ذلك لا كتابةً ولا شفاهًا، وبعد أن يجربوهم تجارب عديدة ويتحققوا إقدامهم ويتأكدوا بسالتهم يقبلونهم بينهم ويطلعونهم على أسرارهم.
وقام بعد ذلك قوم من العظماءِ والأشراف وانخرطوا فيها مسرورين ولأعمالها شاكرين. ولكنهم إذ كانوا ذوي مدارك سامية يقصر عن تبيانها كل كاتب بليغ تركوا غايتها العملية وشأنها لعلمهم الأكيد أن وراءَ ذلك غاية فلسفية لم يدركها الجُهَّالُ فبدءُوا ينقِّبُون ويجدُّون سعيًا في نيل هذه الغاية الشريفة علهم يفلحون.
وقام أعداءُ العمران يثيرون عليهم حربًا عوانًا واضطهدوهم شديد الاضطهاد فاضطرَّ هؤلاء إلى التستُّر شديدًا، وكانت تعاليمهم ممتدة في كثيرٍ من الأنحاء. ورأى الكهنة افتخار الماسون الأحرار بأعمالهم وتعظمهم في تعاليمهم فثار فيهم ثائر الحسد واتهموهم بإدخال أمور جديدة هي الهرطقة إلى تعاليم الكنيسة، فشجبوهم غير مُتَرَوِّينَ في أمرهم ونشأ عن هذا الشجب اضطهاد عظيم احتمله الماسون ولم يجنوا ذنبًا سوى حبهم للتقدم والنجاح وعدم فهم أعدائهم لمداركهم السامية.