الماسونيَّة في جرمانيا
وكان محفل كولونيا الأعظم أهم المحافل الجرمانية وأعظمها، وكان باني كتدرائية كولونيا معدودًا أستاذًا أعظم لعموم بَنَّائي ألمانيا السفلى كباني كتدرائية ستراسبورغ لألمانيا العليا. وتقلبت الأحوال وتوالتِ الأيام ولبثت بنايات ستراسبورغ قائمة تفخر بقوتها وشأنها فنازعت كولونيا الرئاسة العظمى طويلًا إلى أن أحرزتها.
وكان بين المحافل التابعة لمحفل ستراسبورغ الأعظم بعض محافل في فرنسا وسرابيا وهيسيا وتورنغيا وفرانكونيا وبافاريا، وكانت بقيَّة المحافل التي في فرنسا وفي بلجيكا تابعة لمحفل كولونيا الأعظم ومحافل النمسا وهنكاريا وستيريا لمحفل فينَّا الأعظم. وعدَّت محافل سويسرا محفل برن محفلها الأعظم حتى إذا انتهت بناية كتدرائيتها نقلت مركزها إلى زوريخ سنة ١٥٠٢ب.م، واعترفت محافل الساكس برئاسة محفل ستراسبورغ الأعظم، ولكنها تبعت أخيرًا محفل مادبورغ.
وكان لهذه الجمعية امتيازات وحقوق سامية جدًّا فكانوا يحكمون في القضايا التي تُرفع إليهم حكمًا باتًّا بلا مراجعة ولا معارضة حسب أحكام الشرائع الماسونيَّة، وقد جمع رؤساءُ المحافل العظيمة في جلسة عقدت في مدينة راتسبون تلك الأحكام وطبعوها سنة ١٤٦٤ للمرة الأولى تحت عنوان شرائع ناقشي الحجارة في ستراسبورغ وقوانينهم.
ومنح الإمبراطور مكسيمليانوس امتيازات كثيرة للجمعية الماسونيَّة سنة ١٤٩٨، وجاء بعده شارلكن سنة ١٥٢٠ وصادق على البراءات التي أصدرها سلفه الإمبراطور «مكسيمليانوس» فيما يختص بالماسونيَّة، وقام الإمبراطور «فرديناندوس» وحذا حذو أسلافهِ فأكرم الجمعية ووثق بها. وهكذا صار الخلف يتناقل هذه المحبة عن السلف حتى عظم شأنها كثيرًا.
وفي أواخر القرن الخامس عشر قام الكهنة والباباوات وأثاروا على الجمعية الماسونيَّة اضطهادًا شديدًا فعجز الإخوة عن إتمام بناء الكنائس والقصور التي كانوا قد بدءُوا بتشييدها وحدث في كثير من الممالك، وخصوصًا في فرنسا اضطرابات واضطهادات تقشعرُّ لذكرها الأبدان فانحلَّت عرى كثير من المحافل لكثرة ما ذاق أعضاؤُها من مُرِّ العذاب.
وجاء بعد ذلك إصلاح «لوثيروس» الذي كثيرًا ما هدد السلطة الباباوية بالاضمحلال، ولوفرة المنتظمين في سلك تعاليمه قلَّ إنشاءُ الكنائس والمعابد إلى درجة عظيمة. وأصبحت الجمعية الماسونيَّة تئنُّ من جراح الاضطهاد المميتة؛ فانحلَّت محافل كثيرة من المحافل الألمانية لما رأت من عظم المظالم وفرط الاضطهاد. وكانت محافل سويسرا قد انحلَّت قبلها سنة ١٥٢٢ بموجب أمر عالٍ من الجمهورية السويسرية، وأصبحت المحافل الأربعة العظيمة في حالة يسرُّ لها العدو وأمست بلا عمل تعمله ولا بناءٍ تبنيهِ وتغيَّرت أحوالها وتبدَّلت أمورها، وطرأ عليها حوادث كثيرة حوَّلت تقدمها إلى تأخُّر.
وفي ١٦ مارس سنة ١٧٠٧ صدر أمر الحكومة الألمانية في مدينة راتسبون بمنع جمعية البنَّائين عن العمل، وبأن تبقى خاضعة فيما بعدُ لأحكام المجالس المدنية.
وفي زمن الاضطهاد الذي قاسته الماسونيَّة بإنكلترا في أواسط الجيل السابع عشر؛ أي بعد أن قُتل الملك «تشارلس الأول» ظلمًا وعدوانًا سنة ١٦٤٦ قام ماسون إنكلترا واسكوتسيا يدًا واحدة وشمَّروا عن ساعد جِدهم واجتهادهم بهمة لا تعرف الكلل ولا يعروها الملل ليعيدوا المُلك إلى «تشارلس الثاني»، ويخلعوا «كُرومْوِل» المغتصب، فأنشئوا لهذه الغاية درجات كثيرة سامية أدخلوها في جمعيتهم وألبسوها منذ ذلك العهد لباس الجِد والسياسة.
وكان من هذه الاضطرابات والقلاقل أن انقسمت الماسونيَّة إلى قسمين: قسم بقي متقلدًا شرائعه الأولى متمسكًا بها؛ وهي علم البناء والهندسة، وقسمٍ آخر دُعي الماسون المنتخبين. وكان هذا القسم من عيون أعيان البلاد، ونخبة سراتها أصحاب المراكز العالية، وكانت مراكزهم تؤهلهم لِنَيل مبتغاهم بلا تكلف عناءٍ، وبواسطتهم ارتقى الملك «تشارلس الثاني» إلى عرش المُلك الذي ورثه عن أبيهِ وأجدادهِ سنة ١٦٦٠؛ فأزهرت الجمعية في أيام هذا الملك العظيم الشأن وتقدمت تقدمًا عظيمًا، فدعاها جمعية مهد العلم الملكي؛ لأنها هي التي ساعدته على المُلك ولولاها لبقي حقيرًا منفيًّا.
وكانت الماسونيَّة مؤلفة في ذلك العهد من الأعضاء المنتخبين ولم يكن فيها من العمال سوى نفر قليل لا يعتدُّ به، فتركوا الغاية التي شيدت هذه الجمعية لأجلها والأسباب التي عوَّلت عليها منذ نشأتها وأخذت الماسونيَّة العملية تتقهقر تقهقرًا عظيمًا والماسونيَّة الرمزية تتقدم تقدمًا مبينًا.